الفصل الثاني
لم يكن مفوَّض الشرطة المساعد، تي إكس ميرديث، يشغل أحد المكاتب الكائنة في مقر سكوتلاند يارد. فمن السمات الغريبة للمكاتب العامة أنها تُصمَّم على أساس توفير هامش مساحة كبير، ويكون ذلك فوق جميع الاشتراطات الأخرى، وعند اكتمالها يتبيَّن أنها غير كافية تمامًا لإيواء الإدارات والأقسام المختلفة التي تظهر على نحوٍ غيرِ مفهوم بالتزامن مع عمليات البناء.
كان ﻟ «تي إكس»، وهو الاسم الذي كان يُعرَف به من قِبَل جميع قوات الشرطة في العالم، مجموعةٌ كبيرة من المكاتب في وايتهول. كان المبنى قديمًا يواجه مبنى مجلس التجارة وكانت الكتابة المحفورة على بابه القديم تخبر مَن يمرون به أن هذا هو مبنى «المدعي العام، الفرع الخاص».
كانت مهام تي إكس متعددة ومتنوعة. كان الناس يقولون عنه — وهو ما قد يكون غير صحيح مثل أغلب ثرثرة العامة — إنه رئيس إدارة «الأمور غير القانونية» لسكوتلاند يارد. فإذا تصادف أن فقدت مفاتيح خزنتك، كان بإمكان تي إكس أن يجلب لك (بحسب شائعة كانت رائجة للغاية) لصًّا يفتح تلك الخزنة في نصف ساعة.
إذا كان في إنجلترا شخصٌ سيئ السمعة لم تستطِع الشرطة جمْع أي أدلة لتسويغ الادعاء ضده، وإذا كان صالح المجتمع يستلزم إبعاد هذا الشخص، كان تي إكس هو مَن يأخذ على عاتقه مهمة القبض على هذا الشخص البغيض، ويزج به في عربة أجرة، ولا يرفع قبضته عن ضحيته حتى يحط به على السواحل الناقمة لدولة أخرى غير صديقة.
من المؤكد تمامًا أنه حين يُستدعى الوزير المعني لدولة صغيرة مغمورة من قِبل حكومته فجأة، ويُحاكم في بلده بتهمة ترويج صكوك مزيفة، يكون شخصٌ من الإدارة التي يتولاها تي إكس هو مَن اقتحم منزل سيادته، وحطَّم أقفال خزنته ووضع دليل الإدانة اللازم.
أقول إن هذا مؤكد إلى حدٍّ كبير، وما قولي هذا إلا مجرد نقل لرأي أشخاص على دراية وخبرة واسعتَيْن جدًّا في الواقع، ورؤساء إدارات عامة يتحدثون في الخفاء، ووكلاء وزارات يناقشون الأمور همسًا في الأركان البعيدة من غرف الاجتماعات في النوادي، والآراء الأكثر صراحة للمراسلين الأمريكيين الذين لا يترددون تمامًا في كتابة تلك الآراء ونشرها لإفادة قرائهم.
نحن نعلم أن تي إكس كانت له أعمال أكثر شرعية؛ إذ كان ذلك الرجل الصفيق هو مَن راج اعتقاد واسع عن أن تعليقه الغاشم على وزارة الداخلية قد أرسل أحد وزراء الداخلية إلى قبره، وهو مَن تتبَّع أثرَ قَتَلة دبتفورد عَبْر متاهة من الأيمان الكاذبة، وهو مَن قدَّم السير جوليوس واجليت للمساءلة والعقاب رغم أنه أخفى آثار اختلاسه عَبْر كشوف الميزانيات العمومية لأربع وثلاثين شركة.
في ليلة الثالث من مارس، جلس تي إكس في مكتبه الداخلي يتحدَّث مع مفتشٍ من شرطة العاصمة، يُدعى مانسوس، كان في حالة من الحزن والكآبة.
