الفصل السادس
وقف رجل في الباحة الناصعة النظافة أمام مقر المأمور في سجن دارتمور. كان يرتدي زي الخزي القبيح الذي يميِّز المدانين. كان شَعره قصيرًا، وكان وجهه الهزيل يكتسي بلحية خفيفة. كان واقفًا ويداه خلفَه، ينتظر تلك اللحظةَ التي سيُكلَّف فيها بعمله.
نظر جون لكسمان — السجين رقم إيه أوه ٤٣ — إلى السماء الزرقاء عاليًا كما كان ينظر مراتٍ عديدة من ساحة التريُّض، وتساءل ماذا يحمل له اليوم. كان النهار بالنسبة إليه هو البداية والنهاية لأمدٍ سرمدي. لم يكن يجرؤ على ترْك عقله للتفكير في السنوات الطوال الأليمة القادمة. لم يكن يجرؤ على التفكير في المرأة التي تركها خلفه، أو يسمح لعقله بالاستغراق في التفكير في العذاب الذي كانت تتكبَّده. لقد اختفى من العالم، العالم الذي أحبه، والعالم الذي عرفه، وكل ما كان موجودًا في حياته، كل شيء ذي قيمة وجدير بالاهتمام تحطَّم وطُمس أثرُه في الأحجار الجرانيتية لمحاجر برنستاون، وتقلَّص أفقه العريض بفعل الأرض المستنقعية الكالحة بآكامها الخطرة.
صارت هناك اهتمامات جديدة تشكِّل وجوده. كان من أحد هذه الاهتمامات جودةُ الطعام. وكان من بينها أيضًا طبيعةُ الكتاب الذي سيحصل عليه من مكتبة السجن. كان المستقبل بالنسبة إليه يعني قُدَّاس الأحد، وكان الحاضر هو أي مهمة يجدونها له. في ذلك اليوم كان مقررًا له أن يطلي بعض الأبواب والنوافذ لكوخٍ ناءٍ. كان هذا الكوخ يشغله حارسُ سجن، كان قد تحدَّث معه في اليوم السابق، لسببٍ ما، بعطف واحترام لم يكونا معتادَيْن بالنسبة إليه.
صاح صوتٌ هادر يقول: «أدرْ وجهك إلى الحائط»، فاستدار تلقائيًّا، ولم تزل يداه خلفه، ووقف يحدِّق في الحائط الرمادي لمخزن السجن.
سمع صوتَ جرجرة أقدام مسجوني المحجر، والتقطت أذناه صلصلة السلاسل التي كانت تكبِّلهم معًا. كانوا رجالًا شنيعين، يثيرون اهتمامه على نحوٍ غريب، وكان يراقب وجوههم خلسةً في بداية فترة سجنه.
كان قد أُرسِل إلى دارتمور بعد ثلاثة أشهر قضاها في وورموود سكرابس. أخبره السجناء القدامى هناك على نحوٍ متباين أنه كان محظوظًا أو تعيس الحظ. كان المعمول به أن يقضي السجين اثني عشر شهرًا في سكرابس قبل اختبار الحياة في أي سجن. كان يعتقد أنه كان ثمَّة حديث حول إرساله إلى باركهرست، وهنا استشف النفوذ الذي سيمارسه تي إكس؛ إذ كانت باركهرست بمنزلة جنة المسجونين.
سمع صوت حارسه من خلفه.
«يمينًا دُر، يا سجين ٤٣، وسريعًا سِر.»
سار متقدمًا الحارس المسلَّح عَبْر بوابات السجن الكبيرة الكئيبة، واستدار بحركةٍ حادة إلى اليمين، وصعد إلى الشارع الريفي في اتجاه المستنقعات، الواقعة خلف قرية برنستاون، وعلى طريق تافيستوك حيث يقع كوخان أو ثلاثة أكواخ شغلها مؤخرًا موظفو السجن، وأُرسل السجين إيه أوه ٤٣ لطلاء أحدها.
كان المنزل لم يزل بلا سكان بعد.
كان يوجد سجين يعمل في لصق ورق الحائط في عهدة حارسٍ آخرَ في انتظار وصول السجين عامل الطلاء. تبادل الحارسان التحية، وانصرف الأول تاركًا كلا السجينين في عهدة الحارس الآخر.
ظلا يعملان في صمت على مدى ساعة تحت عينَي الحارس. وبعد قليل خرج الحارس وأُتيحت الفرصة لجون لكسمان لإلقاء نظرة فاحصة على رفيقه في المعاناة.
