الفصل الحادي عشر
كان للمفتش مانسوس مكتبٌ صغيرٌ في مقرِّ سكوتلاند يارد، وكان يشكو من كونه ليس مكتبًا خاصًّا؛ إذ كان بمثابة غرفة انتظار يأوي إليها كل فرد من أفراد الخدمة الشرطية، يجد وقتًا يمر ببطء إلى حد الملل. في عصر يوم المغامرة المذهلة التي قامت بها الآنسة هولاند، أحضر شرطي بملابس مدنية من القسم «د» إلى غرفة مانسوس خادمة في حالة هلع شديد، كانت تثرثر والدموع تملأ عينيها، والندم يفطر قلبها. كانت حالةً مألوفة لشرطي ذي خبرة عشرين عامًا، ولم يتأثر السيد مانسوس بالمشهد تمامًا.
قال مازجًا دماثته الطبيعية باستخدامه للغة العامية الدارجة: «إذا تفضلتِ بالصمت، وإذا أجبتِ كذلك عن بضعة أسئلة، فسوف أجنبك الكثير من المتاعب. لقد كنتِ خادمة الليدي بارثولوميو، أليس كذلك؟»
قالت ماري آن بعينين حمراوين وهي تنتحب: «بلى، يا سيدي.»
«وجرى ضبطُكِ وأنت تحاولين رهن سوارٍ ذهبي مملوك لليدي بارثولوميو؟»
شهقت الخادمة وأومأت برأسها وبدأت دون توقُّف في سردِ ما اقترفته من أخطاء.
«نعم، يا سيدي، لكنها أعطته لي بالفعل، يا سيدي، وأنا لم أتقاضَ أجري منذ شهرين، ويمكنها أن تعطي ذلك الأجنبي الآلاف والآلاف من الجنيهات في المرة الواحدة، يا سيدي، أما خَدَمها المساكين، فلا يمكنها أن تدفع لهم شيئًا … لا، لا يمكنها. ولو عرف السير ويليام شيئًا عن لعب السيدة للورق وعلبة السَّعُوط، أتساءل ماذا سيظن، وسوف أحصل على حقوقي؛ لأنها إن كان بوسعها أن تدفع آلافًا لرجل ثري كالسيد كارا، فبوسعها أن تدفع لي و…»
هزَّ مانسوس رأسه.
ثم قال باقتضاب: «خذها إلى الزنزانة»، واقتادوا اللصةَ الهاويةَ البائسةَ وهي تنتحب خارج المكتب.
وفي غضون ثلاث دقائق كان مانسوس بصحبة تي إكس وقد حوَّل أقوال الفتاة المفككة إلى عبارات مرتبة.
قال تي إكس: «هذا مهم، أحضر الأمَة؟»
تساءل الضابط الحائر: «اﻟ… ماذا؟»
قال تي إكس في نفاد صبر: «الخادمة … الوصيفة … الأجيرة … تحرك.»
أحضروها إلى تي إكس وهي على شفا الانهيار.
قال القائد الحكيم: «أحضِر لها كوبًا من الشاي.» وتابع: «اجلسي يا ماري آن، وانسي كل متاعبك.»
ارتمت على الكرسي الذي أحضروه لها وبدأت الحديث قائلة: «أوه، يا سيدي، لم أُوضع في موقفٍ كهذا من قبل قط.»
قال تي إكس: «إذن فقد واجهتِ وقتًا عصيبًا للغاية.» وأضاف: «والآن، أصغي إليَّ …»
«لقد كنت محترمة …»
قال تي إكس في ضجر: «انسي الأمر.» وأردف: «اسمعي! إذا أخبرتني بالحقيقة كاملة بشأن الليدي بارثولوميو والمال الذي دفعته إلى السيد كارا …»
«ألفا جنيه، كلُّ ألفٍ على حدة، وحسب الأقاويل …»
«إذا أخبرتني بالحقيقة، فسوف أتغاضى عن الجناية وأُطلِق سراحك.»
