حكومة عثمان
لم يكن من أثر التيارات الخفية التي كانت تمهد للثورة ولمقتل عثمان أن تقف من سير الفتح أو تضعف ما دفعه الدين الجديد والنظام الجديد إلى نفوس المسلمين من قوة، وإن أمكن القول: بأن المسلمين كانوا قادرين، لولا هذه التيارات، على أن يذهبوا إلى أبعد مما ذهبوا، وأن يفتحوا أكثر مما فتحوا.
لم يقتصر أثر هذه التيارات على الفتح يحد من خارق اندفاعه، بل امتد هذا الأثر إلى حياة الأمة العربية كلها، فوجه الكثير من شئونها توجيهًا هيمن على الإمبراطورية الإسلامية وعلى التاريخ الإسلامي كله من بعد؛ لذلك كانت دراسة هذه التيارات والعوامل جوهرية لإدراك التطور السياسي والمذهبي الذي وجه الحوادث من بعد توجيهًا لا يزال أثره بالغًا إلى اليوم.
أول هذه العوامل ما سبقت الإشارة إليه من تنافس بين بني هاشم وبين بني أمية تنافسًا يرجع عهده إلى مائة عام قبل النبي العربي. وقد استجن هذا التنافس بعد أن استقرت دعوة رسول الله فأقبل الناس من أرجاء شبه الجزيرة يدخلون في دين الله أفواجًا. فلما اختار رسول الله جوار الرفيق الأعلى جالت بخاطر بني هاشم فكرة الخلافة على أنها ميراثهم عنه ﷺ، ولكنها جالت بخاطرهم على استحياء، فلم تكن لها في حياة الدولة أثر في خلافة أبي بكر وعمر. فلما فتح المسلمون فارس والشام ومصر، ثم قتل عمر بن الخطاب، تجلى هذا التنافس وبرزت هذه العصبية في صورة جلوناها عند الحديث عن الشورى وبيعة عثمان. وقد اختلفت الروايات في موقف عليٍّ من هذه البيعة، لكنها جميعًا تجمع على عدم اقتناع بني هاشم بها ونظرهم إليها نظرة أذكرتهم ما قاله عمر بن الخطاب لابن عباس: «إن الناس كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة، فإن قريشًا اختارت لنفسها فأصابت.» وذلك قول علي بن أبي طالب بعد بيعة عثمان: «إن الناس تنظر إلى قريش، وقريش تنظر إلى بيتها فتقول: إن ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبدًا، وما كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم.»
كان لبرم بني هاشم بإسناد الخلافة إلى رجل من بني أمية أثر عميق في حكومة عثمان. كذلك كان لبرم العرب من غير قريش بسلطان قريش مثل هذا الأثر. فقد ذهب الذين غادروا مكة والمدينة من المهاجرين والأنصار ومسلمة الفتح إلى الشام واستقروا به. وذهب من غادروا اليمن ونجد أو سائر قبائل العرب في الجنوب والشرق من شبه الجزيرة إلى العراق واستقروا به. وإذ كان الولاة في عهد الخلفاء الثلاثة الأولين من رجالات مكة والمدينة فقد بدأ غيرهم من العرب يتساءلون: ما فضل هؤلاء علينا وليس لهم أكثر مما لنا من أثر في الفتح وفي بناء الإمبراطورية؟ لقد سبقونا حقًّا إلى الإسلام، فإذا كان هذا السبق مسوغًا أن كون الخلافة في قريش فلم يكون مسوغًا لاستئثارهم بكل مناصب الدولة؟ فالإسلام لا يجعل لعربي فضلًا على عجمي إلا بالتقوى. ما بالك والذين نزلوا البصرة والكوفة عرب كأهل الحجاز وكأهل مكة والمدينة سواء. إن هذا الاستئثار إنما يدفع إليه الحرص على سيادة طائفة من العرب على طائفة سيادة لا يقرها الإسلام ولا يرضاها صاحب الرسالة به. ألم يجعل رسول الله لزيد بن حارثة، وكان مولى اشترته خديجة أم المؤمنين وأعتقته، سبقًا على كثير من قريش ومن المهاجرين والأنصار؟ فكيف يؤخر أهل نجد وغيرهم ممن كان لهم في الفتح فضل أي فضل ويقدم عليهم أهل مكة والمدينة؟ إن هذا لهو الظلم الذي لا يرضاه حر، وهو الاستعلاء تأباه النفس العربية التي ألفت المساواة والحرية قرونًا طويلة قبل أن يزيدها الإسلام بالمساواة والحرية إيمانًا!
