الفصل التاسع عشر

كانت ثمة أخبار جيدة وأخرى سيئة تنتظرني لدى عودتي إلى مكتبي. عادت المحقِّقة كيرستي بلايث حاملة خبر أن جون هوكينز «القرصان»، رسام الوشوم الذي رسم لجاك فاريل وشومه، قد أبلغت صديقته عن اختفائه في اليوم السابق لحادثة الانتحار الزائفة. وكان لا يزال على قائمة المفقودين.

وكان الخبر الجيد أن المربية الإسبانية مانويلا لم تكن بارعة في تغطية آثارها مثل فاريل. كنت قد وضعت تنبيهًا على بطاقتها الائتمانية بعدما غادرت البلاد. وقد أثمرت هذه الخطوة. طبقًا للتقرير الموضوع على مكتبي، كانت قد استخدمت البطاقة في شراء كمية كبيرة من البقالة، وأدوات النظافة، والملابس من أحد الأسواق الكبيرة في محيط بلدة كاليه.

بدأت الأمور تعود إلى نصابها الصحيح. كنا نعرف أن فاريل كان يستخدم قاربه قاعدةً لعَقد الصفقات في أثناء فترة بيع أعماله، وأن فانسي رايلي كان يقله على متن قارب سريع في نهاية كل يوم. وكان من المنطقي أن فاريل يملك قاربًا آخر لا نعرف شيئًا عنه. كما أن هذا يفسِّر سبب أن أحدًا لم يره على الإطلاق. إذا كان يستخدم قاربه للتحرك بين إنجلترا وفرنسا، فسيمكنه التحرك جيئة وذهابًا كما يحلو له. يمكنه أن يأتيَ إلى هنا ليعذب ويقتل، ثم يعود أدراجه إلى فرنسا في الليلة نفسها.

لم أقلِّل من الاحتمالات كثيرًا، ولكن كان هذا جيدًا كبداية. في تلك الليلة، بينما كنت جالسًا إلى طاولة الطعام في منزل ستيلا لأتناول العشاء معها، وبينما كنت أتناول الطعام الصيني الذي قدمته إليَّ، قصصتُ عليها ملخصًا لما اكتشفت. رأيت أنها صُدمت من مدى عمق الفساد الذي غرق فيه بن. قالت: «ماذا فعلت بالنقود؟»

رمقتها بنظرة سريعة بطرف عيني. وقلت: «أعطيت كارن بوليصة التأمين. وأحرقت الرسالة. والنقود لا تزال في سيارتي.»

«وماذا ستفعل بها؟» قالتها ووضعتْ عِصي الأكل من يدها ورمقتني بنظرة صارمة.

قلتُ: «سأتبرع به. نتبرع به إلى حيث يمكن أن يعود على الناس بالخير.» أخذتُ رشفة من النبيذ. وقلتُ: «لقد حصلت كارن على أموالٍ أكثر مما تحتاج إليها.»

مدَّت ستيلا يدها، وأحاطت يديَّ بيديها. وقالت: «لا تلُم نفسك يا آندي. إن ما فعله بن ليس خطأك.»

قلت ومذاق مرير لا علاقة له بالطعام ملأ فمي: «كان يجدر بي أن ألاحظ. كان يجدر بي أن أعرف. كان ذراعي اليمنى، ولم ألاحظ أنه فاسد. كيف أعُد نفسي شرطيًّا وقد سمحت بحدوث ذلك؟»

قالت ستيلا: «لقد اختار مساره بنفسه. اختار أن يحوِّل حياته برُمتها إلى كذبة. لن أجلس مكتوفة الأيدي وأتركك تلوم نفسك على ذلك.»

«أنا لا ألوم نفسي على اختياراته، بل ألوم نفسي على أني وضعت ثقتي بمن لا يستحق.»

ضغطت ستيلا على يدي. وقالت: «على الأقل، أنت محق في ذلك. ولكن لا بد أنه اجتهد كثيرًا حتى يحوز ثقتك. ولا بد أنه كان مرعوبًا من أنك قد تكتشف أمره. وإحقاقًا للحق، إنه يستحق كل لحظة رعب عاشها. أنت رجل صالح يا آندي. وشرطي صالح.»