كان رجلًا في الرابعة والعشرين أو الخامسة والعشرين، وكان رشيقًا خفيف الحركة. لم يكن في مظهره أيُّ قبح؛ ومن ثم افتقر إلى ذلك الإيحاء الغامض بالبهيمية الذي كان يميِّز السواد الأعظم من سكان دارتمور.
انتظرا حتى سمعا خطوات الحارس تبتعد عَبْر الممر، ولم يتكلم الرجل الآخر حتى وطئ حذاؤه الطويل ذو النعل الحديدي على الممر المرصوف المؤدي من الباب إلى الطريق عبر الحديقة الصغيرة.
سأله بصوت خفيض: «فيمَ جئت إلى هنا؟»
أجاب جون لكسمان باقتضاب: «جريمة قتل.»
كان قد أجاب عن السؤال من قبل، ولاحظ بشيءٍ من التندُّر نظرةَ الاحترام التي تظهر في عينَي السائل.
«وما الحكم الذي حصلت عليه؟»
قال الآخر: «خمسة عشر عامًا.»
قال الأول: «هذا يعني أحد عشر عامًا وتسعة أشهر.» ثم أضاف: «أظنك لم تأتِ إلى هنا من قبلُ قط، أليس كذلك؟»
قال لكسمان بجفاء: «إطلاقًا.»
قال لاصق ورق الحائط معترفًا: «أنا هنا منذ كنتُ طفلًا.» وتابع: «سوف أخرج الأسبوع القادم.»
نظر إليه جون لكسمان نظرةَ حسد. لو كان الرجل قد أخبره أنه ورث ثروةً ضخمة ولقبًا أضخم، لما كان شعوره بالحسد حقيقيًّا هكذا.
الخروج!
كان هذا يعني الذهاب إلى المحطة في عربةٍ خفيفةٍ بحصانين، والركوب إلى لندن بثيابٍ مُغضَّنة لكنها مريحة في الوقت ذاته، منطلقًا كنسيم الهواء، له مطلق الحرية في النوم والاستيقاظ وقتما يحلو له، واختيار عشائه بنفسه، وعدم الاستجابة لأي نداء سوى نداء ضميره، ورؤية … وعند هذا الحد كبح خيالاته.
ثم تساءل بنبرة دفاعية: «ماذا جاء بك إلى هنا؟»
قال الآخر بابتهاج: «التواطؤ والاحتيال.» وأردف: «زجَّت بي امرأة في السجن بعد أن هرب ثلاثة منا بعد الاستيلاء على ١٢ ألف جنيه. تبًّا للحظ التعس، أليس كذلك؟»
أومأ جون.
فكَّر في نفسه كم كان غريبًا مدى التعاطف الذي ينمو داخل المرء تجاه تلك العناصر الإجرامية. فيجد المرء نفسه تلقائيًّا يتبنَّى وجهة نظرهم، ويرى الحياة برؤيتهم المشوَّهة.
تابع السجين قائلًا: «أنا واثق من أنني لن يُوشى بي في العملية القادمة.» وأضاف: «لقد واتتني واحدة من أعظم الأفكار التي واتتني على الإطلاق، ولديَّ رجلٌ شهم بحق سيساعدني.»
سأله جون في دهشة: «كيف؟»
حرَّك الرجل رأسه في اتجاه السجن.
ثم قال باقتضاب: «لاري جرين.» وأضاف: «سوف يُطلَق سراحه الشهر القادم أيضًا، وقد رتَّبنا كل شيء كما ينبغي. سنحصل على الغنيمة ثم نهرب إلى أمريكا الجنوبية بأقصى سرعة، ولن ترانا حتى نصير ترابًا.»
على الرغم من أنه قد استخدم جميع التعابير العامية الدارجة، فقد كانت نبرته نبرةَ رجل على قدْر من التعليم والثقافة، ومع ذلك كان في خطابه شيء أخبر جون بالقدْر نفسه من الوضوح، كأن الرجل قد أفشى الكثير، بأنه لم يحظَ بأي مكانة اجتماعية في الحياة.
أعادتهما خطوات الحارس على الأحجار بالخارج إلى الصمت مجددًا. وفجأة جاء صوته عَبْر السُّلم.
نادى بحدة: «ثلاثة وأربعين. أريدك هنا بالأسفل.»
أخذ جون وعاء وفرشاة الطلاء ونزل مجرجرًا قدميه على السلالم التي لم يكن يفترشها أيُّ شيء.
سأله الحارس بصوت خفيض: «أين الرجل الآخر؟»
«إنه بالأعلى في الغرفة الخلفية.»
خرج الحارس من الباب وأخذ ينظر يَمنةً ويَسرة. كانت ثمَّة سيارةٌ كبيرة رمادية اللون قادمة من برنستاون.