مرَّ وقت طويل قبل أن يتمكَّن من إقناعها بأن تزيل من حديثها تلك الأنا التي كانت مصممة على فرض نفسها. كانت ثمَّة ثغرات في روايتها استطاع رأبَها. كانت قصة قابلة للتصديق في مجملها. كان مفادُها أن الليدي بارثولوميو خسرت أموالًا واقترضتها من كارا. وأعطته، على سبيل الضمان، علبة السَّعُوط التي أهداها أحد القياصرة إلى والد زوجها، الذي كان طبيبًا، نظيرَ خدماتٍ أسداها له، وكانت «مطلية بالكامل بالمينا الزرقاء والذهب وهناك كلمات أجنبية عليها من الماس.» وعند سؤالها عن المبلغ الذي اقترضته الليدي بارثولوميو، كانت إجابة الخادمة غامضةً للغاية. كان كلُّ ما تعرفه أن السيدة قد سدَّدت له ألفي جنيه، وأنها كانت مضطربة للغاية («دخلت في نوبة» على حسب قول الفتاة)؛ لأن كارا، على ما يبدو، رفض إعادة العلبة.
كان واضحًا أن منزل بارثولوميو قد شهد وقائع عصيبة، ونوبات هستيرية وما إلى ذلك، ووقع الانهيار الأكبر حين عادت بليندا ماري إلى المنزل قادمةً من مدرستها في فرنسا.
سألها تي إكس: «الآنسة بارثولوميو عادت إلى الوطن إذن. أين هي الآن؟»
هنا كانت الفتاة أكثر غموضًا من أي وقت مضى. كانت تظن أن الفتاة الشابة قد عادت ثانية، وكانت الآنسة بليندا في غاية الضيق والانزعاج على أي حال. وكانت الآنسة بليندا قد قابلت دكتور ويليامز ونصحها بضرورة سفر والدتها لتغيير الأجواء.
قال تي إكس: «يبدو أن الآنسة بليندا فتاة ناضجة على صغر سنها.» وتابع: «هل من المحتمل أن تكون قد قابلت السيد كارا؟»
قالت الفتاة موضحة: «أوه، كلا.» وأضافت: «فالآنسة بليندا أرقى من أن تعرف شخصًا كهذا. لقد كانت الآنسة بليندا سيدة أرستقراطية، لا شك في ذلك.»
تساءل تي إكس في فضول: «وكم تبلغ هذه الفتاة المثيرة للاهتمام من العمر؟»
قالت الفتاة: «إنها في التاسعة عشرة»، وارتبك مفوَّض الشرطة، الذي تخيَّل بليندا في ثوبٍ نسائي منقوش، وجدائل طويلة، كما تخيلها فتاة ضئيلة الجسد ذات وجه منمش وساقين رفيعتين وأنف أفطس.
ألقى على مسامع الفتاة محاضرة قصيرة عن حقوق الملكية المقدَّسة، ودفع لها أجرَ الثلاثة الأشهر المستحقَّ لها — إذ لم يكن لديه أي شك في مشروعية استحقاقها لهذه الأموال — وصرفها موجِّهًا لها تعليماتٍ بالعودة إلى المنزل، وحزم أمتعتها والرحيل.
جلس تي إكس، بعد أن انصرفت الفتاة، لدراسة الموقف. ربما يمكنه أن يقابل كارا وبما أن كارا قد عبَّر عن ندمه وربما كان في حالةٍ مزاجية أكثر تواضعًا، فربما يكون قد عمد لاستدراك الموقف وإصلاحه. وربما لم يفعل. كان مانسوس في الانتظار، وسار معه تي إكس عائدَين إلى مكتبه الصغير.
قال في قنوط: «لا أعرف كيف أتصرف.»
قال مانسوس: «إذا استطعت يا سيدي أن تقدِّم لي دافعَ كارا لذلك، أستطيع أن أقدِّم لك الحل.»
هزَّ تي إكس رأسه.
وقال: «هذا بالضبط ما لا أستطيع أن أقدِّمه لك.»
ثم جلس على حافة مكتب مانسوس وأشعل سيجارًا.
وبعد وهلةٍ قال: «إنني أعتزم الذهاب لمقابلته.»
سأله مانسوس: «لماذا لا تهاتفه؟» وأضاف: «ها هو ذا هاتفه الموصل مباشرة إلى مخدعه.»
وأشار إلى هاتفٍ صغير في أحد أركان الغرفة.
قال تي إكس في اهتمام: «أوه، لقد أقنع رئيس الشرطة بتمرير خط الهاتف، أليس كذلك؟» ثم اتجه إلى الهاتف.
وضع أصابعه على السماعة لوهلة، وكان على وشك رفعها، ولكنه غيَّر رأيه.
وقال: «لا أظن أن تلك فكرة جيدة، سوف أذهب لمقابلته غدًا. لا أتوقَّع النجاح في انتزاع السر منه فيما يتعلق بقضية الليدي بارثولوميو، في حين أنه قد أخفاه عني في قضية لكسمان المسكين.»
