العزاء الخامس: لا تفسير المجموعة
يوضِّح ليزلي بالينتاين، أحد أوائل المؤيدين المعاصرين للفكرة، والذي يعمل في جامعة سايمون فريزر في كندا، أن «نقد أينشتاين للتفسير الذي تقبَّله العديد من الفيزيائيين، حتى وإن لم يبوحوا بذلك، تمثَّل في أن دالة الحالة الكمية [الموجة] لا تقدِّم وصفًا لنظامٍ منفرد بل لمجموعة من أنظمة متشابهة». لكن هذا «التفسير» في الحقيقة لا يفسِّر أيَّ شيء على الإطلاق. فهو ينص ببساطة على أن كلَّ ما يبدو غريبًا بشأن عالَم الكَم يمكن تفسيره في إطار الإحصائيات (لذا يُعرف أحيانًا بالتفسير الإحصائي). إنه أشبه بالشرطي في مسرح الجريمة الذي يأمر حشود المتفرجين قائلًا: «لا يوجد ما يستدعي المشاهدة، برجاء المغادرة.»
الإحصائيات هي تلك الخاصة بالمجموعات المتجانسة. لكنها ليست من نوع المجموعات المتجانسة التي تتبادر إلى ذهن أغلب الناس حين يسمعون عنها. في اللغة الدارجة، تُعرَّف المجموعة المتجانسة بأنها مجموعة من الأشياء بينها سِمة مشتركة، أو تعمل معًا، على غرار فرقة من عازفي الآلات الوترية. من وجهة نظر الإحصائي، من الممكن أن تشكِّل مجموعة من ٦٠٠ حجر نرد متطابق مجموعة متجانسة، وإذا أُلقي كل هذا النرد معًا، فإن قوانين الاحتمالية ستحملنا على توقُّع رؤية نحو ١٠٠ رقم ستة، و١٠٠ رقم خمسة، و١٠٠ رقم أربعة، و١٠٠ رقم ثلاثة، و١٠٠ رقم اثنين، و١٠٠ رقم واحد. لكن ثَمة طريقة أخرى للحصول على الناتج الإحصائي نفسه. أحضِرْ حجرَ نرد واحدًا سليمًا، وارمِه ٦٠٠ مرة. لك أن تتوقَّع أن يأتي رقم ٦ مائة مرة، ورقم ٥ مائة مرة، وهكذا. هذا هو نوع المجموعات المتجانسة التي يشير إليها علماء فيزياء الكَم. إن صندوقًا مليئًا بجزيئات الغاز لن يشكِّل مجموعة متجانسة بهذا المعنى، لكن عدة صناديق متطابقة من الغاز خضعت لنفس التجارب ستكون كذلك. في أفضل الظروف، ستجري نفس التجربة على نفس الجسيم بالضبط عدة مرات، وترصد نتيجة كلٍّ من هذه «المحاولات». أي المجموعة المتجانسة. وسوف تتبع النتائج توزيعًا للاحتمالات يتفق والقواعد التي وضعها ماكس بورن.
سيكون من الصعوبة بمكان إجراء مثل تلك التجربة المثالية، لكن ليس هذا بيت القصيد في الحقيقة. بدلًا من إجراء تجربة الشق المزدوج على مليون إلكترون مثلًا في الوقت نفسه والكشف عنها على الجانب الآخر، تأمَّل نفس الإلكترون وهو يمرُّ مرارًا وتكرارًا مليون مرة، مع ملاحظة الموضع الذي يصل إليه على الجانب الآخر في كل مرة يمرُّ فيها. النقطة الحاسمة التي تروق لمؤيدي هذا التفسير أن الجسيمات دائمًا ما تكون جسيمات حقيقية بالاستخدام الدارج للمصطلح. لا تنطبق الدالة الموجية على الجسيمات المفردة؛ لذا فكل إلكترون مفرد، على سبيل المثال، سيدور في الواقع إما لأعلى أو لأسفل، لكن حين يكون لديك عدة جسيمات تكون احتمالية أن تجد أيًّا من الاحتمالين عند فحص إلكترون فردي (على أن تتكافأ الظروف الأخرى) ٥٠:٥٠. لا توجد ازدواجية للموجة والجزيء، ولا تراكب، ولا قطط حية وميتة. بالطبع سيكون من الصعب إجراء تجربة القطة مائة مرة أو أكثر باستخدام القطة نفسها، لكن إذا أجريتها على مائة قطة الواحدة تلو الأخرى، فسوف يعيش النصف، وفقًا لتفسير المجموعة، ويموت النصف، لكن لن تكون أي واحدة منها في حالة تراكب.
