العزاء السادس: تفسير المعاملات اللازمني
«بصرف النظر عن تخيُّلنا لمدى بُعد الأجسام الممتصة». ليس هذا بالشيء الذي ينطبق فحسب على الإلكترونات المتفاعلة مع جيرانها، وإنما، على سبيل المثال، على الإشارات التلفزيونية المنبعثة من الأرض في أرجاء الكون. دائمًا ما تتضمَّن المعادلات التي تصف هذه العملية حلًّا يصف الموجات المتقدمة التي تجمع من الكون الإشارات المنبعثة منها على هوائيات التلفزيون. توجد هنا إشارة إلى نوعٍ آخر (أو لعله نفس النوع؟) من اللاموضعية التي صادفناها من قبل، لكن بالطبع لم يكن هذا في ذهن أينشتاين في عام ١٩٠٩.
بالرغم من هذا التأييد، أُهملت الفكرة؛ لأن الناس ببساطة كانوا لا «يعتقدون» في فكرة قدوم الموجات من المستقبل. لكن في أواخر سبعينيات القرن العشرين، وفي أثناء عمل جون كريمر بالتدريس في جامعة واشنطن في سياتل، وهو الذي أسَرَته فكرة فاينمان منذ صادفها وهو طالب جامعي قبل عشرين عامًا، خطرت له رؤية عبقرية لكيفية دمج الفكرة في ميكانيكا الكَم. وشأن العديد من الأفكار الجيدة، أصبحت بارزة بمجرد أن أشار إليها أحدهم.
كانت رؤية كريمر مدفوعةً بالتفكير فيما يحدث ﻟ «الموجة الاحتمالية» في نظامٍ كمي عند كشف موقع محدَّد للجسيم الذي ترتبط به. كيف «تعرف» الموجة الموجودة في كل مكان آخر أنها ستختفي في تلك اللحظة؟ يشبِّه كريمر هذا الأمر بزجاجةٍ يُلقى بها في المحيط الأطلنطي من شاطئ في فلوريدا. لتتخيَّل أنها زجاجة كمية تختفي داخل موجة ممتدة عبر أنحاء المحيط حتى أوروبا. ثم على شاطئ في إنجلترا تظهر الزجاجة. في تلك اللحظة تختفي الموجات الممتدة في أنحاء المحيط. أدرك كريمر أنه لا بد من وجود موجات متقدمة ومتأخرة «تتصافح» كميًّا في أرجاء المكان، وأن تلك الموجات المتأخرة التي صنعت «أصداءً» لموجات متقدمة هي وحدها التي تستطيع التأثير على موقع الجسيمات؛ أي انتقالها الكمي الميكانيكي الغامض من «أ» إلى «ب» (أو من مستوى طاقة لآخر) من دون اجتياز المسافة بينهما. لقد سافرت موجات من الزجاجة في إنجلترا في اتجاه عكسي في الزمن إلى فلوريدا، عابرةً المحيط، لإنشاء اتصال فريد وإلغاء الموجات الأخرى. بدا هذا لكريمر شديد الشبه بنموذج الموجة الدليلية، الذي يحتوي على موجاتٍ تدل الجسيمات أين تذهب، لكن مع اختلافٍ حاسم، وهو أنه لا يحتوي على تأكيد التصافح المعكوس زمنيًّا.
لكي نطبِّق أفكارَ نظرية الممتص على ميكانيكا الكَم، لا بد من معادلة كمية تعطينا حلَّين، مثل معادلات ماكسويل، يعادل أحدهما موجةَ طاقة موجبة تتدفَّق داخل المستقبل، ويصف الآخر موجة طاقة سالبة تتدفَّق داخل الماضي. تبدو معادلة شرودنجر للوهلة الأولى لا تفي بالغرض؛ لأنها تصفُ تدفقًا في اتجاهٍ واحد فقط، نفسِّره (بالطبع) بأنه يمتد من الماضي للمستقبل. لكن كما يتعلَّم كل الفيزيائيين في الجامعة (وينساه أغلبهم سريعًا)، فإن الصيغة الأكثر استخدامًا من هذه المعادلة ليست متكاملة. فهي لا تراعي شروط نظرية النسبية كما أدرك رواد فيزياء الكَم أنفسهم. وهذا ليس بالأمر المهم في أغلب الحالات؛ ولذلك فإن طلاب الفيزياء، وحتى أغلب مَن يمارسون ميكانيكا الكَم عمليًّا، يستخدمون الصيغة المبسَّطة من المعادلة دون أي مبالاة بذلك. لكن الصيغة الكاملة للمعادلة الموجية، التي تراعي التأثيرات النسبوية بالقدر المناسب، أشبه بمعادلات ماكسويل إلى حدٍّ كبير. وعلى نحوٍ خاص، تعطي هذه الصيغة مجموعتين من الحلول، إحداهما تتفق ومعادلة شرودنجر البسيطة المألوفة، والأخرى توازي صورةً طِبق الأصل من معادلة شرودنجر؛ إذ تصف تدفُّق الطاقة السالبة في الماضي.
