عن الحرية
إنَّما الفردُ على نفسه وبدنه وعقله سلطان.
الصِّراع بين الحرية والسلطة
إنَّ الصراع بين الحرية والسلطة هو أبرز سمات الأحقاب التاريخية التي نعلمها منذ القِدَم، وبخاصةٍ في تاريخ اليونان والرومان وإنجلترا، غير أن هذا الصراع كان في الأزمنة القديمة بين المواطنين (أو طبقات منهم) وبين الحكومة، وكانت الحرية تعني الحماية ضد طغيان الحكام السياسيين؛ إذ كان يُنْظَرُ إلى الحكام على أنهم في وضع مضاد بالضرورة للشعب الذي يحكمونه (باستثناء بعضٍ من الحكومات الشعبية عند اليونان)، وكان الحكامُ عبارةً عن حاكمٍ واحدٍ أو قبيلة مهيمنة أو طبقة مغلقة، وكلهم يستمدون سلطتهم بالوراثة أو الغزو، وهم في جميع الأحوال لم يكونوا يتولَّون الحكم بمشيئة المحكومين ورغبتهم، ولم يكن سَراةُ الناس يغامرون، وربما لا يرغبون، بالدخول في صراعٍ مع الحكام، مهما تكن ألوانُ الحصانة التي يتمتعون بها ضد ممارساتهم الجائرة، فقد كان يُنظَر إلى سلطة الحكام على أنها ضرورية، ولكن أيضًا على أنها شديدة الخطورة، فهي سلاحٌ خليقٌ بأن يستخدمه الحكامُ ضد رعاياهم استخدامًا لا يَقِلُّ بحالٍ عن استخدامه ضد العدو الخارجي، ولكي تتم حمايةُ الأعضاء الأضعف في المجتمع من أن يقعوا فريسةً لما لا حَصْرَ له من النسور الكواسر، فقد دَعَت الحاجة إلى وجود واحدٍ أشدَّ افتراسًا من الباقين تُفوَّض إليه مهمةُ كبحهم وإخضاعهم، غير أن ملك النسور لن يكون أقل ميلًا لافتراس القطيع من أي واحدٍ من صغار الطامعين، وعليه فقد كان لِزامًا على القطيع أن يكون في موقف دفاعٍ دائمٍ ضد منقاره ومخالبه؛ ولذا فقد كان هدف الوطنيين هو أن يضعوا حدودًا للسلطة التي يُسمَح للحاكم بممارستها على المجتمع، وكان هذا الحد من سلطة الحاكم هو ما يعنونه بالحرية، ولقد حاولوا تحقيقَ ذلك بطريقتين: الأولى هي الحصول على اعتراف بضروبٍ معينةٍ من الحصانة تُسَمَّى الحريات السياسية أو الحقوق السياسية، والتي كان انتهاكُها من قِبَلِ الحاكم يُعَد خرقًا لواجبه، وإذا انتهكها بالفعل فإن مقاومته مقاومةً خاصة أو التمرد عليه تمرُّدًا عامًّا يُعَد أمرًا له ما يسوِّغه، والطريقة الثانية، وهي بصفة عامة متأخرة زمنيًّا عن الأولى، هي تأسيس ضوابط دستورية بموجبها تكون موافقةُ المجتمع، أو هيئة من صنفٍ ما يُفترَض أنها تمثل مصالحَ المجتمع شَرْطًا ضروريًّا لإجازة بعض القرارات المهمة التي تتخذها السلطة الحاكمة.
ولكن مع تقدُّم البشرية جاء الوقت الذي لم يعد فيه الناس يرون أي ضرورة طبيعية في أن يكون حكامُهم سلطةً مستقلةً مصلحتُها في تضاد مع مصلحتهم، وبدا لهم أن من الأفضل كثيرًا أن يكون مختلف حكام الدولة مُفوَّضين أو مندوبين عنهم متى شاءوا، وبهذه الطريقة وحدها يضمنون ضمانًا تامًّا ألا يُساءَ استخدامُ سلطات الحكومة ضدهم، ومِنْ ثَمَّ فليس ما يدعو إلى الحد من سلطة الحكام ما داموا في هويةٍ مع الشعب وما دامت مصالُحهم وإراداتهم هي مصالح الأمة وإرادتها، وليس ما يدعو إلى أن تحمي الأمةُ نفسَها من نفسِها! فما سلطة الحكام إلا سلطة الأمة ذاتها وقد تركَّزت في أيديهم بحيث تجعل الأمة قادرة على استخدامها، وما الحكامُ في حقيقة الأمر إلا أداةُ الأمة أو «آلتُها» في حكم نفسها.
طُغيان الأغلبية
لا جدوى بأن تلجِمَ الحكام بينما تترك «ديموسَ» نفسه حُرًّا طليقًا.
وكغيره من أصناف الطغيان كان طغيان الأغلبية في بداية الأمر — ولا يزال لدى العامة — يُرهَبُ جانبه بوصفه يعمل من خلال قرار السلطات العامة، ولكن سرعان ما أدرك المتفطنون من الناس أن المجتمع إذا ما تحول هو نفسه إلى طاغية (المجتمع ككل على الأفراد المنفصلين الذين يؤلفونه) فإن وسائل طغيانه لا تنحصر في قراراتٍ ينفذها بأيدي موظفيه السياسيين، إن المجتمع قادرٌ على تنفيذ أوامره الخاصة، وهو ينفذها فعلًا، وإذا ما أصدر المجتمعُ أوامرَ خاطئةً بدلًا من الأوامر الصحيحة، أو إذا أصدر أيَّ أوامرَ على الإطلاق في أشياء لا دخل له بها، فإنه بذلك يمارس طغيانًا اجتماعيًّا أشد هولًا من كثيرٍ من ألوان الاضطهاد السياسي، ذلك أن هذا الطغيان الاجتماعي، وإن لم تدعمه عادةً عقوباتٌ شديدةٌ، هو أمْكَنُ من سواه من ضروب الطغيان، فهو ينفُذ نفاذًا أعمقَ بكثيرٍ إلى تفصيلات الحياة ودقائقها، ويستعبد الروحَ نفسها.