يبدو الأمر مغريًا. فهو يتفق مع المنطق البديهي. لكن كما أشار يوان سكوايرز، لا بد ألا «ندَّعي أننا قد حللنا مشكلات [التفسير]. لقد تجاهلناها فحسب … فالأنظمة الفردية موجودة.» وكيف يفترض تطبيقه عمليًّا؟ كما هو الحال دائمًا في نظريات الكَم، تزداد الأمور تعقيدًا وغموضًا عند محاولة تبيُّن ما يحدث عند دراسة النظام — المجموعة في هذه الحالة — أو تفاعله مع العالم الخارجي. ينطوي إعداد النظام على قدرٍ معيَّن من العشوائية، وينطوي رصده على مستوًى آخر من العشوائية. لقد عُدنا لمشكلةِ أين ينتهي النظام وأين يبدأ العالم الخارجي، مثل التشابك الذي ينتشر في أنحاء الكون في تفسير إزالة الترابط. ومن الأمثلة على هذا التفاعل مع العالم الخارجي المستخدمة أحيانًا لدعم تفسير المجموعة ما يُسمى بتجربة «القِدْر المُراقَب».
يسعى الفيزيائيون إلى تفسير هذا بشتى الأساليب. إليك أحدها. تخيَّلْ نظامًا في حالة واضحة المعالم ذا موجة احتمالية تتمدَّد وتزيد تدريجيًّا من احتمال العثور عليه في حالة أخرى. إذا انتظرت مدةً طويلة، ثم نظرت، فستراه غالبًا في حالةٍ مختلفة. لكن إن نظرت سريعًا جدًّا، فلن تكون الاحتمالية قد وسعها الوقت للتغيير، وعندئذٍ سيظل في الحالة نفسها. لا يمكن أن يكون في حالة وسيطة؛ لأنه لا يوجد حالات وسيطة. لذلك لا بد أن تبدأ الموجة في الانتشار مرةً أخرى من الموقع ذاته. انظر مرارًا، ولن تجد أيَّ تغيير أبدًا. إن «القِدْر» الكمي لن يغلي إذا ظلِلتَ تنظر إليه. كان هذا تخمين تورنج، وقد خضع حديثًا للتجارب.
انطوت هذه التجارب على تنويعات على نفس الفكرة. عادةً ما يكون «القِدْر» هو بضعة آلاف من أيونات عنصر كالبريليوم مثلًا، محتجزة بواسطة مجالات كهربائية ومغناطيسية. والأيون هو ذرة سُلب منها إلكترون أو أكثر، فصارت ذات شحنة موجبة؛ مما يجعل من السهل التلاعب بمثل تلك المجالات. يمكن إعداد الأيونات في مستوًى من الطاقة «ترغب» في الهروب منه، بالقفز إلى مستوًى أدنى من الطاقة. ويمكن مراقبة حالة النظام بتقنية دقيقة تشتمل على أجهزة ليزر، لمعرفة عدد الأيونات التي تحلَّلت بهذه الطريقة بعد مدة زمنية معينة.
في واحدة من التجارب النمطية، تحلَّل نصف عدد الأيونات بعد ١٢٨ ملِّي ثانية. لكن إذا «نظر» الليزر بعد ٦٤ ملِّي ثانية، كان ربع عدد الأيونات فقط هو الذي يختفي. وحين ومض الليزر مرةً كل ٤ ملِّي ثانية، لينظر ٦٤ مرة خلال ٢٥٦ ملِّي ثانية، كانت كل الأيونات تقريبًا ما زالت في حالتها الأصلية. من ناحية الاحتمالات المرتبطة بالدالة الموجية، يعود هذا الإخفاق في «الغليان» إلى أنه بعد ٤ ملِّي ثانية كان احتمال تحوُّل الأيون ٠،٠٠١ بالمائة فقط؛ لذلك كان لا بد أن يظل ٩٩٫٩٩ بالمائة من الأيونات في المستوى الأول. ويسري هذا الأمر مع كل فاصل مدته ٤ ملِّي ثانية. وكلما قصرت مدة الفاصل بين المشاهدات، كان التأثير أقوى. فالدوال الموجية لا تنهار أبدًا حين تكون تحت المراقبة. فلماذا تتوقَّع أنت أن تنهار من الأساس؟ يذهب بالينتاين إلى أنها لا تنهار، وأن هذا الدليل التجريبي يدعم تفسير المجموعة.
