الفصل الرابع
داعية المجتمع المفتوح
لو أنَّ هناك شيئًا من قبيل الاشتراكية المقترنة بالحرية الفردية، لوددتُ أن أكون
اشتراكيًّا، فليس أجمل من أن يعيش المرءُ حياةً متواضعةً في مجتمع مساواة، غير أني أنفقت
زمنًا قبل أن أدرك أن هذا لا يعدو أن يكون حُلمًا جميلًا، وأن الحرية أهم من المساواة،
وأن
محاولة تحقيق المساواة من شأنها أن تهدد الحرية، وأن الحرية إذا فُقِدَت فلن يتمتع فاقدوها
حتى بالمساواة.
كارل بوبر
إن ما يتضمنه كتاب «المجتمع المفتوح» لبوبر من دفاعٍ إيجابيٍّ عن الانفتاح
الديمقراطي وعن التسامح يبقى ربما أقوى دفاع يسطره قلمٌ في جميع العصور.
بريان ماجي
يُعَدُّ كارل بوبر واحدًا من أهم أنصار الديمقراطية ودعاة المجتمع المفتوح، ويُعد
فوق
ذلك من أشرَس خصوم المجتمع المغلق والشمولي واليوتوبي، وأشدهم بأسًا وأبلغهم حجةً. في
كتابه
«المجتمع المفتوح وأعداؤه»، الذي تعُده بعض المؤسسات الثقافية الكبرى الكتاب الرابع في
الأهمية بين ما كُتِبَ في القرن العشرين، يبرهن بوبر بالحجة على أن اليقين لا وجودَ له
في
السياسة مثلما هو لا وجودَ له في العلم، ومِنْ ثَمَّ فإن فرض وجهةٍ واحدةٍ من الرأي هو
أمرٌ
ليس له ما يبرره، وأسوأ صور المجتمع الحديث جميعًا هي تلك المجتمعات التي تفرض تخطيطًا
مركزيًّا ولا تسمح بالمعارضة، فالنقد هو الطريق الرئيسي الذي يمكن به تنقيح السياسات
الاجتماعية قبل تنفيذها، وملاحظة النتائج غير المرغوبة هي أوجبُ سبَبٍ لتعديل السياسات
أو
نبذها بعد أن يتم تنفيذُها، يتبين من ذلك أن المجتمع الذي يسمح بالمعارضة والحوار النقدي،
أي المجتمع المفتوح، سيكون بالتأكيد أقدر على حل المشكلات العملية لصُنَّاع السياسات
من
المجتمع الذي لا يسمح بذلك، وسيكون تقدمه أسرع وأقل تكلفة.
في السياسة إذن كما في العلم نحن نتخلى عن الأفكار الراسخة لصالح ما نتوسم فيه أنه
الأفضل، فالمجتمع أيضًا في تغير دائم، ومعدل التغير في زيادة مطردة، وإذا كان الأمر كذلك،
فإن خلق حالةٍ مثاليةٍ للمجتمع والإبقاء عليها ليس هو الخيار الأفضل لنا، وواجبنا هو
أن
نتحكم في عملية التغير المستمر الذي لا يتوقف عند حد؛ لذا فإن شغلنا الشاغل هو حل المشكلات،
شغلنا هو البحث عن أسوأ الشرور الاجتماعية ومحاولة إزالتها: الفقر والبؤس، تهديد الأمن،
مساوئ التعليم والخدمة الطبية … إلخ، ولأن الكمال أو اليقين غايةٌ لا تُدرَك، فإن من
واجبنا
ألا ننصرف إلى بناء مدارس ومستشفيات نموذجية بقدر ما ننْكَبُّ على التخلص من الخدمات
الأسوأ
وتحسين نصيب الناس من هذه الخدمات، إننا لا نعرف كيف نجعل الناس سعداء، ولكن بإمكاننا
رفع
ما يمكن رفعُه من المعاناة والضنك (مذهب المنفعة السلبي).
١
كانت السمة المميزة لدفاع بوبر عن الديمقراطية هي أنه جمع في معالجته لموضوعه بين
مجالات
متباعدة تباعد فلسفة العلم والفلسفة السياسية، وكان العنصر الموحد بين هذه المجالات هو
تطبيقه لمنهجه النقدي على المسائل الاجتماعية والسياسية، ذلك أن فلسفة بوبر السياسية،
شأنه
شأن معظم فلاسفة السياسة الكبار منذ أفلاطون إلى ماركس، ترتكز على فلسفته الإبستمولوجية،
إنه يعتبر الحياة عملية متصلة من «حل المشكلات» problem solving، ومِنْ ثَمَّ فقد كانت
بُغيته السياسية هي ذلك المجتمع الذي يتصف بأنه موصلٌ جيدٌ لعملية حل المشكلات، وحيث
إن حل
المشكلات يستلزم الطرح الجريء للحلول المقترحة التي توضع عندئذٍ على محك الاختبار النقدي
لاستبعاد الحلول الفاشلة ونبذ الأخطاء، فإن أصلح المجتمعات هو ذلك الذي يسمح بالاختلاف
ويُصغي إلى شتى الآراء، ويتبع ذلك بعملية نقدية تُفضي إلى إمكان حقيقي للتغيير في ضوء
النقد، إن مجتمعًا يتم تنظيمه وفقًا لهذه التوجهات سيكون أقدر من غيره على حل مشكلاته
ويكون
مِنْ ثَمَّ أكثر نجاحًا في تحقيق أهداف مواطنيه مما لو نُظِّم وَفقًا لتوجهاتٍ أخرى،
وعلى
النقيض من الاعتقاد الشائع بأن الديكتاتورية أو «الاستبداد العادل» هو شكل من الحكومة
أكثر
كفاءة ونجاعة من الشكل الديمقراطي، فقد أثبت بوبر بالحجة الدامعة أن المجتمع المفتوح
بمؤسساته الحرة وانفتاحه على النقد هو أقدر على أن يجدَ سُبُلًا أفضل لحل مشكلاته على
المدى
البعيد، فالمؤسسات الحرة تتيح لنا أن نغير رأينا فيما ينبغي أن يكون عليه الحكم، وأن
نضع هذا
التغيير موضع التنفيذ دون إراقة دماء.