التوَقِّي إذن من طغيان الحاكم لا يكفي، فلا بد من الوقاية أيضًا ضد طغيان الرأي السائد والشعور السائد، التوقي من مَيْل المجتمع، بطرقٍ أخرى غير الجزاءات المدنية، إلى أن يفرض أفكارَه وممارساته الخاصة كقواعدَ للسلوك على أولئك الذين يخرجون عليها، لكي يعيقَ نمو أي فردية لا تأتلف مع طرائقه (ويمنع تكوينها إن أمكَن)، ولكي يرغم كل الشخصيات على أن تشكل نفسها وفق النموذج الخاص به. إن هناك حَدًّا للتدخل المشروع للرأي الجمعي في استقلالية الفرد، والعثور على هذا الحد وصيانته من التعدي والانتهاك هو أمر لا يقل أهمية لرخاء البشر وسعادتهم عن الوقاية من الاستبداد السياسي.
حين ننتقل الآن من هذا الصعيد النظري الذي لا خلافَ عليه إلى الصعيد العملي، ونسأل السؤال العملي: «أين نضع هذا الحد؟» … «أين نَمُدُّ هذا الخط؟» … «كيف نصل إلى التوافق السديد بين استقلالية الفرد وبين الضبط الاجتماعي؟» — نجد أنفسنا بإزاء مشكلة شديدة الصعوبة، لم يحرز البشر تقدُّمًا كبيرًا في حلها. إن تأمين حرية الفرد تعني أيضًا وضْعَ حدودٍ لتدخُّلِ الآخرين، وإن كل ما يجعل الوجود ذا قيمة بالنسبة لأي فرد هو أمرٌ يعتمد على فرض قيودٍ على أفعال الآخرين، ومِنْ ثَمَّ فإن بعض قواعد السلوك لا بد من فرضها بالقانون في المقام الأوَّل، وبالرأي في كثيرٍ من المناحي التي لا تصلح مجالًا لعمل القانون، فما هي هذه القواعد؟
من العجيب حقًّا أن الناس بصفةٍ عامةٍ لا تجد صعوبةً في هذه المسألة! وعلى الرغم من الاختلاف البيِّنِ في هذه القواعد بين عصر وعصر وبين بلد وبلد، اختلافًا يجعل كل عصر وكل بلد شيئًا عجيبًا في عين العصر الآخر والبلد الآخر؛ على الرغم من ذلك فإن الناس في أي عصرٍ وأي بلدٍ تبدو لهم القواعدُ التي يرونها حولهم أمرًا واضحًا بذاته ولا يحتاج إلى تبرير، وكأنها مسألةٌ تُجْمِع البشريةُ عليها في كل زمان ومكان، وليس ذلك كله سوى وَهْمٍ عام، وهو أحد الأمثلة على التأثير السحري للعادات الاجتماعية، وهذه العادات كما يقول المثل السائر هي «طبيعة ثانية»، غير أن الناس ما فتِئوا يخطئون فيظنونها «طبيعة أولى».
يقول مِلْ: إنَّ تقرير مبدأٍ غايةٍ في البساطة هو الهدف من مقاله «عن الحرية» بوصفه مقالًا معنيًّا حَصْرًا بما يجوز وما لا يجوز للمجتمع في تعامله مع الفرد بطريق القهر والسيطرة، سواء كانت الوسائل المستخدمة هي القوة المادية في صورة عقوبات قانونية أو في صورة إكراه أدبي يمارسه الرأيُ العام، يفيد هذا المبدأ أن الغاية الوحيدة التي تبرر للبشر، فُرادَى أو جماعات، التدخل في حرية الفعل الخاصة بأي واحد منهم هي حمايةُ أنفسهم منه، وأن الغرض الوحيد الذي يحق فيه استخدامُ القوة ضد أي عضو في مجتمع متحضر، هو منعُه من الإضرار بالآخرين. إن استخدام القوة لمصلحة الفرد المادية أو الأدبية ليس مُبرِّرًا كافيًا؛ إذ لا يحق لأحد أن يجبره على أن يفعل شيئًا أو لا يفعل لأن ذلك خيرٌ له، أو لأن ذلك سوف يجعله أسعد حالًا، أو لأن الآخرين يرون من الحكمة — أو حتى من الصواب — أن يفعل ذلك، فتلك مبرراتٌ وجيهةٌ للاعتراض عليه أو مناقشته أو محاولة إقناعه أو استعطافه، وليس لإكراهه أو إلحاق أي أذى به إن هو فعل غير ذلك، فلا شيء يبرر ذلك إلا أن يكون السلوكُ الذي يُرادُ صَرفُه عنه من شأنه ومن المقدر له أن يُلحِقَ الضررَ بالغير. إن الجانب الوحيد من سلوك الفرد الذي يجعله مسئولًا أمام المجتمع هو ذلك الجانب الذي يمس الآخرين ويعنيهم، أمَّا الجانب الذي لا يمَس غيرَ صاحبه، فإنه يخُصُّه وحدَه وله فيه مُطلقُ الحق، إنما الفردُ على نفسه وبَدَنِه وعقله سلطان.
يرى مل أنَّ هناك في المجتمع دائرةً للفعل خاصة بالفرد وحده وليس للمجتمع فيها، كمقابلٍ للفرد، سوى مصلحةٍ غير مباشرة، تشمل هذه الدائرة كل ذلك النطاق من حياة الشخص وسلوكه الذي لا يؤثر إلا عليه، أو إذا أثَّرَ على غيره فبرضاهم ورغبتهم الحرة وموافقتهم ومشاركتهم طواعيةً ومن غير خداع.