وثمة عامل ثالث لم يكن أقل من هذين العاملين أثرًا في توجيه سياسة الدولة الوجهة التي انتهت إلى الثورة وإلى مقتل عثمان. ذلك هو شعور الأعاجم وشعور اليهود والنصارى باستعلاء العرب عليهم وتحكمهم فيهم، ولم يكن للعرب قبل عشرين سنة من ذلك العهد أي سلطان. فإلى أن اختار رسول الله الرفيق الأعلى، وإلى أن قضى أبو بكر على الردة في شبه الجزيرة، كان الروم وكان الفرس ينظرون إلى أولئك العرب على أنهم دونهم مكانة في الحضارة وقدرًا في المقام العالمي. فكيف بهم اليوم يرضون أن يسود العرب بلاد قيصر وبلاد كسرى؟ وكان هذا الشعور أشد وضوحًا في فارس منه في الشام وفي مصر؛ لأن فارس كانت مستقلة وكانت تنافس الروم المتحكمين في الشام وفي مصر سيادة العالم. ترى أبلغ الضعف والتخاذل من الفرس فلم يبق لهم من التخلص من هؤلاء العرب رجاء؟!
وأهل الكتاب واليهود منهم خاصة، سواء منهم من أسلم نفاقًا ومن لم يسلم، لم يكن أحد منهم يظن أن دينًا جديدًا سيجليهم عن مواطنهم في شبه الجزيرة. وها هم هؤلاء العرب قد أجلوهم عنها.
كان لهذه العوامل أثرها العميق في حياة الدولة الناشئة. وقد ظهر بعض هذا الأثر في عهد عمر وانتهى إلى مؤامرة الهرمزان وجفينة وأبي لؤلؤة فيروز غلام المغيرة بقتله. لكن أحدًا لم يفكر يومئذ في اجتثاث أسباب الفتنة من جذورها؛ لأن أحدًا لم يظن أن هذه الأسباب يمكن أن تستفحل فتثير الحرب الأهلية بين العرب وأنفسهم، وتنتقل بهم من نظام الخلافة إلى نظام الملك، وتغير سير الحوادث تغييرًا بالغ الأثر في حياة الإمبراطورية الإسلامية وفي حياة العالم كله؛ ولهذا انصرف تفكير عمر في عهده إلى معالجة ما يبدو من مظاهر هذه العوامل بما يقضي على أثرها الوقتي. ولم يكن عمر ليفعل أكثر من هذا فقد كان عهده كله عهد جهاد وحرب اتصلت على السنين طيلة خلافته، فلم يكن بُد من أن يوجه أكبر همه إلى نجاح الفتح وإلى طمأنينة العرب للنظام الجديد الذي أقامه. وكذلك كان شأن عثمان في أول خلافته، إذ كانت الأمور مستقرة فلم يكن يساوره أو يساور غيره من الخوف أن تثور الأرض بفعل هذه العوامل، وأن تبلغ الثورة مبلغ الحرب الأهلية؛ لهذا وقف تفكير عثمان كما وقف تفكير عمر من قبل عند معالجة كل انتقاض بما يرد الطمأنينة إلى النفوس ويدفع بالفتح إلى أن يسير سيرته المظفرة.