إن الدول التي حققت أعلى مستويات المعيشة لأفرادها هي جميعًا ديمقراطيات ليبرالية،
لم
تَنْمُ هذه الحقيقة من أن الديمقراطية تَرَفٌ تمكَّنَت هذه الدول من تقديمه بفضل ثرائها،
بل العكس هو الصحيح، والصلة السببية إنما هي في الاتجاه المضاد، لقد كانت أغلبية هذه
الشعوب
تعيش الفقرَ يوم انتزعَت حق الاقتراع العام، وقد أسهمت الديمقراطية بدور أساسي في رفع
مستوى معيشتهم، فالمجتمع الذي يمتلك نُظُمًا ومؤسساتٍ حُرَّةً هو جديرٌ من الوجهة العملية
أن يكون أكثر نجاحًا في مراميه المادية وغير المادية من المجتمع الذي لا يمتلك هذه النظم.
٢
تنطوي جميع السياسات الحكومية، بل جميع القرارات التنفيذية والإدارية، على تنبؤات
إمبيريقية: «إذا فعلنا س لترتب على ذلك ص، ومن الجهة الأخرى إذا أردنا تحقيق ب لتوجب
علينا
أن نفعل أ»، مثل هذه التنبؤات، كما يعلم الجميع، كثيرًا ما يتكشف خطؤها، ومن الطبيعي
أن
نضطر إلى تعديلها كلما مضينا في تطبيقها، فكل إجراء سياسي هو «فرضية» يتوجب اختبارُها
اختبارَ الواقع وتصويبها في ضوء الخبرة، ومن الحق أن تَلَمُّسَ الأخطاء والمخاطر الكامنة
بالفحص النقدي المسبق هو إجراء أكثر عقلانيةً وأقلُّ إهدارًا للموارد والجهد والوقت من
الانتظار حتى تسفر الأخطاء عن وجهها في التطبيق، ومن الحق أيضًا أن بعض الأخطاء لا يتضح
إلا
بالاختبار النقدي للنتائج العملية للسياسات كشيءٍ متميز عن السياسات نفسها، ذلك أن من
واجبنا في هذا الصدد أن نواجه حقيقة أن أي فعلٍ نتخذه تكون له في الأرجح عواقبُ غير مقصودة،
عواقب لم تكن في الحسبان، وهي حقيقة تحمل، على بساطتها، متضمناتٍ بالغة الأهمية في مجال
السياسة والإدارة وكل شكل من أشكال التخطيط، وبميسورنا أن نقدم أمثلة كثيرة لهذا المبدأ،
من
ذلك أنني إذا ذهبتُ إلى السوق لأشتري منزلًا، فإن مجرد ظهوري في السوق كمشترٍ سيعمل على
رفع
السعر، فهذه نتيجة مباشرة لفعلي غير أن أحدًا لا يمكن أن يدَّعي أنها نتيجة متعمدة، ويورد
بوبر أمثلة أخرى لهذه الظاهرة فليرجع إليها من يشاء،
٣ هكذا تجري الأمور كل لحظة بما لم يكن بتخطيط أحد أو مشيئته، وهذه حقيقة واقعة
لا مهربَ منها وعلينا أن نحسب حسابها في كل قرار نصنعه وفي كل بناء تنظيمي نؤسسه، وإلا
كان
إغفالنا لها مصدرًا دائمًا للخلط والتشويه، وهي تؤكد مرة ثانية ضرورة التيقظ النقدي الدائم
في إدارة السياسات، والسماح بتصويبها عن طريق استبعاد الخطأ بصفة مستمرة.
من ذلك يتضح أن الأنظمة الكارهة للنقد تُخطئ خطأً مضاعفًا: الأوَّل حين تحظر الفحص
النقدي
المسبق لسياساتها فتقع في أخطاء فادحة لا تكتشفها إلا لاحقًا، والثاني حين تحظر الفحص
النقدي للتطبيقات العملية لسياساتها، فتمضي في العمل بها وتواصل ارتكاب الأخطاء زمنًا
يطول
أو يقصر بعد أن تكون الأخطاء قد جَرَّت عواقبَ وبيلةً لم تكن بالحسبان، هذا التوجه الذي
يَسِمُ الأنظمةَ الشموليةَ هو توجه غير عقلاني، ومآله بالنسبة للأنظمة المتصلبة هو أن
تَبيد
مع نظرياتها الزائفة، وبالنسبة للأنظمة الأقل تصلُّبًا أن تحرز تقدُّمًا معطوبًا ومُكلِّفًا
وتمضي بخُطًى متعثرةٍ بطيئة.
ضرورة التقنية السياسية
ذهب بوبر إلى أنَّه في مجال السياسة ليس يكفي لأي شخص في موقع السلطة أن تكون لديه
سياسات، بمعنى غايات وأهداف، مهما وضحت صياغاتها، فلا بد أن يمتلك أيضًا وسائل تحقيقها؛
ومِنْ ثَمَّ فمن واجبه أن ينظر إلى شتى أنواع النظم والمؤسسات بوصفها «آلات» لإنجاز
سياساته، وإن تصميم نظام سياسي بحيث يؤتي الثمار المرجوة منه لهو أمرٌ مضاهٍ في صعوبته
لتصميم آلة مادية، فإذا قام مهندس بتصميم آلة جديدة، وكان تصميمه غير صحيح بالنظر إلى
الغرض
المطلوب، أو قام بتعديل آلة قائمة أصلًا دون أن يُجري جميع التغييرات المطلوبة، فإن نتاج
الآلة لن يكون موافقًا لما أراده منها بل لما هو بوسعها أن تنتجه فحسب، وهو نتاجٌ قد
يكون
مخالفًا لجميع المواصفات المطلوبة، بل قد يكون مؤذيًا خَطِرًا.