- أوَّلًا: مجال الوعي الباطن الذي يقتضي حرية الضمير بأوسع معنى لها: حرية الفكر والشعور، الحرية المطلقة للرأي والعاطفة في جميع الأمور، عملية كانت أو نظرية أو علمية أو خلقية أو لاهوتية، وقد تبدو حرية التعبير عن الآراء ونشرها خاضعة لمبدأ آخر ما دامت تلحق بذلك الجانب من سلوك الفرد الذي يمس الآخرين، ولكن بما أن حرية التعبير والنشر لا تقل أهمية عن حرية الفكر ذاته، وبما أنها ترتكز إلى حد كبير على نفس المبررات، فإنها لا يمكن عمليًّا فصلُها عن حرية الفكر.
- ثانيًا: حرية الميول والأذواق والمشارب، وحرية تخطيط حياتنا وَفقًا لشخصيتنا الخاصة، وحرية أن نفعل ما نهواه متحملين تَبِعَتَه دون إعاقةٍ من جانب رفاقنا من الخَلْق، ما دام فعلُنا لا يُلحِقُ بهم ضررًا، مهما بدا لهم تصرفُنا أحمقَ أو شاذًّا أو خطأً.
- ثالثًا: يترتب على هذه الحرية الخاصة بكل فرد، وداخل نفس الحدود، حريةُ اجتماع الأفراد وحرية تضامنهم لتحقيق أي غرض لا يتضمن الإضرار بالآخرين، بافتراض أن الأشخاص المجتمعين بالغون راشدون غيرُ مُكرَهين أو مخدوعين.
والمجتمع الذي لا تُحترَم فيه هذه الحريات ليس مجتمعًا حُرًّا مَهمَا يكن شكل حكومته، وما هو بمجتمع حر تمام الحرية ذلك الذي لا تتوافر فيه هذه الحرياتُ على نحوٍ مُطلَق وبدون تَحَفُّظ، فليس ثمة حرية تستحق اسم الحرية غير حرية سعينا وراء صالحنا الخاص بطريقتنا الخاصة، ما دُمنا لا نحاول حرمان الآخرين من صالحهم ولا نحاول إحباط جهودهم للحصول عليه، إنما كل فرد هو القَيِّمُ الحق على صحته سواء الجسدية أو العقلية أو الروحية، والبشر يربحون إذا تركوا للآخر أن يعيش وفقًا لما يراه خيرًا له أكثر مما يربحون بإكراهه على أن يعيش وفقًا لما يراه الآخرون خيرًا.
في حرية الفكر والمناقشة
الفكر حر بطبيعته وماهيته.
الحرية ليست شيئًا «يَعرِض» للفكر، بل هي شيءٌ «يكونه».
الفكر حر بحكم التعريف.
والفكر غير الحر ليس فكرًا، بل هو ﮐ «المربع المستدير»، تناقضٌ ذاتيٌّ.
من الضروري أن نبحث هذين الفرضين كُلًّا على حِدَة، فلكل منهما فرعٌ متميز يقابله من البرهان، إن من المحال علينا أن نتيقن أن الرأي الذي نحاول خنقه هو رأي باطل، وحتى لو افترضنا أننا على يقين من بطلانه، فإن خنقه سيظل ضربًا من الشر.
أوَّلًا: إن الرأي الذي تحاولُ السلطةُ قمعَه قد يكون صوابًا، وإن أولئك الذين يرغبون في قمعه لَينكِرون صوابَه بطبيعة الحال، إلا أنهم غير معصومين، وليس لديهم سلطةُ حسم المسألة نيابةً عن الجنس البشري وإقصاء أي شخص آخر عن سبيل الحكم، إن كل محاولة لإسكات المناقشة تتضمن زعمًا بالعصمة من الخطأ، وبوسعنا أن ندين هذه المحاولة بناءً على هذه الحجة العامة، وبالأكثر لأنها عامة.
ولسوء الحظ وخيبة الأمل في الحس السليم لبني البشر فإن حقيقة قابليتهم للوقوع في الخطأ لا يقيمون لها وزنًا في أحكامهم العملية قريبًا مما يقيمونه لها في أحكامهم النظرية، فرغم أن كل إنسان يعرف جَيِّدًا أنه عُرْضَةٌ للخطأ، فإن قليلًا من الناس من يرون ضرورة أخذ أي احتياطات ضد إمكان وقوعهم في الخطأ، أو يفترضون أن أي رأي يشعرون أنهم على يقين شديد به، ربما يكون واحدًا من الأمثلة على خطأ اعترافهم بأنهم عُرْضَةٌ للخطأ. إن الأمراء أصحاب الحكم المطلق، أو غيرهم ممن اعتادوا أن يذعن لهم الآخرون إذعانًا لا حد له، يشعرون عادة بهذه الثقة التامة في آرائهم في جميع الأمور تقريبًا، أمَّا من أسعده الحظ وكان وضعُه يتيح له أن يسمع آراءه تُناقَشُ أحيانًا ولا يجعله دائمًا فوق التقويم إن هو أخطأ، فإنه لا يضع هذه الثقة المطلقة إلا في آرائه التي يشاركه فيها جميعُ من حوله، أو يشاركه فيها أولئك الذين اعتاد احترامَهم، ذلك أن الإنسان بقدر افتقاره إلى الثقة في حكمه المفرد فإنه يستند عادةً إلى معصومية «العالم» بصفةٍ عامةٍ، و«العالم» بالنسبة لكل فرد يعني ذلك الجزء من العالم الذي يتصل به اتصالًا مباشرًا: حزبه، طائفته، كنيسته، طبقته الاجتماعية … إلخ، قد يوصف الإنسان، على سبيل المقارنة، بأنه على درجة من التحرر وسعة الأفق إذا اتسع معنى الوسط الذي يعيش فيه فشَمِلَ أي نطاق عريض مثل بلده أو عصره، غير أن إيمانه بهذه السلطة الجمعية لا يهزه على الإطلاق علمُه بأن عصورًا أخرى وطوائفَ أخرى وكنائسَ وطبقاتٍ وأحزابًا أخرى اعتنقت ولا تزال أفكارًا عكسَ أفكاره بالضبط، فهو يحيل إلى عالمه الخاص مسئولية كونه في العالم الحق بإزاء العوالم المخالفة التي يعيش فيه بقيةُ الناس، ولا يُقلِق خاطرَه قط أن الصدفة وحدها هي التي حددت أي هذه العوالم العديدة هو العالم الذي يستند إليه، وأن نفس الأسباب التي جعلته قسيسًا في لندن كان من الممكن أن تجعله بوذيًّا أو كونفوشيوسيًّا في بكين، غير أن من الواضح بذاته وضوحًا يُغنيه عن أي بَيِّنَة أن العصور والأجيال ليست أكثر معصومية من الأفراد، فما من جيل إلا اعتنق الكثير من الآراء التي بَدَت في نظر الأجيال التالية لا خطأً فحسب بل خُلْفًا لا معقولًا، ومن المؤكد أن كثيرًا من الآراء الشائعة اليوم سوف ترفضها الأجيالُ المقبلة، مثلما أن الكثير من الآراء التي كانت سائدة ذات يوم هي الآن مرفوضة لدى الجيل الحاضر.
