الفصل الأول

عندما يموت طفل، يتألَّم الجميع؛ الأسرة، والأصدقاء، والأغراب على حدٍّ سواء. أما عندما يُقتل طفل، فإن هذا الألم يمتزج بالغضب. الفارق الوحيد هو تدخُّل المزيد من الغُرباء. أطباء يحاولون اكتشافَ كيفية حدوث الجريمة. رجال شرطة يحاولون الكشفَ عن هُوية مرتكب الجريمة. صحافيون يتجمَّعون حول القضية مثلما تتجمَّع الزنابير حول المربَّى. والجميع يتأثَّرون تأثُّرًا عميقًا.

هذا ما حدث بالضبط عندما ماتت كاتي فاريل. كان واضحًا منذ البداية أن الحريق الذي قتلها لم يكن عرَضيًّا. فقد شمَّ رجال الإطفاء رائحةَ الوقود بمجرَّد وصولهم إلى مكان الحريق. كما أن الحريق بدأ خارج غرفة نومها مباشرةً؛ وهو مكان ليس من المفترض وجود وقود فيه. تمكَّن بقية القاطنين في المنزل في تلك الليلة من النجاة بسهولة؛ والدتها، ووالدها، والفتاة الإسبانية التي تطهو طعامهم وترعى كاتي في غياب والدَيها. ولكن كاتي لم تنجُ. لم تتوفَّر لها الفرصة لتفعل.

اسمي آندي مارتن، وأعمل شُرطيًّا. سمِعت عن وفاة كاتي فاريل عبر مكالمة هاتفية أيقظتني في الثانية صباحًا تقريبًا. لا أحقِّق عادةً في هذا النوع من القضايا. فمجال عملي هو الجنايات، ويعمل فريقي على تقديم عُتاة الإجرام إلى المحاكمة؛ كرجال العصابات، ومُهرِّبي البَشَر، وتجار المخدرات، واللصوص الكبار. إنهم حثالة البشر، نعم؛ ولكنهم ليسوا من نوعية حثالة البشر الذين قد يقتلون فتاةً في التاسعة من عمرها حرقًا في غرفة نومها.

استدعوني لأن كاتي فاريل لم تكن مجرَّد فتاة في التاسعة من عمرها. بل كانت ابنة جاك فاريل، وكنت خبيرًا فيما يتعلَّق بجاك فاريل. إذا ما ظهر اسمه على أيٍّ من أجهزة الكمبيوتر الخاصة بالشرطة، تظهر بجانبه إشارةٌ مكتوب فيها «اتَّصل برئيس مكتب التحقيقات آندي مارتن». لم يكن لفاريل سِجِلٌّ إجرامي، ولكن هذا لم يكن يعني أنه رجلٌ نزيه. كانت عصابة فاريل تعمل في جميع الأعمال القذِرة التي يمكنك أن تتخيلها: مخدِّرات، سلاح، دعارة، إباحية. أيًّا كان العمل القذر الذي سيتبادر إلى ذهنك، ستجد أنهم متورِّطون فيه. كانوا يبيعون ويشترون البَشَر كما لو كانوا سِلَعًا يتبادلونها عبر موقع إيباي. وكنا نحاول الإيقاعَ بجاك فاريل طوال سنوات، ولكننا لم نتمكن من إثبات أي شيء عليه. كان لا يزال ما نطلق عليه اسم: شخص بلا سوابق، شخصًا بلا سجلٍّ إجرامي، ما يعني أنه يملك جميعَ حقوق أي مواطن شريف وحرياته. ولكني كنت أعلم حقيقته. وكنت أرغب بشدة في الإيقاع بجاك فاريل.

لذا اتصَلوا بي بالطبع. لأن كاتي فاريل ماتت. ماتت لأن شخصًا ما قرَّر أن يضرب والدها ضربةً موجعة للغاية.

عندما وصلتُ إلى هامبشر، كان جاك فاريل واقفًا حافي القدمين خارج منزله الذي تبلغ مساحته نصفَ مساحة استاد ويمبلي تقريبًا. كان عاريًا إلا مِن سروال داخلي قصير وبطانية ألقاها شخصٌ ما على كتفيه. بدا وكأنه هو مَن مات.

رأيت في تلك الليلة أمرَين لم أرَهما من قبلُ طوال حياتي. رأيت رجلًا دُمرت حياته الجميلة بضربة واحدة. كما رأيت وُشوم جاك فاريل.