بَيد أنه ثَمَّة مشكلة كبيرة تتعلق بتفسير المجموعة. يقول التفسير بكل وضوح إن الدالة الموجية لا تنطبق على الكِيانات الكمية الفردية، وإنه لا يوجد ما يسمَّى بتراكب الحالات. لكن المجرِّبون صاروا معتادين على التلاعب بكيانات كمية مستقلة، مثل الإلكترونات، في المواقف (مثل الحوسبة الكمية) التي يبدو فيها أنها تتبع وصف الدالة الموجية، ويبدو أن حلقة جهاز السكويد قادرة على تقديم مثال توضيحي عملي لكِيان كمي مستقل ماكروسكوبي (الموجة الإلكترونية التي تسلك الاتجاهين في آنٍ واحد) في حالة التراكب. طالما اعتقدت أن هذا كان بمثابة الضربة القاضية للفكرة. لكن لي سمولين أعاد إحياءها في شكل جديد.
تتبنَّى هذه الصيغة الجديدة من تفسير المجموعة تمامًا مفهوم اللاموضعية، الذي توضح التجارب حاليًّا أنه سِمة رئيسة للكون. ربما ما كان أينشتاين سيرضى عن هذا التحول الذي طال التفسير الذي كان مؤيدًا له. لكن سمولين في غاية الرضا به، حتى إنه بجسارته المعهودة، يطلق عليه تفسير المجموعة الحقيقي. يكمن الاختلاف الأساسي في أن تفسير المجموعة الأصلي لا يوجَد فيه أعضاء المجموعة المتجانسة جميعًا حقًّا في الوقت ذاته، بينما في صيغة سمولين تكون كلها حقيقية وموجودة في الوقت ذاته. ولدينا هنا مصطلح لا بد أن ننتهي من أمره حتى نوضح هذه المسألة بإيجازٍ أكثر. تُسمَّى المكونات الكمية المحتملة للمجموعة (لنقل ذرات الهيدروجين مثلًا) «مقدرات»؛ لأنها أشياء يحتمل أن يكون لها وجود. لكن كما في حالة رمي حجر نرد واحد ٦٠٠ مرة بدلًا من رمي ٦٠٠ حجر مرة واحدة، فإنها ليست كلها موجودة معًا. إن ما سأشير إليه بدافع الاحترام لسمولين اختصارًا باسم «آر إي آي» (تفسير المجموعة الحقيقي) يقول إن المقدرات التي تشكِّل المجموعة موجودة حقًّا في آنٍ واحد، مثل أحجار النرد الستمائة التي رُميت معًا، وليس مثل حجر النرد الواحد الذي أُلقي ٦٠٠ مرة. ففي أي نظام كمي توجد حالة راهنة حقيقية في كل وقت بعينه، تتحدَّد بقيم المقدرات.
يبدأ سمولين من المبدأ المنطقي القائل إن أي شيء يفترض أنه يؤثِّر على سلوك نظام حقيقي في الكون لا بد أن يكون في حد ذاته نظامًا حقيقيًّا في الكون. فيقول إنه ليس من المقبول أن «نتخيَّل أن ثَمَّة طريقةً شبحية «تؤثِّر بها الاحتمالات على الواقع»». في تفسير الموجة الدليلية مثلًا، تكون الموجة سِمةً حقيقية من سمات الكون؛ أي مُقدَّرًا، وليس «موجة احتمالية» شبحية. لكن ذلك التفسير يخالف تمامًا فرضية أخرى طرحها سمولين، حين قال إنه ينبغي ألا يكون في أي مكان في الطبيعة «فِعل غير متبادل». ويُعَد هذا امتدادًا لقانون نيوتن الذي ينصُّ على أن الفعل وردَّ الفعل في الأنظمة التقليدية متساويان ومتضادان. في تفسير الموجة الدليلية، تؤثِّر الموجة على الجسيم، لكن لا يؤثِّر الجسيم على الموجة؛ أي لا يبادلها التأثير. لكن في المجموعات التي تصوَّرها سمولين، يؤثِّر كل مقدَّر من مقدرات المجموعة على الأخرى على نحوٍ تبادلي؛ لإنتاج السلوك الذي نراه في تجاربَ من قبيل تجربة الثقبين. وإن كانت كل مكونات المجموعة حقيقية، فلا يوجد سببٌ لا يجعل هناك تفاعلات جديدة (بمعنى لم تكن اكتُشفت قبل ذلك) فيما بينها.
