العزاء الأول: تفسير كوبنهاجن المتواضِع
صار ما ظل لعقودٍ الأسلوبَ القياسي للنظر إلى عالَم الكَم يُعرَف بتفسير كوبنهاجن؛ لأن نيلز بور الذي جعل يروِّج له ترويجًا، كان من الشخصيات المؤثِّرة التي كانت تقيم في تلك المدينة. وقد أثارت هذه التسمية (الذي أطلقها في الواقع فيرنر هايزنبرج على مجموع الأفكار التي تضمَّنها هذا التفسير) قدرًا كبيرًا من الضيق لماكس بورن، الذي لم يكن عضوًا في فريق بور، ولم يكن يعمل في كوبنهاجن، لكن كانت أفكاره عن الاحتمالية جزءًا لا يتجزأ من التفسير. فقد كان بور مسيطرًا تمامًا على أي نقاش عن فيزياء الكَم في نهاية عشرينيات القرن العشرين، حتى إنه علاوةً على أن جعل بلدته معروفة على هذا النحو، ظل ينتقد بشدة تفسيرًا بديلًا عمليًّا تمامًا لميكانيكا الكَم، حتى إنه ظل مغفلًا طيلة عقدَين. وسوف أقدِّمه بصفته العزاء الثاني.
كان بور في الأساس براجماتيَّ الطابع، يروق له تجميعُ أفكارٍ متفرقة من هنا وهناك معًا ليصنع منها مجموعةَ أفكار صالحة للتطبيق، دون أن يشغل باله كثيرًا بما تعنيه في مجملها. ونتيجةً لذلك لا توجد جملة مباشرة محدَّدة تفيد بما يعنيه تفسير كوبنهاجن، وإن كان بور قد اقترب من البوح به في محاضرة ألقاها في كومو، في إيطاليا، عام ١٩٢٧؛ أي قبل أن يكتسب التفسير اسمه بمدة طويلة. كان المؤتمر الذي أُلقيت فيه المحاضرة لحظةً فارقة في عالَم الفيزياء؛ إذ كانت إيذانًا ببدء مرحلة تزويد علماء الفيزياء بالأدوات التي سيحتاجون إليها لكي «يَلزموا الصمت ويؤدوا العمليات الحسابية»، مطبِّقين حلول ميكانيكا الكَم على مشكلاتٍ عملية تتعلَّق بالذرَّات والجزيئات (مثل الكيمياء والليزر والبيولوجيا الجزيئية) من دون الحاجة للتفكير في أساسياتِ ما تعنيه المسألة برُمَّتها.
وقد طال أسلوبُ بور البراجماتي تفسيرَه. فقد قال إننا لا نعلم شيئًا سوى نتائج التجارِب. وهذه النتائج تعتمد على ما صُمِّمت التجارب لقياسه؛ أي على الأسئلة التي نختار طرحها بشأن عالَم الكَم (بشأن الطبيعة). وهذه الأسئلة تتأثَّر بخبراتنا اليومية في الحياة، على نطاق أكبر بكثير من الذرات وغيرها من الكِيانات الكمية. لذا لنا أن نخمِّن أن الإلكترونات جُسيمات، ونُعِدَّ تجربة لاختبار ذلك بطريقة واضحة من خلال قياس كمية الحركة لأحد الإلكترونات، معتبرين الإلكترون كرة بلياردو صغيرة. وللغرابة أننا حين نحذو هذا الحذو، تقيس التجربة كمية حركة الإلكترون؛ وهو ما يؤكد اعتقادنا بأن الإلكترونات جسيمات. لكن لنا صديقة لديها رأيٌ مختلف. فهي ترى أن الإلكترونات موجات، وتصمِّم تجربة لقياس الطول الموجي للإلكترون. وللغرابة أن تجربتها تعطينا قياسًا للطول الموجي؛ وهو ما يؤكد اعتقادها بأن الإلكترونات موجات. لكن بور لا يرى مشكلة. فمجرد تصرُّف الإلكترونات «كأنها» جسيمات حين تكون بصدد البحث عن جسيمات، أو «كأنها» موجاتٌ حين تكون بصدد البحث عن موجات، لا يعني أنها أيٌّ منهما، فضلًا عن كليهما. فأنت تجِدُ ما تتوقعه، وما تتوقعه يتوقف على ما تختار البحث عنه. فلا جدوى، بحسب تفسير كوبنهاجن، من التساؤل عن ماهية كِيانات كمية مثل الإلكترونات والذرات، أو ما تفعله، حين لا يكون هناك مَن يقوم بقياسها، أو رصدها إذا شئت.
