خاتم نبوخذ نصر
قلتُ: «ثورندايك، أظن أن آثار الأقدام ستقودنا إلى معلومات كثيرة إذا أنعمت التفكير بشأنها.»
القضية فرضَتْها الظروفُ حين توقَّف صديقي وانحنى لتفحُّص حفرةٍ صغيرةٍ محفورة في التربة الطينية التي تكسو الطريق وحفرها أحدُ المارة بعصًا يتوكأ عليها. ومنذ أن سلكنا هذا الطريق — الذي وجَّهَنا إليه ناظرُ محطة بينويل جانكشن وقال إنه طريقٌ مختصر لوجهتنا — لاحظتُ صديقي يدقِّق النظر في سطح الطريق؛ إذ تظهر عليه العديدُ من آثار الأقدام، وكأنه يُعيد بناء شخصيات الكثيرين ممَّن سلكوا هذا الطريق قبلنا. أعلم أن هذه عادة لديه، وربما يمارسها لا إراديًّا؛ ومن المؤكد أن الظروف الحالية هيَّأت له ممارسة هذه العادة حيث إن الطريق يقطع غابةً صغيرة، كما أن السطح اللين الرطب تظهر عليه الآثارُ واضحة وكأنها محفورة على شمع الصب.
أجاب: «نعم، ولكن يجب أن تفعل ما هو أكثر من التفكير. تحتاج إلى تدريب عينَيك على ملاحظة الخصائص المميزة البارزة.»
قلت مبتسمًا: «مثل هذه الخصائص المميزة.» وأشرتُ إلى أثرٍ واضحٍ لنعلٍ مطاطي من نوع «إنفيكتا» من شركة كوكس ومطبوع عليه علامته التجارية وهي الحصان الجامح.
ابتسم ثورندايك قائلًا: «الرجل الذي يرتدي هذا النعل ما هو إلا وكيل إعلانات. ومَن يركض يمكنه قراءة هذه الخصائص المميزة، ولكن مع وجود الآلاف ممَّن يرتدون نعال «إنفيكتا»، فلا تُحدد الملاحظة صاحبَ النعل إلا على أنه فرد ضمن مجموعة كبيرة. يجب السير لمسافة أطول لتحديد هوية الفرد؛ وإلا فالأحرى أن تكون آثار النعل القياسية مضللة أكثر من كونها مفيدة. عادةً ما تحوِّل العلامات المميزة البارزة انتباه المبتدئ عن الخصائص المميزة الأوضح التي يمكن أن يبحث عنها في أثر واضح مثل أثر الشخص الذي كان يرافق هذا الرجل.»
سألت: «ما أدراك أنه رفيق له؟ سلك الرجلان الطريق نفسَه، ولكن ما الدليل على أنهما رافقَا بعضهما؟»
«أدلة كثيرة، ستجدها إذا تتبَّعت سلسلة الخطوات، كما أفعل الآن. بدايةً توجد خطوة واسعة. كان الرجلان طويلَي القامة، كما هو واضح من مقاس أقدامهما، ولكن لا شك أن كليهما كان يمشي بخُطًى ضيقة. والخطوة الضيقة للرجل صاحب النعل الجلدي تفسِّرها الطريقةُ التي يضع بها عصاه. كان يُمسكها بقوة ويتكئ عليها قليلًا كي يساعد نفسه بها. يوجد أثرٌ واحد للعصا كلَّ خطوتَين؛ وكلُّ أثرٍ لقدمه اليسرى يقابله أثرُ العصا. والرأي أنه رجل مسنٌّ أو ضعيف أو واهن، ولكن صاحب النعل المطاطي كان يسير بعصاه بخُطًى عادية. يوجد أثر واحد للعصا مقابل أربع خطوات. ولا ينبغي تفسير خطواته القصيرة غير الطبيعية على افتراض أنه مشى بخُطًى ضيقة لمواكبة الرجل الآخر.
