العزاء الثالث: الأحمال الزائدة: تفسير العوالم المتعدِّدة
إذا كنتَ قد سمعتَ عن تفسير العوالم المتعدِّدة، فمن المرجَّح أنك تعتقد أن الأمريكي هيو إفريت هو مَن ابتكره في منتصف خمسينيات القرن العشرين. وهذا صحيح إلى حدٍّ ما. فقد جاء بالفكرة وحدَه تمامًا. لكنه لم يكن يدري أن الفكرة نفسَها في مجملها كانت قد خطرت لإرفين شرودنجر قبله بخمس سنوات. يغلِب على صيغة إفريت الطابع الرياضي، فيما يغلِب على صيغة شرودنجر طابعٌ فلسفي، لكن بيت القصيد أن كليهما كان مدفوعًا برغبة في التخلص من فكرة «انهيار الدالة الموجية»، وأفلح كلاهما.
كما اعتاد شرودنجر أن يشير لأي شخص مستعد للإنصات، لم يَرِد في المعادلات (بما في ذلك معادلته الموجية الشهيرة) أيُّ شيء بشأن الانهيار. كان ذلك شيئًا أضافه بور إلى النظرية الأصلية حتى «يفسِّر» السبب وراء رؤية نتيجة واحدة فقط للتجربة — قطة ميتة أو قطة حية — وليس خليطًا، أو تراكبًا للحالتين. لكن «تبيُّن» نتيجة واحدة فقط — حل واحد للدالة الموجية — لا يعني بالضرورة أن الحلول البديلة ليس لها وجود. ففي بحثٍ نشره عام ١٩٥٢، أشار شرودنجر إلى سذاجة توقُّع انهيار تراكب كمي لمجرَّد أننا نظرنا إليه. فكتب يقول إن «من العبث البيِّن» أن تخضع الدالة الموجية «للسيطرة بطريقتين مختلفتين كليةً، بالمعادلة الموجية أحيانًا، وبالتدخُّل المباشر للمراقب أحيانًا أخرى، ولا يخضع لسيطرة المعادلة الموجية».
تكاد كل نتيجة يعلن عنها [المُنظِّر الكمي] أن تكون عن احتمال … حدوث هذا أو ذاك، مع وجود العديد من البدائل في الغالب. وفكرة أنها قد لا تكون بدائل وإنما تحدث كلها في آنٍ واحد في الواقع تبدو له ضربًا من الجنون؛ لكونها مستحيلة تمامًا. فهو يعتقد أنه إذا اتخذت قوانين الطبيعة هذا الشكل لمدة ربع ساعة، مثلًا، فسنجد محيطنا يتحوَّل سريعًا إلى مستنقَع، أو نوع من الهلام أو البلازما بلا ملامح، وقد راحت معالمه تُطمس، وقد نصبح نحن أنفسنا قناديل بحر. ومن الغريب أن يعتقد ذلك. فأنا أدرك أنه يُقرُّ بأن الطبيعة غيرَ المرصودة تتصرف على هذا النحو بالفعل؛ أي وفقًا للمعادلة الموجية. ولا يبدأ دور البدائل المذكورة آنفًا إلا حين نقوم برصدٍ ما، وليس بالضرورة أن يكون رصدًا علميًّا بالطبع. لكن يبدو، بحسب المُنظِّر الكمي، أن لا شيء لا يمنع الطبيعة من التحوُّل سريعًا إلى هلامٍ سوى إدراكنا أو رصدِنا له … وهو استنتاجٌ غريب.
في الواقع، لم يستجِب أحدٌ لفكرة شرودنجر. فقد قُوبلت بالتجاهل وباتت في طي النسيان، واعتُبرت مستحيلة. لذا وضع إفريت صيغته الخاصة لتفسير العوالم المتعددة بمعزلٍ تامٍّ عنها، وكادت تلقى التجاهل التام ذاته. لكن كان إفريت هو مَن قدَّم فكرة «انقسام» الكون إلى نسخٍ مختلفة من نفسه عند مواجهة اختيارات كمية؛ مما زاد الأمور تعقيدًا طيلة عقود.
