الفصل الرابع
طوى تي إكس البرقية بعناية شديدة ودسَّها في جيب معطفه.
حيا الوافد الجديد بانحناءة بسيطة، وأخذ على عاتقه مهمَّة الترحيب بالضيوف في المنزل، ودفع كرسيًّا لضيفه.
قال كارا بهدوء: «أظنك تعرف اسمي.» وتابع: «أنا صديق للكسمان المسكين.»
قال تي إكس: «أخبروني بذلك، ولكن لا تدَعْ صداقتك للكسمان تمنعك من الجلوس.»
ظل اليوناني متحيرًا للحظة، ثم بابتسامةٍ خفيفة وانحناءة، جلس بجوار طاولة الكتابة.
وتابع حديثه قائلًا: «أنا في غاية الانزعاج والحزن لما حدث، وما يزيد من فجيعتي شعوري على نحوٍ ما بالمسئولية تجاهه؛ لأنني من عرَّفت لكسمان بهذا الرجل التعيس الحظ.»
قال تي إكس وهو يسند ظهره في مقعده وينظر إلى وجه الآخرِ بنظرةٍ جمعت ما بين الشك والجدية: «لو كنت مكانك، لما سمحت لتلك الحقيقة بأن تقضَّ مضجعي ليلًا. فمعظم الناس يُقتَلون نتيجةً لتعارفٍ ما. نادرة تمامًا هي القضايا التي يقتل فيها الناسُ أشخاصًا غرباءَ عنهم تمامًا. وأظن أن ذلك يعود إلى التعصب الذي يشكِّل شخصيتنا القومية.»
مرة أخرى انتاب الآخرَ شعورٌ بالدهشة والحيرة إزاء صفاقة الرجل الذي توقَّع منه أن يكون أسلوبه رسميًّا على أقل تقدير.
تساءل تي إكس بلطف: «متى كانت آخر مرة رأيتَ فيها السيد فاسالارو؟»
رفع كارا عينيه كأنما يفكِّر.
«أعتقد أنها كانت منذ نحو أسبوع.»
قال تي إكس: «فكِّر ثانية.»
اندهش اليوناني برهةً ثم عاد إلى استرخائه مبتسمًا.
استهل الحديث قائلًا: «معذرة.»
قال تي إكس: «لا عليك بشأن ذلك، ولكن دعني أسألك هذا السؤال. لقد كنتَ هنا الليلة الماضية حين تلقَّى لكسمان خطابًا.» ثم قال حين رأى الآخر مترددًا: «ثمَّة أدلةٌ دامغة على أنه قد تلقَّى خطابًا؛ لأن لدينا أقوالَ الخادمة وساعي البريد التي تدعم ذلك.»
قال الآخر متروِّيًا: «لقد كنتُ هنا وكنتُ حاضرًا بالفعل حين تلقَّى لكسمان خطابًا.»
أومأ تي إكس.
قال مقترحًا: «أظنه خطابًا كُتب على ورقٍ مائلٍ إلى اللون البني وذا حجم كبير بعض الشيء.»
مجددًا خيَّم عليه ذلك التردد اللحظي.
ثم قال: «لا أستطيع الجزم بلون الورق أو حجم الخطاب.»
قال تي إكس مقترحًا: «أظنك تستطيع الجزم بذلك؛ لأنك حرقت المظروف كما تعلم، وأفترض أنك كنت ستلاحظ ذلك.»
قال الآخرُ بهدوء: «لا أذكر أنني قد حرقتُ أيَّ مظروف.»
أردف تي إكس قائلًا: «لا عليك، حين قرأ عليك السيد لكسمان هذا الخطاب …»
قال الآخرُ رافعًا حاجبيه: «أيَّ خطاب تقصد؟»
كرَّر تي إكس في صبر: «السيد لكسمان تلقَّى خطاب تهديد، والذي قرأه عليك، وكان موجهًا إليه من فاسالارو. وقد أعطاك هذا الخطاب وقرأته أنت أيضًا. ثم وضع السيد لكسمان الخطاب، بمعرفتك، في خزنته، في درج فولاذي.»
هزَّ الآخرُ رأسه بابتسامة رقيقة.
قال بنبرةٍ شبهِ اعتذارية: «أخشى أنك قد ارتكبت خطأً فادحًا، ومع أني أذكر واقعة تلقيه خطابًا، فإنني لم أقرأه، ولم يُقرأ لي أيضًا.»
ضاقت عينا تي إكس بشدة وصار صوته رنانًا وحادًّا.
«وإذا وضعتك على كرسي الشهادة، فهل ستُقسِم أنك لم ترَ الخطاب، ولم تقرأه، ولم يُقرأ عليك، وأنك ليس لديك علمٌ بتلقي السيد لكسمان خطابًا كهذا؟»
قال الآخرُ بنبرة هادئة: «بكل تأكيد.»
«هل ستُقسِم أنك لم ترَ فاسالارو منذ أسبوع؟»
قال اليوناني مبتسمًا: «بالتأكيد.»