ثم قال له: «أنزِل وعاء الطلاء على الأرض.»
كان في صوته رِعشةٌ من فرط الإثارة.
«سوف أصعد إلى أعلى. وحين تتوقَّف تلك السيارة أمام البوابة، لا تسأل أيَّ أسئلة واقفز بداخلها سريعًا. انزل إلى قاع السيارة وضعْ عليك جوالًا، ولا تنهض حتى تتوقف السيارة.»
تدفَّق الدم إلى رأس لكسمان، وأخذ يترنح.
همس قائلًا: «يا إلهي!»
قال الحارس بهمسٍ عالٍ: «افعل ما أقوله لك.»
وضع جون فرشاته تلقائيًّا كأنما قد تحوَّل إلى إنسان آلي، وسار ببطء نحو البوابة. كانت السيارة الرمادية تصعد التل ببطء، وكان نصف وجه قائدها متواريًا بقناعٍ مطاطي كبير. لم يستطِع جون عَبْر نظارته الكبيرة رؤية الكثير من ملامح الرجل بما قد يُعينه على التعرُّف عليه. وحين وصلت السيارة أمام البوابة، قفز داخل المقعد الخلفي وعلى الفور نزل إلى القاع. وفي تلك الأثناء شعر بالسيارة من تحته تقفز إلى الأمام. كانت السيارة في تلك اللحظة تسير سريعًا، ثم ازدادَت سرعتها، ثم أخذت ترتجُّ وتتمايل مع ازدياد سرعتها. شعر بها تندفع سريعًا إلى أسفلِ تلٍّ، ثم تصعد تلًّا، وفي لحظة ما سمع قعقعةً جوفاء بينما كانت تجتاز جسرًا خشبيًّا.
لم يتمكَّن من مكمنه أن يكتشف الاتجاه الذي يسلكانه، ولكنه استشفَّ أنهما اتجها يسارًا، ومتجهان إلى أحد الأجزاء الأكثر قفرًا من المستنقع. لم يشعر للحظةٍ أن السيارة تُبطئ من سرعتها، إلى أن صدر صوتُ صريرٍ من المكابح وتوقَّفت فجأة.
خرج صوتٌ ما يقول: «اخرج.»
طرح جون لكسمان الغطاء عنه وقفز إلى الخارج، وفي تلك الأثناء استدارت السيارة وأسرعت عائدة من الطريق الذي جاءت منه.
ظنَّ للحظة أنه بمفرده، وأخذ يلتفت حوله. رأى في الأفق البعيد الهيكل الرمادي لسجن برنستاون. كان من قبيل المصادفة أن شاهد ذلك، ولكن تصادف أن سقط شعاعٌ من الشمس عليه بميلٍ وجعله واضحًا جدًّا.
كان وحيدًا في المستنقعات! إلى أين يمكن أن يذهب؟
والتفت إلى صوتٍ خلفَه.
كان يقف على منحدرِ ربوةٍ صغيرة. وعند السفح كان يوجد مرجٌ أخضرُ منبسط. كان أهل دارتمور يقيمون سباقات المهور خلال أشهُر الصيف على هذا المرج. ولكن لم يكن ثمَّة أثرٌ لأي خيول، لم يكن يوجد سوى آلة كبيرة تشبه الوطواط ذات أجنحة ممتدة إلى الخارج من قماشٍ أبيضَ مشدود، وبجوار هذه الآلة وقف رجلٌ متَّشحٌ من رأسه إلى أخمص قدميه ببذلةِ عملٍ بنية اللون.
هبط جون المنحدر منزلقًا. وعندما دنا من الآلة، توقَّف وأصدر شهيقًا من المفاجأة.
قال: «كارا»، وابتسم الرجل المتشح باللون البني.
تساءل لكسمان حين استفاق من وقْع المفاجأة: «ولكني لا أفهم شيئًا. ماذا ستفعل؟!»
قال الآخر: «سآخذك إلى مكان آمن.»
قال لكسمان هامسًا: «ليس لدي مبرِّر يجعلني أشعر بالامتنان لك حتى الآن يا كارا.» وتابع: «فكلمةٌ منك كان يمكنها أن تنقذني.»
«لم أكن أستطيع الكذب يا عزيزي لكسمان. ولقد نسيت حقًّا أمرَ وجود الخطاب، إذا كان هذا ما تقصده، ولكني أحاول أن أفعل كلَّ ما بوسعي من أجلك ومن أجل زوجتك.»
«زوجتي!»
قال الآخر: «إنها في انتظارك.»