ابتسم مانسوس وهو منشغل بإعداد مجموعة جديدة من الورق النشاف، وقال: «أعتقد أنك لن تفقد الأمل أبدًا في رؤية السيد لكسمان.»
وقبل أن يتمكَّن تي إكس من الرد، جاء طرْق على الباب، ودخل شرطي في زيه الرسمي. وألقى التحية على تي إكس.
«لقد أرسلوا خطابًا عاجلًا للتو من مكتبك يا سيدي. فظننت أنك هنا.»
وناول الرسالة إلى مفوَّض الشرطة. أخذها تي إكس وألقى نظرة سريعة على العنوان المكتوب بالآلة الكاتبة. كان مكتوبًا عليه «عاجل»، و«يُسلَّم باليد.» التقط فتاحة الورق الصلبة الرفيعة من فوق المكتب وفتح المظروف. كان الخطاب مؤلفًا من ثلاث أو أربع صفحات، وكان مكتوبًا بخط اليد، على عكس المظروف.
بدأ الخطاب بكلمتي: «عزيزي تي إكس»، وكان الخط مألوفًا.
رأى مانسوس، الذي كان يراقب مفوَّض الشرطة، تقطيبة الحيرة تتكوَّن على جبهة رئيسه، ورأى حاجبيه متقوسين وفمه مُفْغرًا في دهشة، ورآه يتحوَّل في عجالةٍ إلى الصفحة الأخيرة ليقرأ التوقيع، وحينئذٍ قال تي إكس لاهثًا:
«يا للهول! إنه من جون لكسمان!»
ارتجفت يده وهو يقلِّب الصفحات المكتوبة بدقة. كان تاريخ الخطاب عصر ذلك اليوم. ولم يُدوَّن عليه أي عنوان سوى «لندن».
بدأ الخطاب كالتالي: عزيزي تي إكس، لا شكَّ لدي في أن هذا الخطاب سوف يصيبك بصدمةٍ بعض الشيء؛ لأن معظم أصدقائي يعتقدون أنني قد ذهبت بلا رجعة. ولكن الأمر، لحسن الحظ، أو لسوء الحظ، ليس كذلك. عن نفسي أتمنَّى أن أكون كذلك، لكني لن أتبنى نظرةً تشاؤمية للغاية؛ إذ إنني سعيد بحق للاعتقاد بأنني سوف ألقاك مجددًا. أرجو أن تلتمس لي العذر إن كان الخطاب مفككًا، لكني عُدت الآن فقط وأكتب إليك من فندق تشارينج كروس. إنني لستُ مقيمًا هنا، ولكني سأخطرك بعنواني لاحقًا. لقد كانت رحلة العودة قاسية جدًّا؛ لذا يجب أن تغفر لي إن بدا الخطابُ غيرَ مترابط قليلًا. سوف تأسف حين تعلم بوفاة زوجتي العزيزة. فقد تُوفيت في الخارج منذ نحو ستة أشهر. أنا لستُ راغبًا في الحديث كثيرًا عن هذا الأمر؛ لذا أرجو أن تستميحني عذرًا إن لم أخبرك بالمزيد بشأنه.
إن هدفي الأول من الكتابة إليك في تلك اللحظة هو هدف رسمي. أعتقد أنني ما زلتُ مُلزَمًا بأداء العقوبة وقرَّرت أن أسلِّم نفسي إلى السلطات الليلة. لقد كان لك في المفتش مانسوس خير مساعد، وإن كان ذلك ملائمًا لك، كما أتمنى، فسوف أمثُل أمامه في العاشرة والربع. على أي حال، لا أرغب، يا عزيزي تي إكس، في توريطك في أموري وإن كنت ستسمح لي بالقيام بهذا الأمر عن طريق مانسوس، فسأكون في غاية الامتنان لك.
أعلم أن العقوبة التي تنتظرني ليست كبيرة؛ لأن أمر العفو عني كان قد وُقِّع في الليلة السابقة لهروبي على ما يبدو. لن يكون لدي الكثير لأخبرك به؛ لأن العامين الماضيين لم يكن بهما ما قد أعبأ بتذكُّره. لقد تكبدنا الكثير من البؤس والتعاسة وكان الموت رحيمًا بنا كثيرًا حين أخذ مني حبيبتي.
هل قابلت كارا في هذه الفترة؟
أرجو أن تتفضل بإبلاغ مانسوس بأن ينتظرني ما بين العاشرة والعاشرة والنصف، وإن كان سيعطي تعليمات للضابط المناوب في صالة الانتظار، فسوف أتوجَّه مباشرة إلى مكتبه.