هكذا الأمر بتمامه بالنسبة للآلية السياسية، فهي لن يكون بقدرتها أن تأتي بما يتوسَّمُه
القائمون عليها، بغض النظر عن كفاءتهم، وبغض النظر عن حسن أدائهم ونواياهم وصياغتهم
لأهدافهم، ثمة إذن حاجة لتكنولوجيا سياسية وعلم سياسي (أو إداري) يجسد موقفًا نقديًّا
مستمرًّا وبَنَّاءً للوسائل التنظيمية في ضوء الأهداف المتغيرة. ينبغي أن تخضع عملية
تنفيذ
السياسات لاختبار دائم، وأن يتم هذا الاختبار لا بالتثبت من أن الجهود المبذولة قد أتت
بالنتائج المرغوبة بل بالتفتيش عن النتائج غير المرغوبة، فاختبار السياسات كاختبار النظريات
يجب أن يكون تكذيبيًّا، مثل هذا الاختبار سهل دائمًا من الوجهة العملية وغير مكلف، كما
أنه
مفيدٌ اقتصاديًّا وهائلُ الجدوى، ذلك أن من دأب الحكومات أن تنفق مبالغ طائلة وتستنزف
جهودًا كبيرةً في سياسات خاطئة دون أن تبذل الجهدَ الهَيِّن والكلفة الزهيدة المطلوبة
لرصد
النتائج غير المرغوبة. يميل القائمون على النظم السياسية إلى غض الطرف عن الأدلة التي
تشهد
بأن النتائج التي يَصْبُون إليها لا تحدث، إنهم لا يبحثون عن «المُكذِّبات» falsifiers رغم
أنها أهم شيء ينبغي أن يلتفتوا إليه، وإن هذه المهمة، مهمة البحث الدائم عن الخلل حتى
على
مستوى التنظيم نفسه، لهي أصعب ما تكون في الأنظمة الاستبدادية، وهكذا تستشري اللاعقلانية
لِتَطالَ الأدواتِ نفسها التي يستخدمونها.
كان بوبر داعيةً للديمقراطية الليبرالية، يعبر بعمقٍ عن مشاعره الأخلاقية تجاه المسائل
السياسية، غير أنه يتميز عن غيره من فلاسفة الديمقراطية بثرائه الفكري والغزارة المنقطعة
النظير لأدلته وبراهينه العقلية، لقد كان الاعتقاد السائد في نطاق عريض من الأمم والشعوب،
في القرن العشرين بخاصة، هو أن منطق العقل والعلم لا بد أن ينادي بمجتمع منظم تنظيمًا
مركزيًّا ومخطط بوصفه كلًّا واحدًا لا انقسام فيه ولا تعدد، فجاء بوبر ليثبت أن هذا التصور،
عدا أنه استبدادي تسلطي، يرتكز على تصور للعلم مغلوط وبائد، فكل من منطق العقل ومنهج
العلم
يشير إلى مجتمع «مفتوح» وتعددي، يسمح بالتعبير عن وجهات النظر المتعارضة وتَبَنِّي الأهداف
المتضادة … مجتمع يتمتع فيه كل فرد بحرية البحث في المواقف الإشكالية، وحرية اقتراح الحلول،
وحرية انتقاد الحلول التي يقترحها الآخرون وبخاصة أعضاء الحكومة، سواء في مرحلة الشروع
النظري أو التطبيق العملي، مجتمع تتغير فيه سياسات الحكومة في ضوء المراجعة والفحص
النقدي.
ولما كانت السياسات عادةً هي خططًا ينادي بها ويشرف عليها أناسٌ ملتزمون بها بطريقة
أو
بأخرى، فإن التغيير المطلوب حين يتجاوز حجمًا معينًا يقتضي تغيير الأشخاص، يترتب على
ذلك أن
تحقيق المجتمع المفتوح على أرض الواقع يستلزم أوَّلًا وقبل كل شيء أن يكون هناك مجال
وإمكانية لإقصاء من هم في السلطة على فترات معقولة وبدون عنف واستبدال آخرين ذوي سياسات
مختلفة، ولكي يكون هذا خيارًا حقيقيًّا فإن ذوي السياسات المخالفة لسياسات الحكومة يجب
أن
يتمتعوا بحرية تشكيل أنفسهم كحكومةٍ بديلةٍ جاهزةٍ لتولي السلطة، يعني هذا أن بإمكانهم
أن
ينظموا أنفسهم ويتحدثوا ويكتبوا ويطبعوا ويذيعوا ويُعَلِّموا برامجهم المنتقدة للسلطة
القائمة، وأن يكفل لهم الدستور منفذًا إلى خلافة الحكومة، يتم ذلك، على سبيل المثال،
عن
طريق الاقتراع الدوري الحر.
مثل هذا المجتمع هو الذي يدعوه بوبر «الديمقراطية»، وإن كان كعادته لا تستعبده «الألفاظ»
ولا يحب الجدل اللفظي، إنه يعني بالديمقراطية التمسك ﺑ «النظم» (المؤسسات) institutions
الحرة القادرة على نقد الحكام وتغييرهم دون إراقة دماء، وهو غير مسئول عما لحق بتعبير
«المؤسسات الحرة» من سوء سمعة من جراء الصراع الدعاوي الأمريكي أثناء الحرب البادرة.