والواقع من الأمر أن هذه العوامل كانت من الضعف في عهد عمر وفي السنوات الأولى من عهد عثمان، فلم يكن لأي من الخليفتين أن يخشاها. لقد كان عمر يظن أن ما يبدو من ظواهر الانتقاض يرجع إلى سوء تصرف الولاة، وقد تولى عثمان الخلافة ولم يكن أحد يسيء به الظن لأول عهده، بل إن المؤرخين ليجمعون على أن السنوات الست الأولى من خلافته كانت محل الرضا عنها والطمأنينة إليها والاغتباط بازدياد الرخاء أثناءها من جانب العرب، ومن جانب من اطمأنوا لحكم المسلمين، من غير العرب. ويذهب أكثر المؤرخين إلى أن الرضا والطمأنينة كانت أكثر شمولًا في هذا النصف الأول من عهد الخليفة الشيخ مما كان في عهد عمر؛ لذلك لم يكن لأحد من بني هاشم أو من غيرهم أن يشكو أو يثير ثائرة. فقد كان عثمان لينًا في غير ضعف، عادلًا عدل عمر من غير أن يكون باطشًا بطشه أو قاسيًا قسوته. فقد رأيت أنه استفتح عهده بأن زاد في عطاء الناس ووسع عليهم، فزاد ذلك في طمأنينتهم ورضاهم.
وما كان عثمان ليغير شيئًا من نظام الحكم الذي وضعه عمر حين دون الديوان وأقام القضاء ونظم المسالح ووضع بها الجند، وما كان له أن يخرج عن نظام الشورى الذي جرى عليه النبي ﷺ وتابعه عليه أبو بكر وعمر؛ لذلك سارت الأمور لأول عهده هادئة مستقرة، ورجع الناس إلى مواطنهم بعد أن بايعوه وكلهم الرجاء الصالح في أن تستقر الإمبراطورية الناشئة، وأن تزداد على الأيام سعة وتزيد العرب رضًا عن الحياة وتمسكًا بالدين الذي أعزهم وأعلى كلمتهم.
لم يكتف عثمان أول عهده بأن زاد عطاء الناس عما كان عليه في عهد عمر زيادة أرضت الكافة والخاصة، بل أفسح لكبار المسلمين الذين أقاموا بالمدينة في حريتهم وأتاح لهم بذلك أن يستمتعوا بأنعم الحياة على نحو كان عمر يأباه عليهم. فقد منع عمر أعلام المهاجرين من قريش من الخروج في البلدان إلا بإذنه وإلى أجل، وكثيرًا ما رفض الإذن بتاتًا. وكان الرجل منهم يستأذنه في الغزو وهو ممن حبس بالمدينة من المهاجرين فيقول له عمر: «قد كان لك في غزوك مع رسول الله ﷺ ما يبلغك. وخير لك من الغزو اليوم ألا ترى الدنيا ولا تراك.» فعل عمر هذا بالمهاجرين ولم يكن فعله بغيرهم من أهل مكة. وكانت حجته في ذلك خشية أن تغري المهاجرين الدنيا، وأن يستكثروا من الأموال في البلاد المفتوحة فيطغوا، فيكونوا لغيرهم مثلًا سيئًا يضر بالدولة الناشئة. فلما ولي عثمان لم يأخذ المهاجرين بالذي كان يأخذهم به عمر؛ لأنه رأى قريشًا ملت هذه الشدة في آخر عهد الفاروق؛ لذلك خلى عثمان عن المهاجرين وأباح لهم من الحرية في التنقل في أنحاء الإمبراطورية ما كان محظورًا عليهم، فانساحوا في الأقطار ورأوا الدنيا ورآهم الناس، واضطربوا في البلاد وأخذوا من أنعم الحياة بالنصيب الوافر، فحبَّب ذلك إليهم حكومة عثمان وآثروا خفضها ولينها على ما اضطرهم إليه عمر من زهد وتقشف.