قرأ تي إكس الخطاب مرتين، وبدت عيناه مضطربتين.
قال بصوت خفيض: «يا للفتاة المسكينة!»، وناول الخطاب إلى مانسوس. وأضاف: «من الواضح أنه يرغب في مقابلتك؛ لأنه يخشى من استغلال صداقتي به لمصلحته. ولكني سأتواجد هنا.»
تساءل مانسوس: «ما الإجراءات الرسمية التي ستُتبع؟»
قال الآخر سريعًا: «لن يكون هناك إجراءات.» وتابع: «سوف أحصل على العفو اللازم من وزارة الداخلية، والواقع أنني حصلت بالفعل على وعدٍ كتابيٍّ بإصداره.»
سار عائدًا إلى وايتهول، وقد انشغل عقله تمامًا بالأحداث الجسام التي وقعت اليوم. كان مساءً شديد البرودة من أيام شهر فبراير، وكان المطر المتجمد يتساقط في الشارع، وهبَّت رياح شرقية قارسة كانت تخترق كل شيء حتى معطفه الثقيل. في مدخل مكتبه الذي يُعَد أحد تلك المداخل التي توفِّر الحماية من عوامل الطقس القارس، يتجمع مشردو الإنسانية الملازمون للطرف الغربي من لندن، التماسًا للدفء، مثلما ترفرف العثَّة المسفوعة حول النار التي تدمرها.
وكان تي إكس رجلًا يحمل بداخله قدْرًا هائلًا من التعاطف الإنساني.
فشلت كل خبرته مع عالم المجرمين، وكل ما واجهه من إحباطات وخيبات أمل في استئصال مشاعر الشفقة والرحمة تجاه رفاقه البائسين من نفسه. فوضع لنفسه قاعدةً في مثل هذه الليالي، أنه إذا تصادف وعاد متأخرًا إلى مكتبه ووجد أحد هؤلاء المحطَّمين يرتعش من البرد ويتخذ من مدخل مكتبه مأوًى يحتمي به، فسوف يمنحه ثَمن سرير.
كان يستمد من هذه العادة متعةً أشبه بمتعة المضاربة بطريقته الغريبة. فإذا كان المدخل خاليًا، كان يعتبر نفسه فائزًا، وإذا وجد أحدهم واقفًا يحتمي بالمدخل العميق الذي يميز البيوت القديمة ذات الطراز الجورجي في هذا الشارع التاريخي، كان يخسر ما يقرب من شلن.
ظل يحدِّق إلى الأمام عَبْر المدخل شبه المظلم عندما اقترب من باب مقر إدارته.
قال: «لقد خسرت»، وخلع فردتي قفازه تأهبًا لتحسس جيبه بحثًا عن قطعة من النقود.
ثمَّة شخص كان واقفًا في المدخل، ولكن كان واضحًا أنه شخص في غاية الاحترام. كان في الواقع امرأةً قصيرة وبدينة، ذات ملامح تنمُّ عن طيبة وعطف، ترتدي معطفًا من جلد الفقمة وقلنسوة غريبة الشكل.
قال تي إكس في استغراب: «مرحبًا، هل تحاولين الدخول إلى هنا؟»
قالت الزائرة بتلك النبرة المتكلفة المختالة لشخصٍ يبرِّر سببَ رفاهته المبتذلة بادعاءات متكررة بأنه قد شهد أيامًا أفضل: «أريد مقابلة السيد ميرديث.»
قال تي إكس بجدية: «سوف تُلبَّى رغبتك.»
فتح الباب الثقيل، واجتاز الممر الذي خلا من أي سجاد — إذ كانت المكاتب الحكومية تخلو من أي مظاهر ترف — واقتادها عبر السلَّم إلى الجناح الكائن في الطابَق الأول الذي يشكِّل مكتبه.
أضاء كل الأنوار وأخذ يتفحص ضيفته، ووجدها امرأةً تبدو عليها مظاهر الرغد كذوات الأملاك.
قال تي إكس في نفسه: «إنها جذابة، ولكن النظارة ذات المقبض وجلد الفقمة الذي ترتديه يجعلانها تبدو بدينةً إلى حدٍّ ما.»
بدأت حديثها بنبرة استنكار: «سوف تغفر لي مجيئي لمقابلتك في تلك الساعة المتأخرة، ولكن كما كان أبي العزيز يقول: «عار على مَن يظنه شرًّا».»
