الفصل الثاني والعشرون
استأنف لكسمان قصَّته بعد وهلة.
«كنتُ قد أخبرتكم أن ثمَّة رجلًا في القصر يُدعى سالفوليو. كان سالفوليو رجلًا يقضي حكمًا بالسجن مدى الحياة في أحد السجون بجنوب إيطاليا. وبطريقة غامضة هرب من السجن وعبر البحر الأدرياتيكي في قاربٍ صغير. لا أعرف كيف عثر عليه كارا. كان سالفوليو شخصًا كتومًا ومتحفِّظًا للغاية. لم يُتَح لي قط أن أعرف يقينًا إن كان يونانيًّا أو إيطاليًّا. كل ما كنتُ متيقنًا منه أنه كان أشرَّ وغدٍ قابلته على الإطلاق بعد سيده.
كان جاهزًا بسكينه ورأيته يقتل واحدًا من الحرس، ظن أنه يحابيني فيما يتعلَّق بمسألة الطعام دون ندمٍ أو وخز ضمير كأنما يقتل فأرًا.
كان هو مَن أحدث بي هذه النَّدْبة»، وأشار جون لكسمان إلى وجنته. وأضاف: «كان في غياب سيده يتولَّى مهمة إجراء محاكاة خرقاء لما يمارسه كارا من تعذيب واضطهاد. كما أعطاني النظرة الخاطفة الوحيدة التي ألقيتها على ما لاقته جريس المسكينة من تعذيب. كانت تكره الكلاب، ولا بد أن كارا قد علِم بذلك فوضع في غرفةِ نومها — فقد كان واضحًا أنها حظيت بإقامةٍ أفضل مما حظيتُ بها — أربعة كلاب شرسة مكبَّلة بالسلاسل بقوة حتى إنها كانت تستطيع الوصول إليها.
أثار تلميحٌ من هذا الوغد الدنيء بشأن زوجتي جنونيَ إلى حدٍّ فاق احتمالي فقفزت نحوه. فسحب سكينه وسدَّده نحوي وأنا أسقط على الأرض وأفلتُّ من الضربة بأعجوبة. كان واضحًا أن لديه أوامرَ بألا يَمسني؛ إذ انتابته حالةٌ من الهلع، وكان له مبرِّره في ذلك؛ لأن كارا اكتشف حالةَ وجهي لدى عودته، وفتح تحقيقًا وأُخِذ سالفوليو إلى الفناء على الطريقة الشرقية الأصلية وضُرب بالفلقة على قدميه حتى تعجَّنتا.
لعلكم على يقينٍ من أن الرجل كان يكرهني كراهيةً ممتزجة بضغينة كادت تغلب ضغينةَ سيِّده. بعد وفاة جريس غادر كارا فجأةً وتُرِكتُ تحت رحمة هذا الرجل. كان واضحًا أنه قد أطلق له العِنان للتصرُّف كما يحلو له إلى حدٍّ كبير. فقد ماتت مَن كان كارا يستهدفها بكراهيته بالأساس، وازداد اهتمامه بي قليلًا، أو أنه سئم هوايته. بدأ سالفوليو مضايقاته بتقليل طعامي. لحسن الحظ كنتُ آكلُ أقلَّ القليل. ومع ذلك بدأت المؤنُ تتناقص أكثر وأكثر، وحين بدأت أشعر بآثار هذا التجويع الممنهج، حدث شيء غيَّر مسار حياتي بالكامل وفتح لي طريقًا للحرية والثأر.