لم يفكر أحد في مؤاخذة عثمان بما في هذه الإباحة من مخالفة لسنة الخليفتين من قبله. فالناس إنما يثورون بالحاكم ويلتمسون المنطق الذي يسوغون به ثورتهم حين لا يرضي مطالبهم وأهواءهم أكثر مما يثورون به إذا تردد الرأي في تصرفاته بما يحقق المصلحة العامة وما لا يحققها. ذلك شأنهم في كل أمة وكل عصر. وقد كان للمسلمين في رقعة الإمبراطورية الفسيحة لأول عهد عثمان ما يكفل لمن شاء منهم ما شاء من رخاء ورفه عيش. وقد منعهم عمر من المتاع بهذا الرخاء وطال بهم هذا المنع، فملت نفوسهم هذه الشدة ولم يبق لها ما يسوغها. أما وقد أباح لهم عثمان ما ترضاه نفوسهم فهم من عثمان راضون وإن خالف سُنَّةَ الخليفتين من قبله. فإنما أملت تصرفات أبي بكر وعمر في هذا الأمر أحداثٌ لم يبق لها على الزمان وجود.
لم يكن عثمان يستطيع أن يلزم الناس من التقشف والزهادة ما كان يفرضه عمر عليهم؛ ذلك لأن عمر كان متقشفًا شديد القسوة بنفسه، وكان يرى من الواجب عليه أن يشعر بشعور الضعيف والبائس والمحروم. وكان يقدر على احتمال هذه القسوة بنفسه لما حباه الله من صحة وقوة؛ ولأنه كان يوم ولي أمر المؤمنين في الخمسين من عمره. وكان صلبًا شديد المراس فلم يكن لأحد من رعيته أن يلومه إذا هو طالب غيره أن يحذو حذوه، وأن يتأسى بسيرته. أما عثمان فكان في ذلك كله نقيض عمر. ولي الأمر وقد ناهز السبعين أو جاوزها. وقد كان، حتى في شبابه وفتوته، يحب لين العيش، يطعم أطايب الطعام ويلبس فاخر الثياب ويتختم ويشد أسنانه بالذهب. وكان له من سعة المال ما يدفع عنه — بعد أن ولي الأمر — كل شبهة في الأخذ لنفسه من أرزاق المسلمين. أما وذلك شأنه فلم يكن في وسعه أن يمنع المهاجرين أو غير المهاجرين من أن يمشوا في مناكب الأرض، وأن يأكلوا مما رزقهم الله حلالًا طيبًا.
وعن عبيد الله بن عامر قال: «كنت أفطر مع عثمان في شهر رمضان فكان يأتينا بطعام هو ألين من طعام عمر، قد رأيت على مائدة عثمان الدرمك الجيِّد وصغار الضأن كل ليلة، وما رأيت عمر قط أكل من الدقيق منخولًا، ولا أكل من الغنم إلا مسانها. وقيل لعثمان في ذلك فقال: يرحم الله عمر ومن يطيق ما كان عمر يطيق؟!»
أما وذلك شأن عثمان في شبابه وشيخوخته، فلم يكن مستطاعًا أن يحبس المهاجرين بالمدينة أو يصدهم عن أن يضربوا في الأرض ويأكلوا من رزق الله، ولم يكن مستطاعًا أن يلزم الخليفة الناس التقشف والانصراف عن الدنيا أو يطلب إلى ولاته في الأمصار أن يلزموهم شيئًا من ذلك.
لم يكن الطعام الطيب والثياب الفاخرة والحياة الناعمة هي وحدها ما يطبق عثمان في حياته الخاصة، بل كانت نظرة عثمان للأمور العامة والخاصة نظرة رجل له بكل متاع بريء هوى. كان مسجد النبي بالمدينة هو مكان الحكم، فكان ﷺ ثم كان أبو بكر وعمر يجلسون فيه يديرون الأمور العامة. فإذا احتاج الأمر إلى مشاورة جمهور المسلمين نودي أن الصلاة جامعة، فاجتمع الناس بالمسجد فشاورهم النبي ثم شاورهم من بعده خليفتاه. كذلك فعل عثمان لكنه لم يرض عن بناء المسجد، وهو دار الحكم، على ما كان عليه في عهد النبي وفي عهد الخليفتين من قبله، بل رأى أن يخلع عليه من الهيبة ما لم يفكر فيه عمر، وما يجعله جديرًا بأن تصدر منه الأوامر إلى أهالي الولايات الذين يقيمون بقصور دمشق والفسطاط والكوفة والبصرة.