عادة ما تجد مجموعتَي آثار الأقدام منفصلتَين؛ فالرجل لم يأتِ على خُطى الرجل الآخر ولم تساير عصاه عصا الآخر، باستثناء الأماكن التي يضيق فيها الطريق بحيث لا يتسع للاثنين، ولا توجد سوى حالة واحدة لاحظتُ فيها النعال المطاطية تطأ آثار النعال الجلدية، وفي تلك البقعة تعلو آثارُ النعال الجلدية آثارَ النعال المطاطية. وبالطبع هذا دليل دامغ بأن الرجلين وُجدَا هنا في الوقت نفسه.»
أنا؛ موافقًا: «وهذا يُجيب عن السؤال من دون التباس الأمر بشأن الخُطى، ولكن على كلٍّ يا ثورندايك هذه مسألة استنتاج كما قلتَ؛ أي أنها مبنية على التفكير في آثار الأقدام وما تدل عليه. فالأمر لا ينطوي على حدة خاصة في الملاحظة أو تدريب على الرؤية. الحقائق المجردة واضحة تمامًا، ولكن تفسيرها هو ما يؤدي إلى المعرفة.»
قال: «هذا صحيح حتى الآن، ولكننا لم نعدم حِيَلَنا بعدُ. أنعم النظر في آثار العصوَين وأخبرني هل ترى أيَّ شيء مميز في أيٍّ منها؟»
توقفتُ وتفحصتُ بعض الحفر التي أحدثتها العصوان في الطريق، وفي حقيقة الأمر لم أستطع التفريقَ بينها كثيرًا.
قلت: «تبدو متشابهة كثيرًا. عصا صاحب النعل المطاطي أكبرُ من عصا الرجل الآخر كما أن عصا صاحب النعل الجلدي أحدثت حُفَرًا أعمق، قد يكون السبب في ذلك أنها أصغر وأن الرجل كان يتوكأ عليها بحمل أثقل.»
هزَّ ثورندايك رأسه: «أنستي، لقد غاب عنك ما أرمي إليه بسبب أنك لم تلاحظ الحقائق المرئية. وما أرمي إليه واضح تمامًا وربما يكون بالغ الأهمية في ظروف معينة.»
قلت: «حقًّا، ما الذي ترمي إليه؟»
قال: «سأترك لك الاستنتاج من الحقائق المرئية، وهي؛ أولًا: آثار العصا الصغرى على الجانب الأيمن من الرجل الذي كان يتوكأ عليها؛ ثانيًا: كلُّ أثر مسطح قليلًا باتجاه الأمام من الجهة اليمنى.»
تفحصتُ الآثار بعناية وتحققت مما قاله ثورندايك.
قلت: «ماذا عن تلك الآثار؟ ما الذي تُثبته؟»
ابتسم ثورندايك وكأنه يئس. قال: «يمكن التوصل إلى الدليل عن طريق الاستنتاج من الوقائع. صديقي المثقف لديه الوقائع. وإذا درسها، فستظهر النتيجة.»
قلت: «ولكني لا أرى المغزى الذي ترمي إليه. الأثر مسطح قليلًا من جانب واحد، وأظن أن السبب في ذلك هو تآكل الحلقة المعدنية في طرف العصا من ذلك الجانب، ولكني أكرر، ماذا عن تلك الآثار؟ هل تتوقع مني أن أستنتج سببَ تلاشي آثار العصا التي تخصُّ ذلك الرجل من جانب واحد؟»
ثورندايك: «لا تنفعل يا أنستي. حافظ على هدوئك الرصين. أؤكد لك أن هذه المسألة مثيرة جدًّا للاهتمام.»
رددت: «ربما، ولكني أتعجب إذا كان بإمكاني تخيُّلُ سببِ إمساكه لعصاه بتلك الطريقة. الأمر لا يهمُّ حقًّا على أية حال. إنها ليست عصاي، وها هو برودريب الكبير بجانب جينجو وقد لحقَا بنا ونحن نُضيع وقتنا في حديث أكاديمي ونعطل أعماله. لنؤجل المناقشة.»