مفارقة الديمقراطية paradox of democracy
لم تكن الديمقراطية التي تصورها بوبر مجرد
حكومة تنتخبها الأغلبية من المحكومين، إذ إن هذه النظرة القاصرة من شأنها أن تُفضي إلى
ما
يُسَمَّى «مفارقة الديمقراطية»، هَبِ الديمقراطية هي مجرد تصويت الأغلبية، فماذا لو
صوَّتَت الأغلبية لصالح حزب، كالحزب النازي أو الشيوعي أو ما شئت، لا يؤمن بالنظم الحرة
وجديرٌ إذا قبض على زمام الأمور أن يطيح بها؟ إننا هنا أمام معضلة حقيقية، فإذا منعنا
مثل
هذا الحزب من نيل السلطة نكون قد نبذنا الديمقراطية، وإذا تركناه فإنه سيتكفل بالقضاء
على
الديمقراطية، وفي الحالتين تكون الديمقراطية، إذا ما اقتصرت على تصويت الأغلبية، قد حملت
في داخلها جرثومة فنائها، تكون مفهومًا انتحاريًّا.
غير أن الخط السياسي الذي اتخذه تفكير بوبر لا يلتقي بهذه المفارقة ولا يتورط فيها،
ذلك
أن من يلتزم بالتمسك بالمؤسسات الحرة فإن عليه، دون وقوع في التناقض الذاتي، أن يدافع
عنها
ضد أي خطر يأتيها من أي جهة، سواء من جهة أقليات أو من جهة أغلبيات، وإذا كانت هناك محاولة
للإطاحة بالنظم الحرة بالقوة المسلحة، فإن بوسعه دون تناقض ذاتي أن يدافع عنها بالقوة
المسلحة، فالحق أن هناك مُبرِّرًا أخلاقيًّا لاستخدام القوة ضد نظامٍ قائمٍ يفرض بقاءه
بالقوة ما دام
هدف المرء هو تأسيس نظم حرة، وما دامت لديه فرصة حقيقية للنجاح؛ لأن غايته
عندئذٍ هي أن يستبدل بحكمِ القوة حكمَ العقل والتسامح.
٤
مفارقة التسامح paradox of tolerance
يُشير بوبر إلى مفارقات أخرى يجب تفاديها، منها
«مفارقة التسامح»، ومفادها أن المجتمع الذي يبسط ظل التسامح إلى غير حدٍّ مآلُه هو أن
يزول
ويزول معه التسامح! ومِنْ ثَمَّ فإن على المجتمع المتسامح أن يكون مُهيَّأً في بعض الظروف
لأن يكبح أعداء التسامح (يتوجب بالطبع ألا يلجأ إلى ذلك ما لم يشكل هؤلاء خطرًا حقيقيًّا
وإلا أفضى به الأمر إلى الظلم والاضطهاد و«تصيد السحرة»)، وينبغي أن يحاول جهدَه أن يُلاقي
هؤلاء أوَّلًا على صعيد الحجة العقلية، غير أنهم قد يسارعون بشجب كل حوار ويحظرون على
أتباعهم الإصغاء إلى الجدل العقلي لأنه خادع، ويعلمونهم أن يجيبوا على الحجة باستخدام
قبضتهم وباستخدام الرصاص، وما كان لمجتمع التسامح أن يبقى إلا إذا كان مُستعِدًّا في
نهاية
المطاف لتقييد مثل هؤلاء بالقوة. يجب أن تُعتبَر الدعوة إلى التعصب جريمة، تمامًا كما
نعتبرها
جريمةً أي دعوةٍ إلى القتل أو الاختطاف أو العودة إلى الاستعباد وتجارة الرقيق.
٥
مفارقة الحرية paradox of freedom
الحرية المطلقة كالتسامح المطلق، مفهوم يدمر ذاته، بل هو مفهومٌ حقيقٌ أن يؤدي إلى
نقيضه، ذلك أنه في حالة فك كل القيود عن الحرية فلن يكون هناك أي شيء يوقِف القَوي عن
استعباد الضعيف (أو الخَنوع)، الحرية الكاملة إذن من شأنها أن تقضي على الحرية، ودعاة
الحرية الكاملة هم في حقيقة الأمر أعداء للحرية مهما خَلصَتْ نواياهم، وقد أشار بوبر
بصفة خاصة إلى مفارقة الحرية الاقتصادية التي تفتح الطريق أمام استغلال الغني للفقير
وتؤدي إلى فقدان الفقراء لكل حريتهم الاقتصادية، هنا أيضًا ينبغي أن يكون لدينا علاج
سياسي، علاج شبيه بذلك الذي نستخدمه ضد العنف المسلح، لا بد إذن أن نشيد مؤسسات
اجتماعية مدعمة بقوة الدولة لحماية الأضعف اقتصاديًّا من الأقوى، يعني ذلك بطبيعة الحال
ضرورة التخلي عن سياسة عدم التدخل non-intervention
(والتي يُطلَق عليها الاسم الذي يفتقر إلى الدقة laissez faire،
دعه يعمل) وعن سياسة الحرية الاقتصادية غير المحدودة، وتبني
سياسة «التدخل» interventionism التخطيطي للدولة في الشئون الاقتصادية، إذا شئنا ضمانًا
للحرية، وبتعبير آخر لا بد أن تنتهي الرأسمالية المُطلَقة ويحل محلها مذهب التدخل الاقتصادي.
إن مناهضي مذهب تدخل الدولة يرتكبون خطأ التناقض الذاتي، فأية حرية يجب أن تحميها
الدولة:
حرية سوق العمل أم حرية الفقراء أن يتحدوا؟! فأيما قرار سوف يُتَّخَذ فسوف يُفضي في ظل
جميع
الظروف إلى اتساع المسئولية الاقتصادية للدولة شئنا ذلك أم أبينا. وبصفة أعم، إذا الدولة
لم
تتدخل فقد تتدخل عندئذٍ تنظيمات شبه سياسية مثل الشركات والاتحادات الاحتكارية وما إليها،
فتختزل حرية السوق إلى وهم. ومن جهة أخرى فإن من الأهمية بمكان أن ندرك أنه في غياب الحماية
اللصيقة للسوق الحرة فمن المحتم أن يتوقف النظام الاقتصادي برمته عن تأدية الغرض الوحيد
المنوط به وهو أن يفي بحاجات المستهلك … إن التخطيط الاقتصادي الذي لا يحقق الحرية
الاقتصادية بهذا المعنى سوف ينتهي به المطاف إلى شيء قريب من الشمولية.