ثم أدار رأسه وأخذ ينصت.
جاء دويُّ بندقيةٍ كئيبٌ عَبْر المستنقع.
قال: «ليس لديك وقتٌ للجدال. لقد اكتشفوا هروبك. ادخل.»
صعد جون داخل الهيكل الرقيق للآلة وتَبِعه كارا.
قال: «هذه الآلة تبدأ الحركة ذاتيًّا، إنها واحدة من أحدث طرازات الطائرات الأحادية السطح.»
نقر على ذراعٍ ما، ودار الرفَّاص المروحي الكبير الثلاثي الأنصال محدِثًا صوتًا عاليًا.
تحرَّكت الطائرة إلى الأمام باهتزازة، وركضت بسرعة متزايدة لمسافة مائة ياردة، ثم فجأة توقَّف التقدُّم الاهتزازي. مالت الآلة بخفة من جانبٍ لآخر، وحين نظر راكبها إلى الأرض، رأى الأرض تنحسر وتتقلص من تحته.
راحا يصعدان إلى أعلى في طلعة واحدة طويلة ساحقة، مارَّين عَبْر سحب متدفقة حتى صارت الطائرة محلقة عاليًا كطائر فوق البحر الأزرق.
نظر جون لكسمان إلى أسفل. رأى تضاريس الساحل وتعرَّف على حواف المنازل البيضاء التي تشكِّل توركواي، ولكن في غضون فترة زمنية قصيرة للغاية كانت كل معالم الأرض قد طُمست.
كان الكلام مستحيلًا. فقد كان هدير المحركات عصيًّا على الاختراق.
كان واضحًا أن كارا طيارٌ ماهر. وكان من آنٍ لآخر يرجع إلى البوصلة على لوحة القيادة التي أمامه، ويغيِّر مساره على نحوٍ طفيف للغاية. بعد قليل رفع إحدى يديه عن عجلة القيادة، وكتب شيئًا على عُجالة على مجموعة صغيرة من الورق وُضِعت في جيبٍ في جانب المقعد ثم مرَّرها إليه.
إذا كنتَ لا تجيد السباحة، يوجد حزام نجاة أسفل مقعدك.
أومأ جون.
كان كارا يجوب البحر بحثًا عن شيءٍ ما، ووجده بعد قليل. بدت الطائرةُ من الارتفاع الذي كانت تحلِّق منه مجرَّد نقطة بيضاء في صحنٍ أزرق كبير، ولكنها بعد قليل بدأت تنخفض، وهوت بسرعة رهيبة، حبست أنفاس الرجل الذي كان متشبثًا بكلتا يديه بالمقعد الخطر الذي كان يجلس عليه.
كان يشعر ببرودة شديدة، لكنه بالكاد لاحظ ذلك. كان الأمر برمَّته مستحيلًا ولا يصدَّق. كان يتوقَّع أنه سيستيقظ ويتساءل إن كان السجن أيضًا جزءًا من الحلم.
في تلك اللحظة أدرك الوجهة التي يقصدها كارا.
كان يوجد يخت بخاري أبيض طويل ومحدود العرض، يبحر ببطء في اتجاه الغرب. استطاع أن يرى آثار المَخْر الخفيفة التي تشبه الريش في مؤخرته، ومع هبوط الطائرة، كان لديه متسع من الوقت ليلاحظ أن ثمَّة قاربًا قد أُوقف. بعد ذلك هبطت الطائرة محدثةً اهتزازًا واستقرَّت على سطح الماء كطائر منزلق، وتوقَّفت محركاتها.
قال كارا: «من المفترض أننا نستطيع البقاءَ عائمَين على سطح المياه عشْر دقائق، وفي ذلك الوقت سوف يصطحبوننا.»
كان صوته مرتفعًا وحادًّا وسط الصمت شبه المطبق الذي أعقب توقُّف المحركات.
في خلال أقل من خمس دقائق كان القارب قد رسا بمحاذاتهما، وكان على متنه عمالٌ يونانيون، كما استشف لكسمان من نظرةٍ خاطفة لأفراد الطاقم. صعد على متن القارب بصعوبة وبعد خمس دقائق كان واقفًا على السطح الأبيض لليخت يراقب ذيل الطائرة وهو يختفي عن الأنظار. وكان كارا بجواره.
قال اليوناني مبتسمًا: «ها هي ألف وخمسمائة جنيه قد تبدَّدت، بالإضافة إلى الألفين اللتين دفعتهما للحارس، وبذلك أكون قد تكبَّدت مبلغًا ضخمًا، ولكن ثمَّة أشياء تستحق كل أموال الدنيا!»