أتت بنا المناقشة إلى بداية الغابة وهنا استطعنا تمييزَ شكل المحامي. وعندما وقعت عينُه علينا، أسرع إلينا ملوِّحًا بيده.
قال متعجبًا: «يا لكم من رجال! ظننتُ أنكما ستسلكان هذا الطريق، وجيد أنكما أتيتما على أية حال، خاصة أن المسألة مجرد مسألة شكلية.»
سأل ثورندايك: «ما الأمر؟ وصلني تلغراف منك يقول إن جريمة انتحار ارتُكبت. هل أعتبر أن هناك ما يستدعي إجراء تحقيق؟»
برودريب: «لا أعلم إن كان هناك أسباب أم لا، ولكن المتوفَّى مؤمَّن عليه بمبلغ ثلاثة آلاف جنيه؛ وبالتالي ستضيع من التركة إذا تأكد ارتكاب الانتحار؛ ولذا أقترح على زميلي أن الأمر يستحق تكليف خبير للتأكد هل الأمور جرَتْ كما هو ظاهر أم لا. الحكم بأن الموت كان عن طريق الخطأ سيوفر لنا ثلاثة آلاف جنيه. هذا هو الموضوع باختصار.» مع الختام، غمز المحامي الكبير بمكرٍ مبالغ فيه ووكز كوعه في ضلوعي.
تجاهل ثورندايك مزحة اقتراح الرشوة والفساد وسأل بأسلوب جادٍّ: «ما هي ملابسات القضية؟»
برودريب: «أفضِّل أن أعطيَك نبذة عن القضية قبل أن نذهب إلى المنزل. المتوفَّى هو مارتن رولاندس، شقيق جاري في حي نيو سكوير، توم رولاندس. وجد توم الكبير البائس التلغراف منتظرًا عندما وصل إلى المكتب هذا الصباح؛ ومن ثَم اندفع إلى مكتبي على الفور ومعه التلغراف وتوسَّل إليَّ كي آتيَ إلى هنا معه؛ وبالتالي أتيتُ. ولم أستطع أن أرفض طلب محامٍ زميل. إنه ينتظر في المنزل الآن.
إليك الأحداث؛ عندما أنهى رولاندس عشاءَه في الليلة الماضية، خرج للتمشي. هذه عادته في شهور الصيف، في هذه الأيام يظلُّ الجو مضيئًا حتى التاسعة والنصف تقريبًا. وكانت هذه آخر مرة يراه الخدم على قيد الحياة. لم يرَه أحدٌ يدخل البيت مرة أخرى، ولكن لم يكن هناك شيءٌ يُثير الغرابة في ذلك؛ لأن لديه مدخلًا خاصًّا في الملحق الذي يتضمن مكتبتَه ومعرضه وغرفة عمله. وعندما يعود من جولة التمشي، عادة ما يدخل إلى المنزل بتلك الطريقة ويذهب مباشرة إلى مكتبه أو غرفة عمله ويقضي الليل فيها؛ وبالتالي نادرًا ما يراه الخدم بعد العشاء.