لم يكن سالفوليو يقلِّد سيده في تقشفه وتزمُّته وكان في غياب كارا يقيم القليل من حفلات المجون والعربدة. فكان يُحضِر راقصات من دوريس لأجل الترفيه عن نفسه ويدعو شخصياتٍ بارزة في الجوار إلى ولائمه وحفلاته الترفيهية؛ إذ كان يصبح سيد القصر بلا منازع في غياب كارا وكان بإمكانه أن يلهو ويعبث كما يشاء. في تلك الليلة بالذات امتدت الاحتفالات على غير المعتاد؛ إذ كانت الساعة قد قاربت الرابعة صباحًا، حسبما استطعت أن أخمِّن من ضوء النهار الذي كان يتسلل عَبْر نافذتِي، حين فُتِح الباب الفولاذي المصفَّح الضخم ودخل سالفوليو، وكان ثملًا بعض الشيء. أحضر معه، كما خمَّنت، واحدة من فتياته الراقصات التي كانت فيما يبدو تحظى بامتياز مشاهدة معالم القصر.
ظل واقفًا فترةً طويلة في المدخل يتحدَّث بلا ترابطٍ بلغةٍ أعتقد أنها اللغة التركية بلا شك؛ إذ التقطتُ كلمة أو اثنتين.
بدت الفتاة، أيًّا كانت هويتها، خائفةً بعض الشيء، واستطعت أن أرى ذلك؛ لأنها كانت ترتد منه إلى الخلف، رغم أن ذراعه كانت تطوِّق كتفَيها وكان يرتكز بنصف وزنه عليها. كان ثمَّة خوف، ليس فقط في النظرات الخاطفة القليلة التي سادها الفضول والتي كانت ترمقني بها من آنٍ لآخر، بل أيضًا في وجهها الذي كانت تشيح به بعيدًا. وعلمت بقصتها. لم تكن من الطبقة التي كان سالفوليو يُحضِر منها الراقصات اللاتي كن يحضرن إلى القصر من آنٍ لآخر لأجل متعته ومتعة ضيوفه. كانت ابنةَ تاجر تركي من سكوتري كان عضوًا بالكنيسة الكاثوليكية.
توجَّه والدها إلى دوريس إبَّان حرب البلقان الأولى ثم قابل سالفوليو الفتاةَ ولم يعلم هويةَ أبيها، وتولَّد بينهما نوع من التودُّد والتقارب انتهى بهروب الفتاة في نفس هذا اليوم ولحقَت بحبيبها البغيض في القصر. وأنا إن كنت قد أخبرتكم بهذه القصة؛ فهذا لأن الأمرَ كان له انعكاس على مصيري.
كما قلت، كانت الفتاة خائفة وبدت كأنها موشكة على الخروج من الزنزانة. ربما كانت خائفة من السجين الأشعث ومن الرجل الثمل الذي كان بجوارها. غير أنه لم يُرِد أن يتركها دون أن يريَها شيئًا من سطوته. فأقبل يترنَّح بالقرب من موضع استلقائي، ممسكًا بسكينه الطويل في يده تأهبًا لأي طوارئ، وانطلق لسانه بوابل من السِّباب من نوعيةٍ لم أعد أعبأ بها تمامًا.
ثم سدَّد لي ركلة خاطفة استقرَّت في ضلوعي، ولكن مرة أخرى لم ينتَبْني أيُّ شعور بالسخط أو بأي ألم شديد. فقد سبق أن تعامل معي سالفوليو على هذا النحو نفسه من قبل وصمدتُ أمامه. ووسط هذا الوابل من الشتائم، وبينما كنت أنظر وراءه، كنت شاهدًا جديدًا على مشهد استثنائي.
وقفت الفتاة في المدخل المفتوح، وقد ارتدَّت إلى الباب في وجلٍ، وراحت تنظر بأسًى وشفقة إلى المشهد الذي صنعته وحشية سالفوليو. ثم وعلى حين غرة، ظهر بجوارها رجلٌ تركي طويل القامة. كانت له لحية رمادية ووجه كالح متجهِّم. التفتت بجوارها ورأته، وما لبثت تفتح فاهَا لتصرخ، حتى أسكتها بإشارة وأشار إلى الظلام بالخارج.