كان مظهر تي إكس يوحي بشباب طاغٍ؛ إذ كان يغلب على وجهه ملامح طفولية، ولم يكن أحد ليخمن أنه في طريقه إلى الأربعينيات من العمر إلا عندما ينظر إليه عن كثب ويرى التجاعيد القليلة المحيطة بعينيه، وإطباق فمه المستقيم. في صباه، كان أقرب إلى شاعر، وألَّف كتابًا صغيرًا بعنوان «قصائد الغابة»، والذي كان مجرد ذكره في هذه المرحلة المتقدمة من حياته كفيلًا بأن يبعث فيه شعورًا عنيفًا بالحزن والتعاسة.
أما في الأسلوب، فكان لبقًا، ولكنه مثابر وعنيد، وكانت لغته في بعض الأحيان يميزها مغالاة شديدة واشتُهر بكتابةِ خطابٍ ظهرَ للعيان، وأثار حفيظة وزير داخلية سابق ما دفعه إلى التعليق عليه قائلًا: «إنه لأمرٌ مؤسف أن السيد ميرديث لم يأخذ موقعه الوظيفي بالجدية المتوقعة من مسئول حكومي.»
كانت لغته، كما قلت، مثيرة للاستفزاز، وعنيفة، وغير مألوفة. كان يمارس حيلة تتمثَّل في استخدام كلماتٍ ليس لها وجود في البَر أو في البحر، وإبداء تعليماته أو تحذيراته بأغرب الأساليب والتراكيب.
كان في هذه اللحظة متكئًا على كرسي مكتبه بتعبيرات وجه مخيفة، ينظر في عبوس إلى مرءوسه المغتم الذي جلس على حافة كرسي على الجانب الآخر من مكتبه.
قال المفتش محتجًّا: «ولكن لم يُعثَر على شيء يا تي إكس.»
كان من عادة السيد ميرديث — وكانت عادة مثيرةً للسخط — الإصرارُ على أن يناديه زملاؤه بالأحرف الأولى من اسمه، وهي عادة أثارت الاستهجان لدى أعلى الجهات.
قال مكررًا كلماته في غضب: «لم يُعثر على شيء!» وتابع: «يا لغرابة أطوارك!»
جلس على نحوٍ مفاجئ جعل الضابط ينتفض إلى الخلف في انزعاج.
قال تي إكس ممسكًا بفتَّاحة ورق ذات مقبض عاجي في يده في عنف، وهو ينقر على نشافته للتأكيد على كلماته: «أنصت إليَّ، أنت أحمق!»
قال الآخر في صبر: «أنا شرطي.»
صاح تي إكس الغاضب: «شرطي!» وأضاف: «أنت أكثر من مجرد أحمق، أنت حثالة! أخشى أنني لن أصنع منك محققًا أبدًا»، وهز رأسه في أسفٍ في وجه مانسوس المبتسم الذي كان ملتحقًا بقوات الشرطة حين كان تي إكس صبيًّا صغيرًا في المدرسة مردفًا: «أنت لا تملك حصافة ولا مكرًا، إنك تجمع بين براءة طفل رضيع ووضاعة كاهن محلي … كان لا بد أن تكون في الجوقة.»
التزم مانسوس الصمت أمام تلك الإهانة الصارخة؛ وقد يظل أي شيء آخر ربما يكون قد قاله، أو أي استفزاز آخر ربما يكون قد تلقاه، مجهولًا إلى الأبد؛ إذ قد دخل في تلك اللحظة رئيس الشرطة بنفسه.
كان رئيس الشرطة في تلك الفترة رجلًا أشيب، منهكًا إلى حدٍّ ما، ذا أنف معقوف وعينَيْن غائرتَيْن تبرزان أسفل حاجبَيْن أشعثَيْن، وكان يبث الذعر في نفوس كل رجال إدارته عدا تي إكس، الذي لم يكن يحترم شيئًا على وجه الأرض والقليل جدًّا من الأمور خارجها. أومأ إلى مانسوس إيماءة مقتضبة برأسه.
وقال: «حسنًا، ما الذي عرفته بشأن صديقنا كارا، يا تي إكس؟»
وانتقل ببصره من تي إكس إلى المفتش المنزعج.
قال تي إكس: «لم أعرف سوى القليل جدًّا.» وأردف: «لقد كلفت مانسوس بالمهمة.»
