الفصل السادس
بالطبع طردَنا ماكس كارتر من مكتبه قبل مغادرة فاريل. ولم أكن لأندهش إذا ما أرسل خلفنا مَن يتتبَّعنا سرًّا ليتأكد من مغادرتنا المبنى. عبرت وبن الشارعَ واشترينا كوبين من القهوة المُبالَغ في سعرها، وتحمل اسمًا أطول من أسماء أغلب الناس الذين أعرفهم. تأكَّد بن من أن جميع فِرق المراقبة في أماكنها. ووضعنا سماعات الأذن حتى نتمكن من سماعِ ما تقوله الفِرق عبر اللاسلكي، ثم تبادلنا نظراتٍ واجمة.
قلت: «لمَ أشعر بأننا نسير في اتجاهٍ لن يؤدي بنا إلى أي مكان؟»
«لأن هذا ما يريدك فاريل أن تشعر به.»
أخذت رشفة من قهوتي. وكانت محروقة. جعلني ذلك أتساءل عن سبب شهرة هذه المقاهي ذات الأسعار الباهظة من الأساس. «ربما. وربما لا. لقد وصلني تقرير الطب الشرعي الأوَّلي هذا الصباح. ليس لديهم أيُّ دليل يقودهم لأي شيء. يمكن الحصول على الوقود من أيٍّ من محطات الوقود الموزَّعة في أنحاء المدينة التي يبلغ عددها ثلاثة آلاف محطة. دخل الجناة عبر باب الحديقة الواقع عند الطرف البعيد من الرَّدهة متخطِّين مستشعِرَ جهاز الإنذار المثبَّت في الباب. أمرٌ ليس بالسهل، ولكنه ليس علم صواريخ أيضًا. لم يتركوا أيَّ بصمات، والسلك الذي استخدموه لتخطي جهاز الإنذار يمكن شراؤه من أي مكان. وأي أدلة أخرى دمَّرتها النار.»
قال بن: «يا لها من لعينة تلك النار!»
قبل أن أوافق على ما قال، سمِعت أصوات تطقطق في أذني. قلت مُنصِتًا لما يُقال: «إنه يتحرك.»
سمِعت عبر اللاسلكي: «إنه في المصعد رقم ستة. كيرستي معه. إنه يهبط إلى أسفل.»
ثم فترة صمت، ثم عادت الأصوات تقول: «لم يخرج من المصعد عند الطابق الأرضي. لا أعرف إن كان لا يزال في المصعد أم لا.»
سمعت صوت المحقِّقة كيرستي بلايث بعد ذلك. قالت: «نحن في الطابق الأسفل من مرأب السيارات. الهدف يتجه يسارًا.» طقطق تشويش في أذني. كنت قد خرجت من السيارة حينها، أتجرَّع القهوة بالكامل وأتجه نحو الباب. كانت لدينا سيارتان مُتخفِّيتان في المرأب، واحدة في كل طابق منه. سمعت كيرستي تقول: «اللعنة. ثمة ثلاث شاحنات بيضاء متطابقة مركونة جنبًا إلى جنب. سار الهدف خلفها. لا أعرف أي شاحنة ركِب.»
كنا نعدو حينها، أنا وبن. لم تكن لدينا خُطة للتعامل سوى أننا لا يمكن أن نظل جالسين في مكاننا ولا نفعل شيئًا. اقتربت منَّا سيارة أجرة سوداء فأوقفتها، وأخرجت بطاقة تفويضي من جيبي ولوَّحت بها في وجه السائق بينما كنا نركب، وصِحت قائلًا: «انعطِف عند الناصية حتى نرى مخرج مرأب ذلك المبنى هناك.»
غمغم السائق بعبارة فظَّة، ثم فعل ما أمرته به. وصلنا إلى المكان الذي أشرت إليه بينما تخرج الشاحنة البيضاء الأولى من قمة منحدر المرأب. انحرفت الشاحنة الأولى يسارًا، وانحرفت الشاحنتان الأُخريان يمينًا. كانت سيارتانا المتخفيتان في إثر الشاحنات، واحدة في كلٍّ من الاتجاهين. أخبرت سائق السيارة الأجرة أن ينطلق نحو اليمين.