وفي ذلك يضرب مثالًا، يتضمن ذرات هيدروجين في أدنى حالات طاقتها، التي تسمَّى الحالة الأرضية. توجد مجموعة من كل ذرة هيدروجين من ذلك النوع في الكون؛ مجموعة حقيقية من مقدرات حقيقية. تتفاعل مكونات المجموعة هذه كلٌّ مع الأخرى على نحوٍ لا موضعي، حيث ينسخ كل مقدَّر حالات المقدَّرات الأخرى وفقًا لقواعد الاحتمالية المرتبطة بتلك الحالات الكمية. لا تتوقف احتمالات عمليات النسخ على موضع المكونات في الفضاء، وإنما تتوقف على طريقة توزيع المقدَّرات في المجموعة. لذا تجيز الإحصاءات الكمية الحصول على قائمة بالأماكن التي ستُوجَد فيها ذرات الهيدروجين في حالتها الأرضية، لكنها لا تخبرنا بمكان كل ذرة هيدروجين على وجه التحديد. استطاع سمولين أن يبرهن رياضيًّا أنه من خلال بضع قواعد بسيطة كتلك حول كيفية تأثير أزواج من المقدرات بعضها على بعض، تستطيع هذه العملية إنتاج كل السلوكيات المرصودة للأنظمة الكمية. وتستطيع كذلك أن تفسِّر لماذا لا يمكن لأشياء مثل القطط والبشر أن تكون في حالة تراكب.
يقول سمولين إن ميكانيكا الكَم تنطبق على أنظمة الكون الفرعية الصغيرة التي تأتي في نُسخٍ متعدِّدة، مثل ذرات الهيدروجين في حالتها الأرضية. أما الأنظمة الماكروسكوبية مثل القطط والبشر، فليس لها نُسَخ في أي مكان في الكون؛ ومن ثَم لا تتأثر بعملية النسخ التي تطول المقدَّرات الكمية المتفاعلة. فليس لديها شيء لتتفاعل معه من هذا المنطلق.
إذا بدا كل هذا غريبًا، فلدى سمولين شيء يذكِّرنا به. في وقتٍ من الأوقات وجد الناس استحالةً في تصديق أن الشمس تؤثِّر على السلوك الديناميكي للكواكب؛ لأن ذلك من شأنه أن ينطوي على فِعل عجيب عن بُعد. وكما ذكرت من قبل، حتى نيوتن لم يحاول أن يفسِّر طريقة حدوثه، معلِنًا في عبارته الشهيرة: «إنني لا أضع فرضيات». إن تفسير المجموعة الحقيقي يتضمن تفاعلًا لا موضعيًّا من نوع «جديد» بين المقدرات، لكن يجب ألا يكون هذا مزعجًا أكثر من حقيقةِ أنه منذ أكثر من مائة سنة فقط كان تفسير التفاعل بين الشمس والأرض يتضمن نوعًا «جديدًا» من التفاعل، تصفه الآن النظريةُ العامة للنسبية. تبدو اللاموضعية غامضة لغير الفيزيائيين؛ لأنهم لم يعتادوها، لكنها صارت الآن لعددٍ متزايد من الفيزيائيين حقيقةً مسلَّمًا بها مثل حقيقة الجاذبية. ليست بالكثير للهضم قبل الفطور على الإطلاق. إن التفاعلات التي تتجاهل المكان صارت من السمات الراسخة للعالم. لكن ماذا عن التفاعلات التي تتجاهل الزمن؟ هل يمكننا أن نلتمس عزاءً لديها؟