الفصل الخامس
بعد مرور ستة أشهر كان تي إكس ميرديث يتتبَّع بجهدٍ جهيد خطًّا وجد صعوبةً في تحديده واتِّباعه ظهر على خريطةٍ لساسيكس صادرة عن هيئة المساحة حين دخل رئيس الشرطة معلنًا عن وصوله.
كان السير جورج يصف تي إكس بأنه مثال للمسئول الحكومي الحكيم الميَّال للإصلاح، ولم يكن يفوِّت فرصةً للقاء مرءوسه (على حد وصفه) لهذا السبب.
قال متذمرًا: «ماذا تفعل هناك؟»
قال تي إكس دون أن يرفع بصره عما بين يديه: «درس اليوم هو الخرائط.»
مرَّ السير جورج من وراء مساعده ونظر من فوق كتفه.
ثم قال: «تلك خريطة قديمة جدًّا.»
«إنها تعود إلى عام ١٨٧٦. إنها تبيِّن مسار عدد من الجداول المائية الصغيرة المثيرة في هذه المنطقة التي غابت عن ناظري ذلك السيد الذي أجرى المسح في فترةٍ لاحقة لسببٍ أو لآخر. أنا واثق تمامًا أنني سأجد ضالتي في واحد من هذه الجداول.»
«ألم تفقد الأمل بعدُ بشأن قضية لكسمان؟»
قال تي إكس: «لن أفقد الأمل أبدًا حتى أقضي نحبي، وربما لن أفقده حتى في ذلك الحين.»
«دعني أرَ، ما الحكم الذي حصل عليه؟ … خمسة عشر عامًا!»
قال تي إكس مرددًا كلماته: «خمسة عشر عامًا، وكم كان محظوظًا إذ استطاع النجاة بحياته!»
اتَّجه السير جورج إلى النافذة وأخذ يحدِّق في مبنى وايت هول المزدحم.
«أخبروني أن المياه قد عادت إلى مجاريها بينك وبين كارا.»
أحدث تي إكس صوتًا ربما اعتُبر إشارةً إلى تأييده لما قيل.
قال السير جورج: «أظنك تعرف أن ذلك الرجل قد قام بمحاولةٍ جبارة لفصلك من الخدمة.»
قال تي إكس: «ينبغي ألا أتعجب.» وتابع: «فقد أقدمتُ على محاولةٍ جبارة مماثلة لإعدامه، وما جزاء العمل الطيب إلا مثله. ماذا فعل؟ قابل وزراءَ وأشخاصًا من ذوي النفوذ؟»
قال السير جورج: «نعم.»
رد تي إكس قائلًا: «إنه أحمق ساذج.»
استدار رئيس الشرطة ثم قال: «أستطيع أن أتفهَّم كلَّ ذلك، ولكن ما لا أستطيع فهمه هو اعتذارك له.»
قال تي إكس بنبرةٍ لاذعة حادة: «ثمَّة أشياءُ كثيرة جدًّا لا تفهمها، يا سير جورج، حتى إنني يئست من قدرتي على تعديدها.»
قال رئيسه متذمرًا: «أنت فتًى وقِحٌ عديم الأدب.» وأضاف: «تعالَ لنتناول الغداء.»
تساءل تي إكس في حذر: «إلى أين ستأخذني؟»
«إلى النادي الخاص بي.»
قال الآخرُ بتأدبٍ متقن: «آسف، لقد تناولت الغداء في ناديك ذات مرة. هل من داعٍ لقول المزيد؟»
واصل عمله بعد أن غادر رئيسه، وابتسم حين تذكَّر الدهشة الشديدة التي اعترت كارا وإحساس التشفي والمتعة الذي استمات لإخفائه.
كان كارا رجلًا متغطرسًا، لديه إدراك مبالغ بمدَى ما يحظى به من وسامة وثراء. كان تصرُّفه رائعًا إلى أقصى حد؛ إذ لم يقبل الاعتذار فحسب، بل لم يترك شيئًا في وُسْعه إلا وفعله لخلق انطباع جيد لدى الرجل الذي أهانه إهانةً صارخة.
قَبِل تي إكس دعوةً لقضاء عطلة نهاية الأسبوع لدى كارا في «منزله المتواضع في الريف»، وهناك وجد كل شيء يمكن للقلب أن يبتغيه مُجتمِعًا، فيما يتعلَّق بالرفقة؛ إذ ضمَّت سياسيين بارزين ربما يمكن أن يكونوا ذوي نفعٍ لمساعد شرطة شاب ذي طموحات وتطلعات، وسيدات جميلات للعناية به وإمتاعه. بل بلغ الأمر بكارا أن استعان بشركةٍ مسرحيةٍ لتمثيل مسرحية «لافندر الجميلة»، وفي سبيل ذلك تحوَّلت قاعة الرقص الكبيرة في هيفر كورت إلى مسرح.