انسلَّت من خلفه في خنوعٍ دون أن تنطق بكلمة واحدة، ولم تُصدِر قدماها المنتعلتان صندلًا أيَّ صوت. كان سالفوليو طوال هذا الوقت مستمرًّا في وابل إساءاته، ولكن لا بد أنه رأى نظرة التعجب في عينيَّ؛ إذ توقَّف والتفت وراءه.
أخذ التركي العجوز خطوةً إلى الأمام، وطوَّق جسد الآخر بذراعه اليسرى، ووقفا هناك في وضعٍ غريب كأنهما رفيقان على وشك الرقص معًا. كان التركي أطولَ من سالفوليو قليلًا، وكان ذا قوة بدنية هائلة، حسبما رأيت.
نظر كلٌّ منهما إلى الآخر، وجهًا لوجه، وسرعان ما استعاد سالفوليو إدراكه … ثم سدَّد له التركي لكمة خفيفة في ضلوعه. كان هذا ما تراءى لي، إلا أن سالفوليو أخذ يسعل بشدة، وسقط مترنحًا بين ذراعي الآخر، وهوى مرتطمًا بالأرض. انحنى التركي على الأرض في هدوء واتزان ومسح سكينَه الطويل على سترة الآخر قبل أن يعيدها إلى حزام خصره.
ثم استدار لينصرف رامقًا إياي بنظرة خاطفة، ولكنه توقَّف عند الباب ونظر خلفه في تأمُّل. قال شيئًا بالتركية لم أستطِع فهمه، ثم تحدَّث بالفرنسية.
سألني: «مَن أنت؟»
أوضحت له بأقلِّ قدْر ممكن من الكلمات. فأقبل نحوي ونظر إلى الوَثَاق المحيط بساقي وهزَّ رأسه.
ثم قال: «لن تستطيع حلَّ هذا الوَثاق أبدًا.»
أمسك بالسلسلة الحديدية التي كانت طويلة إلى حدٍّ كبير، ولفَّها مرتين حول ذراعه وثبَّت يده على فخذه، ثم استدار بهِزة مفاجئة. صدر صوت «انشطار» سريع مع انفصام السلسلة الحديدية. بعدها أمسكني من كتفي وجذبني إلى أسفل عند قدمي. ثم قال: «لُفَّ السلسلة حول خصرك، أيها السيد»، وأخرج من حزامه مسدسًا وناولني إياه.
قال: «ربما تحتاج إلى هذا قبل أن نعود إلى دوريس.» كان حزامه حرفيًّا مدججًا بالأسلحة — فقد رأيت ثلاثة مسدسات بخلاف الذي كان بحوزتي — وكان واضحًا أنه جاء متأهبًا لأي قلاقل. شققنا طريقنا من الزنزانة إلى العالم الخارجي برائحته النقية.
كانت هذه هي المرة الثانية التي أخرُج فيها في الهواء الطلق على مدى ثمانية عشر شهرًا، وكانت ركبتاي ترتجفان من تحتي من الوهن والإثارة. أغلق العجوز باب السجن من خلفنا وواصلنا المسير حتى وصلنا إلى الفتاة التي كانت بانتظارنا بجوار البحيرة. كانت تبكي في هدوء وتحدَّث إليها ببضع كلمات في صوت خفيض وكفَّت عن البكاء.
قال: «سوف ترينا ابنتي هذه الطريق؛ فأنا لا أعرف هذا الجزء من المنطقة، أما هي فتعرفه تمام المعرفة.»»
ثم أضاف لكسمان: «اختصارًا لقصةٍ طويلة، وصلنا إلى دوريس بعد الظهر. لم تكن ثمَّة أيُّ محاولة لتتبُّع أثرنا ولم يُكتشف غيابي ولا جثة سالفوليو حتى وقت متأخر من العصر. لا بد أن تعرفوا أن لا أحد سوى سالفوليو كان مسموحًا له بالدخول إلى زنزانتي؛ ولذا لم تواتِ أحدًا الشجاعةُ لتقصي الوضع.