كان مسجد النبي أول ما بني بسيطًا، جدره من اللبن، وسقفه من الجريد، وعمده من خشب النخل. وبقي المسجد كذلك ست سنوات تباعًا، ولم يغير منه ما كان من انتشار الإسلام وازدياد الرخاء بالمدينة وما أفاء الله على أهلها من بسطة الرزق. فلما فتح المسلمون خيبر وخلصت المدينة للمسلمين وزاد عددهم بها بمن هداهم الله للإسلام، لم يكن من توسيع رقعة المسجد بد، فزاد النبي في رقعته مائة متر مربع أو أكثر. لكنه لم يغير من عمارته باللبن والجريد وجذوع النخل شيئًا.
ولم يحدث في خلافة أبي بكر إلا ما روي من أن سواري المسجد نخرت فبناها. فلما كان عهد عمر واطردت زيادة المسلمين بالمدينة لم يكن من توسيع المسجد كرة أخرى بد، فزاد عمر في رقعة المسجد ولكنه لم يغير من عمارته. فقد بنى الجدر كما بناها رسول الله، وجعل الأساس من الحجارة وما فوقه من اللبن، وجعل عمده من الخشب والسقف من الجريد، وجعل للمسجد ستة أبواب، واتخذ إلى جانبه مكانًا سُمي البطحاء، أمر من أراد أن يلفظ أو يرفع صوتًا أن يخرج إليه تنزيهًا له عن أن يكون له شيء من تجارة الدنيا أو يكون فيه عبث أو تأثيم.
فلما آلت الخلافة لعثمان كلَّمه الناس أول ما تولاها أن يزيد في المسجد، وشكوا إليه ضيقه يوم الجمعة بعد أن ازداد سكان المدينة زيادة عظيمة لامتداد الفتح. واستشار عثمان أهل الرأي فأجمعوا على هدم المسجد وبنائه وتوسيعه.
وزاد عثمان في رقعة المسجد زيادة عظيمة. لكنه لم يقف عند زيادة رقعته على نحو ما فعل عمر، بل أحدث من التطور في عمارته ما يتفق واتجاه ميوله، فأنكر صنيعه يومئذ جماعة من المسلمين الذين أرادوا أن يبنى المسجد على نحو ما بناه رسول الله. ولم يحفل عثمان بقولهم، ولم يجدد المسجد باللبن، ولم يجعل عمده الخشب وسقفه الجريد، بل بنى جدره كلها بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من حجارة منقورة أدخل فيها بعض الحديد، وصب فيها الرصاص ونقشها من خارجها، وجعل سقفه من الساج. بذلك أقر المسجد على أساس من بنائه، وخلع عليه بعض الرونق والرواء؛ ولذلك أنكر عليه بعض أصحاب رسول الله صنيعه وآخذوه بمخالفته سنة رسول الله وسنة الخليفتين أبي بكر وعمر.
خلع عثمان على مسجد النبي هذه الهيبة؛ لأنه كان مركز الحكم، فكانت الأوامر تصدر منه إلى الولاة الذين يقيمون في قصور دمشق والفسطاط والكوفة والبصرة. وإنما يدعونا إلى هذا القول أنه لم يصنع مثل هذا الصنيع بالمسجد الحرام بمكة حين وسعه. فقد كانت الكعبة بيت الله الحرام قائمة، وليس حولها إلا فناء ضيق يصلي الناس فيه، وظل ذلك شأنه طيلة عهد النبي وفي خلافة أبي بكر، فلما امتد الفتح وكثر الذين يشهدون الحج ويصلون حول البيت في عهد عمر ضاق بهم هذا الفضاء حين الصلاة. ثم كانوا يدخلون إليه من الأبواب القائمة بين الدور المحيطة به. عند ذلك اشترى عمر دورًا حول الكعبة وهدمها وأدخلها في حرم البيت الحرام وأحاطها بجدار قصير. وزاد عدد الذين يشهدون الحج في خلافة عثمان، فاحتذى مثل عمر وأضاف إلى الكعبة دورًا اشتراها، وأحاطها بجدار قصير لا يرتفع إلى قامة الرجل كما فعل عمر من قبل. هو إذن لم يصنع بمسجد مكة ما صنعه بمسجد المدينة؛ لأن مسجد مكة كان خالصًا للعبادة والصلاة؛ ولأن مسجد المدينة كان دار الحكم وكانت تقام فيه الصلاة.