وبينما كان يخلع ثيابه للخلود إلى النوم في تلك الليلة، تذكَّر تي إكس أنه قد ذكر لكارا أن «لافندر الجميلة» هي مسرحيته المفضَّلة، وأدرك أن هذا الاحتفاء قد أُقيم من أجله.
سعى كارا بطرقٍ عديدةٍ أخرى إلى تعزيز أواصر هذه الصداقة. فقدَّم لمفوَّض الشرطة الشاب نصيحةً تتعلَّق بشركةٍ للسكك الحديدية تعمل في آسيا الصغرى، والتي كانت أسهمها أقلَّ من القيمة الاسمية لها بقليل. شكره تي إكس على النصيحة، ولم يعمل بها، ولم يشعر بأي ندم حين ارتفعت الأسهم ثلاثة جنيهات في غضون عدة أسابيع.
تولَّى تي إكس الإشرافَ على عملية التصرُّف في أصول منزل بيستون بريوري. فقام بنقل الأثاث إلى لندن، واستأجر لجريس لكسمان شقةً.
كان دخلها الخاص محدودًا، وساهم هذا الدخل، إضافةً إلى المبالغ المتزايدة التي أدرَّتها عليها عوائدُ حقوق التأليف نتيجةً لذيوعِ أمرِ القضية (وهو الأمر الذي كانت تدركه بمرارة شديدة) في إبعاد شبح الخوف من العوز عنها.
تمتم تي إكس وهو يعمل ويُصفر: «خمسة عشر عامًا.»
لم يكن لدى جون لكسمان أيُّ أمل منذ البداية. فقد كان مدينًا للرجل المتَّهم بقتله. وما رواه عن خطاب التهديد لم يكن له ما يدعمه. والمسدس الذي قال إنه أُشهر في وجهه لم يُعثر عليه قط. كان ثمَّة شخصان لديهما ثقةٌ مطلقة في صدْق هذه القصة، وأكَّد وزير الداخلية، الذي كان متعاطفًا مع القضية، شخصيًّا لتي إكس أنه إذا استطاع العثور على المسدس وربطه بالقضية ربطًا لا يدَع مجالًا للشك، فسوف يُعفَى عن جون لكسمان.
فُتِّش كل جدول مائي في المنطقة. وفي إحدى المرات كان هناك نهر صغير محاط بسدٍّ، وجُفِّف القاع جيدًا ومُحِّص بدقة، ولكن لم يُعثر على أثر للسلاح، وجرَّب تي إكس طُرقًا أكثرَ فعالية وأقلَّ مشروعية بالطبع.
لقد جاء كهربائي غامض إلى منزل كارا الكائن في ٤٥٦ كادوجان سكوير في غيابه، وكان مسلَّحًا بسلطةٍ لا تقبل الجدل، حتى إنه قد سُمِح له باقتحام حجرة كارا الخاصة، من أجل فحص بعض التركيبات الكهربائية.
لم يفكِّر كارا كثيرًا في الأمر حين علم به عند عودته في اليوم التالي، إلى أن اتَّجه إلى خزنته في تلك الليلة واكتشف أنها قد فُتحت وفُتِّشت تفتيشًا دقيقًا.
تصادف أن كان معظم مقتنيات كارا الثمينة والسريَّة في البنك. وإثرَ نوبةِ ذعرٍ انتابته، وبتكلِفة باهظة، أزال الخزنة ووضع أخرى مكانها ذاتَ قوة فولاذية، حتى إن صانعيها قدَّموا له ضمانًا ضد أي خسائر قد تنجم عن تعرضها للسطو.
أنهى تي إكس عمله، وغسل يديه، وكان بصدد تجفيفهما حين اقتحم مانسوس الغرفة. لم يكن من عادة مانسوس اقتحام أي مكان. فقد كان رجلًا بطيء الخطى، ومنظَّمًا ودقيقًا، وله أسلوبٌ متروٍّ وذو طابع رسمي.