توصَّل إفريت إلى هذه الفكرة في عام ١٩٥٥، حين كان طالبَ دكتوراه في جامعة برينستون. في النسخة الأصلية لفكرته، التي وضعها في مسودة لرسالة الدكتوراه لم تُنشر آنذاك، قارن الموقف بأميبا تنقسم إلى خليتين وليدتين. لو كان لخليتَي الأميبا دماغ، لاحتفظت كل خلية وليدة بسجل طِبق الأصل لتاريخها حتى مرحلة الانقسام، ثم تكوِّن ذكرياتها الخاصة. في تشبيه القطة الشائع، يظل لدينا كونٌ واحد، وقطة واحدة، قبل أن يدور الجهاز الخبيث، فيصير لدينا حينها كونان، في كلٍّ منه قطة، وهكذا. وقد شجَّعه جون ويلر، الذي كان مُشرِفًا على رسالته للدكتوراه، على وضع وصفٍ رياضي لفكرته من أجل الرسالة، ومن أجل بحثٍ نُشِر في دورية «ريفيوز أوف مودرن فيزيكس» في عام ١٩٥٧، لكن أُغفلت مقارنة الأميبا وسط الأحداث، ولم تظهر نشرًا إلا فيما بعد. غير أن إفريت أشار بالفعل إلى أنه نظرًا لعدم وجود المراقب الذي من شأنه أن يدرك وجود العوالم الأخرى قط، فإن الادعاء بأنها لا يمكن أن تكون موجودة لأننا لا نستطيع أن نراها ليس أصحَّ من الادعاء بأن الأرض لا تدور حول الشمس لأننا لا نستطيع الشعور بحركة دورانها.
جاءت الصيغة الدقيقة لتفسير العوالم المتعددة من ديفيد دويتش، بجامعة أكسفورد، والواقع أنها قد وضعت صيغة شرودنجر على أساسٍ راسخ ومتين، وإن كان دويتش لم يكن على دراية بصيغة شرودنجر حين وضع تفسيره. عمل دويتش مع ديويت خلال سبعينيات القرن العشرين، وفي عام ١٩٧٧ التقى بإفريت في مؤتمر نظَّمه ديويت، وكانت المرة الوحيدة التي قدَّم فيها إفريت أفكاره أمام جمهور عريض. ولقناعة دويتش بأن تفسير العوالم المتعددة هو السبيل الصحيح لفهْم عالم الكم، صار رائدًا في مجال الحوسبة الكمية، ليس من خلال أيِّ اهتمام بالكمبيوتر في حد ذاته، وإنما لإيمانه بأن وجود كمبيوتر كمي فعَّال من شأنه أن يُثبت واقعيةَ تفسير العوالم المتعددة.
يذهب دويتش إلى أنه حين يُضطر كونان، أو أكثر، كانا متطابقين فيما سبق لأن يصبحا مستقلَّين من خلال عمليات كمية، كما في تجربة الثقبين، يحدث تداخلٌ مؤقَّت بين الأكوان، ينحسر مع تطوُّرها. وهذا التفاعل هو ما يؤدي إلى النتائج المرصودة لتلك التجارب. ولديه حُلم بأن يشهد اختراع جهاز كمي ذكي — كمبيوتر — يرصد ظاهرةً كمية تتضمَّن حدوث تداخُل بداخل «رأسه». يزعم دويتش، مستخدمًا حجةً حاذقة نوعًا ما، أن الكمبيوتر الكمي الذكي سيكون قادرًا على تذكُّر تجربة الوجود مؤقتًا في عوالمَ متوازية. لعلها تجربةٌ أبعدُ ما تكون عن العملية. لكن لدى دويتش كذلك «دليل» أبسط كثيرًا على وجود الأكوان المتعددة.