قد يعترض معترِضٌ بأن إدراكنا لقابليتنا للوقوع في الخطأ لا يسوِّغ لنا ألا نستخدم عقولنا جهد استطاعتنا وألا نسلك وفقًا لأفضل قدراتنا، ليس ثمة يقينٌ مُطلَق وإنما هناك ثقة كافية لتحقيق أغراض الحياة البشرية، وربما افترضنا، بل لا بد لنا أن نفترض، أن رأينا صواب وأننا نهتدي به في سلوكنا، ونحن لا نزعم أكثر من ذلك عندما نمنع الأشرار من إفساد المجتمع بنشرهم لآراء نعتقد أنها كاذبة وخطرة.
يرُد مِل على هذا الاعتراض قائلًا: بل تزعم أكثر من ذلك بكثير! لأن هناك فرقًا كبيرًا بين أن تزعم صحةَ رأيٍ ما لأنه صَمَدَ لكل محاولةٍ سَنَحَتْ لمناقشته وتفنيده، وبين أن تزعم صدقه لكي لا تسمح بتفنيده أو دحضه. إن إطلاق الحرية التامة في معارضة رأينا وتفنيده هو الشرط عينُه الذي يسوِّغ لنا الزعمَ بصدقه حتى نسير عليه في أفعالنا، وليست هناك أي شروط أخرى يمكن بموجبها لموجودٍ له قدراتنا البشرية أن يكون لديه أي ضمان عقلي بأنه على صواب.
يعزو مِل تقدم الجنس البشري عقليًّا وسلوكيًّا، رغم «لا معصوميته»، إلى خاصية جليلة ينفرد بها الذهن البشري، وهي قدرته على تصحيح أخطائه عن طريق المناقشة والتجربة، ليس بالتجربة وحدها، فلا بد من المناقشة لتُبيِّن لنا كيف ينبغي تأويلُ التجربة، وشيئًا فشيئًا تنكشف الآراء والممارسات الخاطئة وتستسلم للوقائع والبراهين، غير أن الوقائع والبراهين قلما تمتلك القدرة على أن تُفْصِح عن نفسها، وإنما هي بحاجة دائمًا إلى مناقشات تكشف معناها. تكمن قوة الحكم البشري وقيمته إذن في خصلة واحدة، وهي إمكان رده إلى الصواب متى أخطأ، ولا يمكن أن نضع ثقتنا فيه ما لم تكن وسائل رده إلى الصواب في متناول اليد بصفة دائمة، انظر إلى أي شخص يتمتع بمَلَكة حكمٍ جديرةٍ حقًّا بالثقة، فكيف واتته هذه الملكة؟ واتته لأنه اعتاد أن يُفسح صدرَه لنقد آرائه وسلوكه، ومَرَن على الإصغاء لكل ما يمكن أن يُقال ضده، وأن ينتفع بكل ما يكون في هذه الانتقادات من صواب، وأن يَعرِض لنفسه، وللآخرين إذا اقتضى الأمر، خطأ ما تَبَبَّنَ خطؤه، ذلك أنه وَجَدَ أن الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها الكائن البشري أن يتخذ سبيلًا إلى معرفة كل شيء عن موضوعٍ ما هي أن يُصغي إلى ما يمكن أن يقوله عنه أشخاصٌ متنوعون في آرائهم، وأن يدرُس جميع الزوايا التي يمكن لعقولٍ مختلفة أن تنظر إليه منها، لم يَتَسنَّ لحكيمٍ قط أن اكتسبَ حكمته إلا بهذه الطريقة، ولا هو في طبيعة الفكر البشري أن يصير حكيمًا بأي طريقة أخرى.
والتاريخ، كما يقول مِل، مَليءٌ بالأمثلة الصارخة على استخدام سلاح القانون، بإخلاص وحسنِ نية، لاجتثاثِ أفضل الناس وأنبل المذاهب (وإن كُتِبَ البقاءُ لبعض المذاهب فأصبحت بدورها — ويا للسخرية — غطاءً يُبرر سلوكًا مماثلًا تجاه أولئك الذين انشقوا عنها أو عن التفسير السائد لها).