في الليلة الماضية، من الواضح أنه خرج كعادته، ولكن عندما ذهبتِ الخادمة إلى غرفة نومه في هذا الصباح بكوب الشاي الصباحي، انذهلَتْ حين وجدَت الغرفة فارغةً وأن الفراش مرتَّبٌ. أبلغتْ مدبِّر شئون المنزل على الفور واتخذَا طريقهما إلى الملحق. ولمَّا وصلَا وجدَا أن باب المكتب مغلقٌ ولا أحدَ يردُّ بعدما طرقَا عدة مرات؛ ومن ثَم ذهبَا إلى الحديقة للبحث. باتَت نافذةُ المكتب محكمةَ الغلق ولكن لم تكن نافذةُ غرفة العمل كذلك؛ ومن ثَم تمكَّنَا من فتحها من الخارج. بعد ذلك، دخلت الخادمة من النافذة وذهبت إلى الباب الجانبي وفتحتْهُ وأدخلت مدبر شئون المنزل. ذهب الاثنان إلى غرفة العمل ولمَّا كان البابُ المتصل مع المكتب مفتوحًا، تمكَّنَا من الدخول إليه ووجدَا مارتن رولاندس جالسًا في كرسيٍّ ذي ذراعَين بجانب الطاولة ميتًا وجسده باردٌ ومتيبسٌ. كان على الطاولة دورق ويسكي وأنبوب شفط به ماء صودا وعلبة سيجار وطفاية سجائر بها عقب سيجار وزجاجة صغيرة بلاصقة تُشبه الصحف الشعبية المصورة تحتوي على سيانيد البوتاسيوم.
انطلق مدبر شئون المنزل من فوره إلى الطبيب وأرسل تلغرافًا إلى توم رولاندس في مكتبه. وصل الطبيب في حوالي الساعة التاسعة وقال إن المتوفَّى مات منذ اثنتي عشرة ساعة تقريبًا. بدا أن سبب الوفاة هو التسمم بالسيانيد، ولكن بالطبع سيتأكد هذا الرأيُ أو يُرفض بناءً على تشريح الجثة. هذه هي جميع الوقائع المعروفة حتى الآن. ساعد الطبيب الخدم على وضع الجثة على الأريكة، ولكن لما كانت الجثة متيبسةً كقطع اللحم المجمدة، فربما تركوها في مكانها.»
سألتُ: «هل استدعيتم الشرطة؟»
ردَّ برودريب: «لا، وعلى حدِّ ما يرى كلٌّ منَّا، لم تكن هناك ملابساتٌ تُثير الشك، ولا أعرف أنه كان يجب أن أشعر بضرورة استدعائهم — على الرغم من كوني أحبُّ التعرف على رأي ثورندايك دائمًا في قضايا الموت المفاجئ — باستثناء شبهة الحصول على التأمين.»
هزَّ ثورندايك رأسه قائلًا: «يبدو أنها قضية انتحار مباشرة. وفيما يتعلق بحالة المتوفَّى، أظن أن شقيقه سيُعطينا أيَّ معلومات ضرورية.»
ردَّ برودريب: «نعم، في الحقيقة، أظن أن مارتن مرَّ بمرحلة قلق مؤخرًا، ولكن سيُخبرك توم عن هذا الأمر. ها قد وصلنا.»
دخلنا من بوابة تفتح على حديقة منزل كبير وإن كان متواضعًا، ولما اقتربنا من الباب الأمامي، فتح لنا رجل ذو شعر يخضبه البياض يعرفه كلانا جيدًا من منطلق مهني. رحَّب بنا ترحيبًا حارًّا، وعلى الرغم من ظهور الصدمة عليه من هذه الفاجعة، جاهد نفسه كي يبقى هادئًا وكأن شيئًا لم يكن.