في جميع هذه الأحوال نجد أن غاية التسامح (أو الحرية) الممكنة هي دائمًا قدْرٌ محسوبٌ
وليس مطلقًا؛ إذ لا بد للتسامح والحرية أن يكونا محدودَيْن إن شئنا لهما أن يُوجَدَا
على
الإطلاق! ومن البيِّن أن التدخل الحكومي، وهو الضمان الوحيد لوجودهما، هو سلاح ذو حدين،
فبدونه
تموت الحرية، وبزيادته عن الحد تموت الحرية أيضًا! وهكذا نجد أنفسنا نعود أدراجَنا إلى
ضرورة الضبط، والذي يعني إمكانية تغيير الحكومة بواسطة المحكومين كشرط أساسي للديمقراطية،
غير أن هذا التغيير، وإن يكن شرطًا ضروريًّا، ليس شرطًا كافيًا، فهو لا يضمن بقاء الحرية؛
إذ لا شيء يضمن بقاءها، فثمن الحرية هو اليقظة الدائمة. إن النظم أو المؤسسات، كما أشار
بوبر، هي كالحصون: ليس يكفي أن تكون شديدة البنيان، بل يجب أن تكون أيضًا مزودة برجالٍ
أشداء.
مفارقة الحكم (السيادة) paradox of sovereignty
دَأَبَ الفلاسفةُ السياسيون بعامة أن
يَعدُّوا السؤالَ الأهم في مجالهم هو «من الذي ينبغي أن يحكم؟» ثم يبرروا جوابهم عنه
كلٌّ
حسبَ توجهِه الخاص: شخص واحد، الشخص الحسيب، الغني، الحكيم، القوي، الخيِّر، الأغلبية،
البروليتاريا، إلخ، ولم يَجُلْ بخاطر أحد أن السؤال نفسه مغلوط! وذلك لأسباب عديدة، فهو
أوَّلًا: يُفضي مباشرةً إلى ما أسماه بوبر «مفارقة الحكم»، هَبنا أسلمنا مقاليدَ السلطة
ليد
أكثر الناس حكمة، إنه قد تقتضيه حكمتُه العميقة أن يقول: «ليس أنا، بل الأحسن خلقًا هو
من
ينبغي أن يحكم.» فإذا تولى هذا زمامَ السلطة فقد يقتضيه وَرَعُه أن يقول: «لا يليق بي
أن
أفرض إرادتي على الآخرين، ليس أنا ولكن الأغلبية هي التي يجب أن تحكم.» وبعد تنصيب الأغلبية
فإنها قد تقول: «نريد رجلًا قويًّا يفرض النظام ويخبرنا ماذا نفعل.»
وثمة اعتراض آخر مفاده أن السؤال «أين يجب أن يكون الحكم؟» يفترض مُسْبقًا ضرورة وجود
السلطة النهائية في مكانٍ ما، وهو غير صحيح، ففي معظم المجتمعات هناك مراكز قوى مختلفة
ومصطرعة إلى حد ما وليس مركز واحد يمكنه أن يدير الأمور كما شاء، وفي بعض المجتمعات نجد
النفوذ موزَّعًا منتشرًا على نطاق واسع، فإذا سأل سائلٌ: «نعم، ولكن أين تقع السلطة في
النهاية؟» فإنه سؤاله يستبعد قبل أن يُطرَح إمكانية وجود ضبطٍ على الحكام، حين يكون هذا
الضبط هو أَوْلى الأشياء جميعًا بترسيخه، ومِنْ ثَمَّ فهو سؤال يحمل في داخله متضمنات
شمولية،
إن السؤال الحيوي ليس «من يجب أن يحكم؟» بل «كيف نَحُول دون إساءة الحكم؟ كيف نتجنب
حدوثها؟ وإذا حدثت كيف نتجنب عواقبها؟»
نَخْلُص مما سبق إلى أن أفضل مجتمع يمكننا تحقيقه هو ذلك الذي يكفل لأعضائه أكبر قدر
ممكن
من الحرية، وأن هذا الحد الأقصى هو قدرٌ منضبطٌ تخلقه وتحفظه نظمٌ مصمَّمَةٌ لهذا الغرض
ومدعمةٌ بقوة الدولة، وهذا يستلزم تدخُّلًا واسع النطاق للدولة في الحياة السياسية
والاقتصادية والاجتماعية، وأن الإفراط في التدخل أو التفريط فيه كلاهما يؤدي إلى نفس
النتيجة، وهو ضياع الحرية، وأن تجنب كلا الخطرين هو في التمسك بنظم معينة، أولها وأهمها
جميعًا الاحتفاظ بوسائل دستورية يتسنَّى بها للمحكومين تغييرُ من بيدهم مقاليدُ سلطة
الدولة، واستبدال غيرهم ممن لهم سياساتٌ مختلفة، وأن أي محاولة لإضعاف هذه النظم وإبطال
دورها هي محاولة لتنصيب حكم شمولي ولا بد أن تُمنَع (بالقوة إذا لزِمَ الأمر)، إن استخدام
القوة ضد الطغيان هو أمر له ما يبرره حتى لو كان الطغيان يتمتع بتأييد الأغلبية، والاستخدام
الوحيد المبرَّر للقوة هو للمحافظة على النظم الحرة حيثما وُجِدَت وتأسيسها حيثما
غابت.
