حديث الشورى وبيعة عثمان
كانت شبة جزيرة العرب، أول ما قام النبي العربي داعيًا إلى الإسلام، مقسمة بين قبائل مستقلة بعضها عن بعض، متفاوتة في درجات الحضر والبداوة، تعيش في صراع دائم ونزاع مستمر، يخضع أكثر أرجائها رخاءً لسلطان الفرس أو نفوذ الروم. فلما اختار رسول الله الرفيق الأعلى بعد ثلاث وعشرين سنة من بعثه كان نفوذ الفرس والروم قد تقلص عن شبه الجزيرة، ودخلت القبائل العربية في دين الله أفواجًا. واستُخلف أبو بكر فحارب العرب الذين ارتدوا عن الإسلام وردَّهم إليه؛ فبدأت الوحدة الدينية والسياسية تنتظم شبه الجزيرة. عند ذلك مهَّد أبو بكر لقيام الإمبراطورية الإسلامية بغزو العراق والشام، لكن الأجل لم يمهله ريثما يتم ما بدأه.
واستخلف أبو بكر عمر بن الخطاب فتابع سياسة الصدِّيق، فاندفعت جيوش المسلمين من شبه الجزيرة إلى أراضي الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، فقضت على الإمبراطورية الفارسية، وانتزعت من الدول الرومانية أبرز ولاياتها. وامتدت الإمبراطورية الإسلامية في عهد عمر من الصين شرقًا إلى ما وراء برقة غربًا، ومن بحر قزوين في الشمال إلى بلاد النوبة في الجنوب، واشتملت فارس والعراق والشام ومصر. بذلك ضمت الدولة العربية أممًا متباينة أشد التباين في كل مقوماتها، إذ كانت كل أمة منها تختلف عن غيرها في اللغة والجنس، والعقيدة والحضارة، والبيئة الاجتماعية والبيئة الاقتصادية. ولكن سرعان ما انتشر الإسلام بين هذه الأمم، وأصبح الدين الجديد الرابطة التي تربط بينها، كما نجح العرب في صبغ الأمصار المفتوحة بصبغة عربية.
وانتهى قيام الإمبراطورية في عهد عمر بمقتله. فقد ائتمر بحياته فارسيان، ونصراني من نصارى الحيرة. أما الفارسيان فهما الهرمزان، وأبو لؤلؤة فيروز غلام المغيرة. وأما النصراني الحيري فجفينة. وكان الهرمزان من قواد الفرس الذين شهدوا الغزوة الكبرى بالقادسية وانهزموا فيها. وقد فرَّ بعدها إلى الأهواز وجعل يُغير منها على قوات المسلمين التي تجاورها في العراق العربي. وظل دأبه حتى أمر عمر جنوده بالانسياح في بلاد فارس، فحاصر المسلمون الهرمزان «بتستر» وجاءوا به أسيرًا إلى المدينة، وهناك دار بينه وبين عمر حوار أيقن الأمير الفارسي معه أن لا نجاة له من القتل إلا أن يسلم، فأسلم فأنزله عمر المدينة وفرض له ألفي دينار كل عام.
وكان فيروز فارسيًّا قاتل المسلمين في غزوة نهاوند، فأسر ثم وقع في ملك المغيرة بن شعبة. وكان نقاشًا نجارًا حدادًا. ولعل النصل الذي طعن به عمر كان من صنع يده، وعملهُ في جند فارس هو الذي دعا المؤتمرين فاختاروه لتنفيذ مؤامرتهم.
لهذه المؤامرة دلالة أيدتها الحوادث من بعد. ودلالتها أن بعض الأمم التي فتحها المسلمون في عهد عمر لم تكن راضية عن المصير الذي انتهت إليه، وأن نفوس بعض أهلها كانت ثائرة به. والدلالة أكثر وضوحًا؛ لأن هؤلاء الذين ائتمروا بعمر فقتلوه كانوا موضع حمايته بالمدينة، وكان رأسهم الهرمزان موضع الرضا من عمر عنه والعطف عليه، حتى كان يستشيره ويجعل له بالمدينة مثل مكانه بين قومه. أما وقد ائتمر مع ذلك بعمر فأحرى بغيره من الفرس المقيمين في وطنهم يحكمهم العرب فيه أن تتأجج الثورة في صدورهم، وإن بقيت مكبوتة بقوة السلطان الأجنبي المتسلط على البلاد.
وقد كشف مقتل عمر في بلاد العرب نفسها عن ظاهرة لم تكن لتوجد، لولا قيام الدولة العربية الإسلامية؛ فمنذ طعن أبو لؤلؤة عمر تولى المسلمين الفزع إشفاقًا على مصيرهم، وجعلوا يفكرون فيمن يخلفه إذا قضى الله فيه بقضائه. وتحدث قوم إلى عمر في هذا الأمر وطلبوا منه أن يستخلف. وتردد عمر بادئ الأمر وقال: «إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني.» لكنه خشي بعد إعمال الفكر أن يضطرب الأمر إذا تركه رسلًا. فقد اشترك العرب جميعًا في محاربة الفرس والروم وأصبح لكل قبيلة أن تزعم لنفسها ما للمهاجرين والأنصار من حق الاشتراك في اختيار الخليفة، وقد يذهب بعضها إلى ادعاء الحق في ترشيح زعيمها لمقام الخلافة. وفي هذا الادعاء من الخطر على الإمبراطورية الناشئة ما لم يفت عمر؛ لذلك لم يلبث أن جعل الخلافة من بعده شورى في ستة يختارون أحدهم لها. وهؤلاء الستة هم: «عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص».
فلما عيَّنهم بأسمائهم قال: «لا أجد أحدًا أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله ﷺ وهو عنهم راض، فأيهم استخلف فهو الخليفة من بعدي.»
واختيار عمر هؤلاء الستة يقف النظر. فليس بينهم واحد من أنصار المدينة ولا من غيرهم من قبائل العرب. بل هم جميعًا من المهاجرين ومن قريش. مع ذلك لم يثر اختيار عمر إياهم ثائرة الأنصار ولا ثائرة غيرهم من العرب الذين أقبلوا أفواجًا إلى المدينة بعد فريضة الحج، وظلوا بها بعد مقتل عمر حتى بايعوا خليفته. واطمئنان الأنصار وغيرهم من العرب إلى اختيار عمر هؤلاء الستة يعيد إلى الذاكرة ما حدث في سقيفة بني ساعدة إثر وفاة النبي، وحين كان جثمانه لا يزال في بيته لمَّا يثو في قبره؛ فقد أراد الأنصار أن يكون الأمر لهم بعد رسول الله، وكان أكثرهم اعتدالًا من يقول: «منا أمير ومن قريش أمير.» فلما قدم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة إلى السقيفة يجادلون الأنصار فيما يطلبونه لأنفسهم كان مما قاله أبو بكر: «نحن المهاجرون، وأنتم الأنصار، إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الفيء وأنصارنا على العدو. أمَّا ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، وأنتم أجدر بالثناء من أهل الأرض جميعًا. فأما العرب فلن تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش؛ فمنا الأمراء ومنكم الوزراء.»