تحدَّث بن في هاتفه المحمول مخاطبًا سائق السيارة التي تتتبَّع الشاحنتين وأخبره أن يواصل تتبُّع الشاحنة التي في المقدمة، وأن يترك الشاحنة الثانية لنا. ولكني كنت أعلم أننا فشلنا. لم يكن الأمر يشبه بأي حال من الأحوال ما يُعرَض على شاشات التلفاز حيث يجعلون مراقبة سيارة من دون افتضاح أمرِ المراقب أمرًا شديد السهولة. لا يمكنك تتبُّع مركبة من دون أن يدرك سائقها ذلك إلا لو كنت تستخدم سيارتين أو أكثر لأداء المهمة. قد يناسب ذلك الطُّرق الرئيسية في المدينة أو الطُّرق السريعة. ولكن بمجرد أن تصل عملية المراقبة إلى الشوارع الجانبية أو الطرق الريفية، فقد انكشفتَ لا محالة. هدفك يعلم أنك خلفه، فإما أن يقودك في الاتجاه الخطأ أو يحاول الإفلات من مراقبتك.
قادتنا الشاحنة التي نتتبَّعها شَمالًا ملتزمة بالطرق الرئيسية طوال الوقت. انتهى بنا المطاف بمتابعتها حتى الطريق إم ١١ نحو كامبريدج. وبعد حوالي ساعة كاملة من السير بلا هدف، انحرفت الشاحنة عن الطريق وسارت في طُرق ريفية، حتى وصلت أخيرًا إلى مرأب حانة ريفية. دخلت الشاحنة المرأب بينما وقفنا نحن بعيدًا في محاولةٍ منا للتظاهر بأنه لا يوجد ما يريب في وقوف إحدى سيارات تاكسي لندن في إحدى قرى إسِكس.
كان سائق الشاحنة يعلم بوجودنا، بلا أدنى شك. خرج من الشاحنة وسار حتى مؤخرتها. وفتح باب صندوقها ثم التفت نحونا ولوَّح لنا. صاح بن: «يا له من متعجرِف.»
قلت: «اذهب، رغم ذلك، وافحص الشاحنة.»
رمقني بن بنظرةٍ يتطاير منها الشرر، ولكنه فَعل ما أمرته به. سار بن على الطريق ثم انحرف داخلًا مرأب السيارات، وألقى نظرةً لا مبالية على صندوق الشاحنة المفتوح، ثم سار في اتجاه الحانة. ودخل الحانة. بعد لحظات، رنَّ هاتفي. قال بن: «لا يوجد أي شيء هنا. سأعود بمجرد أن أنتهي من مشروبي.»
لم يُبلِ أيٌّ من سيارتَي المراقبة الأُخرَيين أفضل منا. سارت الشاحنة التي انحرفت يسارًا حتى وصلت إلى وسط مدينة لندن، ثم عادت أدراجها. ثم فقدوا أثرها عندما انطلق بها سائقها عبر إشارة مرور على طريق فارينجدون قبل أن تصبح الإشارة حمراء مباشرةً. كادت حافلة أن تطيح بجانب الشاحنة، ولكن السائق نجح في المرور.
ولم يتمكَّن رجالنا من ذلك.
انتهى المطاف بالشاحنة الثالثة بالتوجه إلى نفق دارتفورد ثم إلى الطريق إم ٢٥. وفقدوا أثرها بسبب أعمال طريقٍ عندما قطعت شاحنةُ نقل الطريقَ أمام سيارتنا قبل أن تندمج حارات الطريق مباشرةً. وعندما تمكَّن سائق سيارتنا من العبور، لم يكن ثمة سبيل للعثور على الشاحنة البيضاء مجددًا.
في نهاية الاجتماع في مكتب ماكس كارتر، كدتُ أقتنع بأن حزن فاريل حقيقي. ولكن تلك المناورة التي قامت بها الشاحنات كانت من شِيَم جاك فاريل القديم، ولم أعُد أعرف ما يجدر بي أن أعتقد.