توتر الحضارة the strain of civilization
يرتكز تفسير بوبر لجاذبية المذهب الشمولي totalitarianism
على مفهوم نفسي اجتماعي أطلق عليه «توتر (عسر) الحضارة»، وهو مفهوم يعترف
بوبر أنه يتصل بسبب وثيق بذلك المفهوم الذي طرحه فرويد في كتابه
«مساوئ الحضارة» Civilization and its discontents. إن أغلب الناس في الحقيقة لا يريدون الحرية! ذلك أن
الحرية تقتضي المسئولية، وأغلب الناس يخشون المسئولية، فقبول المسئولية عن حياتنا يتضمن
مواجهة مستمرة لاختيارات وقرارات صعبة وتحمُّل تبعاتها إذا كانت خاطئة، إن هذا عبء ثقيل،
وكلنا يطوي جوانحه على رغبة، قد تكون طِفْلية، بأن يتملص من هذا العبء ويضع عن كاهله
هذا
الإصر، ولما كانت أقوى غرائزنا، رغم ذلك، هي غريزة البقاء وغريزة الأمان فإننا لا نشاء
أن
نحول المسئولية إلا إلى شخص أو شيء تزيد ثقتنا به على ثقتنا بأنفسنا، ولعل هذا هو السبب
في
أن الناس تريد حكامها أن تكون أفضل منها، وفي أن الناس تعتنق كثيرًا من الاعتقادات غير
المعقولة التي تدعم ثقتها بذلك وتضطرب غاية الاضطراب إذا تكشَّفَ لها العكس، إننا نريد
أن نوكل
أمرنا من هو أقدر مِنَّا، ونريد أن يتخذ القرارات الصعبة في حياتنا شخص أقوى مِنَّا غير
أنه
يحب لنا الخير، وليكن هذا والدًا حازمًا ولكنه طيب، أو فليكن نسقًا عمليًّا من الفكر
أكثر
مِنَّا حكمةً وأقل خطأً، إننا نريد فوق كل شيء أن نتحرر من الخوف، ومعظم المخاوف، بما
فيها
المخاوف الأساسية كالخوف من الظلام، والخوف من الموت، والخوف من الغرباء، والخوف من
نتائج
أفعالنا، والخوف من المستقبل، يمكن أن ترد إلى «الخوف من المجهول»؛ ومِن ثَمَّ فنحن طوال
الوقت نُلِحُّ في طلب ما يُطمئننا بأن «المجهول» هو في حقيقة الأمر «معلوم»! وأن ما يخبئه
لنا هو
شيء سنطلبه ونريده على كل حال، ونرحب بكل مذهب سياسي يطمئننا بأن المستقبل سيكون خيرًا،
وربما عاجلًا جِدًّا.
كانت هذه الحاجات مستوفاة في المجتمعات القبلية قبل النقدية وثوابتها اليقينية: السلطة،
التراتب، الطقوس، التابو، إلخ، ومع انتقال الإنسان من المرحلة القَبَلية إلى المرحلة
النقدية فُرِضَت عليه مطالب جديدة مخيفة، لقد أُخليَ بين الحرية وبين الفرد، رُميَ الفرد
بحريته، وصار عليه أن يسائِل السلطة ويبحث في المسلَّمات، مما يهدد المجتمع بالاختلال
ويهدد
الفرد بالتخبط والضلال، ونتيجة لذلك كان هناك منذ البدء رد فعل ضد ذلك، رد فعل في المجتمع
ككل ورد فعل داخل كل فرد (وهذا الرأي يعود جزئيًّا لفرويد)، إننا نحظَى بالحرية على حساب
أمننا، وبالمساواة على حساب اعتبارنا لذاتنا، وبالوعي النقدي بذاتنا على حساب راحة بالنا،
إنه ثمن باهظ، لا يدفعه مِنَّا أحدٌ وهو سعيد، وكثيرٌ مِنَّا لا يودُّون دفعه على الإطلاق.
لم يكن خِيرة اليونان في شك من مزايا هذه الصفقة، ومن أنه «خيرٌ للإنسان أن يكون سقراطًا
ساخطًا من أن يكون خنزيرًا راضيًا»، ومع ذلك فقد حدثت رِدَّةٌ حُكِمَ فيها على سقراط
بالموت
بسبب تساؤله، ومنذ تلميذه أفلاطون فصاعدًا لم نعدم عباقرةً أفذاذًا يناهضون أي تحول إلى
المجتمع المفتوح، لقد أرادوا للمجتمع أن يعود إلى الوراء، أو الأمام، إلى ذلك المجتمع
الذي
كان أكثر انغلاقًا.
٦
مجمل القول أنَّه منذ بداية الفكر النقدي مع الفلاسفة السابقين على سقراط preSocratics
كان هناك تيار آخر من الفكر يجري موازيًا للفكر الحضاري الجديد (ولعل الأدق أن نقول يجري
بداخله)، ذلك هو تيار الرجعية أو الرِّدَّة المضادة لتوتر الحضارة، والذي أنتج فلسفات
تدعو
إلى العودة إلى رحم القبيلة، إلى أمان المجتمع القبَلي (المجتمع قبل النقدي)، أو إلى
التقدم
إلى مجتمع مستقبلي يوتوبي.