- سقراط: ما كان للجنس البشري أن ينسى أنه كان في قديم الزمان رجلٌ يُدْعَى سقراط قام بينه وبين السلطات القانونية والرأي العام في زمنه صدامٌ مشهور. وُلِدَ سقراط في عصر وبلدٍ حاشدَيْن بالأفذاذ من الرجال، وقد وصلت إلينا أنباءُ هذا الرجل عن طريق أناسٍ كانوا أعلمَ الخَلْقِ به وبعصره، وقالوا إنه كان أحسن أهل زمانه خُلُقًا وفضيلةً، هذا الرجل، الذي كان المعلم الأكبر لعظام المفكرين على مدار التاريخ، حَكَمَ عليه مواطنوه بالإعدام بعد أن أدانوه قضائيًّا لمروقه وفساد خُلُقِه إذ كان ينكر آلهة المدينة وكان في زعمهم يُفسِد الشباب بأفكاره وتعاليمه، لقد وجدته المحكمة مُذنِبًا، ولدينا ما يدعونا إلى الاعتقاد بأنها وجدته مُذنِبًا حقًّا وأدانت الرجل الذي ربما كان أجدر أهل عصره بالإجلال، وحكمت عليه بالموت بوصفه مجرمًا.
- المسيح: والمثال الثاني الذي يورده مِل هو محاكمة المسيح، لقد اتُّهِمَ المسيح بالمُروق (وهي نفس التهمة التي صارت تُلقَى على الناس من أجله فيما بعد!) يقول مِل إن جميع القرائن تدل على أن الذين حاكموا المسيح وأدانوه لم يكونوا من شرار البشر، بل كانوا على العكس خيارًا يبلغون حد الكمال، وربما أكثر من الكمال، من العواطف الدينية والخُلُقية والوطنية لعصرهم وشعبهم. إن رئيس الكهنة الذي شَقَّ ثيابه عندما سمع كلمات المسيح كان على الأرجح مُخلِصًا في رعبه وسخطه، إخلاصَ عامة المتدينين الأجِلَّاء الآن فيما يُبدونه من مشاعرَ أخلاقية ودينية، وإن معظم الذين يأنفون اليوم من هذا السلوك لو أنهم عاشوا في زمنه ووُلِدوا يهودًا لفعلوا بالضبط مثلما فعل، وعلى المسيحيين الأرثوذوكسيين الذين ينجرفون إلى الظن بأن الذين رجموا الشهداء الأوائل كانوا بالتأكيد أسوأ منهم؛ أن يتذكروا أن القديس بولس كان واحدًا من أولئك الذين اضطهدوا المسيحيين الأوائل.
- ماركوس أوريليوس: ويُضيف مِل مثالًا ثالثًا لعله أبلغ الأمثلة جميعًا إذا كان هَوْلُ الجُرمِ يُقاسُ بحكمة مرتكبِه، ذلك هو الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس (١٢١–١٨٠) الذي كان الحاكمَ المطلَق على العالم المتحضر كله آنذاك، لقد بلغ هذا الرجل من الحكمة والأستاذية ما لم يبلغه أي واحد من معاصريه، وكان مثالًا لرقة القلب وللعدالة التي لا يشوبها شيءٌ اللهم إلا السماحة الزائدة، وكانت كتاباته هي أرفعَ ما أنتجه العقل القديم في الفكر الأخلاقي، ولم تكن تختلف اختلافًا يُذكَر عن أخص تعاليم المسيح، هذا الرجل المسيحي في كل شيء إلا العقيدة اضطهَدَ المسيحية! لقد كان يعلم أن المجتمع القائم في زمنه كان في حالة يُرثَى لها، غير أنه رأى أن ما يُمسِك هذا المجتمع ويحفظُه من أن يصير إلى الأسوأ هو الإيمان بالآلهة القائمة وتوقيرُها، ورأى أن مهمته كحاكم للبشرية ألا يَدَعَ مجتمعَه يتفتتُ ويتفسخ، ولم يتصور إمكانَ إقامةِ روابطَ جديدةٍ تمسك المجتمع إذا ما أُزِيلَت الروابطُ القائمة. ولما كانت المسيحية تستهدف صراحةً حَلَّ هذه الروابط، وكان عقله في الوقت نفسه يستغربُ حكايةَ الإله المصلوب ولا يُسيغُها، فقد خَلَصَ أرقُّ الفلاسفة والحكام جميعًا، مدفوعًا بالواجب المقدس، إلى إصدار قرارٍ باضطهاد المسيحية، أيظن من يناوئ حريةَ الفكر اليوم أنه أكثرُ حكمةً وفضيلة من ماركوس أوريليوس، أو أكثر منه دأبًا في البحث عن الحقيقة والتزامًا بها إذا وجدها؟! فما لم يَدَّعِ ذلك فليَكُفَّ عن ادِّعاءِ العصمة لنفسه ولجموعه وتَكرارِ ما وقع فيه ماركوس أوريليوس العظيم وأدى إلى أوخم العواقب.
يخطئ من يظن أن إخراسَ الهراطقة أمرٌ لا تشوبه شائبة، ذلك أنه يؤدي إلى انعدام أي نقاش عادل ودقيق لآراء الهراطقة، والضرر الأكبر إذَّاك لن يقع على الهراطقة بقدر ما يقع على غير الهراطقة، فيعوق نموهم الذهني ويُفقدهم شجاعةَ العقل، ولنا أن نتصور كم يفقِدُ العالمُ من العقول الواعدة حين ترتبط بالجبن ولا تجرؤ على متابعة أي سلسلة جسورة وفتية من التفكير خشية أن تُفضي بها إلى شيء قد يُعَد منافيًا للأخلاق أو للعقيدة، لا يمكن للمرء أن يصبح مُفكِّرًا كبيرًا ما لم يدرك أن واجبه الأوَّل كمفكر هو أن يقتفي فكرَه إلى النتائج التي يُفضي إليها كيفما كانت، وإن الحقيقة لتَربحُ من أخطاء من يفكر لنفسه (مع البحث والإعداد اللازمين) أكثر مما تربحه من الآراء الصحيحة لأولئك الذين لم يعتنقوها إلا ليعفوا أنفسهم من عناء التفكير.