قال تي إكس ممازحًا: «هل والدكِ العزيز ينتمي إلى فرسان الرباط؟» وأردف: «ألن تجلسي يا سيدة …»
ابتسمت السيدة وهي تهمُّ بالجلوس: «السيدة كاسلي.» وأضافَت: «لقد كان يعمل في مجال لصق ورق الحائط. ولكن حين يقودك الشيطان، لا يكون أمامك اختيار؛ كما يقول المثل.»
تساءل تي إكس وقد عجز نوعًا ما عن فَهْم الهدف من زيارتها: «وأي شيطانٍ ذلك الذي يقودك، يا سيدة كاسلي؟»
قالت السيدة زامَّةً شفتَيْها: «ربما أرتكب خطأ، والخطأ لا يُبرَّر بمثله.»
قال تي إكس وقد تملَّكه الضجر بعض الشيء: «وليس كل ما يلمع ذهبًا.» وأضاف: «هلا تتفضلين بإخباري بمشكلتك، يا سيدة كاسلي؟ فأنا أتضوَّر جوعًا.»
قالت السيدة كاسلي وقد تخلَّت عن حذلقتها وتحوَّلت إلى اللغة البسيطة الدارجة: «حسنًا، الأمر كالتالي، يا سيدي. ثمَّة سيدة شابة تقيم لدي، وقد وجدتها فتاة في غاية الاحترام والتهذيب من واقع اضطراري للتعامل معها. وأستطيع القول إنني أعرف معنى الاحترام؛ فقد كنت أؤجر منزلي، وكنت أعمل مدبِّرة منزل لدى أحد الأطباء.»
قال تي إكس مبتسمًا: «أنتِ لبقةٌ في الحديث.» وأردف: «وماذا عن هذه السيدة الشابة التي تتحدثين عنها؟! بالمناسبة، ما عنوانك؟»
قالت السيدة: «٨٦ إيه طريق ماريليبون.»
انتصب تي إكس في جلسته.
ثم قال سريعًا: «حقًّا؟» وأضاف: «ماذا عن السيدة الشابة؟»
قالت صاحبة المنزل الطليقة اللسان: «إنها تعمل، حسبما أفهم، مع رجلٍ يُدعى السيد كارا في مجال النسخ على الآلة الكاتبة. وقد جاءتني منذ أربعة أشهر.»
قال تي إكس في نفادِ صبر: «لا عليكِ بوقت مجيئها لكِ. هل لديكِ رسالة من السيدة؟»
قالت السيدة كاسلي، وهي تميل إلى الأمام تحريًا للسريَّة وتتحدث بالنبرة الجوفاء التي قرَّرت أنها ينبغي أن تصاحب أي مكاشفة لشرطي: «حسنًا، إن الأمر كالتالي يا سيدي، لقد قالت لي السيدة الشابة هذه: «إذا لم آتِ في أي ليلةٍ بحلول الساعة الثامنة، يجب أن تذهبي إلى تي إكس وتخبريه بأن …»»
ثم توقَّفت وقفة درامية مثيرة.
قال تي إكس بسرعة: «نعم، نعم، أكملي لأجل الرب، يا امرأة.»
قالت السيدة كاسلي: «أخبريه بأن بليندا ماري …»
فانتفض واقفًا على قدمَيْه.
قال لاهثًا: «بليندا ماري! بليندا ماري!» وفي لمح البصر فهم الأمر كله. إن هذه الفتاة، العارفة باليونانية الحديثة، التي كانت تعمل في منزل كارا، كانت موجودة هناك لغرضٍ ما. فقد كان لدى كارا شيءٌ يخص والدتها، شيء مهم ولم يكن ليتخلَّى عنه، وقد اتبعت هذه الطريقة من أجل الحصول على هذا الشيء. كانت السيدة كاسلي مستمرةً في الثرثرة، ولكن صوتها لم يكن سوى صوتٍ ضبابي بالنسبة إليه. سرى في قلبه وهج غريب حين أدرك أن بليندا ماري قد فكَّرت فيه.
«فقط كشرطي، بالطبع»، هكذا قال الصوت الهادئ الصغير لذاته الرسمية الذي يتردَّد بداخله. ثم قال تي إكس الإنسان في تحدٍّ: «ربما!»
والتقط سماعة الهاتف واتصل بمانسوس وأعطاه بعض التعليمات.
ثم قال آمرًا السيدة كاسلي التي كانت في حالةٍ من الذهول: «ابقي هنا؛ سوف أجري بعض التحريات.»
