العزاء الرابع: تفسير إزالة الترابط غير المترابط
لكي يحدث إزالة ترابط، لا بد أن يكون لدينا شيء مترابط في الأساس. لدى الفيزيائيين فهمٌ واضح لما يقصدونه بالترابط، ويجادل أنصار تفسير إزالة الترابط بأن الترابط، في واقع الأمر، هو ما يجعل عالَم الكَم يسلك سلوكه.
كالعادة توضِّح تجربة الثقبَين ما يحدث. لقد جاءت موجات الضوء (أو أيًّا كانت طبيعتها) التي تنتشر من الثقبين في الأصل من مصدر واحد؛ ولذلك فهي مُتماشية إحداهما مع الأخرى. فالثقبان، ببساطة، يُرسلان الموجات المترابطة عبر مسارات مختلفة، وتؤثِّر الاختلافات في أطوال تلك المسارات في الطريقة التي تتفاعل بها مجموعتا الموجات إحداهما مع الأخرى؛ إذ تنسجم في موضع، وتتنافر في آخر. ويوجد نمطٌ منتظم في قمم الموجات وقيعانها، وهو ما يُمكِّنها من التداخل بعضها مع بعض بحيث تخلق نمطًا منتظمًا من الضوء والظل. إذا لم يكن هناك ترابط بين الموجات، كما هو الحال مع الضوء المنبعِث من مصباحَين، الذي يسقط مباشرةً على جدار، لا يكون هناك نمط تداخل؛ يوجد تداخل، لكن كل الأشياء مختلطة تمامًا لدرجةِ عدم وجود نمط معين. ووفقًا لتفسير إزالة الترابط، تختفي «الكمية» حين تختلط الأشياء. لكن الضوء الصادر من المصباحين لم يكن مترابطًا من الأساس. فقد كان غير مترابط. ولدينا تشبيه آخرُ مواتٍ، وهو «الموجة المكسيكية» التي تراها أحيانًا في الساحات الرياضية. إذا رفع كلُّ مَن في الساحة ذراعَيه عشوائيًّا، فلن ترى سوى أيادٍ مختلطة تلوِّح في عشوائية. لكن إذا رفع كل شخص ذراعَيه وأنزلهما في الوقت المناسب، مقلدًا مَن يجاورونه، فسترى موجة تنساب عبر أنحاء الاستاد. الموجة مترابطة، أما التلويح العشوائي فليس مترابطًا. لذلك فإن مصطلح «إزالة الترابط» ليس مناسبًا كثيرًا في السياق الكمي. قد يكون من المنطقي أكثرَ أن نسمِّي هذا النموذج التفسير غير المترابط لميكانيكا الكَم، لكن ربما يشعر أنصاره المتحمِّسون له أنه سيُعطي انطباعًا خاطئًا عن فكرتهم المفضَّلة!
إذا كان أولئك الأنصار على حق، فالحد الفاصل بين الكمية والعالَم المألوف يتوقَّف على الترابط وليس على الحجم. كان بور وزملاؤه يعمدون حتمًا إلى الإبهام في هذا الصدد. فقد استطاعوا أن يجادلوا، جدلًا منطقيًّا تمامًا، بأن جسمًا في حجم القطة وتعقيدها أكبر من أن يكون في حالة تراكب كمي، وإن كانت الذرات المفردة من الممكن أن تكون في تراكب. لكن إذا كان لنا أن نتخيَّل أشكالًا مختلفة للقطة في تجربة الصندوق الافتراضية، فأين لنا أن نتوقف؟ هل البرغوث كبير بما يكفي لنعرف ما إن كان حيًّا أم ميتًا، أو في حالة تراكب؟ ماذا عن الميكروب؟ لم يعلم أحد.