وبسبب هذه الخاصية الكمية، يساوي كل كيوبت اثنين من البتات. لا يبدو الأمر باهرًا من أول وهلة، لكنه كذلك. فإذا كان لديك مثلًا ثلاثة كيوبتات، فمن الممكن ترتيبها بثماني طرُق: ٠٠٠، ٠٠١، ٠١٠، ٠١١، ١٠٠، ١٠١، ١١٠، ١١١. فالتراكب يسعُ كلَّ هذه الاحتمالات. من ثَم لا تساوي الكيوبتات الثلاثة ستة بتات (٢ × ٣)، وإنما ثمانية بتات (٢ مرفوعة للقوة ٣). فدائمًا ما يساوي عدد البتات ٢ مرفوعة إلى قوة عدد الكيوبتات. فعشرة كيوبتات تساوي ٢١٠ بتات؛ أي ١٠٢٤، لكنها غالبًا ما يُشار إليها بكيلوبيت. سريعًا ما تتطور مثل تلك الأسيات. يعادل جهاز الكمبيوتر الذي يحتوي على ٣٠٠ كيوبت فقط الكمبيوترَ العادي الذي لديه من البتات أكثرُ مما في الكون المرئي من ذرات. فكيف يُجري مثل ذلك الكمبيوتر العمليات الحسابية؟ صار السؤال أكثرَ إلحاحًا نظرًا لإنشاء أجهزة كمبيوتر كمية بسيطة بالفعل، تضم القليل من الكيوبتات، وأثبتت الكفاءة المتوقَّعة في العمل. فهي حقًّا أقوى من أجهزة الكمبيوتر العادية التي تحتوي على نفس عدد البتات.
يُجيب دويتش على السؤال بأن العملية الحسابية تجري في نفس الوقت على أجهزة كمبيوتر متطابقة في كلٍّ من الأكوان المتوازية المناظرة للحالات المتراكبة. فبالنسبة إلى كمبيوتر ذي ثلاثة كيوبتات، يوجد ثماني حالات تراكب لعلماء كمبيوتر يعملون على المسألة نفسها باستخدام أجهزة كمبيوتر متطابقة للوصول إلى حل. ولا غرابة في أن «يتعاونوا» على هذا النحو، ما دام المجرِّبون متطابقين، ولديهم أسباب متطابقة لحل نفس المسألة. ليس من الصعب تخيُّل ذلك. لكننا حين ننشئ جهازًا من ٣٠٠ كيوبت — وهو ما سيحدث يقينًا — سوف نشارك في «تعاون» بين أكوان يفوق عددها عددَ الذرات في كوننا المرئي، هذا إذا كان دويتش على حق. إنها مسألةُ اختيار ما بين الاعتقاد بأن ذلك عبء ميتافيزيقي ثقيل جدًّا أم لا. لكن إذا كنت تظن ذلك، فسوف تحتاج إلى طريقةٍ أخرى لشرح سبب كفاءة الكمبيوتر الكمي.
يفضِّل أغلب علماء الكمبيوتر الكمي ألا يفكِّروا في هذه التبعات. لكن ثَمَّة مجموعة من العلماء اعتادوا التفكير حتى في أكثرَ من ستة أشياء مستحيلة قبل الفطور، وهم علماء الكونيات. فبعضهم تبنَّى تفسير العوالم المتعددة باعتباره أفضلَ طريقة لتفسير وجود الكون نفسه.
والنقطة التي ينطلقون منها هو ما أشار إليه شرودنجر بشأن عدم وجود شيء في المعادلات يشير إلى انهيار للدالة الموجية. وهم يعنون الدالة الموجية، واحدة فقط، التي تصف العالم بأسْره باعتباره حالات متراكبة؛ أي كونًا متعددًا مكوَّنًا من تراكب للأكوان.
بما أنه قد ثبتت صحَّة وصف دالة الحالة عامةً، فلنا أن نعتبر دوال الحالات أنفسها باعتبارها الكِيانات الأساسية، بل يمكن أن ندرُس دالة حالة الكون بأسْره. ويمكن من هذا المنطلَق أن تُسمَّى هذه النظرية نظرية «الدالة الموجية الكونية»؛ إذ يُعتقد أن الفيزياء كلَّها مترتِّبة على هذه الدالة وحدها.