ومن الناس من يظن أن بحَسْبه أن يعتقد موقنًا بما يراه حقًّا، وإن افتقد أية معرفة بأسس هذا الرأي وعجَزَ عن تقديم أي دفاع معقول عنه ضد أتفه الاعتراضات، ومن الطبيعي أن يرى مثل هؤلاء، وإن تسنى لهم أن يتلقنوا عقيدتهم من خلال سلطةٍ ما، أن فتح باب المناقشة في عقيدتهم هو أمر يضر ولا يفيد، فإذا ما امتد نفوذ هؤلاء لأصبح من المستحيل رفض الآراء السائدة عن تَبَصُّرٍ وحكمةٍ، وإن ظل من الممكن رفضُها عن تسرعٍ وجهل، ذلك أن منع النقاش تمامًا هو أمرٌ غير ممكن، وحالما أُفسِح له المجال فإن الاعتقادات القائمة على غير اقتناعٍ تكون خليقةً أن تنهار أمام أتفه الحجج، ولنفترض مع ذلك أن هذا غير ممكن (ولنزعم أن الرأي الحق يصمد في العقل، وإن كان يصمد كتحيز وكاعتقادٍ منفصلٍ عن البرهان) فليست هذه هي الطريقة التي ينبغي على الموجود العاقل أن يعتنق بها الحقيقة، ليس هذا عرفانًا بالحقيقة، وما الحقيقة التي يُعتقَد بها على هذا النحو سوى خرافةٍ كبيرة التصقت بالمصادفة بالألفاظ التي تشير إلى حقيقة.
أهمية التنوع والفردية في صنع التقدم
ويكون العقلُ أكثر اتِّساقًا مع نفسه لو ذهب إلى أن الله قد أسبغ على الطبيعة الإنسانية ما أسبغ بهدف تحقيق أغراضٍ أخرى غير مجرد محوِها!
الحرية قيمةٌ كبرى، بل هي أساس القيم وشرطها، ووسيطها الذي يأتي بها إلى الوجود.
ومِنْ ثَمَّ فالحرية لا تَحدُّها إلا حريةٌ مثلها، وحرية الفرد لا تحدها إلا حرية الآخرين، وما دام الفرد لم يتدخل فيما لا يعنيه ولم يشكل إزعاجًا للآخرين، ولم يتحرش بغيره فيما يخصهم، ولم يَعْدُ أن سَلَكَ وفقًا لميوله وأحكامه فيما يخصه، فإن نفس الدواعي التي توجب حرية الرأي توجب أيضًا ترك الفرد وشأنه في وضع آرائه موضع التطبيق على مسئوليته.
إنَّ البشر غير معصومين، وإن الحقائق التي يرونها هي في الأغلب أنصاف حقائق فقط، وإن وحدة الرأي غير مستحبة ما لم يكن ذلك نتاج مقارنة كاملة وحرة للآراء المتعارضة، وإن التنوع ليس شرًّا بل هو خير إلى أن يبلغ البشر قدرة أكبر بكثير مما هُم عليه الآن في تمييز جميع جوانب الحقيقة، تلك مبادئ تسري على طرائق الفعل لدى البشر بقدر ما تسري على آرائهم، ومثلما أن من المفيد وجودَ تنوع من الآراء ما دام الكمال في البشر غير وارد، كذلك من المفيد وجود كثرة متنوعة من تجارب العيش، ومن المفيد أن يُفسَح المجال لتنوع الشخصيات ما دام ذلك لا يمس الآخرين بأذى. وباختصار، من المستحب، في الأمور التي لا تعني الآخرين أساسًا، أن تؤكد الفردية نفسها، فحيثما كانت قاعدةُ السلوك هي عادات الآخرين وتقاليدهم لا شخصية الفرد ذاته، فقد تم إهدار مكوِّن أساسي من مكونات السعادة البشرية وإهدارٌ للمكون الرئيسي بحق لتقدم الفرد والمجتمع.
إن ذلك الذي لا يفعل أي شيء إلا لأنه ما جرت به العادة لا يقوم بأي اختيار، إنه لا يكتسب خبرة لا في تمييز ما هو أفضل ولا في الرغبة فيه، فالقدرات الذهنية والخلقية، شأنها شأن القدرات العضلية، لا تتحسن إلا بالاستعمال، وليس ثمة مَرانة حقيقية لقدرات المرء حين يفعل شيئًا لمجرد أن الآخرين يفعلون هذا الشيء، ولا حين يعتقد شيئًا لمجرد أن الآخرين يعتقدونه، وإذا لم يتأسس رأي المرء على عقله الشخصي حصرًا فلن يمكن لتبنِّيه هذا الرأيَ أن يُقوِّي عقله بل الأرجح أن يضعفه، وإذا لم تكن بواعث فِعْلِه متفقة مع مشاعره وشخصيته فلن يؤدي هذا الفعل بمشاعره وشخصيته إلى غير التبلد والخمول بدلًا من النشاط والحيوية، ومن يترك للعالم، أو لبقعته التي يعيش فيها، اختيار خطته في الحياة نيابةً عنه، لا يحتاج إلا إلى مَلَكَةٍ واحدةٍ تمتاز بها القرود وهي ملَكة التقليد. لقد أصبح كل فرد في زمننا الراهن، من أعلى طبقات المجتمع إلى أدناها، يعيش كأنه تحت عينِ رقابة عدائية ومخيفة، فنجده في جميع الأمور، سواء منها ما يخص الآخرين أو ما يخصه وحده، لا يسأل نفسه: ماذا أُفَضِّل؟ أو: ما الذي يتيح لأفضل ملَكاتي وأعلاها أن تنشط على سجيتها ويُمكِّنها من أن تنمو وتزدهر؟ بل يسأل: ما الذي يليق بمركزي؟ أو: ما الذي يفعله عادةً من هم في مثلِ وضعي وظروفي المالية؟ هكذا ينتفي الاختيارُ وتنتحر القيمةُ، وهكذا ينحني العقلُ نفسُه لنِير العبودية، وهكذا تذبل الملكات الإنسانية ولا تعود للشخص طبيعية خاصة ولا آراء ولا مشاعر ولا رغبات، فهل هذه هي الحال المرجُوَّةُ للطبيعة البشرية؟!
