الفصل الرابع
ردَّ علينا محامي فاريل قبل انقضاء فترةِ ما بعد الظهر بقليل. كان يُدعى ماكس كارتر، وأزعجني صوته كثيرًا، بغض النظر عما كان يقول. كان أسلوب حديث الأمير تشارلز الرسمي يبدو عاميًّا مقارنةً بأسلوبه. كان ملخَّص حديثه أن جاك فاريل على استعداد للقائنا في صباح اليوم التالي في مكتب المحامي.
قلت له: «أُفضل أن يأتي السيد فاريل إلى مركز الشرطة. جدولي مزدحم صباح الغد، وأريد أن أحصل على شهادة رسمية منه.»
قال بطريقة متغطرسة جعلتني أرغب في صفعه: «جميعنا مشغولون. ولكن لم يفقد أيٌّ منا طفلته خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية. يستحق السيد فاريل منا التعاطف والمراعاة. ومركز الشرطة ليس بالمكان الذي يمكنه منحُ أيٍّ منهما، يا رئيس مكتب التحقيقات. هل يناسبك لقاؤنا في مكتبي في العاشرة والنصف؟»
لم يكن أمامي خيار آخر سوى أن أوافق. وضعتُ سماعة الهاتف والتفتُّ نحو بن وأخبرته عن اللقاء. قلت: «يقع مكتب كارتر في أحد أبراج كناري وارف. أريد ضابطَين عند كل مخرج من مخارج الطابق الأرضي للبرج وسيارتين في موقف السيارات تحت الأرض. حاول الحصول على مخططات المبنى من مجلس البلدية، تحسُّبًا للأسوأ. يجب ألا يخرج فاريل من هذا البرج دون مراقبة.»
أومأ بن. وقال: «أمرك، أيها الرئيس. هل تريد مني أن أرتِّب لمراقبة هاتف المحامي؟»
«سيَفترض أننا فعلنا بالفعل. كما أنه لا فائدة من ذلك. فكل خطوة نخطوها ترينا مدى دهاء فاريل. حتى بعد تلك الحادثة التي رجَّت عالمه بالكامل، لا تزال دفاعاته قائمة. ولكن ربما يجدُر بك أن تتواصل مع بعض مصادرنا المعتادة لترى إن كان بإمكاننا أن نتعقب داني وفانسي.» قطعت حديثي فجأةً عندما وقفَتِ امرأة طويلة القامة بجوار مكتبي. كان شعرها الأسود الكثيف تتخلله خُصلة فضية مميزة تمتد من منتصف مَفرِق شعرها حتى إحدى أذنيها. ابتسمتُ عندما رأيتها.
وقلت: «أنت بعيدةٌ عن منطقتك، أليس كذلك؟»
فردَّت عليَّ قائلة: «يمكنني قول المِثل عنك.» ثم أشارت نحو مقعد بن الذي وقف وابتسامة ملتوية ترتسم على شفتيه. دارت حول المكتب وجلست مسندةً قدمَها على سلة المهمَلات مُطلِقةً تنهيدةً تدل على الرضا.
لطالما أُعجبتُ بالنساء اللاتي يمكنهن دعم أنفسهن. وكانت الطبيبة ستيلا مارينو تملك شجاعةً تكفي لدعم نوعها كاملًا. كانت تعمل طوال السنوات الخمس الماضية ضمن فريقي في تشريح الجثث. وعلى النقيض من الجثث التي شوَّهها فاريل، كانت الجثث التي عمِلَت عليها ستيلا ميتة مسبقًا.
قالت ستيلا: «أنت تعلم أني لست طبيبة شرعية خاصة. ولستم الشرطيين الوحيدين الذين يحتاجون إلى المساعدة من الأفضل.»
«هل أتيتِ من أجل كاتي فاريل؟» كنت أعرف الإجابة عن هذا السؤال، ولكن يجدُر بالمرء أن يحرِّك الأمور، حتى وإن كان يعمل مع الطرف الآخر بشكل وثيق مثلما هو الحال بيني وبين ستيلا.