ظلَّت هذه الأبحاث تتطور تطورًا هائلًا منذ بدايتها، وفي الأثناء حصل ليجت على جائزة نوبل ولقب فارس؛ ومع تكبير حجم أجهزة السكويد، صار لها تطبيقات عملية في الطب؛ حيث تُستخدم ككواشف حسَّاسة للمجالات المغناطيسية الناتجة عن الجسد البشري، ويُتوقَّع أن تصير من مكونات أجهزة الكمبيوتر الكمية. لكن ما يعنينا الآن أنها تسلك سلوك مثال ماكروسكوبي يمرُّ بحالات كمية مختلفة حين تكون الموجات مترابطة، ولكنها تتوقَّف عن إظهار الكمية حين تسخن وتتفكك الموجات. وبلغة بور، يبدو أن إزالة الترابط يؤدي إلى «انهيار الدالة الموجية». يرى البعض أن هذا يعني ببساطةٍ أن تفسير إزالة الترابط ليس سوى تفسير كوبنهاجن ولكن باسمٍ آخر. لكن هذا الاعتقاد يُغفِل الدور المحوري للتراكب والتشابك في تفسير إزالة الترابط الدقيق.
إن التراكب والتشابك وجهان لعملة واحدة. فحين يتفاعل «جسيمان» معًا يصيران متشابكين، ويتأثر كلٌّ منهما بما يحدث للآخر من بعد حدوثه وإلى الأبد. فقد صارا في الواقع كِيانًا واحدًا. بالمثل، يمكن اعتبار الموجة التي تدور في الاتجاهين في نفس اللحظة في حلقة السكويد موجتين في حالة تراكب؛ أي متشابكتين معًا. والنتيجة كِيان كمي واحد، موجة لا تسلك اتجاهًا واحدًا وإنما اتجاهين. ولا عجب في أن تفسير إزالة الترابط لم يظهر إلا في نفس توقيت التجارب التي أُجريَت في ثمانينيات القرن العشرين التي أثبتت أن التشابك وصفٌ صحيح للآلية التي يسير بها العالم.
إذَن ما الذي يحدث فعلًا حين يتفاعل كِيان كمي «بحت» مع العالَم الخارجي و«يصير غير مترابط»؟ لا يصير «أقل» تشابكًا، بل «أكثر» تشابكًا. تخيَّل جسيمًا وحيدًا في حالة كمية بحتة. إن هذا الجسيم يصير متشابكًا بمجرد أن يصطدم بجسيم آخر (أو إذا تفاعل حتى مع فوتون من فوتونات الضوء). وإذا تفاعَل أيٌّ من الكِيانين المتشابكين مع كِيان ثالث، يصير الثلاثة متشابكين، وحالاتهم الكمية في تراكب. فالتشابك أسرعُ من النار في الهشيم كما يقول المثل، حتى إنه لا يوجد عمليًّا ما يسمَّى بنظام كمي «بحت» بمعزل عن العالم الخارجي (إلا في ظروف خاصة جدًّا مثل تجارب السكويد)، وإنما يوجد نظام متشابك مكوَّن من كليهما؛ تراكب لكل شيء تفاعل مع الجسيم الأصلي وكل شيء تفاعل معه على الإطلاق، وكل شيء تفاعل معه ذلك الكل شيء يومًا أو حتى احتكَّ به في وقتٍ من الأوقات. إن «إزالة الترابط» في حقيقة الأمر تنطوي على الربط بين كل شيء في العالم بأسره — الكون — في نظام كمي واحد. فلا نجد بعد ذلك حالةً كمية للجسيم الذي كان معزولًا فيما مضى؛ لأنه امتزج مع كل شيء آخر. وانعدام الترابط الناتج يجعل الكشف عن الحالة الكمية الكامنة لأي شيء غايةً في الصعوبة ما عدا أبسط الأنظمة. سيخبرك علماء الرياضيات أن ذلك قد يكون ممكنًا نظريًّا؛ إذ إن المعادلات التي تصف عالم الكَمِّ قابلة للعكس زمنيًّا. لكن لا تتوقَّع أن يتولى أحدٌ مهمة إجراء التجربة العملية.