اصطحبني العجوز إلى منزله دون أن يلاحظنا أحد، وأحضر أحد أصهاره أو أقاربه لإزالة القيد الحديدي الذي يطوِّق كاحلي. كان اسم مُضيِّفي حسين أفندي.
في تلك الليلة نفسها غادرنا مع قافلةٍ صغيرة لزيارة بعض أقرباء الرجل العجوز. فلم يكن واثقًا من عاقبة فَعْلته، ولدواعي السلامة قام بهذه الرحلة التي كان من شأنها أن تمكِّنه، إذا اقتضت الحاجة، من إيجاد ملاذ لدى إحدى القبائل التركية البربرية التي ستوفر له الحماية.
في خلال تلك الأشهر الثلاثة رأيت ألبانيا على حقيقتها؛ كانت تجربة لا تُنسى!
لم أقابل بعدُ رجلًا أفضلَ من هيابام حسين أفندي على أرض الرب. كان هو مَن أمدني بالمال لأغادر ألبانيا. وتوسَّلت إليه أيضًا كي آخذ السكين الذي قُتل به سالفوليو. لقد اكتشف أن كارا في إنجلترا وأخبرني بشيء عن عمله لم أكن أعرفه من قبل. عبَرت إلى إيطاليا وواصلت الطريق حتى ميلان. وهناك علِمت أن سيدًا إنجليزيًّا غريب الأطوار كان قد وصل قبل بضعة أيام على متن أحد المراكب القادمة من أمريكا الجنوبية، يقيم في الفندق الذي أقيم به ويمر بوعكةٍ صحيةٍ شديدة.
لا داعيَ لأن أخبركم بأن الفندق الذي أقمتُ به لم يكن باهظ التكلفة للغاية، وكان واضحًا أننا الإنجليزيان الوحيدان في المكان. لم يكن أمامي سوى الصعود لأرى ما بوسعي أن أفعله لهذا المسكين الذي كان يحتضر حين رأيته. بدا لي أنني قد رأيته من قبل وعند البحث عن شيء يوضح هويته، عرفت اسمه وتذكَّرت الظروفَ التي رأيته فيها بسهولة.
كان هذا الرجل هو جورج جاذركول، الذي عاد من أمريكا الجنوبية. كان يعاني حمى الملاريا وتسمُّم الدم، وظلِلت على مدى أسبوع أصارع معه، بصحبة طبيب إيطالي، كمن يصارع من أجلِ حياته.» وفجأةً ارتسمت على وجه جون لكسمان ابتسامةٌ حين تذكَّر الواقعة: «كان مريضًا مُتعِبًا، لاذعًا في لغته، جزعًا ومتغطرسًا في أسلوبه مع أصدقائه. فكان، على سبيل المثال، حساسًا بشدة تجاه مسألة ذراعه المفقودة، ولم يكن ليسمح للطبيب أو لي بالدخول إلى الغرفة إلى أن يتدثر حتى عنقه، ولم يكن يأكل أو يشرب في حضورنا. ولكنه كان أشجعَ الشجعان، ولا يعبأ بنفسه، وكان عصبيًّا فقط؛ لأنه لم يكن لديه وقت للانتهاء من كتابه الجديد. ولكن لم تنقذه روحه العنيدة التي لا تُقهر. فقد تُوفي في السابع عشر من يناير من هذا العام. كنت في جنوة في ذلك الوقت؛ إذ ذهبت إلى هناك بناءً على طلبٍ منه لإنقاذ متعلقاته. وحين عُدتُ كان قد وُوري الثرى. تصفحت أوراقه وفي ذلك الحين واتتني فكرتي بشأن كيفية الوصول إلى كارا.
وجدت خطابًا من اليوناني، كان معنونًا على بيونس آيرس، بانتظار الوصول، وتذكَّرت في لمح البصر أن كارا كان قد أخبرني أنه أرسل جورج جاذركول إلى أمريكا الجنوبية ليعدَّ له تقريرًا عن التكوينات المحتمل وجودها لترسبات الذهب. عزمت على قتل كارا، وعزمت على قتله بطريقة معينة بحيث أخفي كل أثر يثبت تورُّطي في الجريمة.