أصبحت هذه الكلمة دستور الخلافة والحكم بين المسلمين قرونًا حسومًا منذ قالها أبو بكر؛ لذلك لم يعترض أحد استخلاف أبي بكر عمر، ولم يعترض أحد اختيار عمر الشورى بين هذا الحي من قريش، بل اطمأن له الأنصار واطمأن له العرب جميعًا، وتركوا للستة أن يختاروا من بينهم من يرضونه خليفة لجماعة المسلمين.
لماذا ترك عمر الخلافة لاختيار الشورى ولم يستخلف واحدًا بعينه من الستة الذين عينهم متأسيًا بأبي بكر حين استخلفه؟
تجري بعض الروايات بأن سعد بن زيد بن عمر قال لعمر: «إنك لو أشرت برجل من المسلمين ائتمنك الناس.» فأجاب عمر: «إني قد رأيت من أصحابي حرصًا سيئًا.» وهذا الجواب يشهد بأنه خشي إن هو استخلف واحدًا بذاته أن يدفع الحرص غيره إلى منافسته، فلا تجتمع كلمة المسلمين فيثور بينهم خلاف تخشى مغبته. ويرى بعضهم أن عمر لم ير واحدًا من الستة أفضل من سائرهم، فلم ير أن يحمل أمام ربه وزر مشورة لا يطمئن إليها قلبه كل الاطمئنان. أم تراه خشي حين طعن أن يسرع إليه حَينه قبل أن يجمع كلمة المسلمين على واحد منهم، فترك الأمر للشورى يتمون ما لم يجد هو فسحة من الوقت لإتمامه. هذه كلها فروض يتعذر على المؤرخ أن يرجح أحدها، وإن وجب أن يضاف إليها ما روي عن عمر أنه قال: «لو كان أبو عبيدة حيًّا لاستخلفته وقلت لربي إن سألني: سمعت نبيك يقول: إنه أمين هذه الأمة. ولو كان سالم مولي أبي حذيفة حيًّا لاستخلفته وقلت لربي إن سألني: سمعت نبيك يقول: إن سالمًا شديد الحب لله تعالى.» أفتعني هذه العبارة أنه كان يفضل أبا عبيدة وسالمًا على الستة الذين جعل الشورى فيهم، وأن هؤلاء الستة كانوا عنده سواء؟
على أنك تستطيع أن تجد تأويلًا آخر لتصرف عمر؛ ذلك أنه لم يرد أن يلقي على أحد هؤلاء الستة عبء الخلافة وقد بلا من ثقله ما أجهده. روي أنه قال لعبد الرحمن بن عوف أول ما أفاق من طعنته: «إني أريد أن أعهد إليك» قال عبد الرحمن: «يا أمير المؤمنين إن أشرت عليَّ قبلت منك.» فسأله عمر: «وما تريد؟» قال عبد الرحمن: «يا أمير المؤمنين أنشدك الله، أتشير عليَّ بذلك؟» وأجابه عمر: «اللهم لا.» وكانت كلمة عبد الرحمن بعد هذه المشورة أن قال: «والله لا أدخل في هذا أبدًا.» فقال عمر: «فهب لي صمتًا حتى أعهد إلى النفر الذي توفي رسول الله ﷺ وهو عنهم راضٍ.»
أيًّا ما يكون الدافع الذي منع عمر من أن يستخلف، وجعله يسمي الشورى ليختاروا الخليفة من بينهم، فقد دلت الحوادث من بعد على صدق رأيه.
قبض عمر وآن للشورى أن يجتمعوا ليختاروا أحدهم خليفة على المسلمين. واجتمعوا وأمروا أبا طلحة الأنصاري أن يحجبهم ولم يرضوا أن يجلس المغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص بالباب، بل حصبهما سعد بن أبي وقاص وأقامهما وقال لهما: «تريدان أن تقولا: حضرنا وكنا في أهل الشورى.» وبدءوا يتشاورون فما لبثوا أن اشتد بينهم الجدل، وارتفعت منهم الأصوات ارتفاعًا دل أبا طلحة الأنصاري على شدة اختلافهم. فدخل عليهم وقال لهم: «إني كنت لأن تدافعوها أخوف مني لأن تنافسوها. والذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمرتم، ثم أجلس في بيتي فأنظر ما تصنعون.»
كيف اشتجر الخلاف بين القوم وبلغ هذه الحدة، وكلهم من كبار صحابة رسول الله ومن أحسن المسلمين إيمانًا بالله ورسوله؟
لقد رأينا ما شجر من خلاف بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة يسرع إلى تسليم الأنصار بحق قريش في الخلافة. وكان أبو بكر يومئذ جالسًا بين عمر وأبي عبيدة. فأخذ بيد كل منهما وقال لمن حوله: «هذا عمر وهذا أبو عبيدة — فأيهما شئتم فبايعوا.» وسمع عمر هذا الكلام فقال: «ابسط يدك يا أبا بكر»، وبسط أبو بكر يده فبايعه عمر وبايعه أبو عبيدة وبايعه الحاضرون جميعًا خلا سعد بن عبادة زعيم الأنصار. وأصبح أبو بكر خليفة رسول الله في حكم الدول العربية الإسلامية، حتى إذا حضرته الوفاة لم يجد مشقة ذات بال في جمع كلمة المسلمين على استخلاف عمر.