من شأن ذلك أن يُسحب البساط أيضًا من تحت أحد الاعتراضات الفلسفية على تفسير كوبنهاجن. يقول تفسير كوبنهاجن، في ظاهره، إنه «لا شيء يكون حقيقيًّا» إلا عند رصده أو قياسه. يمكن لأشياء مثل القطط التي في الصناديق أن توجد في حالات من التراكب. من ثَم يتساءل المعارضون للفكرة: هل يظل القمر موجودًا حين لا ينظر إليه أحد، أم يكون في تراكب من كل الحالات الكمية الممكنة؟ وبهذا المنطق، هل كان موجودًا قبل أن تكون هناك حياة على الأرض؟ لم يكن لدى بور جواب شافٍ لذلك. لكن تفسير إزالة الترابط لديه الجواب؛ إذ إن فوتونات إشعاع الخلفية الكوني الميكروي، فضلًا عن فوتونات أشعة الشمس، كافية تمامًا لإحداث إزالة الترابط وجعل القمر «حقيقيًّا».
لكن ليست هذه هي نهاية قصة إزالة الترابط. فبدلًا من تطبيق الفكرة على المكان والزمان الحاليَّين (أيًّا كان ما يعنيه «المكان والزمان» في كونٍ متشابك)، طبَّق بعض الناس طريقة التفكير هذه على تاريخ — أو تواريخ — الكون بالكامل. فما كان تفسيرًا قائمًا بذاته، «تفسير التواريخ المتَّسِقة»، صار الآن «تفسير التواريخ غير المترابطة». لكنني سأبدأ بالجزء الخاص ﺑ «الاتساق» من القصة.
يذكِّرنا هذا بفكرة أننا لا نعلم عن عالَم الكَم (أو العالَم عامةً) إلا الأشياء التي نستطيع رؤيتها وقياسها. قبل إجراء تجربة أو قياسٍ ما، نستطيع فقط أن نقدِّر احتمالات النتائج المختلفة المتوقعة للتجربة. لكن بمجرد أن نُجري عملية القياس، يصير لدينا نتيجة محدَّدة، منتقاة بطريقةٍ ما من مجموعة الاحتمالات. وتقوم حجة نهج التواريخ المتسقة على فكرة أن نتيجة ذلك القياس — لأي شيء كان يحدث في العالم — لا بد أن تكون متسقة مع الماضي، أي مع التاريخ، أيًّا كانت تلك النتيجة. لذلك حين نتأمل نمط التداخل الناتج في تجربة الثقبين، لا يسعنا سوى أن نقول إن النمط «متسق مع» مرور الموجات من الثقبين وتداخلها معًا. وحين ينفصل إلكترون عن سطح معدني بفعل الضوء، لا يسعنا سوى أن نقول إن هذا «يتسق مع» وصول الضوء في شكل فوتون.
نُوقشت التبعات الكونية لكل هذا نقاشاتٍ موسَّعة، كان أبرزها مناقشات ستيفن هوكينج وزملائه. وصف هوكينج الطريقة التقليدية لمحاولة فَهْم أصل الكون من المنظور الكمي بأنها نهج «تصاعدي». فتبدأ بتخمين الشكل الذي ربما كان الكون يبدو عليه في البداية، وتحاول أن تتبيَّن كيف تحوَّل من تلك الحالة إلى الحالة التي نراه عليها اليوم. وقد فضَّل هو النهج «التنازلي» البديل، حيث تبدأ من الحاضر متجهًا للماضي، بأسلوب متسق، لتحديد الدالات الموجية التي أسهمت في نشأته.