كما دبَّر هو لتحطيمي، وخطَّط لكل خطوة وأخفى كل أثر لتورُّطه في ذلك، خططتُ أنا لقتله بحيث لا تحيط بي أي شكوك.
كنت أعرف مكان منزله. وكانت لي دراية بعض الشيء بعاداته. كنت أعلم بالخوف الذي كان يعانيه حين كان في إنجلترا وبعيدًا عن حرس إقطاعيته الذين كانوا يحيطون به في ألبانيا. كنت أعرف بابه الشهير بمزلاجه الفولاذي وكنت أخطِّط للتحايل على كل هذه الاحترازات وألا أجلب له المِيتة التي يستحقها فحسب؛ بل أجلب له أيضًا معرفةً تامة بمصيره قبل أن يموت.
كان جاذركول يملك بعض المال — نحو ١٤٠ جنيهًا — أخذت منه ١٠٠ جنيه لاستخدامي الخاص؛ إذ كنت أعلم أنه يجب أن يكون معي ما يكفي من المال في لندن لتعويض ورثته، أما بقية النقود وكل الوثائق التي كانت بحوزته، عدا تلك التي تربطه بكارا، فقد سلَّمتها إلى القنصل البريطاني.
كنت قريب الشبه بالراحل. فقد كانت لحيتي شعثاء، وكنت على علم بطبائع جاذركول الغريبة بما يكفي لتقمُّص الدور. كانت أول خطوة اتخذتها هو الإعلان عن وصولي بطريق الاستنتاج. فأنا صحفي جيد إلى حدٍّ كبير ولدي معرفة عامة واسعة، وبواسطة هذه المعرفة التي صحَّحتها بالرجوع إلى الكتب اللازمة التي وجدتها في مكتبة المتحف البريطاني، تمكنتُ من كتابة مقال محترم جدًّا عن باتاجونيا.
أرسلت هذا المقال إلى جريدة «ذا تايمز» ومعه إحدى بطاقات جاذركول، وقد جرى نشره كما تعلمون. كانت خطوتي التالية هي إيجاد مسكن مناسب بين تشيلسي وسكوتلاند يارد. وحالفني الحظ إذ استطعتُ استئجار شقة مفروشة كان مالكها بصدد الرحيل إلى جنوب فرنسا لمدة ثلاثة أشهر. دفعت الإيجار مقدمًا، وعندما تخليت عن كل الطباع الشاذة التي تصنعتُها لإتقان شخصية جاذركول، فقد أبهرت مالك الشقة قطعًا، حتى إنه قبِلني دون إي إحالات أو توصيات.»
ثم ابتسم قائلًا: «كان لديَّ عدة أطقم من الملابس الجديدة التي لم تُصنع في لندن، بل في مانشستر، ومرة أخرى هندمت مظهري لتجنب التعرُّف على هويتي فيما بعد. حين جمعتُ هذه الملابس معًا في شقتي، اخترت يوم البدء. وفي الصباح أرسلت صندوقَين يضمان معظم متعلقاتي إلى فندق جريت ميدلاند.
توجَّهت بعد الظهيرة إلى كادوجان سكوير وظلِلت أتسكع إلى أن شاهدت كارا يغادر بسيارته. كانت أول مرة أراه فيها منذ غادرت ألبانيا وتطلَّب مني الأمر كلَّ ما أملِك من ضبطٍ للنفس كي أمنع نفسي من الاندفاع نحوه في الشارع وتمزيقه بيديَّ.