قال: «الأفضل أن ننزل إلى الطابق السفلي، ولكن أخشى أن نزعجك بدون داعٍ. بيد أن برودريب رأى أنه من الأفضل اتخاذ احتياطات أكثر وجعل سلطة مختصة تطلع على ملابسات القضية؛ إذ لا يوجد ما يُثير القلق في القضية باستثناء حدوث الوفاة. يمكنني القول إن أخي كان أعقلَ الناس، ولا يوجد في عائلتنا أحدٌ ارتكب جريمة الانتحار من قبل. ألا يكون من الأفضل رؤية الجثة أولًا؟»
لما نزل ثورندايك، تقدَّمنا إلى نهاية الردهة ومنها إلى الملحق، دخلنا إلى غرفة الدراسة وكان بابُها مفتوحًا وقتئذٍ على الرغم من أن المفتاح لا يزال في القفل. لا تزال الأشياء التي ذكرها برودريب على الطاولة، ولكنَّ الكرسيَّ فارغ، والمتوفَّى الذي كان يجلس عليه مستلقٍ على الأريكة ومغطًّى بقطعة قماش كبيرة. تقدم ثورندايك إلى الأريكة ورفع القماش برفق وكشف عن جثة الرجل ووجده مرتديًا ملابسه كاملة ومستلقيًا على ظهره بطريقة غريبة ورجله مرفوعة وأطرافه المتيبسة مبسوطة. كان هناك شيءٌ غير طبيعي بشكل غريب ومرعب في مظهر الجثة؛ فعلى الرغم من أنها كانت مستلقية، إلا أنها كانت تتخذ وضعية الجلوس؛ وبالتالي كانت تُشبه تمثالًا حقيقيًّا إلى درجة بعيدة وكأن هذا التمثال أُخذ من كرسي ووُضع على الأرض. وقفتُ أنظر إلى الجثة من مسافة قصيرة كأيِّ رجل عادي ينفر من وجود جثة في المكان، ولكني ظللتُ أنظر إليها باهتمام وشيء من الفضول. بعد فترة وجيزة، وقعت عيناي على نعل الحذاء — وكانت واضحة تمامًا في الحقيقة — ولغرابة القدر، لاحظتُ أن النعل المطاطي من نوع «إنفيكتا»، مثل النعال التي وقفنا نتناقش بشأنها في الغابة؛ حتى إنه من الممكن أن تكون آثار الأقدام التي رأيناها هي التي تركتها أقدام هذه الجثة المخيفة.
برودريب بلباقة: «أتوقع أن تُجريَ عملية الفحص بمفردك يا ثورندايك. وإذا احتجتَ إلينا، فستجدُنا في غرفة الضيافة.» وبذلك خرج وأخذ السيد رولاندس معه.
وبمجرد أن خرجَا، وجهتُ انتباهَ ثورندايك إلى النعل المطاطي.
قلت: «يا له من شيء غريب! أوَكنَّا نتناقش في آثار هذا الرجل البائس؟»
أشار ثورندايك إلى دبوس رسم داس عليه الرجلُ وعلق في كعب نعله المطاطي وقال: «في واقع الأمر، نعم. رأيت هذا الدبوس وقت المناقشة، ومن الواضح أنك لم تلاحظه. وهذا يوضح ما كنت أتحدث عنه وهو أن هذه الأنواع المميزة من النعال عادةً ما تُشتت الانتباه عن العلامات الفردية التي لها أهمية كبيرة حقًّا.»
قلت: «إذن، إذا كانت تلك الآثار هي آثار أقدامه، فالرجل صاحب العصا المميزة كان معه. إني أتساءل مَن هو. أظن أنه جارٌ له كان يتمشى معه إلى المنزل من المحطة.»
ثورندايك: «ربما، ولما كانت آثارُ الأقدام جديدة — ربما طُبعَتْ في الليلة الماضية — فيمكن طلبُ هذا الشخص بصفته شاهدًا عند التحقيق باعتباره آخرَ شخص رأى المتوفى حيًّا. وهذا يعتمد على الوقت الذي تمشَّيَا فيه.»
رجع إلى الأريكة وفحص الجثة فحصًا منهجيًّا وأمعن النظر إلى الفم واليدين. بعد ذلك فتش الغرفة وتفحص الأشياء التي على الطاولة والأرض تحتها، ثم انسل إلى غرفة العمل المجاورة وهناك أطلَّ في حوض المختبر العميق وأخذ قدحًا فارغًا من فوق الرف ورفعه في الضوء وفتش الرف — وأوضحت حلقة التصريف الرطبة أن القدح وُضع لتصريف ما فيه — ومن غرفة العمل انتقل إلى ردهة صغيرة وخرج من هناك من الباب الجانبي ونزل إلى مسار محاط بعلامات ويؤدي إلى البوابة الجانبية ثم عاد مرة أخرى.