المشكلة أنه قد يكون (بل غالبًا سيكون) هناك أكثر من طريقة مختلفة للوصول للنتيجة التي نراها؛ أي أكثر من تاريخ واحد متسق. فهذا النهج لا يكشف عن «تاريخ للكون» وحيد من نوعه. في صيغة الإلكترونات لتجربة الشق المزدوج، حين يصل الإلكترون إلى بقعة معينة على شاشة الكاشف، لا توجد طريقة نعرف من خلالها أيُّ الثقبين مرَّ من خلاله. فكلا التاريخين متسق مع ما نرصده. والعالم بصفة عامة أكثر تعقيدًا بكثير من تجربة الثقبين؛ إذ يتيح قاعدة احتمالات أوسع كثيرًا للتواريخ المتسقة. سوف أعود لتلك النقطة. لكن لنتساءل أولًا، أين يأتي دور إزالة الترابط في القصة؟
إذا كان كل «قياس» — كل تفاعل كمي — يختار من مجموعة من التواريخ المحتملة، فلنا أن نتخيَّل أننا نعود إلى الماضي، وصولًا إلى الانفجار العظيم (وربما قبل ذلك، لكنني لن أخوض في ذلك هنا)، وفي الأثناء تقوم إزالة الترابط (فذلك هو محور الأمر) بغربلة الصيغ المتسقة من التاريخ. في البداية يكون أي شيء ممكنًا. لكن بمجرد حدوث أي تفاعل كمي، تُستبعد بعض الاحتمالات، وتتقلص مجموعة الأكوان المختلفة. أي إن نطاق الأكوان «القديمة» المتسقة يقل. ويستمر هذا وصولًا إلى الحاضر، لاختيار تاريخ كوننا (لكن الأهم أن الاختيار لا يقتصر على كوننا فقط) من مجموعة كبيرة من الاحتمالات. فنهج التواريخ غير المترابطة لا يختار كونًا فريدًا. وبذلك نعود إلى شكل من أشكال فكرة العوالم المتعدِّدة، لكننا نبلغه بطريق مختلف.
بينما قد يكون العالم «التقليدي» الذي نرصده، حيث للجسيمات مواقعُ محدَّدة، أحد العوالم المتسقة التي وصفها أحد الحلول التي طرحتها النظرية، فإن نتائج دوكر و[أدريان] كِنت أوضحت أنه لا بد أنه كان هناك أيضًا عددٌ لا نهائي من العوالم الأخرى. كان هناك، علاوةً على ذلك، عددٌ لا نهائي من العوالم المتسقة التي ظلَّت تقليدية حتى هذه اللحظة، لكنها لن تماثل عالمنا في أي شيء خلال خمس دقائق. ومما يثير الحيرةَ أكثرَ أنه كان هناك عوالم كانت تقليدية حتى هذه اللحظة، لكنها كانت حالات متراكبة مختلطة عشوائيًّا من [عوالم] تقليدية في أي مرحلة في الماضي … وإن كان تفسير التواريخ المتسقة صحيحًا، فليس لدينا الحق في الاستدلال من الأحفوريات الموجودة حاليًّا على أن الديناصورات كانت تجول الكوكب قبل مائة مليون عام.
كل التواريخ واقعية بالقَدْر نفسه، وما نعتبره «تاريخ» عالمنا يتوقَّف على الأسئلة التي نطرحها عن العالم. وعلى غرار ما يحدث حين نُجري تجارب على الإلكترونات، إذا بحثنا عن موجات، حصلنا على موجات، لكن إذا بحثنا عن جسيمات، حصلنا على جسيمات، وإذا بحثنا عن دليل على وجود الديناصورات في الماضي، وجدنا حينئذٍ تاريخًا متسقًا مع وجود الديناصورات في الماضي. لا يعني هذا بالضرورة أنه «كان بالفعل هناك» ديناصورات في الماضي، بل يعني فقط أن حالة العالم اليوم متسقة مع احتمال وجود ديناصورات في الماضي. وعلى حد تعبير سمولين، لدينا «نظرية نستطيع بها صياغة الإجابات، وليس الأسئلة».
لا تبدو الأشياء كلها واحدة لكل الناس، لكنك قد ترى أن تفسير إزالة الترابط إما نسخة أخرى من تفسير كوبنهاجن، أو نسخة من تفسير عوالم متعددة، حسب هواك. لكن لا تقلق إن لم يَرُق لك أيٌّ منها. فربما تجد العزاء في تفسير المجموعة.