حتى الآن يبدو بور براجماتيًّا لأقصى الحدود، ولا يوجد ما يدعو للانزعاج الشديد. بيد أن بور ما لبث أن زاد الموقف تعقيدًا. وهنا يأتي دور الاحتمالية. حين توصَّل شرودنجر إلى معادلته الموجية، كان يراها وصفًا دقيقًا للإلكترون (أو كِيانًا كميًّا آخرَ؛ فالإلكترونات هي أبسط مثال يُستخدم للتوضيح). كان من وجهة نظره أن الإلكترون «كان» موجة. لكن بور أخذ فكرة شرودنجر وانطلق بها، دامجًا بينها وبين أفكار بورن عن دور الاحتمالية ليخرج بمزيج عجيب ومزعج، كان ناجعًا (وما زال)، فيما يتعلق بالحسابات الكمية، لكنه يسبِّب لك صداعًا حين تتوقف لتأمُّله. إن المعادلة التي يقدِّمها لنا شرودنجر، في هذه الصورة الجديدة، يُنظَر إليها باعتبارها «موجة احتمالية»، ويتحدَّد احتمال العثور على أي إلكترون عن طريق «مربع الدالة الموجية»، الذي يتم التوصُّل إليه بالأساس بضرب المعادلة التي تصف الموجة في نفسها، في أي مرحلة. حين نُجري قياسًا، أو نرصد كِيانًا كميًّا، «تنهار» الدالة الموجية عند نقطةٍ ما، تتحدَّد من خلال الاحتمالات. لكن رغم أن بعض المواضع أرجحُ من غيرها، فقد يظهر الإلكترون، نظريًّا، في أي مكان انتشرت فيه الدالة الموجية. وثَمَّة مثال بسيط جدًّا يُبرز غرابة هذا السلوك.
وفقًا لتفسير كوبنهاجن الذي تعلَّمته حين كنت طالبًا، والذي ما زال العديد من الطلاب يتلقَّونه في الوقت الحاضر، باعتباره السبيل إلى «فهم» ميكانيكا الكَم، يُطلَق إلكترونٌ من مصدرٍ ما — مدفع إلكتروني — في جانب من التجربة باعتباره جسيمًا. يتحلل الإلكترون في الحال متحولًا إلى «موجة احتمالية» تنتشر في أنحاء التجربة وتتجه نحو شاشة الكاشف على الجانب الآخر. تمرُّ هذه الموجة عبر الثقوب المفتوحة أيًّا كان عددها، متداخلةً مع نفسها أو غير متداخلة حسب الاقتضاء، ويصل إلى شاشة الكاشف في صورة نمط من الاحتمالات، يعلو في بعض الأماكن وينخفض في أخرى، تنتشر في أنحاء الشاشة. في تلك اللحظة، «تنهار» الموجة وتعود جسيمًا، يتم اختيار مكانه على الشاشة عشوائيًّا، لكن بما يتوافق مع الاحتمالات. ويُسمى هذا «انهيار الدالة الموجية». ينتقل الإلكترون كموجة لكنه يصل كجسيم.
بيْد أن الموجة تحمل أكثرَ من مجرد احتمالات. إذا كان للكِيان الكمي حالاتٌ عدة يمكن أن يكون فيها، مثل الإلكترون الذي قد يدور لأعلى أو يدور لأسفل، فالدالة الموجية تتضمن بطريقةٍ ما كلتا الحالتين، ويُسمَّى الموقف «تراكب الحالات»، وكذلك تتحدَّد الحالة التي يستقر عليها الكِيان عند مرحلة الكشف، أو التفاعل مع كِيان آخر، في لحظة انهيار الدالة الموجية. في محاضرة في جامعة سانت أندروز عام ١٩٥٥، قال فيرنر هايزنبرج إن «الانتقال من «الممكن» إلى «الفعلي» يحصل أثناء عملية الرصد.»