ألم يكن للشورى في هذين الموقفين عبرة تسمو بهم على الاختلاف، وتدعوهم للاتفاق على من يبايعه المسلمون منهم على الخلافة؟
والواقع أن الأحوال التي أحاطت بالشورى كانت مختلفة كل الاختلاف عما أحاط بالمهاجرين والأنصار يوم السقيفة، وعما أحاط بالمسلمين يوم استخلف أبو بكر عمر. فيوم توفى الله رسوله كانت شبه الجزيرة ولمَّا تلتئم وحدتها، وكانت أنباء المستنبئين في بني أسد وفي بني حنيفة وفي اليمن ذائعة يعرفها المهاجرون والأنصار، وكان الخوف من انتفاض العرب على الدين الجديد وعلى سلطان المدينة يساور النفوس، فكان ذلك كله واضح الأثر في جمع كلمة المجتمعين بالسقيفة. وزاد كلمتهم إسراعًا إلى الاجتماع أن رسول الله كان قد أمر ببعث أسامة بن زيد على رأس جيش يواجه الروم، فزادهم ذلك تقديرًا لدقة الموقف وجسامة التبعة التي يحملها من يقوم في خلافة رسول الله، ولم يكن المهاجرون ولا كان الأنصار قد عرفوا يومئذ من إغراء الفيء، ومن تدفقه على المدينة ما يجعلهم يرون الخلافة مغنمًا؛ لذلك كان الجدل بينهم دائرًا حول دين الله ونصرته ومن يجب أن يخلف رسول الله فيها. أما ما وراء ذلك من شئون الملك وسلطانه فلم يكن يدور بخواطرهم إلا لمامًا. وكأنما استمسك الأنصار أول الأمر بحقهم في الاستئثار بالخلافة أو بالاشتراك فيها؛ لأن المدينة مدينتهم؛ ولأن المهاجرين طارئون عليهم فيها فهم أحق الناس بولاية أمرها وتدبير شئونها. فلما تبين لهم من محاورات السقيفة أن الأمر ليس أمر المدينة وحدها، ولكنه أمر الدين الناشئ أقروا بما للسابقين الأولين إلى هذا الدين وإلى صحبة رسول الله من حق في خلافته.
ويوم استخلف أبو بكر عمر كانت جيوش المسلمين بالعراق والشام تلقى الفرس والروم وتقف منهم موقف المدافع، ولا يعلم أحد ما يصير إليهم الأمر. بل لقد تثاقل المسلمون عن الذهاب إلى العراق ينصرون المثنى بن حارثة فيه، وأقاموا ثلاثة أيام لا يلبي أحد منهم دعوة عمر فزعًا من الفرس وهيبةً لهم. وليس حمل التبعة في هذا الموقف الدقيق مما يتنافس فيه المتنافسون يحاول كل أن يستأثر به لنفسه. وتقدير أبي بكر دقة هذا الموقف هو الذي دعاه لاستخلاف عمر؛ لأنه رآه أصلب أصحابه عودًا وأقدرهم على متابعة سياسة لا بد لنجاحها من صلابة كصلابة عمر وعزم كعزمه. ورضي المسلمون خلافة عمر مع علمهم بشدته وغلظته، ولم ينافسه في هذه الخلافة أحد؛ لأنهم كانوا مشفقين من حرب الفرس والروم، تساورهم الحشية ألا يكتب الظفر للمسلمين الذين يواجهونهم، وأن يترتب على ذلك من النتائج ما تخشى عواقبه. فلما تولى عمر نجح في سياسة التوسع والفتح، فأقام الإمبراطورية الإسلامية وجعل من المدينة عاصمة العالم، ومن بلاد العرب الدولة الكبرى ترنو إليها أنظار الأمم جميعًا من كل صوب، وتتدفق إليها الأموال من أرجاء الإمبراطورية أكداسًا، فلا يدري عمر أيعدها عدًّا أم يكيلها كيلًا، تبدلت الحال غير الحال ولم يبق عجبًا أن يختلف الشورى، وأن يشتد بينهم الخلاف يريد كل منهم أن تكون الخلافة له.
وثمَّ عامل آخر أثار الخلاف، ثم كان عميق الأثر في حياة الدولة من بعد. ذلك هو تنافس القبائل من قريش تنافسًا كان قويًّا واضح الأثر في الجاهلية، فلما بُعث النبي ودعا إلى المساواة وإلى الحق وإلى العدل المجرد عن الهوى كمن هذا التنافس في حياة الرسول، ثم بدأ يظهر عقب وفاته ولكن على استحياء. فلما انقضت خلافة أبي بكر وخلافة عمر ورأى العرب استعلاءهم على الفرس والروم برزت العصبية للقبيلة كرة أخرى، وعاد الناس يذكرون ما كان في الجاهلية من تنافس بين بني هاشم وبني أمية، وما كان لغيرها من القبائل من المكانة بمكة تدعوها جميعًا إلى التنابذ والتناحر.
بقيت هذه العداوة يرثها الأبناء عن الآباء. كانت العرب تحترم الجوار، فإذا أجار العربي رجلًا أصبح بمأمن من أن يعتدي عليه أحد. وكان هذا عرفًا محترمًا بينهم كل الاحترام. مع ذلك آذى حرب بن أمية عبد المطلب بن هاشم جد النبي في يهودي كان في جوار عبد المطلب، فما زال حرب بن أمية يغري به حتى قتله وأخذ ماله.
وظل التنافس متصلًا بين بني أمية وبني هاشم، فلما بعث النبي كان بنو أمية أشد الناس عداوة له وتأليبًا عليه، وكانت منافستهم بني هاشم أكبر باعث لهم على ذلك.
تجسس سليمان بن حرب والأخنس بن شريق وأبو الحكم بن هشام على الرسول ثلاث ليال، فسمعوا من وراء حجاب ما يتلو محمد من القرآن. وذهب الأخنس إلى أبي جهل في بيته وسأله: «يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟» فكان جواب أبي جهل: «ماذا سمعت؟! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذا؟ والله لا نؤمن به أبدًا ولا نصدقه!»
ورأى بعد هذا الجواب أنه مقتول إن لم يسلم، فأسلم فرارًا من القتل لا إيمانًا بالله ورسوله، وبعد الفتح أسلم أهل مكة جميعًا ومن بينهم بنو أمية، وكانوا أكثر قبائلها عددًا وأعزها نفرًا.
والله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم، ثم نادى يا آل عبد مناف، فيم أبو بكر من أموركم … أين المستضعفان، أين الأذلان عليٌّ والعباس؟ وأنشد يتمثل:
وتجمع الروايات التي أوردت هذا الحديث على أن عليًّا أبى أن يتابع أبا سفيان، وأنه قال له: إنك والله ما أردت بهذا إلا فتنة. وإنك والله طالما بغيت بالإسلام شرًّا. وقال له: طالما عاديت الإسلام وأهله فلم تضره بذاك شيئًا، إني وجدت أبا بكر لها أهلًا.