نعم هذه هي الحال وفقًا لنظرية «كلفن» التي تقول بأن الإرادة الذاتية هي خطيئة الإنسان الكبرى، وأن كل الخير الذي يمكن للبشرية أن تفعله ينحصر في «الطاعة»، ليس لك من خيار؛ ومِنْ ثَمَّ فإن عليك أن تفعل كذا ولا تفعل غير ذلك، و«أيما شيء ليس فريضةً فهو ذنب»، هكذا يكون الخير هو استئصال الفردية وسحق الملكات والقدرات والمشاعر، غير أن العقل يكون أكثر اتساقًا مع نفسه لو ذهب إلى أن الله قد خلق للإنسان ملكات لكي تنمو، وقدراتٍ لكي تُستخدَم، وممكناتٍ لكي تتحقق، ويكون العقل أكثر اتِّساقًا مع نفسه لو ذهب إلى أن الله قد أسبغ على طبيعة الإنسان ما أسبغ بهدف تحقيق أغراض أخرى غير مجرد محوها! إن الكائنات البشرية لن تكون شيئًا نبيلًا جديرًا بالتأمل بأن تقضي على كل ما بداخلها من فرادة وتميز، وتمسخه إلى تشابهٍ واطِّراد، وإنما تكون كذلك بأن تشجع التفرد وتهيب به وتنميه من غير اصطدام بمصالح الآخرين وحقوقهم، وكلما كانت حياة الفرد، الذي هو لبِنة المجتمع، أكثر امتلاءً كانت حياةُ المجتمع، الذي هو مجموع أفراده، أكثر امتلاءً أيضًا.
ويتحدث مل عن أهمية الفكر الابتكاري والتلقائية المبدعة في حياة المجتمع البشري، إن المبدعين هم الذين يكتشفون الحقائق ويذيعونها، وبدونهم ما كان للبشرية أن تعرف شيئًا، والعقول العبقرية عادةً ما تكون قلةً متفردةً من أعضاء المجتمع، وعادةً ما يكون ذكاؤها وأفكارُها غيرَ منسجمة مع القوالب التي شكَّلَها المجتمع واتخذها، غير أن هذه القلة هم «ملح الأرض»، وبدونهم تتحول حياةُ البشر إلى بحيرةٍ راكدة، فهم لا يقدمون فقط ما هو خير وصالح مما لم يكن موجودًا من قبل، وإنما هم الذين يبعثون الحياة فيما هو موجود، إن من الخير أن تكون هناك شخصياتٌ متعاقبة من المبدعين يمنعون الحياةَ البشرية من التخثُّر، ويمنعون الحضارة من الانحطاط، ويمنعون البشر من التحول إلى قطيع، ويمنعون العقائد والممارسات من التحول إلى محض تراثٍ وعاداتٍ (أي إلى أمور ميتة ومِنْ ثَمَّ لا تحتمل أي صدمة من أي شيء حي)، إنهم دائمًا قِلَّة، ولكن من الضروري لكي يظهروا أن نحافظ على التربة التي ينمون فيها، فالعبقرية لا يسعها أن تتنفس إلا في مناخ من الحرية، والعباقرة أكثر فرديةً من غيرهم من البشر؛ ومِنْ ثَمَّ فهم أقل قدرةً على أن يضغطوا أنفسهم داخل قوالب المجتمع.
نخبة سعيد عقل (على ذكر نخبة جون ستيوارت مل)
بَيْدَ أن تطورًا هامًّا حصل، فبِتنا اليوم وخطر الجهال على القيم الكبيرة نستغله لخير تلك القيم، نشحذها عليه، نزيدها مضاء، وهكذا لم يتحفظ أينشتين في رَكْزِ كونه على نواميس تُناقِضُ الحِس العام، ذلك لا لأن العامة — في أوروبا — ارتقت كثيرًا عما كانت عليه عهد الاضطهادات، بل لأن النخبة تكوَّنت، تكونت فراحت تشكل حول صاحب الرأي الجديد — مُحِقًّا كان أم مخطئًا — درعًا يقيه ثورةَ الخصوم، ثورتهم على شخص فلا يُمَس — وما ذلك بشيءٍ هام — وثورتهم على أفكاره فلا تُخنَق في فمه — وهو هو الأمر الأساسي — بل تُوَكَّل إلى المحك المختص وحده، يتوجها أو ينتقي منها ما صلح أو يُدحِضها جميعًا، ممهدًا لعمل النسيان يأتي عليها.
لا لم يبقَ أحدٌ في عصرنا يخشى نقمةَ العامة.
بشرطٍ واحد:
هذا والنخبة على الجملة مناخ.
إنَّ إيجاد التفاهم بين العامة والخاصة لا يتم، بحال من الأحوال، بإنزال هذه إلى مستوى تلك، بل برفع تلك إلى مستوى هذه، إن الدلعة الديمقراطية في العصر عودت العامة شيئًا خطرًا، خطرًا حتى عليها، هو أن تساير العامةَ الخاصةُ وتجاري ما تظن العامةُ أنه خيرها، والعامة لن تعرف خَلاصَها، إلا إذا أُبقِيَت على اتصالٍ بخلاصة اكتشافات الخاصة، لا ما يطبِّقه الصناعيون تكنولوجيًّا من اكتشافات الخاصة، بل ما تبحثه الخاصةُ نفسُها في دوائرها العليا من نواميس. نعم ليس بإمكان العامة أن تفقه النواميس، ولكن بإمكانها أن تطَّلع على روح النواميس، بإمكانها أن تدرك اتجاهها، بإمكانها أن تعيش في مناخها الرفيع.