بمجرد أن غاب عن الأنظار، ذهبت إلى المنزل متقمصًا شكل جاذركول وسلوكياته المصطنعة بكل حذافيرها. لم تكن بدايتي موفقة؛ إذ صُدمتُ حين أدركتُ أن الخادم ما هو إلا سجين كان معي في كوخ حارس السجن في صبيحة يوم هروبي من دارتمور. لم يكن ثمَّة شك في هويته، وحين سمعتُ صوته تأكدتُ. تساءلت: هل سيتعرف عليَّ، برغم اللحية والنظارة؟
لم يتعرَّف عليَّ حسبما بدا. لقد أعطيته كلَّ فرصة ممكنة لذلك. ثبتُّ وجهي في وجهه وفي زيارتي الثانية تحديته، بطريقة جاذركول العجوز المسكين الغريبة، بأن يختبر رمادية لحيتي. غير أنني كنت راضيًا لحظتها عن تجربتي المقتضبة، وانصرفت بعد فاصل زمني معقول، عائدًا إلى مسكني في شارع فيكتوريا وظلِلت منتظرًا هناك حتى المساء.
لاحظت خلال مراقبتي للمنزل، بينما كنت أنتظر مغادرة كارا، أن هناك سلكَي هاتف منفصلين يمتدان حتى السقف. خمَّنت دون يقين أن واحدًا من هذين الهاتفين كان خطًّا خاصًّا، ونظرًا لمعرفتي بشيء عن الخوف الذي يعانيه كارا، افترضتُ أن ذلك الخط متصل بأحد ضباط الشرطة، أو بحارس أو آخر من نوعٍ ما. فقد كان لدى كارا النسق نفسه في ألبانيا؛ إذ كان يربط القصر بمراكز قوات الدرك في أليسو. وكان حسين هو مَن أخبرني بهذا.
في تلك الليلة قمت بجولة استكشافية للمنزل، ورأيت نافذة غرفة كارا مضيئة، وفي العاشرة وعشْر دقائق قرعت الجرس وأعتقد أنني حينذاك أخضعت اللحية للاختبار. كان كارا في غرفته، حسبما أخبرني الخادم، وقادني إلى الطابق العلوي. كنت قادمًا متأهبًا للتعامل مع هذا الخادم؛ إذ كان لديَّ مبرِّر خاص جعلني أتمنى ألا يخضع للاستجواب من قِبل الشرطة. كتبت على بطاقةٍ خاوية الرقم الذي كان يحمله في دارتمور وأضفت إليه كلمات: «أنا أعرفك، اخرج من هنا في الحال.»
وما إن استدار ليقودني إلى الطابق العلوي، حتى ألقيت المظروف الذي يحوي البطاقة على الطاولة الكائنة في الرَّدهة. وفي جيب داخلي، بحيث يكونان أقرب ما يكون إلى جسدي، وضعت الشمعتين. وكنت قد حددت بالفعل كيف سأستخدمهما. أدخلني الخادم غرفة كارا، ومرةً أخرى وجدتُني واقفًا في حضرة الرجل الذي قتل حبيبتي ومحا كلَّ ما كان جميلًا في حياتي.»
ساد صمت مطبق حين توقَّف. وأسند تي إكس ظهره إلى كرسيه، واضعًا رأسه على صدره، وعاقدًا ذراعيه، وعيناه تراقبان لكسمان باهتمام.
جلس رئيس الشرطة يمسد شاربه، بوجه شديد العبوس وشفتين مزمومتين، وراح ينظر من تحت حاجبيه الكثيفين إلى المتحدث. أما الضابط الفرنسي، فكان يتلقى كل كلمة بحماس ولهفة، مقحمًا يديه بعمق في جيبيه، ورأسه مائل على أحد الجانبين. بينما خلا وجه الضابط الروسي الشاحب من أي تعبير، وبدا كأنه قناع محفور من العاج. أما أوجرادي الأمريكي، فكان يغيِّر وضعيته في نفاد صبر مع كل وقفة وكأنه يتعجل الخاتمة.
بعد قليل واصل جون لكسمان الحديث.
«نهض من الفراش وأقبل نحوي لاستقبالي بينما كنت أغلق الباب خلفي.
قال بنبرته الناعمة المألوفة: «أوه، سيد جاذركول»، ومد يده ليصافحني.