وصف لي كثيرون تلك الوشومَ من قبل؛ ألوانًا زاهية، وأنماطًا مميزة تدل على المهارة الاستثنائية لرسَّام الوشوم الذي رسمها. كان وشمُ تِنِّين يُغطي جذعه، ويختفي ذيله تحت شريط خَصر سرواله الداخلي القصير، ويعود ليظهر مجددًا على فخذه اليُسرى. كانت جميع حراشفه الخضراء محدَّدة بوضوح. وكان لسان لهب قِرمزي يعبُر الجانب الأيمن من صدره صعودًا إلى كتفه. وعلى إحدى ذراعيه رأيت وشمًا لمحاربِ ساموراي شاهر سيفه كما لو كان بصدد مهاجمة التنين. وعلى الذراع الأخرى كان هناك وشم لامرأة جميلة تغطي جسدها العاري بيديها وشعرها الأحمر الطويل. كانت هناك قصة مكتوبة على جسد جاك فاريل دون كلمات.

كانت قصة يحب إخفاءها عن العيون غالبًا. فطوال فترة مراقبتي لجاك فاريل، لم أرَه قطُّ يرتدي قميصًا قصيرَ الأكمام. على النقيض من أغلب الأشرار الذين كانوا يُظهِرون وشومَهم كما لو كانت دليلًا مرئيًّا على مدى قوَّتهم، كان فاريل يخفي وشومه. قيل عنه إنه يخلع قميصه عندما يكون بصدد القتل بدم بارد. ويُشاع أن وشوم جاك فاريل هي الشيء الأخير الذي رآه بعضٌ من الأشرار في هذا العالم قبل أن تنتهي حياتهم. كانت تلك طريقة أخرى لضمان أن يظل أعداؤه خائفين منه.

ولكن لم يكن جاك فاريل ليخيف أيَّ أحد في تلك الليلة. لقد سلبته النار أشياءَ أكثرَ من ابنته الحبيبة كاتي. كان أشبه بقوقعة خالية؛ فقد خمدت نار الحياة في داخله. توجَّهتُ نحوه مرافقًا الشرطيَّ الذي كان مسئولًا عن التحقيق بصورة رسمية عندما ذهب ليتحدَّث إليه، وكان التحدُّث إليه أشبه بالتحدُّث إلى رجلٍ مات وانتهى.

طرحنا عليه الأسئلة التقليدية. وأجاب فاريل عنها كما لو كان رجلًا آليًّا. ثم قال الشرطي: «هل رأيتَ أحدًا يَجُول حول المنزل وليس من المفترض به أن يفعل؟»

اختفى الضَّعف من عينَي فاريل وتصلَّب جسده. ثم صاح قائلًا: «لو كنت رأيت أحدًا، لتعاملتُ معه.»

سألته: «ماذا تعني بقولك: «تعاملت معه»؟»

فَحَصتني نظرةُ فاريل من قمة رأسي حتى أخمص قدميَّ. بدا أنه تمالك نفسه بالكاد، كما لو أنه أدرك أن موت كاتي قد لا يكون الأمر السيئ الوحيد الذي قد يحدث هذه الليلة. فقال: «كنت سأتصل بالشرطة. ماذا تعتقد أني أعني؟»

لم أُجِبه ناظرًا في عينيه اللتين تحدِّقان بي بنظرة نارية. ثم كسرت الصمت أخيرًا. وقلت: «هل لديك أيُّ أعداء؟ هل هناك مَن قد يُضمِر ضغينة ضدك؟ شخصٌ ربما قمت باستفزازه؟» حافظتُ على هدوء صوتي متظاهرًا بأني لا أعرف شيئًا عن حياته.

«هل تعني أني مَن يتحمل وزرَ ما حدث؟» كان الآلي قد اختفى وحلَّ محلَّه رجل يتألم خرج من بين الظلال. كانت ملامح وجهه مُلتَوية من فرطِ الانفعال. ثم قال: «هذا ليس طبيعيًّا. ليس هذا ما يحدث عندما تُغضِب شخصًا ما. مَن فعل هذا مجنون بالتأكيد.» ثم أشاح بوجهه بعيدًا وضمَّ البطانية حوله كما لو أنه اكتشف للتَّو مدى برودة الجو. ثم قال بصوتٍ خفيض للغاية سمِعته بصعوبة: «اتركاني وحدي لأحزن على ابنتي كاتي.»

ثم سار مبتعدًا. تحرَّكت لأتبعه، إلا أن الشرطي المحلي أمسك ذراعي. وقال وهو ينظر إليَّ وكأني لست إنسانًا: «تمهَّل قليلًا. لقد فقد الرجل ابنته لتوه.»

أبعدت يده عن ذراعي. وقلت: «إنك لا تعرف حقيقة مَن تتعامل معه، أليس كذلك؟ دعني أخبرك بشيء عن جاك فاريل. إذا ما اعتقد أنَّ قتلَ طفلِ شخصٍ ما هو أفضل طريقة للَفْت انتباهه، فسيفعل ذلك دون تردُّد. ما يفاجئني هو أن شخصًا ما امتلك ما يكفي من الجرأة ليفعل ذلك به أولًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