الصدفة تبدأ في «ميامي»!
غير أنَّ «أحمد» لم يكن قد نام، كان مشغولًا بتفاصيل التقرير وما ورد به حتى لا ينسى كلمة. وعندما طال به الوقت، أغمض عيَنيه وهو ينظر إلى الشياطين النائمين مبتسمًا. إنَّ الوقت الذي يستغرق عبورَ المحيط الأطلنطي يَصِل إلى ثماني ساعات؛ فقد كانت أول محطة طيران «أمستردام» في «هولندا» بعدها تَعبُر الطائرةُ المحيطَ إلى أمريكا. استغرق «أحمد» هو الآخر في النوم، ولم يستيقظ إلا على صوت كابتن «صقر» يقول: إنَّه منظر رائع؛ جُزُر «بهاما» التي تسبح في المحيط.
فتح «أحمد» عينَيه وأزاح الستائر عن نافذة الطائرة، وألقَى نظرةً منها. كان المنظر بديعًا فعلًا، مجموعة جزر «بهاما»، ثم مضيق «فلوريدا». ظلَّ يتأمل المنظر مستمتعًا به. ومرة أخرى جاء صوت كابتن «صقر»: إننا ندخل الآن ولاية «فلوريدا» الأمريكية، وهي أول محطة تُقابلنا في الأرض الأمريكية.
ثم أضاف بعد لحظة: سوف نهبط في مطار «ميامي»، ثم تقرِّرون إن كنتم سوف تذهبون إلى مكان آخر، أو أنَّ الطائرة سوف تعود إلى المقر السري.
عندما انتهى كابتن «صقر» من كلماته كان الشياطين جميعًا قد استيقظوا، أزاحوا الستائر؛ فغمرَ ضوءُ النهار المقاعد.
قال «بو عمير»: أظن أنَّه ينبغي أن نَصِل إلى «لوس أنجيلوس».
ردَّ «فهد»: ولماذا لا نذهب إلى «دالاس» أولًا؟
قال «أحمد»: سوف نبقى في «ميامي» وبعدها نقرِّر إن كنَّا سوف نذهب إلى «دالاس»، أو نذهب إلى «لوس أنجيلوس»؛ فبقاء الطائرة هنا وقتًا طويلًا قد يكون مثيرًا للشكوك.
قال «قيس» بسرعة: إنَّ كان هذا هو السبب فلا أظنه سببًا هامًّا؛ فالطائرات الخاصة كثيرة في أمريكا وهي لا تلفت النظر.
تردَّد صوت كابتن «صقر»: سوف نهبط الآن في مطار «ميامي».
ربطوا الأحزمة. وبعد قليل كانت الطائرة تهبط في المطار، لم يكن المطار كبيرًا مثل مطار «هيثرو» في لندن أو مطار «شارل ديجول» في فرنسا أو حتى مثل مطار «كنيدي» في أمريكا، كان مطارًا متوسط الحجم. أخذت الطائرة مكانها في ممر خاص، وعندما توقَّفت ظهر كابتن «صقر»، ابتسم قائلًا: إنني في انتظار قراركم.
نظر «أحمد» إلى الشياطين، وقال: إنَّ تعليمات رقم «صفر» أن تعود الطائرة، وقد جاءت هذه الفقرة في التقرير الخاص بالكابتن «فون»، وأقترح الآن أن نُلقِيَ بأنفسنا في أمريكا دون ارتباطٍ بالطائرة.
واتفق الشياطين على هذا الرأي. سلَّم «أحمد» التقرير إلى الكابتن «صقر» وهو يقول: نرجو تسليمه إلى الزعيم! …
ثم غادروا الطائرة … كان المطار يعجُّ بالحركة في هذا الوقت من الصباح. وكانت الطائرات الخاصة الصغيرة الحجم متناثرة في أرجاء المطار وكأنها جزر «بهاما» التي شاهدوها في المحيط الأطلنطي. همس «فهد»: ربما تكون واحدة من هذه الطائرات خاصة بالكابتن «فون».
ردَّ «بو عمير»: لا أظن، ولا أظن أنَّ كابتن «فون» سوف يستخدم الطائرات كثيرًا.
تحرَّكوا خارج المطار إلى مدينة «ميامي». توقَّف «أحمد» فجأة، كان هناك رجلٌ طويلٌ بطريقة لافتة للنظر، يلبس بدلة زرقاء فاتحة تمامًا، أنيقًا جدًّا، تبدو على وجهه علاماتُ الثقة، ولم يكن يظهر سوى نصفه العلوي؛ فقد كانت حركة المطار كثيفة. تردَّد «أحمد» قليلًا، ثم اتجه إليه، ومن بعيد تَبِعه الشياطين، كان الرجل يحمل حقيبة سفر صغيرة ظهرَت عندما اتجه إلى باب المطار. أسرع «أحمد» في مشيته حتى أصبح خلفه، لكن الرجل كان قد تجاوز الباب وسط عدة رجال. كان «أحمد» يفكِّر: إنَّ حذاء الرجل قد يدل عليه.
