الفصل الثاني عشر
استلقى كارا على وسائده وعلى وجهه تعبيرٌ من السخرية والازدراء، وكان ذهنه منشغلًا تمامًا. لم يعرف منشأ الأفكار التي انطلقت تتسلسل في عقله، ولكن عقله في تلك اللحظة كان شاردًا للغاية. أعاده إلى اثنتي عشرة سنة مضت إلى كوخٍ صغير قذر لرجلٍ قروي على سفح التل على أطراف مدينة دوريس، وذلك الوجه الغاضب لزعيمٍ ألباني شاب، خسر حياته ثمنًا لنزوةٍ من كارا، وإلى العينين المتَّقدتَين بالكراهية لوالد الفتاة، الذي وقف عاقدًا ذراعيه يحدق إلى الجسد المكبَّل بالقيود والأصفاد الممدد على الأرض، وإلى العوارض الخشبية الملطخة بآثار الدخان لكوخِ هذا القروي والظلال المتراقصة على السقف، وإلى ساعة الانتظار الرهيبة حين جلس مقيدًا إلى عمودٍ وبجواره شمعة ترتعش وتومض ويخفت ضوءُها أكثر وأكثر وهي تشعل كومة البارود الصغيرة التي تبدأ المسير نحو الآلة الخرقاء اللعينة القابعة تحت كرسيه. كان يتذكَّر اليوم جيدًا؛ إذ كان يوافق عيد دخول المسيح إلى الهيكل، وكان هذا هو العيد السنوي. تذكَّر أشياءَ أخرى أكثرَ بهجة. صوت سنابك الخيل على الطريق الصخري، وصوت ارتطام الباب وهو يهوي حين ظلَّت قوات الدَّرك التركية تضرب بقوة لإنقاذه. تذكَّر بفرحةٍ ضارية منظر قاتليه المزعومين وهم يرتجفون وينازعون على المقصلة في بيزارا وهنا سمع الرنين الخافت لجرس الباب الأمامي.
هل عاد تي إكس؟ نهض منزلقًا من فوق السرير وتوجَّه إلى الباب، وفتحه قليلًا وأنصت لما يدور. ربما كان حضورُ تي إكس وبحوزته أمرٌ بالتفتيش مصدرًا للذعر، لا سيما إن كان … وهزَّ كتفَيْه. لقد أقنع تي إكس وبدَّد شكوكه. وسوف يزيح فيشر من الطريق الليلة ليتأكد.
كان الصوت القادم من الرَّدهة بالأسفل عاليًا وأجشَّ. مَن عساه يكون؟! بعدها سمع صوت قدمي فيشر على السلَّم ودخل الخادم.
«هل ستقابل السيد جاذركول الآن؟»
«السيد جاذركول!»
تنفس كارا الصعداء وكللت الابتسامات وجهه.
«بالطبع. أخبره بأن يصعد. اسأله إن كان يمانع مقابلتي في غرفتي.»
قال فيشر: «لقد أخبرته بأنك في الفراش، يا سيدي، وتلفَّظ بكلمات مخجلة حين أخبرته.»
ضحك كارا.
ثم قال له: «دعه يصعد»، وبينما كان فيشر يهم بالخروج من الغرفة، إذا بكارا يستدعيه مجددًا.
«بالمناسبة، يا فيشر، بعد أن ينصرف السيد جاذركول، يمكنك أن تقضي الليلة بالخارج. أعتقد أن لديك مكانًا ما لتذهب إليه، ولا داعيَ لأن تعود حتى الصباح.»
قال الخادم: «أمرك يا سيدي.»
بعث هذا الأمر في نفس فيشر السرور بشدة. فقد كان لديه أمورٌ كثيرة عليه القيام بها، وهذه الحرية التي سينعم بها الليلة سوف تساعده إلى حدٍّ كبير.
قال كارا في تردُّد: «ربما، ربما كان من الأفضل أن تنتظر حتى الحادية عشرة. أحضِر لي بعض الشطائر وكوبًا كبيرًا من الحليب. أو من الأفضل أن تضعها على طبق في الرَّدهة.»
قال الرجل: «حسنًا يا سيدي»، ثم خرج من الغرفة.
في الطابَق السفلي، كان ذلك الرجلُ ذو الهيئة الغريبة بقبعته اللامعة ولحيته الشعثاء يذرع الرواق المرصَّع بالفسيفساء جَيئة وذهابًا ويغمغم بكلماتٍ لنفسه ويحملق في الأشياء المتنوعة في الرَّدهة بحقد مضحك.
قال فيشر: «السيد كارا سوف يقابلك، يا سيدي.»
