الفصل الخامس
جُهزت مراقبة المبنى قبل ساعة كاملة من موعد الاجتماع الذي سيُعقد في مكتب ماكس كارتر. على الرغم من اعتيادنا فِعلَ مثل هذه الأمور، أعتقد أننا كنا متوترين إلى حدٍّ ما في ذلك الصباح. لقد تغيَّرت قواعد اللعبة بطريقةٍ ما، وبدا الأمر وكأننا لم نكن نعرف القواعد الجديدة بعد.
رأينا فاريل بمجرد أن أوصله فانسي رايلي أمام المبنى بعد العاشرة بقليل. كان التغيُّر الواضح في مظهره لافتًا للنظر. سار المسافة القصيرة حتى مدخل المبنى الرئيسي وكأنه رجل مُسِن، بكتفين مُحنيتين وخطوات مترددة. كان مُطأطئَ الرأس مكسورَ العينين. ولكي أكون أمينًا، كنت سأمر بجواره في الشارع دون أن أتعرَّفه لولا أني كنت أترقَّب وصوله.
قال بن: «إنه في حال سيئة للغاية.»
«لا عجب في ذلك.»
سألني: «هل حالته تلك حقيقية؟»
قلت: «أخبِرني أنت، فأنت مَن لديه أطفال. كيف كنت ستشعر لو كان أوين أو بيثان هو مَن مات؟»
فكَّر بن لحظةً. ثم قال أخيرًا وهو يربِّت على شعره الذهبي الذي يغطي رأسه المستدير: «الغضب. كنت سأشعر بالغضب. كنت سأستعِر غضبًا حتى أضع يدي على الشخص الذي قتل طفلي. وكنت سأدخل إلى حيث يوجد عاصفًا بقبضتين جاهزتين للفتك به. ولكن فاريل يبدو مكسورًا. يبدو وكأنه قد استسلم. هذا يُثبت أنه لا يمكنك أن تخمِّن أبدًا ما قد يكسر ظهر المرء. قبل رؤيتي له، لم أكن لأصدق أن يتلقى جاك فاريل الضربةَ بمثل هذا الخُنوع.»
وضع بن، كعهدِه دائمًا، إصبعه على الشيء الذي يزعجني تمامًا. إن جاك فاريل رجلُ أفعال. لقد شهدنا ذلك بأنفسنا المرة تلو الأخرى. إذا ما حاول أحد أن يسبب ضررًا كبيرًا لجزء من إمبراطوريته، كان فاريل يهبُّ إلى التصرف على الفور. كان يعقد اجتماعًا صباحيًّا كالمعتاد. ثم كان يقضي داني تشو وفانسي رايلي بقيةَ اليوم في التنقُّل من مكان إلى آخر وكأن نارًا تطاردهما. وفي خلال بضعة أيام، يعود فاريل ليعتليَ القمة مجددًا، وعادةً ما يكون أقوى من السابق. ومَن سوَّلت له نفسه تجربة مواجهته لا يعيد الكرَّة أبدًا.
لا شك في أن أحدًا لم يفكر في فعلِ أمرٍ شخصي كهذا من قبل. ولكننا لم نكن قادرَين على تقبُّل فكرة أن يتلقى فاريل الضربةَ بمثل هذا الخنوع.
ولكن عندما دخلنا مكتبَ ماكس كارتر، رأينا أن هذه هي الحال بالفعل. رفع فاريل رأسه بالكاد لينظر نحونا عندما دخلنا المكتب. كان يجلس هامدًا على مقعدٍ وثير، وشعره دُهني خفيف، وبدلته مجعَّدة وعيناه جامدتان كحصوتين. كان من الصعب مقارنة تلك القشرة الفارغة بالرجل الذي يدير أقوى إمبراطورية إجرامية في البلاد.
عندما عرَّفناه بنا، متظاهرَين بأننا من قوة شرطة هامبشر، لم يبدُ على فاريل أنه تعرف عليَّ من ليلة الحريق. ألقى كارتر على آذاننا الكثير من عبارات الترحيب الجوفاء بينما كان يُجلسنا جميعًا حول طاولة قهوة قصيرة، ولكنه لم يكن ليتمكن من إرجاء أسئلتنا إلى الأبد.
راجعت مع فاريل أحداثَ الليلة التي حدث فيها الحريق. فقال بصوتٍ كئيب وواهن: «لم أكن في المنزل عندما أخلدت كاتي إلى فراشها. كنت قد تأخَّرت في العودة من اجتماع في لندن. ولكني ذهبت إلى غرفتها للاطمئنان عليها فور عودتي.»
سأله بن: «كم كانت الساعة؟»
قال فاريل: «التاسعة والنصف تقريبًا. ثم ذهبت إليها لأطبع على وجهها قُبلة قبل أن أخلد إلى النوم. مثلما أفعل دائمًا.»