لكنه تراجع في تفكيره، وهو يقول لنفسه: من الممكن أن يكون هناك آخرون لهم نفس القدم الصغيرة.
فكَّر لحظة، وكان قد تجاوز الباب هو الآخر، وصاح فجأة: مستر «فون». لكن الرجل لم يلتفت. قال «أحمد» لنفسه: لعله ليس هو. ثم فكر مرة أخرى: لعله لم يسمع!
كان الرجل يقف على الرصيف ينتظر تاكسيًا. توارَى «أحمد» خلف أحد الأعمدة، وصاح مرة أخرى: كابتن «فون».
كان التاكسي قد وصل وتوقَّف أمامه، فكرَّر «أحمد» الصياح: كابتن «فون»، هناك رسالة لك.
فجأةً، التفت الرجل، وألقى نظرة سريعة، ثم دخل التاكسي. وفي لمح البصر كان «أحمد» يتصرف؛ أخرج فراشة إلكترونية، ثم قذفها بقوة في اتجاه التاكسي. كان الشياطين قد اقتربوا منه … قال «فهد» بسرعة: هل هي مصادفة؟
ردَّ «أحمد»: لا أدري سوى أنَّ الرجل قد التفت عندما سمع الاسم.
سأل «قيس»: هل تكون الفراشة وسيلتَنا إليه؟
ردَّ «أحمد»: أرجو ذلك.
وبسرعة كان الشياطين يتجهون إلى سيارتهم التي كانت في انتظارهم، بناءً على تعليمات رقم «صفر» التي بعث بها إلى عميله في أمريكا؛ فأسرع بها إليهم. قفز «فهد» خلف عجلة القيادة، وقفز الشياطين في السيارة. ضغط «أحمد» زرًّا في التابلوه، فترددت إشارة. قال بسرعة: لقد التصقَت الفراشة بالتاكسي، وها هي تُرسل إشارتها.
لم يصدق الشياطين؛ فما حدث كان أسرعَ مما توقعوه. ظلَّ الرادار يستقبل إشارات الفراشة والشياطين يتابعونها، إلا أنَّ الإشارة ثبتَت فجأة.
فقال «بو عمير»: لقد توقَّف التاكسي.
ظلَّت سيارة الشياطين في تقدُّمِها. فجأة، ظهرَت الإشارات في الرادار. أسرع الشياطين أكثر. في نفس الوقت قال «أحمد»: يجب رصد المنطقة التي توقَّف فيها التاكسي؛ فربما احتجنا العودة إليها!
أخرج «قيس» بوصلة صغيرة وخريطة لمدينة «ميامي»، ثم سجَّل فوقها المكان. في نفس الوقت ظلَّت السيارة في تقدُّمِها، فجأةً، كانت الإشارات تقول: إنَّ التاكسي قد عاد إلى المطار مرة أخرى. نظر الشياطين إلى بعضهم في دهشة. وقال «باسم»: هل يكون الرجل قد خدعنا وعاد إلى المطار؟!
ردَّ «قيس»: من الممكن أن يكون ذلك صحيحًا. ظلَّت السيارة متقدمة في طريقها، فجأةً، قال «أحمد»: هذا هو التاكسي.
ثم أشار ﻟ «فهد»، فتَبِعه. أخيرًا توقَّف عند باب المطار. تحفَّز الشياطين، وانتظروا. لكن ما شاهدوه كان لا يمكن توقُّعه؛ فقد نزلت من التاكسي سيدةٌ متقدمة في السن، وأخذَت طريقها إلى المطار. فكَّر «أحمد» بسرعة ثم قال: اقتربْ من التاكسي، لا بد أن نعرف الحقيقة!
اقتربَ «فهد» بالسيارة من المكان الذي يقف فيه التاكسي. قال «أحمد»: انتظر هنا!
وبسرعة قفز من السيارة، وفي خطوات نشطة لَحِق بالتاكسي قبل أن يتحرك، قال للسائق: هل يمكن أن أَصِلَ إلى المدينة؟
ودون أن ينظر له السائق، أشار إليه بأن يركب. قفز «أحمد» بجوار السائق، كان الشياطين يراقبونه، فقال «بو عمير»: لا بد أنَّ «أحمد» سوف يصحبه إلى نفس المكان!
تحرَّكت سيارة الشياطين خلف التاكسي. نظر «أحمد» إلى السائق، وقال: إنَّ السيد «براون» كان يركب معك منذ قليل.
نظر السائق له بحدَّة، وهو يقول: ومن السيد «براون»، إنَّ عشرات الركاب أقوم بتوصيلهم كلَّ يوم، ولا يهمُّني إن كان الراكب اسمه السيد «براون» أو غيره!
ابتسم «أحمد» وهو يقول: السيد «براون» هو الراكب الذي أوصلتَه قبل قليل من المطار، وقبل أن تركب تلك السيدة التي نزلَت منذ قليل.