أومأَت ستيلا أنْ نَعَم. وقالت: «رغم أني لم أفعل ذلك إلا بسبب اهتمامك بوالدها، على ما أظن. لم يكن ثمة أي دلالة في جثتها على حدوث أي شيء آخر سوى ما افترضتموه حينئذٍ. كانت نائمة في سريرها. وقتَلها الدخان والأبخرة. كانت جثتها مليئة بالحروق البليغة، ولكنها حدثت بعد وفاتها. أعتقد أن هذه الحقيقة قد تريح والديها قليلًا.» حاولَت ألا تُظهر مَللها، ولكنها فشِلت. تُصاب ستيلا المسكينة بالملل سريعًا عندما لا تجد أيَّ مفاجآت في الجثة التي تفحصها.
تدخَّل بن قائلًا: «هل تقصدين أن الشخص الذي فعل ذلك لم يرغب في أن تعاني؟»
أزاحت ستيلا شَعرها عن وجهها كعادتها. وقالت: «دائمًا ما تبحث عن الدافع يا بن. أنا لا أرى سوى ما تخبرني به الجثة.» ثم تثاءبت ونهضت. وقالت: «ستحصل على تقريري الرسمي في غضون يوم أو اثنين.»
قلت وقد بدأت السيرَ بجوارها بالفعل: «دعيني أوصلك إلى الخارج.» وعندما ابتعدنا عن نطاق سَمْع بن الخارق، تحدثتُ. وقلت: «أعلم أنه قد مرت مدة طويلة، ولكن يبدو أنه سيتوفَّر لي بعضٌ من وقت الفراغ الليلة. هل يمكنني أن أُحضِر بعض الطعام وآتي إلى منزلك؟»
عضَّت ستيلا على شفتها. وقالت: «فكرة جيدة يا آندي. ولكن ثمة عقبة وحيدة. سأسافر إلى الولايات المتحدة نهاية هذا الأسبوع ولدي مليون شيء يجب أن أفعله قبل أن أسافر.»
«الولايات المتحدة؟» حاولتُ جاهدًا ألا يخرج السؤال بصوتٍ عالٍ، ولكني لم أُفلِح. حسنًا، ليس بيني وبين ستيلا ما يمكنك أن تطلق عليه علاقةً غرامية. كما أن لقاءنا ثلاث أو أربع مرات شهريًّا لتناول العشاء معًا وقضاء وقتٍ ممتع في الفراش لا يُعَد علاقةً غرامية أيضًا. «هذه المرة الأولى التي أسمع فيها عن سفرك إلى الولايات المتحدة.»
كنا قد خرجنا إلى الرَّدهة في تلك اللحظة، وكنا نمشي جنبًا إلى جنب في الرواق الضيق. لم تبطئ ستيلا من سرعة سيرها، بل استمرت في السير في اتجاه المصاعد بخطواتها الواسعة. قالت: «لقد سنحت لي فرصة قضاء شهر كامل في مزرعة الجثث. أنت تعرف مزرعة الجثث، حيث يُجرون …»
قاطعتها قائلًا: «أعرف ما يفعلونه هناك. من الصعب مقاومة هذا الإغراء. شهر كامل من مراقبة الجثث وهي تتعفَّن. حُلم حياة أي طبيب شرعي.» هززت رأسي وتركت فمي يلتوي متحولًا إلى ابتسامة ساخرة. وقلت: «وسيتغلب هذا بالطبع على قضاء الوقت معي وتناول عشاء صيني.»
ضغطت ستيلا زر طلب المصعد واستدارت لتواجهني. وقالت: «استمع لما تقول. لقد سمعت أطفالًا في الخامسة من أعمارهم يتحدثون بنضج أكثرَ منك.» ضحكَتْ ستيلا وانحنت نحو الأمام لتطبع قُبلة رقيقة على وجنتي. شممت منها رائحة جيل اللافندر الذي تفرك به وجهها ويديها مثلما تفعل دائمًا في نهاية يوم عملها. ثم قالت: «أيها السخيف.» ربَّتت على ذراعي عندما انفتح باب المصعد. وقالت: «سأراك عندما أعود. حاول ألا تعثر على جثث مثيرة للاهتمام حتى أعود.»
تظاهرتُ بالانزعاج مما قالت. وقلت: «سأرى ما يمكنني فعله. فقط لكي أغيظك.»