الأثر الجدير بالملاحظة هو أنه منذ عام ١٩٢٦، كان كلما أخذ فيزيائيٌّ مرافق العدد المركب لمعادلة شرودنجر المبسَّطة واستخدمه لحساب احتمال كمي، كان في الواقع يأخذ في حسبانه حل الموجة المتقدمة للمعادلات، وتأثير الموجات التي تنتقل في اتجاه عكسي في الزمن، دون أن يدرك ذلك. إن رياضيات تفسير كريمر لميكانيكا الكَم لا تشوبها أيُّ شائبة على الإطلاق؛ لأن الرياضيات، وصولًا لمعادلة شرودنجر، هي نفسها الموجودة في تفسير كوبنهاجن. الفرق حرفيًّا في التفسير فقط.
تتمثَّل الطريقة التي يصف بها كريمر معاملة كمية نموذجية في مصافحة جسيم لجسيم آخر في مكانٍ ما آخر في الزمان والمكان. فبدأ من فكرة انبعاث إشعاع كهرومغناطيسي من إلكترون ليمتصه إلكترون آخر، لكن ينطبق الوصف بالمثل على متجه الحالة لكِيان كمي يبدأ في حالة وينتهي في حالة أخرى نتيجةً لتفاعلٍ ما؛ لنقُلْ مثلًا متجه حالة إلكترون انبعث من مصدر في جانب من تجربة الثقبين وامتصَّه كاشف على الجانب الآخر من التجربة.
من الصعوبات التي تصاحب أي وصف من ذلك النوع باللغة الدارجة هو كيفية تناول التفاعلات التي تسير في الاتجاهين في الزمن في آنٍ واحد؛ ومن ثَم تحدث آنيًّا بالمعنى الذي تشير إليه الساعات في حياتنا اليومية. يفعل كريمر هذا بالوقوف فعليًّا خارج الزمن، واستخدام حيلة دلالية للوصف في إطارِ نوع من الزمن الاستعاري. ولا تعدو هذه كونها حيلةً دلالية، لكنها قطعًا تساعد أغلب الناس على استحضار الصورة في أذهانهم بوضوح.
يسير الأمر على النحو التالي. حين يتفاعل كِيان كمي (الباعث) مع العالم الخارجي، في هذه الصورة، يحاول أن يفعل ذلك بإنتاج مجال هو خليط متناظر زمنيًّا من موجة متأخرة تمتد للمستقبل وموجة متقدمة تمتد للماضي. كخطوة أولى لتخيُّل ما يحدث، تجاهل الموجة المتقدمة وتابع قصة الموجة المتأخرة. تتجه هذه الموجة نحو المستقبل حتى تلتقي بكِيان (الممتص) يمكنها التفاعل معه. تتضمن عملية التفاعل جعل الكِيان الثاني ينتج مجالًا متأخرًا جديدًا يلغي المجال المتأخر الأول تمامًا. من ثَم يكون التأثير النهائي في مستقبل الممتص هو عدم وجود مجال متأخر.
لكن الممتص ينتج كذلك موجةً متقدمة سالبة تسافر للوراء في الزمن نحو الباعث، في أثر الموجة المتأخرة الأصلية. عند الباعث، تُمتص هذه الموجة المتقدمة؛ وهو ما يجعل الكِيان الأصلي يرتدُّ بحيث يشع موجةً متقدمة ثانية تتجه نحو الماضي. تلغي هذه الموجة المتقدمة «الجديدة» الموجة المتقدمة «الأصلية» تمامًا، فلا يعود إشعاع فعَّال للماضي قبل لحظة حدوث الانبعاث الأصلي. كلُّ ما يتبقى هو موجة مزدوجة تصل الباعث بالممتص، مكوَّنة من موجة نصفية متأخرة تحمل طاقة موجبة متجهة نحو المستقبل، وموجة نصفية متقدمة تحمل طاقة سالبة متجهة نحو الماضي (في اتجاه الوقت السالب).
لكن هذا مجرد تسلسل للأحداث من منظور الزمن الاستعاري. فالعملية في الواقع لا زمنية؛ إذ تقع مرةً واحدة.
يقول كريمر: «إن كان ثَمَّة رابط بعينه مميَّز في سلسلة الأحداث، فهو ليس ذلك الذي ينهي السلسلة. وإنما هو ذلك الرابط الذي في بداية السلسلة حين يتلقى الباعث موجاتِ تأكيدٍ عدةً من موجة العرض الخاصة به، فيدعم واحدة منها، يتم اختيارها عشوائيًّا وفقًا لقواعد الاحتمالية، بحيث يجسِّد موجة التأكيد تلك في الواقع كصفقة مكتملة. فالتبادل اللازمني ليس له «وقت» في النهاية.»