وقد اختلفت الروايات في موقف أبي سفيان من المسلمين بعد بيعة أبي بكر. فبعض يذهب إلى أنه حسن إسلامه وأنه كان يحض المسلمين بالشام على قتال الروم. وقد يؤيد هذه الرواية أن ابنيه يزيد ومعاوية كانا على رأس الجند بالشام، فلما مات يزيد جعل عمر بن الخطاب إمارة الشام لمعاوية. ويذهب البعض إلى أن أبا سفيان كان يظهر غير ما يبطن وأنه كان كهفًا للمنافقين، فكان إذا رأى الروم ظهرت قال: إيه بني الأصفر! فإذا كشفهم المسلمون تمثل بقول النعمان بن امرئ القيس بن أوس — أحد ملوك الحيرة:
فلما فتح الله على المسلمين وحُدث الزبير بن العوام بحديث أبي سفيان قال: قاتله الله، أيأتي إلا نفاقًا؟ أولسنا خيرًا من بني الأصفر؟
والراجح أن الرواية الأخيرة مما وضعه الدعاة لبني العباس من بعد. فليس طبيعيًّا أن يتعصب أبو سفيان للروم على قومه العرب وابناه على رأس القوات التي تقاتل الروم. وربما كان من وضع هؤلاء الدعاة كذلك ما روي عن الحسن أن أبا سفيان دخل على عثمان بن عفان حين صارت الخلافة إليه، فقال له: «قد صارت إليك بعد تيم وعدي، فأدرها كالكرة، واجعل أوتارها بني أمية»، فصاح به عثمان: «قم عني!»
لكنا إن استطعنا أن نرجح كذب الرواية الأولى بسبب مغايرتها لمنطق الأحداث، فلا نستطيع أن نرجح كذب الرواية الثانية، وقد كان أبو سفيان متعصبًا لقومه بني أمية أشد التعصب.
على أن هذا التنافس بين بني هاشم وبني أمية لم يمنع قومًا من قرابة رسول الله الأدنين أن يناصبوه العداوة؛ لأنه طعن في دينهم وعاب ما كان يعبد آباؤهم. كان عمه أبو لهب وامرأته حمالة الحطب يؤذيانه أكثر مما كان يؤذيه بنو أمية وسائر قريش. وبقي عمه أبو طالب على دينه مع منعه النبي بكل ما كان له في مكة من جاه وأيد. وإنما أسلم عمه حمزة تعصبًا لابن أخيه حين رأى أبا جهل يسب محمدًا ويؤذيه. ولم يسلم عمه العباس حتى سار جيش المسلمين لفتح مكة.
لم يكن ذلك من أعمام محمد عجبًا يؤاخذهم مؤاخذ به. فللعقائد سلطان على النفس يمسك الأكثرون معه عن مناقشة ما وجدوا عليه آباءهم، لمعرفة ما يحتويه من حق وما يشوبه من باطل، والأقلون الذين أنار الله بصائرهم هم الذين يهديهم الله إلى الحق عن بينة، فلا يتعصبون لباطل متى تبينوا الحق فأضاء آمالهم بنوره. هؤلاء لا تمنعهم عصبية لقبيلة ولا لجنس ولا لعقيدة عن أن يقبلوا على الحق متى دعوا إليه، فإذا اقتنعوا آمنوا به وأصبحوا من أكبر دعاته. كان ذلك شأن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام، لم يكن أحد هؤلاء الصحابة من بني هاشم. وكان عثمان بن عفان من بني أمية، فهو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس. وكان أبو بكر أول رجل أسلم حين دعاه رسول الله بعد بعثه إلى الإسلام. وأذاع أبو بكر بين أصحابه دعوة الحق فتابعه هؤلاء الخمسة وعثمان على رأسهم، ودخلوا في دين الله وآمنوا بالله ورسوله. وهؤلاء الخمسة الذين سبقوا إلى الإسلام واستمسكوا به وحاربوا في سبيله ومات رسول الله وهو عنهم راض، هم الذين جعل عمر بن الخطاب الشورى فيهم، وجعل معهم علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله وختنه على ابنته فاطمة. ذلك أن عليًّا كان أول من أسلم من بني هاشم ثم حضر الغزوات كلها مع رسول الله.
وكانوا لسبقهم إلى الإسلام وصحبتهم رسول الله ذوي مكانة بين المسلمين. وكان لبعضهم برسول الله صلة قرابة أو رحم زادتهم قربًا من قلوب الناس. وكان علي بن أبي طالب أقربهم رحمًا برسول الله وأكثرهم به صلة. وكان ابن عمه أبي طالب بن عبد المطلب، وأبو طالب هو الذي كفل محمدًا صبيًّا بعد وفاة جده عبد المطلب، وهو الذي منعه من قريش بعد بعثه حين بالغت قريش في إيذائه؛ لذلك كفل رسول الله عليًّا في صباه فوفى بذلك لعمه أبي طالب خير وفاء. ومقام علي مع ابن عمه هو الذي جعله أول من أسلم من الصبيان، أسلم ولما يبلغ الحلم. فلما شب زوَّجه رسول الله ابنته فاطمة، فكانت معه إلى أن توفيت بعد أبيها بستة أشهر؛ وفاطمة هي أم الحسن والحسين ابني عليّ.
يلي الزبير بن العوام عليًّا في القرابة من رسول الله. فأمه صفية بنة عبد المطلب عمة محمد، وهو ابن العوام بن خويلد أخي خديجة أم المؤمنين. وقرابته هذه دفعته فأسلم، وهو ابن ست عشرة سنة ثم لم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله، وذلك بعد أن هاجر الهجرتين جميعًا إلى الحبشة فرارًا إلى الله بدينه من أذى قريش. وقد بايع رسول الله يوم أُحد على العرب. فلما كان يوم الخندق ندب رسول الله من يأتيه بخبر الأحزاب الذين حاصروا المدينة، فانتدب الزبير فقال رسول الله: (إن لكل نبي حواريًّا وحواريي الزبير بن العوام). وكانت مع الزبير إحدى رايات المهاجرين الثلاث يوم فتح مكة. وكان الزبير إلى قوة شكيمته وشدة بأسه كريمًا في الناس عزيزًا عليهم؛ لهذا أدناه رسول الله وبادله الحب، فلما خط الدور بالمدينة جعل له بقيعًا واسعًا وأقطعه نخلًا. وقد أحبه أبو بكر وعمر كما أحبه رسول الله، فأقطعه الصديق الجوف، وأقطعه عمر العقيق أجمع.