يصلح هذا كطريقة لحساب السلوك الكمي، كأن الأشياء التي من قبيل الإلكترونات كانت تتصرَّف هكذا بالفعل. لكنه كذلك يطرح العديد من الألغاز. ولعل أحد أكثر هذه الألغاز استغلاقًا تجربةٌ يُطلَق عليها «الاختيار المتأخر»، التي اختلقها عالِم الفيزياء جون ويلر. بدأ ويلر تجربته انطلاقًا من حقيقة أن الفوتونات عند إطلاقها، كلُّ واحدة على حدة خلال تجربة الثقبين، تُكوِّن نمطَ تداخُل على شاشة الكاشف. لكن حسب تفسير كوبنهاجن، إذا وضعنا جهازًا بين الثقبين وشاشة الكاشف لرصد الثقب الذي تمرُّ عبره الفوتونات، فسيختفي نمط التداخل؛ وهو ما يدل على أن كل فوتون قد مرَّ بالفعل عبر ثقب واحد فقط من الثقبين. يحدث «الاختيار المتأخر»؛ لأننا نستطيع أن نقرِّر إذا ما كنا سنراقب الفوتونات «بعد» مرورها من الحاجز ذي الثقبين أم لا. لا شك أن ردود الأفعال البشرية ليست سريعةً بما يكفي للقيام بذلك. ولكن أُجريت تجارب باستخدام أجهزة رصد أوتوماتيكية للقيام بذلك تحديدًا؛ إذ يتم تشغيل أجهزة الرصد أو إغلاقها بعد مرور الفوتونات من الثقبين. تبيِّن هذه التجارب أن نمط التداخل يختفي بالفعل عند رصد الفوتونات؛ وهو ما يعني أن كل فوتون (أو الموجة الاحتمالية) يمرُّ من خلال ثقب واحد فقط، وإن كان قرار رصد الفوتون قد حُسِم فقط بعد مرورها من الثقبين.
يقول تفسير كوبنهاجن، في الأصل، إن الكِيان الكمي لا تكون له خاصية معينة — أي خاصية — حتى يتم قياسه. وهو ما يثير شتَّى التساؤلات حول مقوِّمات القياس. هل يجب أن يكون لذكاء البشر دخلٌ في ذلك؟ هل يكون القمر في مكانه حين لا ينظر إليه أحد؟ هل يوجد الكون فقط لأن البشر لديهم الذكاء الكافي لملاحظته؟ أو هل التفاعل بين كِيان كمي وجهاز كاشف يُعَد قياسًا؟ أو أين بين هذين الطرفين تجد الحدَّ الفاصل بين عالَم الكَم وعالَم فيزياء نيوتن القديمة السلسة «الكلاسيكي»؟ كان هذا النوع من التساؤلات هو ما حدا بشرودنجر للتوصل إلى لُغزه الشهير حول القطة الحبيسة في حجرة (وقد استخدم الكلمة الألمانية ﻟ «حجرة»، وليس كلمة «صندوق») مع جهاز مرعب مهيَّأ لقتل القطة، لكنها في حالتَي تراكب بنسبة متساوية. على سبيل تحديث مثاله، تخيَّل كاشفًا في حجرةٍ يقيس دوران الإلكترون. إذا كان لأعلى، دار الجهاز وماتت القطة. وإن كان لأسفل، كانت القطة في مأمن. فالإلكترون يكون في حالةِ تراكب قبل رصده. لكن لا يوجد أحد في الحجرة ليرى ما يحدث عند دوران الكاشف. هل تنهار الدالة الموجية أم لا؟ هل تكون القطة هي الأخرى في حالة من التراكب، ميتة وحية في آنٍ واحد، حتى يفتح أحد الأشخاص باب الحجرة ليُلقي نظرة؟
ما البديل إذَن؟ البدائل عديدة، وإن كنت قد تراها مثيرةً للضحك تمامًا مثل تفسير كوبنهاجن، وأولها ذلك الذي شرع يظهر في نفس توقيت ظهور تفسير كوبنهاجن، وكاد بور أن يقضي عليه في مهده، ولكن كُتب له البقاء.