لم يدفع عثمان إلى ما صنع من عمارة المسجد، وما أباح للمهاجرين من الانتشار في بلاد الإمبراطورية، وما كان من زيادة العطاء، تهالك على الدنيا أو حب لمظاهر السلطان. فقد كان الخليفة الشيخ من أتقى الناس ومن أكثرهم حياءً وأصدقهم إيمانًا، وكان يقول: «لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي علي يوم لا أنظر في المصحف.» لما تسور الثائرون بعثمان عليه داره ألفوه يقرأ القرآن، وما مات حتى خرق مصحفه من كثرة ما كان يديم النظر فيه. وقالت امرأته نائلة للذين أحاطوا به في داره يوم مقتله: «إن تقتلوه أو تدعوه، فقد كان يحيي الليل بركعة يجمع فيها القرآن.» وكان عثمان إذا قام في الليل للصلاة لا يوقظ أحدًا ليعينه على وضوء إلا أن يجده يقظان. فقيل له غير مرة: «لو أيقظت بعض الخدم؟» فكان يقول: «لا، الليل لهم يستريحون فيه.»
وما كان عليه عثمان من صدق الإيمان هو الذي أدى به إلى جمع الناس على قراءة واحدة للقرآن، وإلى إحراق ما سوى مصحف عثمان من المصاحف. فقد كان حذيفة بن اليمان يقاتل مع المسلمين في أرمينية وأذربيجان في السنة الثانية أو في السنة الثالثة من خلافة عثمان. وكان قد اجتمع في هذا القتال خلق من أهل الشام ممن يقرءون على قراءة المقداد بن الأسود، وأبي الدرداء، وجماعة من أهل العراق ممن يقرءون على قراءة ابن مسعود وأبي موسى الأشعري، وآخرون حديثو عهد بالإسلام كانوا يفضلون قراءة على قراءة، وبالغ كل فريق في تفضيل قراءتهم ودب الخلاف لذلك بينهم، وعظم اختلافهم وتشتتهم، حتى إن الرجل ليقول لصاحبه: إن قراءتي خير من قراءتك، وبلغ حدًّا كاد يكون فتنة. فقد اختلفوا وتنازعوا، وأظهر بعضهم إكفار بعض والبراءة منه وتلاعنوا ورأى حذيفة خلافهم وانتشار الكلام السيئ بينهم ففزع وفر راجعًا إلى المدينة، ودخل على عثمان قبل أن يدخل إلى بيته فقال له: أدرك هذه الأمة قبل أن تهلك! قال عثمان: في ماذا؟ قال حذيفة: في كتاب الله، إني حضرت هذه الغزوة وقد صحبت ناسًا من العراق والشام والحجاز. ثم وصف له ما تقدم من اختلافهم في القراءة وأردف: وإني أخشى عليهم أن يختلفوا في كتابهم كما اختلف اليهود والنصارى. ورأى عثمان الخطر، فجمع الناس يشاورهم في الأمر. فسألوه رأيه فقال: الرأي عندي أن يجتمع الناس على قراءة. فإنكم إذا اختلفتم اليوم كان من بعدكم أشد اختلافًا. وأقره أهل الرأي فبعث إلى حفصة يسألها أن ترسل إليه مصحف أبي بكر لنسخه في المصاحف. ذلك أن مصحف أبي بكر كان عند الصديق في حياته، ثم عند عمر بن الخطاب، ثم عند أم المؤمنين حفصة بنت عمر.