لم يكن لعثمان بن عفان مثل هذه القرابة من رسول الله، فجدُّه أبو العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي الجد الخامس للنبي، لكنه كان ختن رسول الله على ابنتيه رقية وأم كلثوم، وكان رسول الله قد زوجهما قبل بعثه من ابني عمه أبي لهب، فلما بعث واشتدت عداوة أبي لهب له أمر ابنيه فسرحا ابنتي محمد. فتزوج عثمان رقية، فهاجرت معه الهجرتين إلى الحبشة، وبقيت معه إلى ما بعد الهجرة إلى المدينة. وقبيل غزوة بدر مرضت فتخلف عثمان عن الغزوة بإذن رسول الله لتمريضها، فلم يغن عنها التمريض فماتت فزوج رسول الله عثمان أختها أم كلثوم، فبقيت معه سنوات ثم ماتت قبل أبيها. قال رسول الله يعزي عثمان: «لو أن لنا ثالثة زوجناك.» ذلك بأن عثمان كان رجلًا صالحًا لينًا حسن المعاشرة كريمًا، فكان رسول الله يحبه أعظم الحب ويعرف له فضله ورجحان عقله وحسن إيمانه.
ولم يكن صهر عثمان إلى النبي هو وحده الذي أدناه من محمد وحببه إلى قلبه، بل إنه كان كذلك من السابقين الأولين إلى الإسلام، لم يصده عنه منافسة قومه بني أمية لبني هاشم. وقد أثار إسلامه غضب قومه عليه. أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية فأوثقه رباطًا وقال له: «تدع دين آبائك إلى دين محدث. والله لا أدعك أبدًا حتى تدع ما أنت عليه.» وكان جواب عثمان: «والله لا أدعه أبدًا ولا أفارقه.» ورأى عمه صلابته في الحق وشدة استمساكه به فلم يجد بدًّا من إرساله.
ولم يغير رأي طلحة في عمر من مكانته عند الفاروق بعد استخلافه. فقد بقي بالمدينة يشير عليه كما كان يشير على أبي بكر. فلما طعن عمر جعل طلحة في الشورى رغم غيابه عن المدينة، ثم قال لجماعة الشورى: انتظروا أخاكم طلحة ثلاثة أيام فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم.
أما وهؤلاء هم الرجال الذين اختارهم عمر للشورى، وهذه صلتهم برسول الله ومواقفهم معه، فكيف اشتد الخلاف بينهم لأول ما اجتمعوا يختارون أحدهم في الخلافة حتى يقول لهم أبو طلحة الأنصاري: «أنا كنت لأن تدافعوها أخوف مني لأن تنافسوها.» سقنا من الاعتبارات ما يشهد بأن الخلافة أصبحت بعد انفساح رقعة الإمبراطورية مأربًا يطمع فيه الطامع. وثمة اعتبار آخر أدى إلى شدة الخلاف وكان طبيعيًّا أن يؤدي إلى هذه الشدة؛ فقد كانت العرب تحجم عن استخلاف بني هاشم مخافة أن تجتمع النبوة والخلافة في بيتهم، فيجتمع لهم بذلك سلطان الدين وسلطان الدنيا، فلا تطمع بعد ذلك قبيلة غيرهم في أن يكون لها حظ في الخلافة. وكانت العرب تخشى استخلاف بني أمية؛ لأنهم كانوا أكثر قريش عددًا وأعزها نفرًا، فإذا آلت الخلافة إليهم لم يكن يسيرًا بعد ذلك دفعهم عنها. فرأى بنو هاشم وبنو أمية في موقف العرب منهم ظلمًا لا مسوغ له، ورأى كل من البيتين أن يعمل لرفع هذا الخطر الجائر بأن يسعى إلى الخلافة، ويلتمس الوسيلة ليكون الخليفة من بين أبنائه. أما وعثمان وعلي في الشورى فالفرصة لهذا السعي سانحة ومن سوء السياسة أن تضيع.
على أن ما بين بني هاشم وبني أمية من تنافس قديم حال بينهما وبين إعلان ما تكنه صدور رجالهما للناس. وأعانهما اختيار عمر جماعة الشورى على ستر هذا المكنون في الصدور، وإن كشف اختلاف الشورى وما انتهى إليه أمرهم عن الكثير منه.
لم يكن العباس بن عبد المطب عم النبي يطمع في الخلافة لنفسه. فهو لم يكن من السابقين إلى الإسلام، بل كان أدنى لأن يكون من مسلمة الفتح. فقد أسلم حين كان جيش رسول الله معدًّا لفتح مكة. ولكنه كان من أكثر بني هاشم حكمة ومن أشدهم حرصًا على أن تكون الخلافة في بيت النبي. روي أنه قال لعلي بن أبي طالب حين سمى عمر الشورى: «لا تدخل معهم.» وأجابه علي: «إني أكره الخلاف.» فكان رد العباس: «إذن ترى ما تكره.»
وكان عمر قد قال للشورى: إن رضي ثلاثة رجلًا منهم وثلاثة رجلًا منهم فحكموا عبد الله بن عمر، فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلًا منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف. فلما سمعهما علي خرج فلقي عمه العباس فقال له علي: عدلت عنا. فقال العباس: وما علمك؟ فقال علي: قرن بي عثمان وقال: كونوا مع الأكثر فإن رضي رجلان رجلًا ورجلان رجلًا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفان، فيوليها عبد الرحمن عثمان، أو يوليها عثمان عبد الرحمن، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني، بله أني لا أرجو إلا أحدهما.
فلما سمع العباس قول علي أجابه في شيء من الحدة: «لم أدفعك في شيء إلا رجعت إلي مستأخرًا بما أكره، أشرت عليك عند وفاة رسول الله ﷺ أن تسأله فيمن هذا الأمر فأبيت، وأشرت عليك بعد وفاته أن تعاجل الأمر فأبيت، وأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى ألا تدخل معهم فأبيت، احفظ عني واحدة، كلما عرض عليك القوم فقل: لا، إلا أن يولوك. واحذر هؤلاء الرهط فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم لنا به غيرنا، وايم الله لا نناله إلا بشر لا ينفع معه خير.»
اختلف أهل الشورى وارتفعت منهم الأصوات فدخل عليهم أبو طلحة وقال لهم: أنا كنت لأن تدافعوها أخوف مني لأن تنافسوها، لا والذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمرتم، ثم أجلس في بيتي فأنظر ما تصنعون. ومع ذلك ظل الخلاف متصل الحدة يومًا كاملًا في رواية، ويومين كاملين في رواية أخرى. وخشي عبد الرحمن بن عوف تفاقمه وما يؤدي إليه هذا التفاقم من نتائج تخشى عواقبها، فقال للمجتمعين: «أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم.» ونظر إليه القوم وقد تولتهم الدهشة. فأي كلام هذا؟! إنهم يتنازعون أشد النزاع يريد كل أن تكون الخلافة له. فكيف يريد عبد الرحمن أن يتنزل أحدهم عن مطمعه ليكون حكمًا بينهم يومًا أو يومين، ثم لا يكون له بعد ذلك في الخلافة نصيب؟!