وفي طريق عودتنا إلى المكتب، قال ساخطًا: «كلُّ الأدلة سلبية باستثناء هذه الزجاجة التي بها لاصقة تُشبه الصحف الشعبية المصورة، وهذا دليل إيجابي على سبق الإصرار. هذا يبدو علبة سيجار جديدة. ومنقوص منها سيجاران. يوجد عقب في طفاية السجائر ورماد أكثر مما يخلفه سيجار واحد. لندخل إلى غرفة الضيافة ونسمع ما يُخبرنا به رولاندس.» خرج ومشى إلى الردهة ثم تبعتُه.
عندما دخلنا إلى غرفة الضيافة نظر إلينا الرجلان وسأل برودريب: «ما الذي خلصتمَا إليه؟»
ثورندايك: «لم نخلص إلى شيء في الوقت الحالي. لم يخرج إلى النور شيءٌ يناقض ما هو ظاهر حتى الآن، ولكني أودُّ سماع المزيد عن الأحداث التي سبقت تلك المأساة. ذكرتَ أن المتوفى عانى نوبةَ قلق في الفترة الأخيرة. ما السبب في هذا القلق؟»
رولاندس: «لا يوجد سببٌ على ما أظن، على الأقل في حالة رجل متزن العقل مثل أخي، ولكن دعْني أسردْ لك القصة كي أقول لك ما أعرفه والسبب فيما حدث على حدِّ علمي. إنها قصة قصيرة جدًّا.
منذ وقت قصير، أتى القائد كوهين إلى المنزل من بلاد الرافدين، وباع لتاجر اسمه ليون خاتمًا ذهبيًّا أسطوانيَّ الشكل اشتراه من حيٍّ في بغداد. الله أعلم كيف حصل عليه، ولكنه كان معه وعرضه على ليون الذي اشتراه منه بمبلغ عشرين جنيهًا. بالطبع لم يعرف كوهين شيئًا عن الخاتم؛ ولم يعرف ليون الكثير؛ فعلى الرغم من أنه تاجر، فإنه ليس خبيرًا، ولكنه مخادعٌ ألمعيُّ الذكاء، أو بالأحرى يمكن القول بأنه مُرمِّم؛ وبالتالي فهو يمتهن عملًا تجاريًّا مشروعًا تمامًا. عملُه الأساسي في الحلي وإصلاح الساعات، وهو الأذكى في مجاله ويتمثل عملُه في شراء الأنتيكات التالفة وترميمها. بعد ذلك، يبيعها لهواة جمْع الأنتيكات الصغار، وللأمانة التامة كان يبيعها على أنها أنتيكات مرمَّمة؛ وبالتالي ينبغي ألا أُطلقَ عليه لقب مخادع، ولكن كما قلت، ليس لديه معرفةٌ حقيقية بالأنتيكات وجلُّ ما رآه في خاتم كوهين هو أنه خاتمٌ ذهبيٌّ أسطوانيُّ الشكل وكان واضحًا أنه قديمٌ وأصلي؛ ومن ثَم اشتراه بضعف قيمة الذهب تقريبًا ولم يولِ الأمر اهتمامًا.
بعد أسبوعين تقريبًا، ذهب أخي إلى متجره في بيتي فرانس بويستمينستر لعمل بعض الإصلاحات، ولأن ليون يعرف أن أخي يجمع الأنتيكات البابلية، عرض عليه الخاتم، وبمجرد أن رآه مارتن عرف أنه أصلي وأنه شيء له قيمة وله أهمية؛ وبالتالي اشتراه على الفور مقابل أربعين جنيهًا من دون فحصه بدقة على الإطلاق؛ لأنه كان واضحًا أنه يستحق هذا المبلغ على أية حال، ولكن عندما عاد إلى المنزل وطبع نسخة من الخاتم على قالب شمع، توصَّل إلى اكتشاف مذهل. أظهرت الطباعة كتلةً من الحروف المسمارية الدقيقة، ولما فكَّ رموز هذه الحروف انتابته السعادة والدهشة عندما علم أن هذا الخاتم ما هو إلا خاتم نبوخذ نصر.