•••
من الحكمة أن نفسح المجال لشيءٍ من «التجريب» في الفعل والسلوك، وأن نتحلى برحابة العقل والصدر تجاه كل غريب مختلف، ذلك أن تعدد التجارب البشرية دليل ثراء وخصب، مثلما أنه سبيل تقدم وارتقاء، ومن شأن الزمن وحده أن يبين لنا أي هذه التجارب هو الأفضل والأجدى والأنجع فنأخذ به كعادة ونكتسبه اكتسابًا، ليس من حق أحد أن يفرض أسلوب حياته على غيره فَرْضًا، فالبشر ليسوا قطيعًا من نعاج، بل إن النعاج ليست فيما بينها تامة التشابه بل بينها اختلافٌ وتفاوُت، وما كان لإنسان أن يجد ثوبًا يناسبه أو زوجين من الأحذية ما لم تكن قد فُصِّلَت على مقاسه أو كان لديه مخزن كامل ينتقي منه، أيمكن أن يكون اختيار طريق للحياة أسهل من اختيار ثوب؟ أم هل يتشابه البشر جميعًا في تكوينهم البدني والروحي أكثر من تشابههم في مقاس أقدامهم؟
ولو أن الأمر كان محصورًا في تنوع أذواق البشر لكان في ذلك مانعًا كافيًا من صبهم جميعًا في قالب واحد، فما بالك إذا كان اختلاف الأشخاص يتطلب أيضًا تنوع الظروف الملائمة لنموهم الروحي، تمامًا مثلما تتطلب النباتات المختلفة لنموها أجواء مختلفة، فالشيء نفسه الذي يساعد شخصًا ما على الارتقاء بطبيعته العليا وتنميتها قد يعوق نمو شخص آخر، وقد يكون نمطٌ معيَّنٌ من الحياة مثيرًا صحيًّا لشخصٍ، يحفظ جميع ملكات الفعل والاستمتاع عنده في أحسن حال، بينما يكون لشخصٍ آخر عبئًا مشتِّتًا يوقف نمو حياته الداخلية بأكملها أو يسحقها، تلك هي الاختلافات بين البشر في مصادر متعتهم وفي استهدافهم للألم وتأثرهم بشتى العوامل المادية والأخلاقية، فما لم يقابلها تنوعٌ آخر في طرائقهم في الحياة فإنهم لن ينالوا نصيبهم المستحق من السعادة ولن تنمو جوانبهم الذهنية والخلقية والجمالية إلى غاية ما تسمح به قدراتُهم.
ثمة ميلٌ خبيثٌ في العصور الحديثة يجعل العامة أشد ميلًا من معظم العصور السابقة لأن يفرضوا قواعد عامة للسلوك، ويرغموا كل فرد على الانصياع للمعيار السائد، وهذا المعيار يفيد، صراحةً أو ضمنًا، ألا نرغب في شيء رغبةً قويةً، ومثله الأعلى للشخصية هو أن تكون خِلْوًا من أي سمةٍ بارزةٍ، وأن تطمِس بالضغط، كما تفعل الأحذية الصينية، أي جزء من الطبيعة الإنسانية يبدو بارزًا، وألا يُسْمَحَ للفرد بأن يشذ في مجمله عن العاديين من البشر.
إن استبداد العادات هو في كل مكان العقبة التي تواجه التقدم البشري، والشطر الأكبر من العالم لم يكن له تاريخ بالمعنى الصحيح، لأن استبداد العادات فيه كان استبدادًا تامًّا، ذلك هو الحال في «الشرق» كله، فالعادات هناك، في جميع الأمور، هي المرجع النهائي والفيصل. العدل والحق هناك يعني الانصياع للتقاليد، وها نحن نرى النتيجة، فهذه الأمم لا بد أنها كانت مبدعةً يومًا ما، فلم يكن من فراغ ما شيدته من مدائن وما تضلَّعَت فيه من آداب ومن كثير من فنون الحياة، بل هي التي صنعت ذلك بنفسها وكانت يومئذٍ أعظم أمم العالم وأقواها، فما هو حالها اليوم؟ رعايا أو تابعون لقبائل كان أسلافهم يهيمون في الغابات عندما كان أسلاف هؤلاء لديهم القصور الفخمة والمعابد الرائعة، غير أن أسلاف تلك القبائل (الأوروبية الأولى) كانوا يمتازون بشيء واحد، هو أن العادات لم تكن تمارس استبدادًا كليًّا عليهم، بل تتقاسم السلطة مع الحرية والتقدم، ويبدو أن شعبًا ما يمكن أن يكون بسبيل التقدم فترة معينة من الزمن ثم يتوقف، فمتى يتوقف؟ عندما يفلِس من الأفذاذ المتفردين ولا يعود يمتلك الشخصية الفردية.
وما الذي حفظ أوروبا حتى الآن من هذا المصير؟ ما الذي جعل عائلة الأمم الأوروبية عائلةً متقدمةً بدلًا من أن تكون قسمًا راكدًا ثبوتيًّا من الجنس البشري؟ السبب لا يكمن في أي امتيازٍ فائقٍ فيهم (والذي إن وُجِدَ فبوصفه المعلولَ لا العلة)، وإنما السبب هو تَنوُّعُهُم الملحوظ في الشخصية وفي الثقافة، فالأفراد والطبقات والأمم في أوروبا كانوا متباينين الواحد عن الآخر غاية التباين: لقد سلكوا طرقًا متعددةً جِدًّا، يؤدي كل منها إلى شيء ذي قيمة، صحيح أنهم لم يَسْلَموا من التعصب ومحاولة كل منهم فرضَ طريقه على الآخر، غير أن محاولة كل منهم إيقاف تطور الآخر قلما أسفرت عن نجاح دائم، بل كان كل منهم يُضطَر في نهاية الأمر إلى تقبُّل الخير الذي يقدمه له الآخرون. وأوروبا، في اعتقادي، مدينة لهذه الكثرة من الطرق في تقدمها ونموها المتعدد الجوانب.