كان كارا موجودًا بالمنزل، ولكنه كان في الفراش. فقد تذكَّر تي إكس أن هذا الرجل الاستثنائي دائمًا ما يذهب إلى فراشه مبكرًا وكان من عادته استقبال الزوار في غرفته المؤمنة هذه. أُدخِل في الحال ووجد كارا في منامته الحريرية يدخِّن وهو مستلقٍ في فراشه. كانت حرارة الغرفة لا تُطاق حتى في تلك الليلة القارسة البرودة من ليالي فبراير.
قال كارا وهو ينتصب في جِلسته: «هذه مفاجأة سارة، أتمنى ألا تنزعج من ثيابي المبتذلة.»
دخل تي إكس مباشرة في صميم الموضوع.
سأله قائلًا: «أين الآنسة هولاند؟»
تحرَّك حاجبا كارا معلنَين عما اعتراه من دهشة وقال: «الآنسة هولاند؟» وأردف: «يا له من سؤال غير عادي كي توجهه لي، يا عزيزي! إنها في منزلها، أو في المسرح، أو في إحدى دُور السينما، لا أعلم كيف يُمضي هؤلاء الناس أمسياتهم.»
قال تي إكس: «إنها ليست بالمنزل، ولدي دافع للاعتقاد بأنها لم تبرح هذا المنزل.»
«يا لك من شخص نزَّاع إلى الشك، يا سيد ميرديث!» وقرع كارا الجرس ودخل فيشر حاملًا فنجانًا من القهوة على صينية.
قال كارا بنبرة متشدقة: «فيشر.» وأضاف: «السيد ميرديث يرغب في معرفة مكان الآنسة هولاند. هلا تتفضل بإخباره، فأنت أدرى مني بتحركاتها؟»
قال فيشر في إذعان: «حسب علمي، يا سيدي، لقد غادرت المنزل في حوالي الخامسة والنصف، في موعدها المعتاد. كانت قد أرسلتني قبل الخامسة بقليل برسالة وحين عُدتُ لم أجد قبعتها ومعطفها، فافترضت أنها قد غادرت.»
سأله تي إكس: «هل رأيتها وهي تغادر؟»
هزَّ الرجل رأسه نفيًا.
وقال: «كلا يا سيدي، فقلما أرى السيدة وهي قادمة أو ذاهبة. فلم يكن ثمَّة قيود على السيدة الشابة، وكان لها مطلق الحرية في التحرُّك كما تشاء.» والتفت إلى كارا وأضاف: «أعتقد أنني محقٌّ في قولي هذا يا سيدي.»
أومأ كارا بالإيجاب.
«ستجدها على الأرجح في منزلها.»
وهزَّ إصبعه على نحوٍ هزلي في اتجاه تي إكس.
ثم قال ساخرًا: «يا لك من وغد! يجب أن أواريَ الأشياء الجميلة في منزلي، كما نفعل في الشرق، وخاصة حين يكون لديَّ شرطيٌّ نزَّاع للشك يتجوَّل فيه بحرِّية.»
رد تي إكس على الدعابة بدعابة مماثلة. فلم يكن ثمَّة شيءٌ ليجنيه من إثارة أي مشاكل هنا. وغادر المنزل بعد إبداء بضع ملاحظات عادية. وجد السيدة كاسلي في ضيافة مانسوس الذي راح يسرِّي عنها بوصفٍ خيالي بحتٍ لأشهر المجرمين ممن ألقى القبض عليهم.
قال تي إكس: «لا يسعني سوى أن أقترح عليكِ أن تعودي إلى المنزل.» وتابع: «سوف أرسل معكِ شرطيًّا كي يبلغني بالمستجدات، ولكن أغلب الظن أنكِ ستجدين السيدة قد عادَت. ربما واجهَت صعوبةً في استقلالِ حافلةٍ في ليلةٍ كهذه.»
استُدعي مخبرٌ من سكوتلاند يارد وعادت السيدة كاسلي برفقته إلى منزلها وقد انتابها شيءٌ من الخيلاء والزهو. نظر تي إكس إلى ساعته. كانت الساعة العاشرة إلا ربعًا.
قال: «لا بد أن أقابل لكسمان العزيز مهما حدث.» وتابع: «أبلِغ أفضلَ رجالنا في الإدارة بأن يستعدوا تحسُّبًا لأي طوارئ. سوف يكون هذا اليوم واحدًا من أكثر أيامي ازدحامًا.»