هزَّ الرجل رأسه، وقال: وما هو المطلوب؟
ابتسم «أحمد»، وقال: إنَّ السيد «براون» والدي، وقد عاد من السفر منذ قليل. وهناك مسألة ما، أحتاج أن ألقاه فيها قبل أن يَصِل إلى البيت.
قال الرجل: لكنني لا أعرف أين ذهب الآن!
قال «أحمد»: سوف أعرف إذا وصلتُ إلى المنطقة التي نزل فيها.
تنفَّس الرجل بعمق، وهو يقول: لا بأس، سوف أُوصلك إلى هناك.
ولم ينطق بكلمة أخرى. كان «أحمد» يفكر: إنَّ الوصول إلى المنطقة يمكن أن يحدِّد مكانَه من خلال فندق في المنطقة، أو مطعم، أو نادٍ، أو حتى شقة، فسوف تكون المنطقة محدودة … وليست أمريكا كلها … كان السائق يقود السيارة وهو شديدُ التركيز. وكان «أحمد» يتأمل الرجل؛ كان ضخمًا، شعره أشقر، وإن كان يلبس فوقه «كاسكيت»، متناسق الملامح، قوي … فكَّر «أحمد» لحظة، وقال لنفسه: هل يمكن أن يكون هذا السائق هو نفسه كابتن «فون»؟!
أخفى ابتسامة؛ فقد كان الخاطر غريبًا، لكنَّه عاد يفكر فيه بعد لحظة. قال لنفسه: في عالم العصابات لا يوجد شيء غريب.
نظر إلى السائق الجاد الملامح، وقال: هل تلعب أيَّ نوع من الرياضة؟ نظر له السائق نظرة سريعة، ثم ابتسم قائلًا: هل ترى ذلك؟
قال «أحمد»: أظن؛ فإنَّ ذراعَيك مفتولتان بطريقة تُوحي بأنَّك كنت تمارس الملاكمة أو المصارعة.
ضحك الرجل ضحكة عميقة، ثم قال: إنني ألعب الكاراتيه.
ظهرَت الدهشة على وجه «أحمد»، وقال: تمارس الكاراتيه حتى الآن!
أجاب الرجل، في ثقة: نعم، وأستطيع أن أهزمك!
ضحك «أحمد» ضحكة صغيرة، وهو يقول: إنَّ والدي أيضًا ظلَّ يمارس رياضة الكاراتيه لفترة طويلة، ألم تلحظ ذلك؟
قال السائق: كان يبدو قويًّا فقط، لكنني لم أتحدث معه.
ثم أضاف بعد لحظة: إنني عادة لا أتحدث مع الزبائن؛ فإنَّ ذلك يشغلني عن الطريق.
فجأة، بدأ التاكسي يخفض من سرعته، بينما السائق يقول مبتسمًا: هنا نزل الوالد.
ثم توقَّف، فقال «أحمد» بسرعة: ألم ترَ إلى أين اتجه؟
ابتسم الرجل، وقال: يا ولدي، عندما يدفع الزبون الأجرة؛ فإنني لا أنظر إليه، ولا أفكِّر فيه لحظة!
شكره «أحمد»، ثم نزل. وعندما مرَّ خلف التاكسي، التقط الفراشة التي كانت ملتصقة بحقيبة التاكسي الخلفية. في نفس اللحظة كان التاكسي يتحرك، وفي نفس الوقت أيضًا كانت سيارة الشياطين قد اقتربت حتى توقَّفت بجوار «أحمد». ركب بسرعة ثم قال: ينبغي أن نعرف فنادق المنطقة ومطاعمها الآن وبسرعة، فإنَّ وقتَ الغداء يقترب.
أسرع «قيس»، وبسط خريطة المدينة. كانت الدائرة التي رسمها وهو يرصد المكان واضحة، وضع يده على نقطة، وقال: هنا فندق «ميامي».
وعند نقطة أخرى: وهنا فندق «ماديسون».
ثم أخذ يعدُّ الفنادق، فقال «أحمد»: فلنبدأ بأقرب فندق إلينا.
كان أقرب فندق إلى النقطة التي يقف فيها الشياطين، هو فندق «جرين». فكَّر «أحمد» لحظة، ثم قال: ينبغي أن نختصر الوقت، إنَّ الفنادق الموجودة هنا عددها سبعة، ونحن نستطيع أن نلاحظ خمسة منها في وقت واحد، فما رأيكم؟
قال «فهد»: هل يكون هذا هو عملنا اليوم؟
ردَّ «أحمد»: لا أظن!
ثم أضاف: إنَّ علينا أن نُتابع تحركاتِنا. ومن حسن الحظ أنَّها كلها قريبة من بعضها.
قال «قيس»: إذن، فلتكن مهمتنا في حدود المساحة، على أن نكون على اتصال، ثم نلتقي في السيارة.
وتفرَّق الشياطين، كلٌّ إلى مكان.