وأمر عثمان زيد بن ثابت الأنصاري أن يكتب المصحف، وأن يملي عليه سعيد بن العاص الأموي، بحضرة عبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، وأمرهم إذا اختلفوا في شيء أن يكتبوه بلغة مضر؛ لأن القرآن نزل على رجل من مضر. فلما أتموا كتابته على قراءة واحدة أمر عثمان فكتب لأهل الشام مصحفًا، ولأهل مصر مصحفًا، وبعت إلى البصرة مصحفًا، وإلى الكوفة مصحفًا، وأرسل إلى مكة مصحفًا وإلى اليمن مثله، وأقر بالمدينة مصحفًا. وهذه المصاحف اطمأنت لها الأمة ولا يزال الناس يسمونها المصاحف العثمانية؛ لأنها كتبت بأمر عثمان وإن لم تكتب بخطه.
ولما أرسلت هذه المصاحف إلى الأمصار وأوجب الخليفة القراءة بما فيها أمر أن يجمع ما سواها من المصاحف فجمع وأحرق. وقد أثار هذا الأمر من جانب عثمان ثائرة كثيرين، بينهم قوم من الصحابة والتابعين، وآخذوا عثمان بأنه صنع ما لم يصنعه أبو بكر وعمر. روي عن ابن مسعود أنه تعنت لما أخذ منه مصحفه فحرق، وتكلم في تقدم إسلامه على زيد بن ثابت، وأمر أصحابه أن يغُلُّوا مصاحفهم، وتلا قوله تعالى: وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فكتب إليه عثمان يدعوه إلى اتباع الصحابة فيما أجمعوا عليه من المصلحة في ذلك جمعًا للكلمة وحسمًا لكل شقاق.
ولا شبهة في أن ما صنعه عثمان من جمع الناس على قراءة واحدة قد كان الحكمة عين الحكمة؛ لأنه بصنيعه هذا قد أبقى للقرآن صفاءه كما أوحاه الله إلى رسوله ﷺ. وصحيح قول علي بن أبي طالب: «أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع بين اللوحين.» لكن عثمان لم يكن أقل من أبي بكر أجرًا لما صنع تلافيًا للاختلاف وحسمًا للخلاف. وليس ينقص من أجره أن اختلف الناس وإن لامه بعضهم لحرقه كل المصاحف إلا مصحفه. فلو أنه لم يفعل لبقي النزاع وما انحسم الشر.
سئل علي بن أبي طالب في إحراق المصاحف فقال: «لو لم يصنعه هو لصنعته.» وبالغ قوم مع ذلك في التثريب على عثمان لحرق المصاحف فوقف علي في الناس فقال: «أيها الناس، إياكم والغلو في عثمان تقولون: حرق المصاحف، والله ما حرقها إلا عن ملأ من أصحاب محمد ﷺ، ولو وليت مثل ما ولي لفعلت مثل ما فعل.»