قال رئيس الشرطة متبرمًا: «ولم تجد شيئًا، أليس كذلك؟»
قال تي إكس: «لقد وجد كلَّ ما يمكن اكتشافُه.» وتابع: «نحن لا نصنع المعجزات في هذه الإدارة، يا سير جورج، ولا يمكننا أن نجمع خيوط قضية في خمس دقائق.»
زمجر السير جورج هالي.
وتابع الآخر في سلاسة وهدوء: «لقد بذل مانسوس قصارى جهده، ولكن من السَّخف أن نتحدث عن أفضل ما لدى المرء بينما لا يعرف إلا أقل القليل عما تريد.»
هوى السير جورج على الكرسي ذي الذراعَيْن بقوة، ومدَّد ساقَيْه النحيلتَيْن الطويلتَيْن.
قال وهو ينظر إلى السقف عاقدًا يدَيْه معًا: «ما أريده هو معرفة شيء عن شخصٍ يُدعى رمينجتون كارا، وهو ثري يوناني كان يقطن منزلًا في كادوجان سكوير، وليس لديه وضعٌ معيَّن في مجتمع لندن؛ ومن ثَم ليس لديه مبرِّر للقدوم إلى هنا، ويعبِّر علانيةً وصراحةً عن امتعاضه من المناخ، ولديه ضيعة فخمة في مكانٍ بعيدٍ في البلقان، كما أنه خيَّال ممتاز، ورامٍ رائع، وطيار متوسط المستوى.»
أومأ تي إكس إلى مانسوس وغادر المفتش وفي عينَيْه شيء من الامتنان.
قال تي إكس وهو يهم بالجلوس على حافة مكتبه ويتخير بعناية شديدة سيجارة من العلبة التي أخرجها من جيبه: «ها قد غادر مانسوس، هيا أخبرني بالسبب وراء هذا الاهتمام المفاجئ بعظماء كوكب الأرض.»
ابتسم السير جورج في تكلُّف.
قال: «اهتمامي هو اهتمام إدارتي.» وتابع قائلًا: «أقصد أنني أرغب في معرفة الكثير عن الأشخاص الغرباء. لقد تلقينا منه طلبًا غير مألوفٍ نوعًا ما. يبدو أنه يخشى على حياته لسبب أو لآخر ويريد أن يعرف إن كان بإمكانه الحصول على خط هاتف خاص يصل بين منزله ومركز قيادة الشرطة. أخبرته أن بإمكانه دائمًا الوصولَ إلى أقرب قسم شرطة عبر «الهاتف»، ولكن ذلك لم يُرضِه. إن له صديقَ سوء من بلده يعتقد أنه آجلًا أو عاجلًا سوف يقتله.»
أومأ تي إكس.
ثم قال في صبرٍ: «أعرف كل هذا، إذا كنت ستفصح عن المزيد من الملف السري، يا سير جورج، فأنا على استعداد للإثارة.»
قال العجوز مزمجرًا وهو يهم بالنهوض: «لا يوجد ما هو مثير في الأمر، ولكني أذكر قضية قتل ذلك الرجل المقدوني التي وقعت في جنوب لندن ولا أرغب في تَكرار مثل هذا الأمر. إذا أراد الناس أن يسفكوا دماء الإقطاعيين، فليفعلوا ذلك خارج حدود العاصمة.»
قال تي إكس: «فليفعلوا بأي طريقة ممكنة. عن نفسي، أنا لا يهمني إلى أين يذهبون. ولكن إذا كانت تلك هي حدود معلوماتك، فبإمكاني أن أكملها لك. لقد أدخل تغييرات شاملة على المنزل الذي ابتاعه في كادوجان سكوير، والغرفة التي يقطن فيها فعليًّا عبارة عن خزنة.»
رفع سير جورج حاجبيه.
ثم قال مكررًا: «خزنة؟»
أومأ تي إكس إيجابًا.