لكن دهشتهم لم تطل مداها؛ فقد أسرع عبد الرحمن فقال: «فأنا أنخلع منها.» وأسرع عثمان فأجابه: «أنا أول من رضي.» وقال سعد والزبير: «قد رضينا.» وإذ كان طلحة غائبًا فلم يبق إلا أن يصرح عليٌّ بن أبي طالب عن رأيه. لكن عليًّا بقي ساكتًا لا يقبل ولا يرفض. فلعله ظن هذا الصنيع من عبد الرحمن خدعة أراد بها أن يمهد الطريق لتولية صهره عثمان، فسكت يفكر فيما يفسد به هذه الخدعة. لكن عبد الرحمن لم يمهله ليدبر الرأي في نفسه بل سأله: «ما تقول يا أبا الحسن؟» وأبدى عليٌّ ريبته في صنيع ابن عوف بقوله: «أعطني موثقًا، لتؤثرن الحق ولا تتبع الهوى، ولا تخص ذا رحم، ولا تألوا الأمة نصحًا»، فسارع عبد الرحمن فأجاب في غير تردد: «أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدل وغيَّر، وأن ترضوا من اخترت لكم، وعلي ميثاق الله أن لا أخص ذا رحم لرحمه، ولا آلو المسلمين نصحًا.»
أي داع دعا عبد الرحمن لأن يسلك هذا المسلك؟ لقد كان يعلم أن كثيرين من المسلمين يرشحونه للخلافة، وأن العرب كانت ترضاه مطمئنة لسابقته؛ ولتظل الخلافة بعيدة عن بني هاشم وبني أمية. أفكان صدق الرغبة عن تولي الخلافة منذ كاشفه عمر رغبته في أن يعهد إليه؟ ما باله إذن قبل أن يكون في الشورى، وما له لم يتنح منذ اللحظة الأولى عن الاشتراك مع أهلها؟ يذهب المؤرخون المسلمون إلى أنه لم يكن يرفض أن يكون في الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض، وأن رغبته عن الخلافة كان ميسورًا تحقيقها مع وجوده فيمن اختارهم عمر. وهذا صحيح. ويذهب بعض المستشرقين إلى أنه أراد أن ينخلع من الترشيح وأن يجعل تولية الخليفة لنفسه ليولي صهره عثمان، ويحتجون لذلك بقول علي لعمه العباس: «وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفان، فيولي أحدهما الآخر.» بل إن جماعة منهم ليسرفوا في الظن فيزعمون أن عبد الرحمن لم يكن يحسب أن يطول العمر بعثمان، وكان يومئذ قد بلغ السبعين وأن أعباء الخلافة كانت لا شك تهيضه، وأنه عند ذلك يستخلف عبد الرحمن لا محالة. وهذا الإسراف في المظنة لا مسوغ له، فعبد الرحمن كان مؤمنًا صادق الإيمان، يعلم أن لكل أجل كتابًا فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ. أما صهره لعثمان وما قد يميل ذلك به إلى إيثار ابن عفان على عليٍّ فاستنتاج قد يغري بتصديقه ما حدث بالفعل من تولية عبد الرحمن عثمان. لكنه لا يعدو أن يكون استنتاجًا قد يشوبه الخطأ. والطريقة التي اتبعها عبد الرحمن في اختيار الخليفة لا تجعل لهذا الاستنتاج محلًّا.
فقد كان عبد الرحمن يعلم أن عليًّا وعثمان هما المتنافسان الأساسيان؛ ولذلك سعى لحصر الترشيح فيهما، وأول ما صنع من ذلك أن خلا بعليٍّ وقال له: «تقول إنك أحق من حضر بالأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين، ولم تبعد، ولكن أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك فلم تحضر، من كنت ترى من هؤلاء الرهط أحق بالأمر؟» فأجابه علي: عثمان. ثم إنه خلا بعثمان وقال له: «تقول شيخ من بني عبد مناف، صهر رسول الله ﷺ وابن عمه، لي سابقة وفضل، ولم تبعد، فلم يصرف هذا الأمر عني؟ ولكن لو لم تحضر، أي هؤلاء الرهط تراه أحق به؟» وأجابه عثمان: عليٌّ. وكان عبد الرحمن قد طلب إلى الشورى أن يفوض ثلاثة منهم ما لهم من حق في ولاية الأمر إلى ثلاثة: ففوض الزبير ما له من حق فيها إلى عليّ، وجعل سعد حقه إلى عبد الرحمن، وترك حق طلحة لعثمان. أما وقد خلع عبد الرحمن نفسه فقد انحصر الترشيح في علي وعثمان، وأصبح الأمر في اختيار أحدهما معلقًا في عنق عبد الرحمن.
أتراه يستخير الله ويقضي بينهما أيهما أفضل فيوليه؟ لقد كان في حل من أن يفعل أن أعطى القوم ميثاقه وأخذ منهم ميثاقهم. لكنه خشي إن هو استقل برأيه أن لا تقره عليه كثرة المسلمين الذين اجتمعوا بالمدينة من أنحاء الإمبراطورية الإسلامية المختلفة بعدما أدوا فريضة الحج، ثم أمسكهم مقتل عمر في انتظار ما تسفر عنه الشورى؛ لذلك جعل يلقى أصحاب رسول الله ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد ورءوس الناس يسألهم جميعًا، مثنى وفرادى، مجتمعين ومتفرقين، سرًّا وعلانية، حتى يجتهد في أفضل الرجلين فيوليه.