لم أنطق بكلمة. نظرت إليه فقط بفرحة غامرة في قلبي لم أشعر بها من قبل قط.
وحينها رأى في عينيَّ الحقيقة ومد يده ليصل إلى الهاتف.
ولكن في تلك اللحظة كنت قد انقضضت عليه. كان في يدي كالطفل. كل العذابات المريرة التي أذاقني إياها، وكل ما عانيته من ويلات في أيام الجوع وليالي الزمهرير جعلتني صلدًا متحجرَ القلب. كنت قد عُدتُ إلى لندن متنكرًا بذراع مزيفة، فتخلصت منها. لم تكن سوى قفاز من خشب رقيق صنعتُه في باريس.
دفعته إلى الخلف ملقيًا إياه على السرير، وثنيت ركبتيَّ وانقضضت بنصف جسدي الأعلى فوقه.
ثم قلت: «كارا، سوف تموت مِيتةً أرحمَ من مِيتة زوجتي.»
حاول أن يتحدث. كانت يداه الناعمتان تصدران إشارات عنيفة وعشوائية، ولكنني كنت مستلقيًا جزئيًّا على إحدى ذراعيه، وأُمسِك بالأخرى.
همستُ في أذنه قائلًا:
«لا أحد سيعرف قاتلك، يا كارا، فكِّر في ذلك! سأفلت دون عقوبة، وستكون محور لغز رائع! كل خطاباتك ستُقرأ، وكل حياتك ستنكشف، وسيعرفك العالم على حقيقتك!»»
ثم قال جون لكسمان ببساطة: «تركت ذراعه برهةً فقط ريثما أستل سكيني وأطعنه. أظن أنه قد أسلم الروح في الحال.
تركته في موضعه واتجهت إلى الباب. لم يكن لديَّ الكثير من الوقت لأضيعه. أخرجت الشمعتين من جيبي. كانتا قد لانتا بالفعل من حرارة جسدي.
رفعت المزلاج الفولاذي للباب وأسندت المزلاج بأصغر الشمعتين؛ إذ كان أحد طرفيها على منتصف تجويف المزلاج والآخر أسفل المزلاج. كنت أعلم أن حرارة الغرفة سوف تستمر في تليين الشمعة وتغلق المزلاج في غضون وقت قصير.
كنتُ متأهبًا للهاتف الكائن بجوار سريره مع أنني لم أكن أعلم الجهةَ المتصلَ بها. وحسمت أمري في التعامل معه بفضل وجود فتاحة الورق. وضعتها في توازن على علبة السجائر الفضية بحيث يكون أحد طرفيها أسفل سماعة الهاتف، وأسفل الطرف الآخر وضعت الشمعة الثانية التي اضطررتُ لقطعها كي يكون حجمها مناسبًا. وفوق فتاحة الورق عند طرف الشمعة وضعت الكتابين الوحيدين اللذين استطعت العثور عليهما في الغرفة في توازن، وكانا لحسن الحظ ثقيلي الوزن.
لم يتسنَّ لي معرفةُ كم من الوقت ستستغرقه الشمعة كي تنصهر حتى تصل إلى حالةٍ من الالتواء والانثناء تسمح لوزن الكتابين بالكامل بالنزول على طرف الشمعة الواقع عند فتاحة الورق ورفع السماعة. كنت أتمنى لو كان فيشر قد أخذ بتحذيري له وغادر. فحين فتحت الباب برفق، سمعت خطواته في الرَّدهة بالأسفل. ولم يكن أمامي سوى أن أنهي الأمر.
استدرت ووجهت حديثًا متخيَّلًا إلى كارا. كان الأمر مريعًا، ولكنَّ ثمَّة شيئًا فيه أثار بداخلي شعورًا غريبًا بالمزاح والهزل، وأردت أن أضحك وأضحك وأضحك!