قال تي إكس في إصرار: «هل ستُقسِم أنك لم ترَه الليلة الماضية في الواقع، وتحدثتَ معه على رصيف محطة القطار في لويس، وأنك واصلت طريقك متجهًا إلى لندن بعد أن تركته، ثم استدرتَ بسيارتك وعُدتَ إلى حي بيستون تريسي؟»
شحب وجه اليوناني حتى شفتيه، ولكن لم تختلج عضلة فيه.
تابع تي إكس بعنادٍ لم يَلِنْ: «هل ستُقسِم أيضًا أنك لم تقف على ناصيةِ ما يُعرف بساحة مايتر وعاودتَ الدخول من إحدى البوابات إلى الجانب حيث كانت سيارتك متوقفة، وأنك لم ترَ المأساة كاملة؟»
رد كارا: «أقسِم على ذلك»، وكان صوته متوترًا ومتحشرجًا.
«هل ستُقسِم أيضًا على ساعة وصولك إلى لندن؟»
قال اليوناني: «في وقتٍ ما بين الساعة العاشرة أو الحادية عشرة.»
ابتسم تي إكس.
«هل ستُقسِم أنك لم تَعبُر جيلفورد في الثانية عشرة والنصف لتزويد سيارتك بالوقود؟»
تمالك اليوناني نفسه في تلك اللحظة ونهض.
«أنت رجل شديد الذكاء يا سيد ميرديث … ذاك اسمك على ما أظن؟»
قال تي إكس بهدوء: «ذاك اسمي.» وتابع: «لم يكن لي حاجةٌ بتغييره كثيرًا كلما اقتضت الضرورة مثلك.»
رأى الشَّرر يتطاير من عينَي الآخر وعرف أن رصاصته قد أصابت الهدف.
قال كارا: «معذرة، ولكن عليَّ أن أذهب.» وأضاف: «لقد جئتُ إلى هنا لمقابلة السيدة لكسمان، ولم يكن لدي أدنى فكرة أنني سأقابل شرطيًّا.»
قال تي إكس وهو ينهض من مكانه ويشعل سيجارة: «عزيزي السيد كارا، سوف تمضي في حياتك تحاول اجتياز تلك التجربة البائسة.»
«ماذا تعني؟»
«أعني ما قلتُه بالضبط. سوف تتوقَّع دائمًا أن تقابل شخصًا ما، وتقابل آخرَ، وما لم يكن الحظ حليفَك حقًّا، فسوف يكون هذا الآخرُ دومًا شرطيًّا.»
لمعت عيناه؛ إذ تعافى من ثورة الغضب التي اجتاحته.
ثم قال: «ثمَّة دليلان أحتاج إليهما لإنقاذ السيد لكسمان من مأزقٍ في غاية الخطورة، أولهما هو الخطابُ الذي حُرق كما تعلم.»
قال كارا: «أجل.»
مال تي إكس عبر المكتب.
ثم قال فجأة: «كيف عرفت؟»
«أخبرني شخصٌ ما، لا أعرف مَن هو.»
رد تي إكس: «هذا ليس صحيحًا، لا أحد يعرف هذا إلا أنا والسيدة لكسمان.»
قال كارا وهو يرتدي قفازيه: «ولكن يا عزيزي، لقد سألتني بالفعل عمَّا إذا كنت لم أحرق الخطاب.»
قال تي إكس بضحكةٍ خفيفة: «لقد قلتُ المظروف.»
«وكنت على وشك أن تقول شيئًا بشأن الدليل الآخر، أليس كذلك؟»
قال تي إكس: «الدليل الآخر هو المسدس.»
قال اليوناني بتثاقل: «مسدس السيد لكسمان!»
قال تي إكس باقتضاب: «إنه بحوزتنا.» وأضاف: «ما نريده هو السلاح الذي كان بحوزة اليوناني حين كان يهدِّد السيد لكسمان.»
«حسنًا، يؤسفني أنني لا أستطيع مساعدتك في ذلك.»
اتَّجه كارا نحو الباب وتَبِعه تي إكس.
«أعتقد أنني سأقابل السيدة لكسمان.»
قال تي إكس: «لا أعتقد ذلك.»
التفت الآخرُ بنظرة ساخرة.
ثم تساءل: «هل ألقيت القبض عليها هي الأخرى؟»
قال تي إكس بصوتٍ أجش: «تمالك أعصابك!» ورافق كارا إلى سيارته الليموزين الواقفة بانتظاره.
وقال: «أرى أنك قد أحضرت سائقًا جديدًا الليلة.»
دلف كارا وهو مستشيط غضبًا إلى السيارة في تأنُّق.
قال تي إكس: «إذا كنت تراسل الآخر، فأبلغه تحياتي واستفسِر عن صحة والدته. هذا مطلب خاص مني.»
لم يقل كارا شيئًا حتى ابتعدت السيارة عن مرمى السمع، ثم اتكأ على الوسائد الصغيرة واستسلم لنوبةٍ من الغضب والسَّب.