لم يكَدْ يصدِّق أنه يمتلك هذه الثروة، ثم انطلق من فَوره إلى المتحف البريطاني وعرض كنزَه على مشرف الأنتيكات البابلية وأكَّد هو الآخر هوية الخاتم ورغب أن يحصل عليه لعرضه في المتحف. بالطبع لم يرغب مارتن في بيعه، ولكنه سمح للمشرف أن يسجِّل وزن الخاتم وقياساته وأن يطبعَه على صلصال لعرضه في حالة عمل نُسَخٍ من الخاتم.
في هذه الأثناء، بدا أن كوهين كان يُسلِّي نفسه بعمل عددٍ من الطبعات للخاتم على الصلصال قبل التصرف فيه. أخذ بعضَ هذه الطبعات إلى ليون الذي اشتراها مقابل مبلغ زهيد ووضع واحدةً في نافذة المتجر على أنها تحفة. وفي المتجر، شاهدها وتعرَّف عليها عالم آشوريات أمريكي، دخل إلى المتجر واشتراها ثم بدأ في طرح أسئلة كثيرة على ليون لمعرفة من أين حصل عليها. لم يُخفِ التاجرُ شيئًا، أعطاه اسمَ كوهين وعنوانه ولكنه لم يَقُل شيئًا عن الخاتم. في الحقيقة، لم يكن الرجل يُدرك الصلة بين الخاتم والنُّسَخ غير الأصلية؛ لأن كوهين باع له الخاتم المزيف على أنها ألواح صلصال أصلية عثر عليها في بلاد الرافدين على حدِّ قوله، ولكن بالطبع الخبير رأى أن النسخة غير الأصلية مصنوعةٌ حديثًا ولا بد أن الخاتم مع أحد ما.
بناءً على ذلك، ذهب الرجل إلى كوهين وطرح عليه أسئلة كثيرة، مما دفع كوهين إلى الشعور بأن في الأمر شيئًا. اعترف أن الخاتم كان معه، ولكنه رفض أن يبوح بما آل إليه أمرُ الخاتم حتى يُخبرَه الخبير عنه والثمن الذي يستحق أن يُباع به. أخبره الخبير على مضض وبسريَّة تامة، وعندما علم كوهين أن الخاتم هو خاتم نبوخذ نصر وأنه يستحق مبلغًا يصل إلى عشرة آلاف جنيه، أصيب بالإغماء تقريبًا، ثم خرج مع الخبير إلى متجر ليون.
لكن أحسَّ ليون أن هناك خطبًا ما كذلك. رفض ليون رفضًا قاطعًا أن يبوح بمكان الخاتم؛ ولما خمَّن الآن أن النُّسَخ غير الأصلية كانت نُسَخًا من الخاتم، أخذ واحدة منها إلى المتحف البريطاني، وبالطبع كانت السيارة في انتظارهم بالخارج. ومما زاد الأمر تعقيدًا هو تحدُّث عالم الآشوريات البروفيسور بيتمان بحريَّة إلى أصدقائه الأمريكيين في الفندق، ونتيجة لذلك حوصر متجر ليون من قِبَل جامعي التحف الأثرياء من أمريكا وكانوا جميعًا يطلبون الخاتم بأيِّ ثمن يريده. وفي النهاية لما وجدوا أنه لا طائل من ليون، ذهبوا إلى المتحف البريطاني وعرفوا أن أخي معه الخاتم وأخذوا عنوانه، أو بالأحرى عنواني؛ إذ إنه لحسن الحظ أعطى عنوان مكتبي على أنه عنوانه؛ ومن ثَم انهال عليه سَيلٌ من الرسائل الواردة منهم ومن كوهين وليون.