زفرتُ. وقلت ساخرًا: «لا أعتقد ذلك يا ستيلا. لقد خدعني بن. ولا يزال جاك فاريل يخدعني. ربما كان في فرنسا. وربما كان في قاربه في البحر.» شربت المزيد من النبيذ. وقلت: «وربما كان يجلس الآن خارج شقتكِ يسخر منا.»

«لمَ تعتقد أنه في فرنسا؟»

أخبرتها بأمر مانويلا والبطاقة الائتمانية. تركت ستيلا يدي ونهضت واقفة. وقالت: «لديَّ فكرة.» لا بد أنها فكرة جيدة. فقد تركتْ طعام أحد أفضل المطاعم الصينية في لندن.

تبِعتها حتى وصلنا إلى المساحة تحت الدَّرج التي حوَّلتها إلى غرفة مكتب. جلست أمام الكمبيوتر الذي تتركه يعمل طوال أيام الأسبوع على الرغم من تحذيراتي لها فيما يتعلق بسرقة الهويات والمخترقين. فتحت موقعًا إلكترونيًّا خاصًّا بخبراء الطب الشرعي المتخصصين في اكتشاف طرق لتحديد هويات الجثث. ثم رفعت عينيها نحوي. وقالت: «هلا تحضر لي كأس النبيذ من فضلك؟»

عندما عُدت حاملًا كأس النبيذ، كانت قد بدأت محادثة رسائل فورية مع أحد زملائها.

الطبيبة ستل : «هذا صحيح. إزالة الوشوم.»
جيه بي بي : «بالليزر أم جراحيًّا؟»
الطبيبة ستل : «لا يهم. بأي طريقة. المهم هو المكان. لا بد أن يكون في محيط بلدة كاليه.»
جيه بي بي : «أمهليني خمس دقائق.»

سألتُها وأنا أضع مشروبها بجوار لوحة المفاتيح: «مَن يكون جيه بي بي؟»

أخذت رشفة من النبيذ، وقالت: «طبيب أمراض جلدية من باريس. عملنا معًا في كوسوفو. هو مَن علَّمني التأثير الذي تتركه الوشوم.» قبل أن تقول المزيد، أطلق الكمبيوتر صافرة. كتب جيه بي بي عددًا من عناوين العيادات التي توجد في المنطقة المطلوبة.

جيه بي بي : «العيادة في كاليه تُعَد عيادة عامة. أما الأخرى فأكثر تخصصًا في أعمال الوشوم. التقيتُ مدير العيادة في جنيف، وكان يتحدَّث عن كريم جديدٍ كانوا يستخدمونه مع الليزر لتحقيق نتائج أفضل. هذا الكريم له تركيبة خاصة بهم. إنه يعتقد أن الكريم سيجعلهم أثرياء بمجرد أن يثبتوا مدى كفاءته في إنجاز المطلوب منه. إذا كنت أريد أن أزيل وشومي في شمال فرنسا، أعتقد أني سأذهب إلى هذا المكان.»
الطبيبة ستل : «شكرًا لك يا جون بول. سأشتري لك مشروبًا خلال اجتماع الجمعية الأوروبية للمعلوماتية الحيوية الشهر القادم.»

رفعت ستيلا عينيها نحوي مبتسمة. وقالت: «كنت أتساءل عن سبب وجود مانويلا في فرنسا. لم يبدُ الأمر منطقيًّا إلا إذا كانت هناك من أجل فاريل. الأمر الذي أثار سؤالًا آخر، لمَ كاليه؟ ثمة الكثير من الأماكن الصغيرة على طول الساحل الفرنسي التي تقل فيها احتمالات أن يتعرَّف أحد على فاريل. لا بد من سببٍ وجيه لاختيار كاليه.»

ابتسمتُ. وقلت: «مثل التخلص من وشوم مميزة. ستيلا، أنت أبرع مني كمحقِّقة.» ثم انحنيت وقبَّلتها. «ولكنكِ أيضًا أسوأ عدوٍّ لنفسك. سأذهب الآن للتحدث مع فريقي عن الخطوة التالية التي سنقدِم عليها.»

صاحت: «آندي. أنا واثقة بأن هذا يمكنه الانتظار حتى الصباح، أليس كذلك؟»

مددتُ يديَّ أمامي لأصدها. وقلت وأنا أتراجع نحو الباب: «لن أخاطر بإضاعة الوقت. احتفظي ببعضٍ من طعام العشاء من أجلي فربما أتمكَّن من العودة في وقتٍ لاحق.»