وأمور من هذا القبيل. كان قد ضبط المنبه. أو كان واثقًا بنسبة تسع وتسعين بالمائة من أنه ضبطه كما يفعل دائمًا. كان قد سجَّل مباراة كرة قدم في وقت سابق من تلك الأمسية، فذهب إلى غرفة نومه في حدود العاشرة والنصف لمشاهدتها هناك. انضمَّت إليه مارتينا هناك في وقتٍ ما خلال الشوط الثاني، قبل هدف فريق نادي أرسنال. أطفآ الأنوار بعد منتصف الليل مباشرةً وناما.
أيقظت رائحة الدخان مارتينا أولًا. فهَزَّته حتى استيقظ وقفز من الفراش. قال بصوتٍ مرهَق وحزين: «لا، لم أنظر إلى الساعة. عدَوتُ إلى خارج غرفة النوم، ورأيت أن ثمة دخانًا في الرَّدهة.»
أوقفته عند هذه النقطة، وأخرج بن مخطَّط المنزل. كان المنزل مصمَّمًا على شكل ثلاثة أضلاع من مربع. كان الجزء الأوسط منه يضم غُرَف جلوس في حجم قاعات رقص الفنادق. كان الجانب الأيمن من المنزل يضم مكتب فاريل، وغرفة جلوس مارتينا الخاصة، وغرفة نومهما. وكان الجانب الأيسر يضم غرفة لعب كاتي، وغرفة نومها، وغرفتَي مانويلا. قلت: «أرني المكان حيث رأيت الدخان.»
أشار إلى رواقٍ يبدأ من غرفته وينتهي عند غرف المعيشة. بدا خاملًا وملولًا، كما لو أن ذهنه في مكانٍ آخر بعيد. «عدوتُ نحو الدخان. عندما وصلت إلى منتصف الرَّدهة الرئيسية، كان الدخان كثيفًا لدرجة أني لم أستطِع التنفس. لم أستطِع أن أرى أيَّ ألسنة لهب؛ فقد كان الدخان كثيفًا للغاية. ولكني كنت أشعر بحرارة النار.»
عاد فاريل بصعوبة إلى غرفة نومه وهو يسعل واضعًا يده على أنفه وفمه. كانت مارتينا قد اتصلت بالمطافئ بالفعل. غادرا المبنى معًا عبر باب الحديقة عند الطرف البعيد من الرَّدهة. عدا فاريل في اتجاه الجناح الآخر حيث تنام كاتي. ولكنه أدرك قبل أن يصل بمسافة طويلة أن الوقت قد فات. كانت ألسنة اللهب تُطِل من نافذة غرفة نومها. كان راكعًا على ركبتيه أمام نافذة غرفتها والدموع تنهمر على وجهه عندما عثر عليه رجال الإطفاء.
كما عثر رجال الإطفاء على مانويلا فاقدةَ الوعي على الأرض بجوار المقعد الذي استخدمته في تحطيم زجاج نافذة غرفة نومها. أتت النار على غرفتها كحال بقية الغرف في هذا الجناح من المنزل. كانت محظوظة أنْ بقِيت على قيد الحياة، طبقًا لما قاله رئيس المطافئ.
قلت مخاطبًا فاريل: «هل هذا ما تعتقده أنت أيضًا؟»
ظهرت في عينيه للمرة الأولى في ذلك الصباح لمعتُها القديمة. وسألني: «ماذا تعني؟»
«هل تعتقد أنها نجت من الموت بشِقِّ الأنفس؟ أم إنها لا تزال على قيد الحياة لأن هذا ما خطَّطت له؟»
ضرب معصمه بيده كما لو كان يضرب ذبابة. وقال: «لا تكن غبيًّا. كانت مانويلا تحب كاتي. كانتا مثل أُختين.»
قلت: «ولكنهما لم تكونا أختين. وحتى الشقيقات لهن سِعر. من السهل دائمًا تنفيذُ فعلٍ كهذا إذا ما تم من الداخل. هل من الممكن أن يكون شخصٌ ما قد أقنع مانويلا بفعل ذلك؟»
رأيت فاريل يدير الفكرة في رأسه لحظةً. ثم هزَّ رأسه نفيًا. وقال: «مستحيل.»
صدَّقته. وأعتقد أني كنت أعرف سببَ ثقته تلك. فلم يكن الهدف من إخراجها من البلاد هو حمايتها فحسب. بل حمايته هو أيضًا. كان يعلم أن مانويلا لم تقتل ابنته لأنه كان يعلم أنها تحبه. ولكني لم أكن أعلم إذا ما كان يبادلها الحب أم لا. ولكني أُراهن أنه كان يستغل مشاعر مانويلا نحوه بكل الطرق.
وأراهن أن مارتينا لا تعرف شيئًا عن العلاقة بينهما.