تفي كل من الرجعية واليوتوبية بحاجات متماثلة في النفس البشرية، وهما مِن ثَمَّ شبيهان
تربطهما أواصر قُربى وثيقة وعميقة وجوهرية، فكلاهما يرفض المجتمع القائم ويدَّعي أن هناك
مجتمعًا أمثل يوجد في موضع آخر من الزمان، وكلاهما مِن ثَمَّ يميل إلى أن يكون عنيفًا
ورومانسيًّا في الوقت نفسه، فأنت إذا رأيت أن الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ فسوف تودُّ
أن
توقف عمليات التغير، وإذا رأيت أنك تؤسس لمجتمع كامل في المستقبل فسوف تود أن يدوم هذا
المجتمع عندما تجده، وهذا يعني بالمثل أن توقف عمليات التغير الحالية، هكذا يهدف كل من
الرجعي والمستقبلي إلى مجتمع مقيد. ولما كان التغير أمرًا لا يمكن منعه إلا بأقسى وسائل
الضبط الاجتماعي — بمنع الناس من المبادرة بأي فعل قد تكون له عواقب اجتماعية خطيرة —
فإن
كلا التوجهين الماضوي والمستقبلي ينتهي إلى نزعة شمولية، هذا المآل قابع في كلا التصورين
منذ البداية، وإن كان وقوعه يُخَيِّل للناس أن النظرية قد حُرِّفَت، لقد اعتدنا أن نسمع
عن
هذه النظرية الرجعية أو تلك (القول مثلًا بأن أفضل حكم هو حكم المستبد العادل) أو عن
نظرية
المستقبل السعيد (الشيوعية مثلًا) أنها نظرية جد ممتازة كنظرية وإن كانت لسوء الحظ لا
تعمل
كما يجب عندما توضع على صعيد التطبيق العملي، وهذه مغالطة كبيرة، فإذا كانت النظرية فاشلة
على الصعيد العملي فهذا يكفي لإثبات أنها على خطأ نظري (وهذا، بغض النظر عن أي شيء، هو
مغزى
إجراء التجربة العلمية).
ورغم أن المحصلة العملية للنظريات الرجعية واليوتوبية هي مجتمعات من مثل مجتمعات هتلر
وستالين، فإن التوق إلى مجتمع كامل ليس شيئًا نابعًا من الخبث البشري، بل العكس هو الصحيح،
إن معظم أمثلة التطرف المروِّع قد أتت بها قناعة أخلاقية صادقة لأناس مثاليين كانت نياتهم
حسنة، مثلما كانت نيات محاكم التفتيش الإسبانية، وإن الأوتوقراطيات والحروب الأيديولوجية
والدينية التي تشكل شطرًا كبيرًا من التاريخ الغربي لهي تجسيد ساخر للمثل القائل «إن
الطريق
إلى جهنم مفروش بالنيات الطيبة».
كما أن التوق إلى مجتمع كامل ليس شيئًا نابعًا من الحماقة البشرية، ولا الحمقى هم
وحدهم
رواد هذا الطريق، فالحق أن التبرم بالمجتمع القائم والرغبة في الخروج عليه هما من سمات
الأذكياء من الناس، بينما نجد الأغبياء وضيِّقي الأفق أَمْيلَ إلى المحافظة وإلى قبول
الأشياء
كما وجدوها؛ ومِنْ ثَمَّ فإن الثورة ضد الحضارة (أي ضد حقائق الحرية والتسامح وما تجرها
من
تعددية وصراع ومخاطر وقبول للتغير المفاجئ الجموح) كانت الريادة فيها لنفرٍ من أعظم قادة
الفكر البشري، أفرزت عبقريتهم «نزعة نخبوية»
elitism تتمثل في ازدرائهم للتقليدية الخاملة
عند عامة الناس، وفي رفضهم للمساواة والديمقراطية. وفي هجومه على أعداء المجتمع المفتوح
ينسب بوبر إلى معظم هؤلاء أنبل الدوافع، وينسب إلى بعضهم أعلى مستويات الذكاء العقلي،
ويعترف أنهم يخاطبون فينا بعضًا من أسمى غرائزنا وأعمق مخاوفنا أيضًا.
٧
مشكلة الطغيان
في معرِض نقده للنظرية السياسية عند أفلاطون يَعرِض بوبر لفكرة الطغيان
وهو متنبه لكراهية أفلاطون لحكم الأغلبية باعتباره حكمَ الرعاع أو حكم الأسوأ، ويخلُص
بوبر
إلى أن المسألة ليست مسألة الشعبية، فبعض أصناف الطغاة يتمتعون بشعبية كبيرة ويمكنهم
كسب
الانتخابات بسهولة، والمجتمع المفتوح والليبرالي ليس مجرد حكومة منتخبة شعبيًّا، ولا
المسألة مسألة العدل والخير؛ إذ ليس في ذلك ما يقدم ضمانًا ضد طغيان يعيش باسم العدل
والخير، ووفقًا لنظريته في العلم، وفي المعرفة بعامة، يقترح بوبر «مسارًا سلبيًّا»؛ إذ
ليست
المسألة مسألة ما هو النظام الذي نريده، بل ماذا نفعل للأنظمة التي لا نريدها، ومشكلة
الطغيان هي أن المواطنين لا يملكون طرقًا سلميةً يتخلصون بها منه إذا أرادوا ذلك، الأمر
الذي حدا بكارل بوبر إلى أن يقدم معيارًا للديمقراطية أصبح شائعًا ومتفقًا عليه:
«الديمقراطية هي ذلك النظام السياسي الذي يتيح للمواطنين أن يُخلِّصوا أنفسهم من حكومة
لا
يرغبونها، دون حاجة إلى اللجوء إلى العنف.»
وهو يعرض سؤال أفلاطون «من الذي ينبغي أن يحكم؟» (وجميع الأسئلة الشبيهة)، ويبين
أن
السؤال نفسه يحمل متضمنات شمولية، مفادها أن أيًّا من كان هذا الحاكم فهو «أهلٌ للحكم»،
ويستبدل بهذا السؤال سؤالًا عمليًّا هو «كيف يمكننا أن نتخلص من الحكومات السيئة بدون
عنف؟» وهو سؤال يتضمن أن الحكام هم في حالة «تعهد» parole مستمرة، وهو ما يعني أن بوبر
ينظر نظرةً متشائمةً إلى الحكومات ويراها عاجزةً بدرجة أو بأخرى وقمينةً بإساءة استخدام
السلطة، ولا يكبحها عن هذا إلا نظامٌ سياسيٌّ يسمح لها أن تحكم في حدود احتمال مواطنين
بإمكانهم سحبُ تأييدهم لها في أي وقت. وحتى هذا غير كافٍ، فنظرياتنا في المؤسسات والنظم
غير
معصومة، والحكمة تفرض علينا اليقظة الدائمة.