سمعت الرجل يرتقي درجات السُّلم وأغلقتُ الباب بحذرٍ شديد. وتساءلت في نفسي كم من الوقت ستستغرق الشمعة لتنثني!
ولكي أؤسس حجةَ غيابي على نحوٍ وافٍ، قررتُ أن أنخرط مع فيشر في حديث، وكان ذلك أمرًا يسيرًا للغاية؛ إذ كان يبدو أنه لم يرَ المظروف الذي تركته على الطاولة بالأسفل. لم أضطر للانتظار طويلًا؛ إذ فجأةً سمعت المزلاج الفولاذي يعود إلى مكانه محدثًا صوت ارتطام. فقد انثنت الشمعة تحت تأثير الحرارة أسرع مما توقَّعت. سألت فيشر عن معنى الصوت وشرح لي الأمر. وظلِلت أتحدث طَوال وقت نزولي درجات السُّلم. وجدت سيارة أجرة في سلون سكوير واتجهت بها إلى مسكني. كنت مرتديًا بِذلةَ سهرة تحت معطفي.
بعد عشْر دقائق من دخولي من باب شقتي خرجت إلى المدينة في هيئةِ رجلٍ بلا لحية، لا يختلف عن الآلاف الآخرين ممن تجدهم في تلك الليلة يجوبون ساحةَ أيٍّ من القاعات الموسيقية الكبرى. انطلقت من شارع فيكتوريا إلى سكوتلاند يارد مباشرة. لم تكن سوى مصادفة أن تكون الشمعة الثانية قد التوت في اللحظة التي كان يُفترض أن أتحدَّث فيها إليكم جميعًا، لينطلق جرسُ الإنذار في المكتب الذي كنت أجلس فيه.
أؤكد لكم جميعًا بمنتهى الجدية أنني لم أشكَّ في سبب ذلك الرنين الذي انطلق حتى تحدَّث السيد مانسوس.»
ثم فتح ذراعيه في يأسٍ وقال: «هاك قصَّتي، أيها السادة!»
وأضاف: «افعلوا بي ما شئتم. لقد كان كارا قاتلًا، تخضَّبت يداه بدماء الأبرياء مائةَ مرة. لقد فعلتُ كلَّ ما عزمت على فعله فقط دون زيادة أو نقصان. فكَّرت في الرحيل إلى أمريكا، ولكن كلما اقترب يوم رحيلي، اتقدت في ذاكرتي الخطط التي وضعتها أنا وهي، فتاتي … فتاتي المسكينة الشهيدة!»
وجلس إلى الطاولة الصغيرة، ويداه معقودتان أمامه، ووجهه شاحب ومجعد.
ثم قال فجأة، بابتسامةٍ ساخرة كئيبة: «وتلك هي النهاية!»
«ليست كذلك بالضبط!» استدار تي إكس باندفاعٍ مُصدِرًا زفرة مفاجئة. كانت بليندا ماري هي المتحدثة.
قالت: «أستطيع أن أكملها.»
كانت في حالة مدهشة من الاتزان ورباطة الجأش، هكذا قال تي إكس في نفسه، ولكن بعد ذلك لم يفكِّر تي إكس في أي شيء سوى أن بها شيئًا «رائعًا» بصورة أو بأخرى.
قالت الفتاة المدهشة غيرَ عابئةٍ بالأعين المذهولة التي كانت تحدق بها: «معظم ما جاء بقصتك صحيح، يا سيد لكسمان، ولكن كارا خدعك في أمر واحد.»
تساءل جون لكسمان وهو ينهض واقفًا في غيرِ اتزان: «ماذا تقصدين؟»
وقفت كي تجيب عن السؤال وسارت إلى الوراء صوب الباب ذي الستائر القطنية المطبوعة وفتحته؛ كانت هناك فترة انتظار بدت كالدهر، ثم جاءت عَبْر المدخل فتاةٌ نحيفة ووقورة وجميلة.
قال تي إكس هامسًا: «يا إلهي!» وأردف: «جريس لكسمان!»