سارع تي إكس يسأله: «ما الأمر؟»
صاح مانسوس لاهثًا: «نحن لم نفتِّش مسكن فاسالارو.» وأردف: «خطر لي ذلك وأنا أعبُر جسرَ ويستمينستر. كنت أعتلي إحدى الحافلات …»
قال تي إكس: «استيقظ!» وتابع: «تحدَّث بحريَّة واقتطع قصة «الحافلة» تلك. لقد فتشنا مسكن فاسالارو بالطبع!»
قال الآخرُ بنبرة المنتصر: «لا لم نفعل يا سيدي.» وأضاف: «لقد كان يقطن في شارع جريت جيمس.»
قال تي إكس مصححًا: «بل كان يعيش في أديلفي.»
قال مانسوس: «كان له مسكنان.»
تساءل رئيسه وقد تخلَّى عن صفاقته: «متى علِمت بهذا؟»
«صباح اليوم. كنت أستقل حافلةً تعبُر جسر ويستمينستر، وكان أمامي رجلان وسمعت كلمة «فاسالارو»، وبطبيعة الحال أطرقت السمع.»
قال تي إكس: «لم يكن هذا طبيعيًّا تمامًا، ولكن أكمِل.»
«قال أحد الرجلين، وكان شخصًا يبدو غايةً في الاحترام: «لقد كان ذلك المدعو فاسالارو يسكن في منزلي، ولا يزال لدي الكثير من متعلقاته. تُرى ماذا يجب أن أفعل؟»»
قال الآخر مقترحًا: «وأخبرته بما يفعل.»
قال مانسوس: «لقد جعلت بدنه يقشعر من الرعب.» وأضاف: «فقد قلت له: «أنا ضابط شرطة وأريدك أن تأتي معي».»
قال تي إكس: «وبالطبع لزم الصمت ولم ينطق بكلمة أخرى.»
قال مانسوس: «هذا صحيح، يا سيدي، ولكني بعد فترة دفعته إلى التحدُّث. كان فاسالارو يقطن في شارع جريت جيمس، بناية رقم ٦٠٤، في الطابق الثالث. في الواقع، بعضٌ من أثاثه لا يزال هناك. لا بد أنه كان لديه سببٌ مقنع لأن يكون له عنوانان بكل المقاييس.»
أومأ تي إكس في تروٍّ.
سأله: «ماذا كان اسمها؟»
قال الآخر: «لقد كان له زوجة، ولكنها تركته قبل مقتله بنحو أربعة أشهر. كان يستخدم عنوان أديلفي لأغراض العمل، ويبدو أنه كان يبيت ليلتين أو ثلاث ليالٍ في الأسبوع في شارع جريت جيمس. لقد أخبرت الرجل بأن يترك كل شيء على حاله، وسوف نحضر إليه.»
بعد عشْر دقائق كان الضابطان في الشقة الكئيبة التي كان يقطنها فاسالارو.
أوضح صاحب المنزل أن معظم الأثاث كان مِلكًا له، ولكنَّ ثمَّة أغراضًا كانت مملوكة للقتيل. وأضاف، بلا داعٍ، أن المستأجر الراحل كان مدينًا له بإيجار ستة أشهر.
كانت الأغراض المملوكة لفاسالارو تضم صندوقًا من القصدير، وطاولةَ كتابة صغيرة، وخزانة كتب، وبعض الملابس. كانت الخزانة مغلقة، وكذلك طاولة الكتابة. أما الصندوق القصديري، الذي لم يكن يحوي شيئًا ذا أهمية، فكان مفتوحًا.
لم يكن الغرضان المغلقان الآخران يستحقان الكثير من الاهتمام. وقد تمكَّن مانسوس من فتحهما بلا أي صعوبة تُذكر. كانت درفة المكتب، حين تدلَّت، تشكِّل منضدة الكتابة، وبالداخل وُجدت مجموعةٌ كاملة مكدَّسة من خطاباتٍ مفتوحة وأخرى لم تُفتَح، وكشوف حسابات، ودفاتر، وكل الأدوات والمستلزمات التي يمكن أن تتراكم لدى رجلٍ يفتقر إلى التنظيم.
تفحَّص تي إكس مجموعةَ الخطابات كاملة، خطابًا خطابًا، دون أن يجد أيَّ شيء ذا نفع له. بعدها لفت نظره علبةٌ صغيرة من القصدير محشورة في الكَوَّات المستطيلة الموجودة خلف المكتب. جذب هذه العلبةَ وفتحها ووجد بداخلها لفيفةً من الأوراق ملفوفة في ورق قصدير.
قال تي إكس: «مرحى، مرحى!» وكان معذورًا فيما انتابه من نشوة وبهجة.