الهندسة الاجتماعية الجزئية
ثمة تطابقٌ لا تخطئه العين بين فكر بوبر السياسي وفكره العلمي، فالحجج التي يمضي
بها
نقدُه للنظرة السياسية القائلة بإمكان تأسيس شكل معيَّن للمجتمع والإبقاء عليه، تناظرها
حججه
التي يقوم عليها نقدُه للنظرة التي تقول بأن العلم يمكنه أن يؤسس معرفةً يقينيةً ويُبقي
عليها. ورأيه القائل بأن العلم هو المنهج العلمي يناظره رأيه القائل بأن السياسة هي المنهج
السياسي، وفي كلتا الحالتين فإن ما يريدنا بوبر أن نستخدمه هو عملية
«تغذية راجعة» feed-back لا تنتهي، ندفع فيها بأفكار جديدة جريئة يتم تعريضها جميعًا لتمحيصٍ قاسٍ لاستبعاد
الخطأ في ضوء التجربة، وهو يسمي هذه الطريقة «العقلانية النقدية» في الفلسفة، ويسميها
في السياسة «الهندسة الاجتماعية الجزئية» piecemeal social engineering.
يدعو بوبر إلى تبني الهندسة الاجتماعية الجزئية كمقابل للتخطيط الكلي اليوتوبي، فمن
شأن
التحسينات الجزئية أن تقبل التصويب إذا تبين أنها على خطأ، بينما التخطيط الكلي اليوتوبي
جديرٌ بأن يُولِّد اضطراباتٍ كبيرةً قد تؤدي إلى وضع أسوأ بكثير من الوضع الذي بدأ منه،
وفي
هذا المجال السياسي، كما في مجال المنهج العلمي، يفضل بوبر طريقة المحاولة ونبذ الخطأ
على
أحلام الكمال اليوتوبي التي لا تتحقق.
إن البشر أشبه ببحَّارة سفينة في البحر، يمكنهم أن يُصلِحوا أي جزء من السفينة التي
يعيشون
فيها، ويمكنهم أن يصلحوا السفينة كلها جزءًا جزءًا، ولكن لا يمكنهم أن يُصلحوها كلها
دفعةً واحدة.
٨
التقدم العلمي يعتمد على الديمقراطية
للمنهج العلمي جانبٌ اجتماعيٌّ، فالعلم والتقدم العلمي بنوع خاص لا يَنتجان عن الجهود
المنعزلة بعضها عن بعض، بل ينتجان عن حرية التنافس الفكري، ذلك أن العلم محتاج إلى التنافس
المتزايد بين الفرضيات، ومحتاج إلى الدقة المتزايدة في الاختبارات، وتحتاج الفرضيات
المتنافسة إلى من يمثلها أو ينوب عنها من الأشخاص، إن صح التعبير، أي أنها تحتاج إلى
محامين
ومحلفين، بل تحتاج إلى جمهور، وهذا التمثيل الشخصي لا يقوم بوظيفته إلا إذا اتخذ صورة
المؤسسات، وهذه المؤسسات لا بد من إمدادها بالمال، ولا بد من حمايتها بالقانون، ويعتمد
التقدم في نهاية الأمر على العوامل السياسية إلى حد بعيد، أي أنه يعتمد على المؤسسات
السياسية والنظم التي تحمي حرية الفكر: يعتمد على الديمقراطية.
٩
ويهمنا أن نلاحظ أن «الموضوعية العلمية» صفة تعتمد إلى حدٍّ ما على المؤسسات الاجتماعية،
فالقول الساذج بأن الموضوعية العلمية وليدةُ موقفٍ ذهني أو سيكولوجي لدى الفرد من
العلماء، وأنها تعتمد على ما حصله من تجربة وما اكتسبه من تعود على الحيطة والنزاهة والبعد
عن التحيز، هذا القول من شأنه أن يستثير الرأي المعارض الذي يذهب إلى التشكيك في قدرة
العلماء على اتخاذ موقف موضوعي، يقول أصحاب هذا الرأي الأخير إن افتقار العلماء إلى
الموضوعية قد لا يكون له تأثير يُذكر في العلوم الطبيعية حيث لا يوجد ما يثير انفعالهم،
أمَّا في العلوم الاجتماعية التي لا تنجو أبحاثها من الأهواء الاجتماعية والتحيز الطبقي
والمصالح الشخصية، فقد يكون لهذا الافتقار إلى الموضوعية أثرٌ فتَّاك، وهذا الرأي الذي
ظهر
بصورة مفصلة فيما يُسَمَّى «النظرية الاجتماعية في المعرفة»، يغفل تمامًا عما للمعرفة
العلمية من طابعٍ اجتماعيٍّ أو مؤسساتي؛ لأنه يرتكز على القول الساذج بأن الموضوعية معتمدة
على سيكولوجية الأفراد من العلماء، وهو لا يرى أن جفافَ موضوع البحث في العلوم الطبيعية
أو
بُعدَه عن الأمور الشخصية لا يمنعان التحزب والمصلحة الذاتية من التسلل إلى معتقدات العالم،
والحق أننا لو اعتمدنا كل الاعتماد على نزاهة العالم من الهوى، لاستحال العلم تمامًا،
بما
في ذلك علم الطبيعة.
إنَّ ما غفلت عنه «النظرية الاجتماعية في المعرفة» هو عين الصفة الاجتماعية للمعرفة،
أعني ما للعلم من طابعٍ اجتماعيٍّ أو عامٍّ؛ إذ إنها أهملت قيام العلم على قدرة الأفراد
على
اختباره، واستخدامها المؤسسات في نشر الأفكار الجديدة ومناقشتها، وهذان الأمران هما اللذان
يصونان الموضوعية العلمية، وهما أيضًا اللذان يفرضان على ذهن العالم نوعًا من النظام
يلتزم به.
١٠