•••

كان يجدر بي أن أنقل فكرةَ ستيلا إلى رئيسي مباشرةً، وأدعه ينسِّق مع الجانب الفرنسي. ولكن كان جاك فاريل ملكي، ولم أكن أريد أن ينسلَّ من بين أصابعي لأن شرطيًّا فرنسيًّا ما لا يملك أدنى قدرٍ من الاهتمام قرر أن يأخذ قيلولته في الوقت غير المناسب.

انتقيت أربعة ضباط، وانطلقنا إلى فرنسا على متن قطار اليوروستار. وبمجرد أن وصلنا، استأجرنا ثلاث سيارات. وبدأنا في مراقبة العيادة على ورديات تمتد كلٌّ منها إلى أربع ساعات، وكنا نرتاح بينها في نُزُل سائقي شاحنات يقع على الطريق السريع القريب.

توفَّر لي الكثير من الوقت للتفكير في موت كاتي فاريل. لقد مرَّ ما يزيد على الأسبوع منذ وفاة بن لم نعثر خلاله على المزيد من الجثث. كما أن قتله كان الوحيد المُعلَّم بالنار. بدا الأمر واضحًا بالنسبة إليَّ. لقد عذَّبه جاك فاريل حتى حصل منه على الحقيقة ثم قتله. ثم بعث لبقيتنا رسالة بتلك النار التي تربط موت بن بموت كاتي. فقط أب محب لأطفاله مثل بن هو مَن سيدرك مقدار الضرر الذي قد يسبِّبه قتل كاتي. لا أعلم لمَ اقترف هذه الجريمة، ولكن جميع غرائزي كرجل شرطة تخبرني بأنه مَن فعلها.

حالفنا الحظ في اليوم الثالث. رأت كيرستي بلايث وشريكها مانويلا وهي توصِّل فاريل بالسيارة إلى الباب الجانبي للعيادة قبل الساعة السابعة صباحًا بقليلٍ. ثم عادت لتصحبه بعد ساعتين. في خلال ذلك الوقت، كان خمستنا جاهزين لتتبعهما.

تبِعناهما أولًا إلى مرسًى خاص لليخوت حيث وضعا عددًا من الأكياس البلاستيكية المليئة بمشتريات من أحد المتاجر على متن قصر عائم كبير. لم نتمكَّن من الدخول من دون مفاتيح، ولكني أخرجت نظارة مقرِّبة وحدَّدت القارب المقصود.

ثم تبِعناهما طوال نحو عشرين ميلًا من الطرق الريفية. لم تكن ثمة أي احتمالية لأن يغيبا عن أنظارنا على تلك الطرق الطويلة الضيقة التي تحفُّها أشجار الحور من جانبَيها. توقَّفا عند فيلا كبيرة حديثة الطراز عند الطرف البعيد من قرية صغيرة أنيقة بدت كأنها ديكور في فيلم سينمائي. بعدما وضعا ما تبقى من أكياس التسوق داخلها، واصلنا السير بضعة أميال أخرى حتى وصلنا إلى القرية التالية حيث احتفلنا في هدوء وتناولنا البيرة.

قالت بلايث: «من الصعب مراقبة هذه الفيلا.»

«لن نحتاج إلى مراقبتها. ثمة طريقٌ واحدة تمر بالفيلا. كل ما نحتاج إليه هو أن نقسِّم أنفسنا. تتجه سيارتان شمالًا، وواحدة جنوبًا. سنتتبَّعهما عندما يغادران.»

لم يخرج أحد بفكرةٍ أفضل. كان هذا يعني أننا سنظل عالقين داخل السيارات، ولكن كان من الممكن أن يكون الوضع أسوأ من ذلك. ولحسن الحظ، لم ننتظر طويلًا.

قبل منتصف تلك الليلة بقليلٍ، أخبرنا الشرطي في السيارة الأولى على الطريق المتجهة شمالًا بأن فاريل قد مرَّ به بسيارته للتوِّ، وكان بمفرده وينطلق بسرعة كبيرة. اتجهتُ وبلايث من فورنا نحو هذه الطريق، وحافظنا على سرعتنا حتى رأينا أنوار مصابيح أمامية تظهر خلفنا. زِدنا من سرعتنا حتى لا يتمكَّن من تخطينا سريعًا، ولكي نمنح الآخرين فرصةً للحاق بنا.