… حيث يُقصد ﺑ «دالة الحالة» في هذا السياق «دالة موجية». ويُقصد ﺑ «الفيزياء كلها» كل شيء، بما في ذلك نحن؛ «المراقبون» بلغة الفيزياء. وهذا مما يُلهِب حماسة علماء الكونيات؛ ليس لأنهم مشمولون في الدالة الموجية، وإنما لأن فكرة دالة موجية واحدة غير منهارة هي الطريقة الوحيدة لوصف الكون بأكمله في إطار ميكانيكا الكَم مع بقاء الوصف منسجِمًا مع النظرية العامة للنسبية. في النسخة القصيرة من أطروحته المنشورة عام ١٩٥٧، خلَص إفريت إلى أن صياغته لميكانيكا الكَم «بناءً على ذلك قد تثبت أنها إطار مثمِر لتكمية النسبية العامة». ورغم أن ذلك الحُلم لم يتحقَّق بعدُ، فقد شجَّع علماء الكونيات على إنجازِ قدرٍ كبير من الأعمال والأبحاث منذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين، منذ بدأ ولعُهم بالفكرة. لكنها حقًّا تجلب معها أعباءً جمَّة.
تصف الدالة الموجية الكونية موقعَ كل جسيم في الكون في لحظة محدَّدة من الزمن. لكنها تصف كذلك كلَّ موقع ممكن لتلك الجسيمات في تلك اللحظة. وتصف كذلك كل موقع محتمل لكل جسيم في أي لحظة أخرى من الزمن، وإن كان عدد الاحتمالات مرهونًا بالتحبُّب الكَمِّي للمكان والزمان. وسيكون بين هذا الكَم من الأكوان المحتملة نُسخٌ عديدة لا يمكن أن تُوجَد بها نجوم وكواكب مستقرة، ولا بشر يعيشون على تلك الكواكب. لكن سيكون هناك على الأقل بعض الأكوان مشابهة لكوننا، شبهًا دقيقًا بدرجة أو أخرى، على النحو الذي كثيرًا ما تصوِّره قصص الخيال العلمي. أو غيره من الأدب في الواقع. فقد أشار دويتش إلى أنه وفقًا لتفسير العوالم المتعددة، أي عالم يُوصف في عملٍ أدبي يكون موجودًا حقًّا في مكانٍ ما في الكون المتعدد، شريطة أن يكون خاضعًا لقوانين الفيزياء. فعلى سبيل المثال، هناك بالفعل عالَم «مرتفعات وذرينج» (لكن لا يوجد عالَم «هاري بوتر»).
لا ينتهي الأمر عند هذا الحد. فالدالة الموجية الواحدة تصف كلَّ الأكوان المحتملة في جميع الأوقات الممكنة. لكنها لا تقول شيئًا عن التغير من حالة لأخرى. فالزمن لا يتدفَّق. وعلى سبيل البقاء قرب الأرض، يضم معامل إفريت، المسمَّى متَّجه الحالة، وصفًا لعالمٍ نوجَد فيه وتوجَد كذلك كل سجلات تاريخ ذلك العالم، ابتداءً من ذكرياتنا، مرورًا بالأحفوريات، وصولًا للضوء الذي يصلنا من المجرات البعيدة. سيكون هناك أيضًا كون آخر مثله تمامًا، عدا أن «خطوته الزمنية» تسبقنا، لنقُلْ بثانية (أو ساعة، أو عام). لكن لا يوجد إيحاء بانتقال أي كون من خطوة زمنية لأخرى. سيكون هناك نسخة مني في هذا الكون الثاني، تصفه دالة موجية كونية، لديه كل الذكريات التي لديَّ في اللحظة الأولى، علاوةً على تلك الذكريات المواكبة للحظة التي بعدها (أو الساعة أو العام أو أي مدة زمنية كانت). لكن من المستحيل القول إن هذه النُّسخ مني هي نفس الشخص. يمكن ترتيب الحالات الزمنية المختلفة وفقًا للأحداث التي تصفها، لتحديد الفارق بين الماضي والمستقبل، لكنها لا تتغيَّر من حالة إلى أخرى. كل الحالات تُوجَد فحسب. فالزمن، بالطريقة التي اعتدنا أن نراه بها، لا «يتدفَّق» في تفسير إفريت للعوالم المتعددة.
أما ما أراه أنا، فهو أن الوقت قد حان للتغيير. وقت البحث عن نوعٍ آخر من العزاء، هذه المرة في إزالة الترابط.