لم تَعُد مسألةُ متى يقرِّر المراقب أي تجربة سيُجري مهمةً. فقد قرَّر المراقب تكوين التجربة والشروط الحدية وتمَّت المعاملة بناءً على ذلك. علاوةً على ذلك، فإن حقيقة أن حدث الكشف ينطوي على قياس (على عكس أي تفاعل آخر) لم يَعُد مهمًّا؛ ولذلك لا يكون للمراقب دور خاص في العملية.
تحقَّق هذا النجاح في حلِّ لغز فيزياء الكَم في مقابل قبول فكرة واحدة فقط تبدو منافية للمنطق؛ وهي فكرة أن جزءًا من الموجة الكمية يمكنه فعلًا العودة للوراء خلال الزمن. للوهلة الأولى، يتناقض هذا تناقضًا صارخًا مع فِكرنا البديهي بأن العلل لا بد دائمًا أن تسبق الأحداث التي تسبِّبها. لكن عند التأمل من كثَبٍ يتبيَّن أن السفر عبر الزمن الذي يتطلَّبه تفسير المعاملات لا يخالف مفهوم السببية الدارج مطلقًا. فحين يقع تصافح لا زمني بمساعدة موجة كمية متقدمة تسافر إلى الوراء في الزمن، لا يكون للأمر أيما تأثير على النمط المنطقي للسببية في عالمنا اليومي.
لا ينبغي الاندهاش من اختلاف تفسير المعاملات عن المنطق في طريقة تعامله مع الزمن؛ لأن تفسير المعاملات يتضمن بوضوحٍ تأثيرات نظرية النسبية. أما تفسير كوبنهاجن، على النقيض، فيعامل الزمن بالطريقة «النيوتونية» الكلاسيكية، وهذا من صميم أي تناقضات في أي محاولة لتفسير نتائج التجارب الكمية التي تقيس متباينة بيل وفقًا لتفسير كوبنهاجن. لو كانت سرعة الضوء لا نهائية، لتلاشت المشكلات؛ فلن يكون هناك حينها اختلاف بين الوصف الموضعي واللاموضعي للعمليات التي تتضمن متباينة بيل، وستكون معادلة شرودنجر البسيطة وصفًا دقيقًا لما يحدث؛ فمعادلة شرودنجر البسيطة هي في الواقع المعادلة «النسبوية» الصحيحة حين تكون سرعة الضوء لا نهائية.
كيف يؤثِّر التصافح اللازمني على احتمال الإرادة الحرة؟ قد يبدو للوهلة الأولى وكأن كل شيء مُحدَّد بهذه الاتصالات بين الماضي والحاضر. فكل فوتون ينبعث «يعلم» مسبقًا متى وأين سيُمتص؛ وكل موجة احتمالية كمية، تنسل بسرعة الضوء من خلال الشقَّين في تجربة الثقبين، «تعلم» مسبقًا أيُّ نوع من الكواشف ينتظرها على الجانب الآخر. نحن أمام صورة لكونٍ جامد، ليس للزمان ولا المكان أي معنًى فيه، وكل ما كان أو سوف يكون يومًا قائم فحسب.
لكن في إطاري الزمني تُتَّخذ القرارات بإرادة حرة حقيقية ومن دون معرفة أكيدة بنتائجها. فالأمر يستغرق وقتًا (في العالم الماكروسكوبي) كي تُتَّخذ القرارات (القرارات البشرية و«الاختيارات» الكمية مثل تلك المتعلقة بتحلل ذرة، على حدٍّ سواء) التي تصنع الواقع اللازمني للعالم المجهري.
لا يتوانى كريمر عن التأكيد على أن تفسيره لا يضع تكهنات تختلف عن تلك التي تضعها ميكانيكا الكَم التقليدية، وأنه يُقدِّم، كنموذج تصوري ربما يساعد الناس على تأمُّل ما يحدث في عالم الكَم بوضوح، أداةً يحتمل أن تكون مفيدة في التدريس خاصةً، وذات قيمة كبيرة في تنمية المدارك والرؤى الخاصة بالظواهر الكمية التي كانت ستصبح غامضة لولا هو. لكن لسنا في حاجة للشعور بأن تفسير المعاملات يعاني مقارنةً بتفسيرات أخرى في هذا الصدد؛ إذ لا يزيد أيٌّ منها عن كونه نموذجًا تصوريًّا صُمِّم لمساعدتنا على فَهْم الظواهر الكمية، وكلها تعطي نفس التوقعات.
وهنا تكمن المشكلة. إن جميع سبُل العزاء تتساوى في المزايا، وتتساوى جميعًا في العيوب أيضًا. وغاية ذلك على الأقل أنك حر في اختيارِ ما يمنحك أكبرَ قدرٍ من العزاء، وتجاهَلْ ما دونه.