كيف لام قوم عثمان لعمارته مسجد على نحو ما صنع وهو إنما فعل بعد مشاروته أولي الرأي من أصحاب رسول الله؟ وكيف لامه قوم على جمعه الناس على قراءة واحدة للقرآن وعلى حرقه المصاحف التي تخالف هذه القراءة، وهو لم يفعل ذلك إلا عن ملأ من أصحاب رسول الله؟ وما بال هؤلاء الناس لم يكونوا يلومون عمر بن الخطاب وقد كان يجتهد بالرأي في كثير من الشئون، وكان يخالفه في اجتهاده من يخالفه؟ أتراهم استلانوا عثمان فاستضعفوه فأنكروا عليه ما لم يكونوا ينكرون على عمر لبأسه وشدته؟! أم تراهم رأوا عمر يعيش عيشهم، قاسيًا بنفسه، ناسيًا إياهم، متجردًا لله، فلم يكن لأحد أن يؤاخذه بشيء إيمانًا بأنه يصنع ما يصنع عن بينة ويقين؟ ثم رأوا عثمان في خفض من العيش لا يستطيع أكثرهم أن يبلغه، فنفسوا عليه، فكان لومهم وتثريبهم مظهر هذه النفاسة؟! مهما يكن من شيء فإن التطور الذي حدث في بلاد العرب منذ عهد الرسول في الناحية الفكرية، وفي الناحية الاقتصادية كان عظيم الأثر في موقف هؤلاء الناس من عثمان. فقد انتقلت بلاد العرب في هذه الفترة القصيرة، التي لا تزيد على ثلاثين سنة، من دين إلى دين، ومن التبعية أو ما يشبهها للفرس أو الروم إلى التغلب على الفرس والروم، ومن حال اقتصادية أدنى إلى العسر إلى يسار ورخاء لم تعرف مثلهما من قبل. وقد كان رسول الله وكان أبو بكر وعمر يؤثرون أن يسير المسلمون سيرة الشظف؛ لأنهم كانوا يهيئون بمغانم الحرب لمتابعة الحرب. أما وقد زادت المغانم وزاد الخراج والجزية، على ما تقتضيه الحرب فقد تشعب الرأي. أيظل الناس على ما كانوا عليه من إعراض عن الدنيا؟ أم يأخذون من متاعها بالنصيب الذي يسره لهم ما أفاءه الله عليهم من أخلاف الرزق؟ كان أكثر الذين يؤثرون الشظف هم الذين آخذوا عثمان لعمارته المسجد عمارة خالف بها ما كان عليه لعهد النبي والخليفتين الأولين، ولعلهم كذلك هم الذين آخذوه بإحراق المصاحف. فالمعرضون عن الدنيا هم أشد الناس تشبثًا بحرية الرأي، وبالحرية الفردية. أما الذين رأوا في هذا التطور مدعاة لحياة جديدة غير التي كانوا عليها إلى أن انتهت خلافة الفاروق، فكان أكثرهم على رأي عثمان في عمارة المسجد وفي توحيد القراءة.
لم يكن للوم اللائمين أثر في السنوات الأولى من خلافة عثمان؛ لأن هذا التطور جعل ما صنعه الخليفة الشيخ أمرًا محتومًا لا مفر منه، وجعل اتجاهه الجديد في سياسة الحكم موضع الرضا من جانب الكثرة العظمى. فقد كان أهل الشام وأهل العراق من العرب ومن الفرس والروم يجيئون إلى المدينة على أنها عاصمتهم، وهم قد ألفوا أن يروا من جلال الملك في بلاد الروم وبلاد الفرس ما يجعلهم يصرفون أنظارهم عن دار للحكم اتخذ بناؤها من اللبن وعمدها من جذوع النخل، وسقفها من الجريد. فإذا وجب أن يبقى المسجد على بساطته، فلا بد أن يكون له من ظاهر الهيبة ما يجعل هؤلاء الأجانب عن شبه الجزيرة يعظمونه ولا تزور أبصارهم عنه.
ثم إن التطور ألقى على الخليفة عبئًا جديدًا نهض عمر بشيء منه، وكان لا بد لعثمان من أن يضاعف الجهد للنهوض به. ذلك تنظيم الحياة المدنية تمهيدًا للحضارة التي وضع القرآن أساسها. لقد كان معظم الجهد في عهد رسول الله وفي عهد أبي بكر مبذولًا لتوطيد الدعوة الدينية الجديدة وتثبيت قواعدها. فلما اتسعت رقعة الإمبراطورية لم يكن ثمة بد من التفكير في العمران ونشره ليعم الناس الرخاء؛ وليكون لهم من ارتفاع مستوى العيش ما يجعلهم يطمئنون للنظام الذي يسر له سعة الرزق؛ لهذا زاد عثمان عطاء الناس وأباح للمهاجرين ما كان مباحًا لغيرهم من التنقل في أنحاء الإمبراطورية والنيل من خيراتها. بذلك عم الرخاء العرب وآن لهم أن يفكروا في التمتع بما أبيح لهم التمتع به من طيبات ما رزقهم الله.