يجمع المؤرخون على أن مشاورات عبد الرحمن أسفرت عن كثرة تشبه الإجماع في صف عثمان، لكنهم يختلفون في الأسباب التي جمعت هذه الكثرة حوله. يقول بعضهم: إن الناس مالوا إلى رجل لا يكون كعمر بطشًا وشدة وانصرافًا عن الدنيا وصرفًا للناس عنها، وإن عثمان كان هذا الرجل ولم يكنه عليّ؛ لذلك رغبوا عن ابن أبي طالب مخافة أن يحملهم على ما كان عمر يحملهم عليه. ويذهب البعض إلى أن مشاورات عبد الرحمن استمرت يومين وليلتين، كان بنو هاشم وبنو أمية يقوم كل منهما أثناءها بالدعاية لصاحبه. وإذ كان بنو أمية أكثر عددًا وأوفر مالًا وأسخى يدًا فقد طغت دعايتهم على دعاية الهاشميين ومالت بالكثرة الكبرى إلى ناحية عثمان. فإذا صح هذا فلعل الدعاية الأموية قامت على أن الأمر إذا آل لصاحبهم وسَّع على الناس، وتركهم ينعمون بما تدره مغانم الفتح من أسباب المتاع ولم يبطش بهم بطش عمر. وفي رأي ثالث أن الناس رأوا عثمان ناهز السبعين أو جاوزها ولم يكن عليٌّ قد بلغ الستين، وذكروا صحبة عثمان لرسول الله ومواقفه منه، ثم رأوا خلافته غير مانعة عليًّا أن يكون الخليفة من بعده، فكان عطفهم على شيخوخته وتقديرهم ماضية سبب ميلهم إليه واختيارهم إياه.
وأيًّا ما صح من هذه الأسباب فقد كانت الكثرة التي تشبه الإجماع واضحة في صف عثمان، مع ذلك خشي عبد الرحمن بن عوف أن يتهمه أنصار عليٍّ إن هو أعلن هذه النتيجة، فذهب إلى دار ابن أخته المسور بن مخرمة فأيقظه، وقد مضى أكثر الليل من تلك الليلة الأخيرة التي فرضها عمر لاختيار أمير المؤمنين، وطلب إليه أن يدعو له عليًّا وعثمان، فلما أقبلا قال لهما: إني سألت الناس فلم أجدهم يعدلون بكما أحدًا، ثم أخذ العهد على كل منهم لئن ولاه ليعدلن، ولئن وُلِّي عليه ليسمعن وليطيعن.
وخرج بهما إلى المسجد في الصبح بعد أن نودي في الناس أن الصلاة جامعة، فلما تم جمع الناس صعد عبد الرحمن المنبر فدعا دعاءً طويلًا ثم قال: «أيها الناس، إن الناس قد أحبوا أن يلحق أهل الأمصار بأمصارهم وقد علموا من أميرهم.» قال سعيد بن زيد وهو في محله: إنا نراك لها أهلًا. وأجابه عبد الرحمن: أشيروا عليَّ بغير هذا. وأشار عمار بن ياسر والمقداد بن عمرو بعليٍّ، وأشار عبد الله بن أبي سرح وعبد الله بن أبي ربيعة بعثمان. وأدى اختلاف الفريقين إلى تشاتم بين عمار وابن أبي سرح. وخشي سعد بن أبي وقاص أن يمتد الخلاف وتثور ثائرته، فصاح: يا عبد الرحمن أفرغ قبل أن يفتتن الناس! قال عبد الرحمن: إني قد نظرت وشاورت فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلًا.
ألمحُ الآن عبد الرحمن بن عوف وهو بمجلسه على المنبر والمسلمون من حوله قد امتلأ بهم فراغ المسجد، فلا يفوتني شيء من أمارات الجد البادية على وجهه. إنه عزم أن يجعل الخلافة لعثمان وأن يدعو الناس لبيعته. أتراهم يسارعون إلى تلبية دعوته؟ أم ينقسمون ويجري بينهم ما جرى منذ هنيهة بين عمار بن ياسر وعبد الله بن أبي سرح؟ لئن حدث هذا الأمر وافتتن الناس لتكونن الطامة الكبرى، ولتصبحن المدينة مسرحًا لاضطراب يستطير شره. فكثرة الناس عبيد لأهوائهم ومنافعهم، وهم يضحون في سبيلها بأمن الدولة وسلامتها. ولكن التردد في تولية الخليفة لا يحسم الشر ولا يجنب المسلمين الفتنة بل هو أدعى إلى قيامها وإلى اشتدادها؛ لذا دعا عبد الرحمن عليًّا فأخذ بيده، وقال له: هل أنت مبايعي لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده؟ فأجابه علي: «أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي.» وأرسل عبد الرحمن يده ودعا عثمان وأخذه بيده وقال له: «هل أنت مبايعي لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده؟» وأجابه عثمان: «اللهم نعم.» فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان وقال ثلاثًا: «اللهم اسمع واشهد.» ثم قال: «اللهم إني قد خلعت ما في رقبتي من ذلك، وجعلته في رقبة عثمان.» وبايعه. عند ذلك أقبل من بالمسجد يتزاحمون يبايعون عثمان.
تختلف الروايات في موقف علي من بيعة عثمان، ولكنها تجمع على أن الناس أقبلوا على بيعة الخليفة الشيخ أفواجًا، لم يختلف منهم أحد ولم يعترض أحد. أفكان ذلك حبًّا منهم لعثمان؟ أم اغتباطًا بالفراغ من أمر خطير في حياة الدولة لم يكن من الفراغ منه بد؟ فقد كان الرجال الستة موضع إجلال المسلمين وإكبارهم. بل لقد نسب إلى عليٍّ أنه قال بعد بيعة عثمان: «إن الناس تنظر إلى قريش وقريش تنظر إلى بيتها فتقول: إن ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبدًا، وما كانت في قريش تداولتموها بينكم»؛ لذلك لم يثر عدول عبد الرحمن بن عوف عن علي بن أبي طالب ثائرة، بل قابل الناس خلافة عثمان مقابلة رضًا واطمئنان.
أما علي بن أبي طالب فتختلف الروايات في موقفه من عثمان اختلافًا يتعذر معه ترجيح إحداها. روى ابن سعد بإسناد أن أول من بايع عثمان عبد الرحمن بن عوف ثم علي بن أبي طالب. وروي بإسناد آخر أن عليًّا بايع عثمان أول الناس ثم تتابع الناس فبايعوه. وروى ابن كثير أن عبد الرحمن بن عوف قعد على المنبر مقعد النبي، وأجلس عثمان بعد أن بايعه على الدرجة الثانية. وجاء إليه الناس يبايعونه وبايعه علي بن أبي طالب أولًا، ويقال: آخرًا. ويسوق الطبري روايتين تدلان على أن اختيار عثمان ترك في نفس علي أثرًا عميقًا. أما الأولى فتذهب إلى أنه لما أقبل الناس يبايعون عثمان بعد أن بايعه عبد الرحمن، تلكأ علي، فقال عبد الرحمن: فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا. فرجع علي يشق الناس حتى بايع وهو يقول: خدعة أيما خدعة! أما الرواية الثانية فتجري بأنه لما بايع عبد الرحمن عثمان قال له علي: حبوته حبو دهر، ليس هذا أول يوم تظاهرتهم فيه علينا، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك. والله كل يوم هو في شأن. وأجاب عبد الرحمن: «يا عليُّ لا تجعل على نفسك سبيلًا، فإني قد نظرت وشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان.» وخرج عليٌّ وهو يقول: «سيبلغ الكتاب أجله.»