قال الآخر وهو يحدق في فيشر المسالم: «أوه! — هذا فضلٌ كبير منه. فضلٌ كبير جدًّا من هذا الشخص أن يقابل عالمًا ورجلًا ظل عاكفًا على عمله القذر ثلاث سنوات. لقد شاب شَعري في خدمته! هل تفهم ذلك يا صديقي؟»
قال فيشر: «أجل يا سيدي.»
«انظر هنا!»
وثبَّت الرجل وجهه في وجه فيشر.
«أترى تلك الشعرات الرمادية المتناثرة في لحيتي؟»
ابتسم فيشر في ارتباك.
قال الزائر في تحدٍّ وهو يقهقه: «أهي رمادية؟»
قال الخادم بسرعة: «نعم، يا سيدي.»
قال الزائر في إصرار: «أهي رمادية حقًّا؟» وتابع: «انتفْ واحدة وانظر!»
تراجع فيشر المذهول إلى الوراء بابتسامةِ اعتذار.
«لا أستطيع التفكير في القيام بشيء كهذا، يا سيدي.»
قال الزائر متهكمًا: «أوه، لا تستطيع؛ إذن فلنمضِ!»
اقتاده فيشر إلى أعلى. لم يكن الرحَّالة يحمل كتبًا هذه المرة. كانت ذراعه اليسرى متدلية بجواره بارتخاء واستشف فيشر بينه وبين نفسه أن اليد قد انفصلت عن تجويفها دون وعي من صاحبها. فتح الباب وصاح معلنًا: «السيد جاذركول»، وتقدَّم كارا بابتسامةٍ على وجهه لمقابلة مندوبه، الذي شكَّل صورةً غريبة لافتة للأنظار بقبعته التي كانت لا تزال مستقرةً فوق رأسه، ومعطفه المتدلي حتى عقبيه.
أغلق فيشر الباب عليهما وعاد إلى مهام عمله في الرَّدهة بالطابق السفلي. وبعد عشْر دقائق سمع الباب يُفتَح وتناهى صوت الغريب المدوي إلى مسامعه. صعد فيشر السلَّم لملاقاته ووجده يخاطب قاطنَ الغرفة بطريقته الغريبة.
صاح بصوتٍ هادر: «لا باتاجونيا بعد اليوم، لا تييرا ديل فويجو!»، ثم سكت.
أجاب عن سؤالٍ ما بقوله: «بالتأكيد! ولكن ليس باتاجونيا»، ثم سكت مجددًا، وتساءل فيشر الذي كان واقفًا بالأسفل عند قاعدة الدرج عما حدث وجعل الضيف ودودًا ومستأنسًا هكذا.
تساءل الضيف متهكمًا: «أعتقد أن الشيك سوف يُصرف دون مشاكل، أليس كذلك؟» ثم انفجر في ضحكةٍ مكتومة خافتة وهو يغلق الباب بحرص.
سار عَبْر الرواق محدِّثًا نفسه، وحيَّا فيشر.
قال بمرحٍ وبشاشة: «تبًّا لكل اليونانيين!»، ولم يستطِع فيشر أن يفعل شيئًا سوى رسم ابتسامةِ توبيخٍ على وجهه، الابتسامة من عنده، والتوبيخ نيابة عن سيده الذي يدفع له أجره.
لمس الرحَّالة صدرَ الآخر بيده اليمنى.
ثم قال: «لا تثقْ بيوناني، وخُذ أموالك مقدمًا دائمًا. أهذا واضح لك؟»
قال فيشر: «أجل، يا سيدي، ولكن أظن أنك دائمًا ما تجد السيد كارا في غاية السخاء فيما يتعلق بالمال.»
قال الآخر: «لا تصدِّق ذلك، لا تصدِّق ذلك، يا صديقي المسكين، أنت …»
وفي تلك اللحظة جاء صوت «جلجلة» خافت من غرفة كارا.
تساءل الضيف مجفلًا بعض الشيء: «ما هذا الصوت؟»
قال فيشر مبتسمًا: «إنه السيد كارا يغلق مزلاجه الفولاذي، ما يعني أنه لا يجب أن يزعجه أحد حتى …» ونظر إلى ساعته ثم أضاف: «حتى الحادية عشرة مهما كانت الظروف.»
قال الآخر غاضبًا: «إنه جبان! جبان همجي!»
وأخذ يضرب درجات السلَّم بقدميه بقوة وكأنه يختبر ثقلَ كل خطوة، وفتح الباب الأمامي دون عون، وصفقه خلفه واختفى في ظلمة الليل.
راح فيشر ينظر إلى الغريب المغادر، واضعًا يديه في جيبيه، ومومئًا برأسه باستنكار.
وقال: «أنت شيطان عجوز غريب الأطوار»، ثم تفقَّد الساعة مجددًا.
كانت العاشرة إلا خمس دقائق.