كانت ثمَّة بضع لحظات شائكة، ولكننا تمكَّنَّا من تتبُّعه حتى وصلنا إلى مرأب سيارات مرسى اليخوت. بينما كان فاريل يتجه نحو البوابات، بدأنا نتحرك، فأحاطت سياراتنا به، وقفزنا منها وثبَّتناه أرضًا. تطلَّب الأمر أربعة منا لكي نسيطر عليه، ولم تكن له فرصة في التغلب علينا جميعًا.

وضعنا الأصفاد في يديه، ووجَّهناه ناحية قاربه بينما صفَّت كيرستي السيارات جانبًا، ووضعت مفاتيحها تحت مقاعد السائقين. سنتصل بشركة تأجير السيارات عندما نعود إلى الوطن.

اتضح السبب الرئيسي لاختيار كيرستي الآن. يمكنها الإبحار بالقوارب. كانت تقود القوارب منذ طفولتها، وكانت تعبر القناة الإنجليزية في قارب والديها الصغير منذ نعومة أظفارها.

وضعنا فاريل في الأسفل في غرفة النوم الرئيسية، بينما جلس بقيتنا الذين لا دخل لهم بالإبحار بالقارب في الصالون نلعب الورق. لم يتوقَّف فاريل عن السبِّ والصراخ فترة، ولكن أصابه التعب قبل أن يصيبنا.

وصلنا إلى الأراضي الإنجليزية في موعد الإفطار. كانت القصة بسيطة. وصلتنا معلومة مفادها أن فاريل في طريق عودته إلى إنجلترا، فقبضنا عليه بمجرد أن لمست قدماه الشاطئ. كانت كلمته في مقابل خمستنا. لم تكن ثمة مقارنة.

في البداية، بدا الأمر كأننا لا نملك الكثير من التُّهم لنوجهها ضده. لم يكن تزييف الانتحار بالتهمة الكبيرة. ولكن سرعان ما تغيَّر الوضع بفضل ستيلا. فقد توصَّلت إلى هُوية الجثة التي اعتقدنا أنها جثة فاريل خطأً. كان الرجل الذي يعمل في الدعارة لصالح فاريل قد شُوهد للمرة الأخيرة يغادر الحانة برفقة فانسي رايلي وفاريل نفسه. كان هذا جيدًا، ولكن كان الأفضل هو اكتشاف السكين التي استُخدمت في قتل بريان كوبر وبن ويلسون. كانت موضوعة في درج أدوات المائدة في قارب فاريل، وكانت بصمات أصابعه تغطيها بالكامل. كان المسمار الأخير في نعش فاريل أن تمكَّن الخبراء من تحديد آثار المتفجرات التي فجَّرت جسد جوي سكاردينو إلى أشلاء في إحدى خزانات القارب.

كان قد مرَّ قرابة عام على ليلة وفاة كاتي فاريل. وكان والدها سيُقدَّم إلى المحاكمة في غضون بضعة أسابيع. الغريب في الأمر أن الكثير من الفئران قد خرجت من جحورها لتتهمه بارتكاب الكثير من الجرائم بمجرد أن علِموا أنه قد أُلقي القبض عليه متهَمًا في قضية كبيرة.

كانت رحلة طويلة بالنسبة إلينا جميعًا. كانت كارن ويلسون لا تزال تبحر بلا هدًى في بحور الحزن، وأصبح أطفالها كأرواح تائهة. حافظنا على نظافة سمعة بن، وأعتقد أن الوضع لن يتغير خلال المحاكمة. ولكني أشعر أني دفعت ثمنًا باهظًا مقابل ذلك. فبعد موت بن، لم أعد قادرًا على أن أثق بأحد. الأمر الذي لم أتمكَّن من إخفائه عن ستيلا. سافرت ستيلا منذ أسبوعين إلى نوكسفيل بولاية تينيسي حيث توجد مزرعة الجثث. أعتقد أن الفائز الوحيد في الأمر برُمته هو مجموعة من الجمعيات الخيرية التي تساعد الأطفال المشرَّدين ومدمني المخدرات والنساء اللائي يُبَعن بغرض العبودية الجنسية.

وكما قلت سابقًا، عندما يموت طفل، يتألم الجميع. وبعض الجِراح لا تلتئم أبدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