يشير ابن كثير إلى روايتي الطبري هاتين فيقول: «وما يذكره كثير من المؤرخين كابن جرير وغيره من رجال لا يعرفون أن عليًّا قال لعبد الرحمن: «خدعتني، وإنك إنما وليته لأنه صهرك وليشاورك كل يوم في شأنه»، وإنه تلكأ حتى قال له عبد الرحمن: نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ إلى آخر الآية، إلى غير ذلك من الأخبار المخالفة لما ثبت في الصحاح فهي مردودة على قائليها وفاعليها، والله أعلم.»
يتعذر ترجيح إحدى هذه الروايات. ويغلب على الظن أن الكثير منها وضع من بعد دعاية لأغراض سياسية. من ذلك ما فسر به الطبري قول علي بن أبي طالب: خدعة وأيما خدعة، وذلك حين دعاه عبد الرحمن بن عوف لبيعة عثمان حتى لا ينكث على نفسه. فقد ذكر ابن جرير أن عمرو بن العاص لقي عليًّا في ليالي الشورى فقال له: «إن عبد الرحمن رجل مجتهد وإنه ما أعطيته العزيمة كان أزهد له فيك ولكن الجهد والطاقة فإنه أرغب له منك»، ثم لقي عثمان فقال له: «إن عبد الرحمن رجل مجتهد وليس والله يبايعك إلا بالعزيمة فأقبل.» ولست أشك في أن هذه الرواية نسجت بعد الذي كان بين عليٍّ وعمرو بن العاص عند الخلاف مع معاوية. فلم يكن عمرو كارهًا لعثمان حين مقتل الفاروق. وإن طائفة من الروايات لتجري بأن عثمان عزل عمرًا عن مصر بعد قليل من توليته. والإجماع منعقد على أن عثمان استعان بعمرو حين هاجم الروم الإسكندرية، فلما انتصر ابن العاص أراد عثمان أن يجعله أميرًا على جند مصر مع بقاء عبد الله بن أبي سرح واليًا عليها وصاحب خراجها فرفض عمرو وقال: أنا إذن كماسك البقرة بقرنيها وآخر يحلبها! ثم عاد إلى مكة وبقي بها حتى انضم إلى معاوية في خلافه مع علي. وهذا كله يشهد بأن عمرًا وعثمان حين الشورى كانا على وفاق يدعو عمرو لخدعة علي؛ وهو لذلك يقطع بأن الرواية التي أوردها الطبري تعليلًا لقول علي: «خدعة وأيما خدعة»، منقوضة من أساسها.
وأعتقد كذلك أن ما أورد من الألفاظ على لسان علي أو عبد الرحمن بن عوف أو غيرهما أدنى إلى أن يكون موضوعًا عبَّر به واضعوه عما اقتنع بعضهم بأنه حدث، وما أراد بعضهم به الدعاية السياسية لغرض بذاته. ولست أريد الإسهاب في الإبانة عن الحجة التي تدعوني لهذا الاعتقاد. وحسبي أن أشير إلى ما ذكره جامعو الحديث عن النبي ﷺ أنه لم يصح عندهم عشر معشار ما روي لهم منه. ورواية عبارات بألفاظها عن علي بن أبي طالب أو عبد الرحمن بن عوف أو غيرهما أدعى إلى التمحيص. فإنما دونها المؤرخون بعد أن مرت عشرات السنين على الحوادث التي رووها، وبعد أن لعبت الدعايات السياسية دورًا خطيرًا في حياة الدولة الإسلامية. لا عجب وذلك هو الشأن أن يدونوا ألفاظًا تعبر عن مشاعر أصحابها، وإن لم تكن هذه الألفاظ قد صدرت عنهم بذاتها.
لكن ثمة أمرين لا ريبة عندي في صحتهما: أولهما أن عليًّا وبني هاشم لم تسترح نفوسهم لبيعة عثمان بحجة أنهم أهل بيت النبي، فإذا ألقت الخلافة مقاليدها إليهم لم تخرج منهم أبدًا.
الأمر الثاني أن الكثرة الكبرى من المسلمين استراحت لبيعة عثمان، وأقبلت عليها راضية مطمئنة. فليس منهم من ذكر حين البيعة أن عثمان من بني أمية، أو ذكر عداوة بني أمية لرسول الله ومنافستهم القديمة لبني هاشم وتخلفهم عن الدخول في الإسلام حتى فتحت مكة أبوابها عجزًا عن مقاومة المسلمين، بل ذكروا جميعًا سبق الخليفة الشيخ إلى الإسلام، ووقوفه في جانب رسول الله، وإحسانه معاملة زوجتيه رقية وأم كلثوم، وهجرته إلى الحبشة وإلى المدينة، وبذله عن سعة لنصرة دين الله والمؤمنين به. روي أن طلحة بن عبيد الله قدم المدينة غداة بيعة عثمان. فلما دعى للبيعة له قال: أكل قريش راض به؟ قيل: نعم. وذهب إلى عثمان فسأله: أكل الناس بايعوك؟ وأجابه عثمان: نعم. قال طلحة: قد رضيت، لا أرغب عما قد اجتمعوا عليه، وبايعه. ولقد تمت بيعة عثمان في جو من التفاؤل وحسن الرجاء في المستقبل. فلما فرغ الناس منها بدأ من جاءوا بعد الحج إلى المدينة ينصرفون عنها إلى مواطنهم بالعراق وفارس وبالشام ومصر، وكل يرجو أن يزيده الله سعة من فضله.
وكذلك عادت الأمور سيرتها الأولى، وجرى الناس في مألوف حياتهم، وآن لعثمان أن يضطلع بأعباء الخلافة يصرف أمورها على نحو يتفق مع ما جبل عليه من دماثة في الطبع ورقة في الخلق وصدق في الإيمان وتجرد للخير، وأن يواجه موقفًا يختلف عن موقف عمر، وعن موقف أبي بكر يوم اضطلع كل منهما بعبء الخلافة، ويحتاج في مواجهته إلى لون جديد من السياسة وفق عثمان إليه توفيقًا ظاهرًا أول الأمر، ثم أعجزه تقدم السن وأعجزته الأحداث فلم يحسن تدبيره من بعد.