قال: «خزنة ذات جدران مضادة للسرقات، وأرضية وسقف من الخرسانة المسلحة، ويوجد بها باب يُغلق بمزلاج فولاذي، إلى جانب قفله العادي، يغلقه حين يأوي إلى فراشه ليلًا ويفتحه بنفسه في الصباح. أما النافذة، فلا يمكن الوصول إليها، والغرفة في العموم مصممة للصمود أمام أي هجوم.»
كانت أمارات الاهتمام باديةً على رئيس الشرطة.
تساءل: «هل من معلومات أخرى؟»
قال تي إكس وهو ينظر إلى السقف: «دعني أفكِّر.» وتابع: «نعم، إن غرفته من الداخل مؤثَّثةٌ بأثاث بسيط، وتوجد مدفأة كبيرة وسرير مزخرف نوعًا ما، وخزنة فولاذية مثبتة في الحائط وظاهرة من جانبها الخارجي للشرطي الذي يقع مركز خدمته في ذلك الحي.»
تساءل رئيس الشرطة: «كيف عرفت كل ذلك؟»
قال تي إكس ببساطة: «لأنني دخلت الغرفة، بعد أن نجحت بحيلة خفية في كسب ثقة مدبِّرة منزل كارا، وهي ثقة في غير موضعها، وهي بالمناسبة …» والتفت إلى مكتبه وكتب اسمًا على النشافة في عجالة، متابعًا: «سوف تُطرد من عملها غدًا ولا بد من إيجاد مكان لها.»
قال رئيس الشرطة: «هل يوجد في الأمر أي …؟»
قاطعه تي إكس: «شيء مريب؟ — إطلاقًا. إن المنزل وصاحبه طبيعيان تمامًا إلا فيما يتعلق بتلك الأمور الغريبة. لقد أعلن عن نيته قضاء ثلاثة أشهر من العام في إنجلترا وتسعة أشهر بالخارج. إنه فاحش الثراء، وليس له أي علاقات، ولديه شغف بالسلطة والنفوذ.»
قال رئيس الشرطة وهو يهم بالنهوض: «إذن سوف يُعدم.»
قال الآخر: «أشك في ذلك؛ فأولئك الذين يملكون الكثير من المال نادرًا ما يُعدمون. فالمرء يُعدم فقط حين يكون بحاجة للمال.»
ابتسم رئيس الشرطة: «إذن فأنت تواجه خطرًا ما يا تي إكس، فأنت حسب علمي مفلس دائمًا إلى حدٍّ ما.»
قال تي إكس: «افتراء لطيف، ولكن بمناسبة الحديث عن المفلسين، لقد رأيت جون لكسمان اليوم … أنت تعرفه!»
أومأ رئيس الشرطة.
«أعلم أنه متعثِّر ماليًّا بعض الشيء. لقد تورَّط في عملية الاحتيال تلك الخاصة بأسهم الذهب الرومانية، ومن حالة الكآبة الغالبة عليه، والتي لا تصيب الرجل إلا عندما يكون واقعًا في الحب (وهو لا يمكن أن يكون واقعًا في الحب لأنه متزوج)، أو عندما يكون غارقًا في الديون، أخشى أنه لا يزال يعاني من جراء تلك المغامرة الوردية.»
دقَّ جرس هاتف في أحد أركان الغرفة بقوة، ورفع تي إكس السماعة. وكان يسمع باهتمام.
قال لرئيس الشرطة المغادر من فوق كتفه: «مكالمة خارجية، لعله أمر مثير.»
ساد صمت قصير، ثم تحدَّث إليه صوت أجش: «أهذا أنت يا تي إكس؟»
قال مفوَّض الشرطة المساعد بنبرة عادية: «هذا أنا.»
«جون لكسمان يتحدث.»
قال تي إكس: «لم أعرف صوتك، ماذا بك يا جون، ألا يمكنك أن تجد بدايةً لقصةٍ ما؟»
قال الصوت في تعجُّل، وأدرك تي إكس ما به من كربٍ حتى عَبْر الهاتف: «أريدك أن تأتي إلى هنا في الحال. لقد أطلقتُ الرصاص على شخصٍ وأرديتُه قتيلًا!»
أطلق تي إكس زفرةً مفاجئة.
قال: «يا إلهي، أنت أحمق غبي!»