لم يكن الموقف مريحًا. كان كوهين كالمجنون. أخذ يُقسِم أن ليون خدَعه وطلب إما إعادة الخاتم أو دفع السعر المناسب. ليون من جانبه كاد أن يزأر كأسد يهوذا، وطلب المطلب نفسه؛ وعرض جامعو التحف أصحاب الملايين مبالغَ طائلة مقابل الخاتم. انتاب مارتن البائس القلق إزاء هذا الأمر. أصابه الاستياءُ من كوهين على وجه التحديد؛ وذلك لأنه هو مَن عثر على الخاتم وكان جنديًّا معاقًا، جُرح في ساقَيه وأصيب بعاهة العرج المستديمة. أما ليون، فلم تكن لديه مظلمة؛ إذ كان تاجرًا ووجب عليه أن يعرف قيمة مقتنياته الخاصة، ولكن لم يحالفه الحظُّ هو الآخر. وأيضًا، أخذ جامعو التحف يضايقونه كلَّ يوم بالتوسلات والعروض السخية. أصيب هو الآخر بقلق بالغ. ربما أتَوا إلى هنا لرؤيته، ولكنه استطاع أن يحتفظ بعنوانه الخاص سرًّا.
لا أعرف ماذا كان ينوي بشأن الخاتم، ولكن ما فعله هو أن رتَّب معي أن يستعير مكتبي الخاص وأن يحدد يومًا مشهودًا لعقد اجتماع مع كلِّ هؤلاء الناس ومحاورتهم؛ ليون والبروفيسور وأصحاب الملايين بمختلف نوازعهم. انعقد الاجتماع منذ ثلاثة أيام، حضر الجميع؛ ولهذا السبب نفسه، كان أحدُهم أحمقَ وخطيرًا خرج للتمشي وأخذ قبعة وشمسية ليست ملكه.»
برودريب: «هل خرج للتمشي بقبعتك؟»
«لا، ولكنه أخذ عصاي؛ عصًا جيدة وقديمة كانت لأبي.»
سأل ثورندايك: «ما نوع العصا التي تركها بدلًا منها؟»
رولاندس: «يجب أن أعترف أن للرجل عذرَه؛ فالعصا التي تركها كانت تُشبه عصاي تقريبًا. لا أظن أنه يجب أن أقول ذلك، ولكن هذا ما أشعر به. عندما بدأتُ أمشي بها، أدركت أن هناك شيئًا غير عادي في ملمسها.»
ثورندايك مقترحًا: «ربما لم يكن طولها هو طول عصاك.»
رولاندس: «لا، ليس الأمر كذلك. لا توجد مشكلة في الطول، ولكن كان هناك فرقٌ بسيط للغاية؛ لأنني أعسرُ وأحمل عصاي في يدي اليسرى، فربما يكون طرف العصا تآكل من الجهة اليسرى، إذا كان هذا الأمر ممكنًا. سأذهب وآتي بالعصا لك كي تراها.»
خرج من الغرفة ورجع بعد لحظات ومعه عصًا قديمة من قصب المالاكا، وكانت قبضتُها المصنوعة من العاج مثبتةً بشريط فضي عريض. أخذها ثورندايك منه وأبدى درجة من الاهتمام والانتباه في فحصها مما جعلني أندهش؛ فحادثةُ فقدان عصا رولاندس حادثة صغيرة ولم تشغلنا. وعلى الرغم من ذلك، تفحَّصها صديقي بطريقة منهجية أكثر؛ إذ تفحَّص القبضة والشريط الفضي والطويق؛ خاصة الطويق الذي تفحَّصه وكأنه شيءٌ نادر جدًّا ولافت للانتباه.
ابتسم برودريب ابتسامة ماكرة وقال: «لا داعي للقلق بشأن عصاك يا توم. سيُعيدها ثورندايك إليك إذا طلبت منه بأسلوب حسن.»
أعاد ثورندايك العصا وقال: «أرجو ألَّا يكون إعداد قائمة بالزائرين الذين وُجهت لهم الدعوة في ذلك اليوم أمرًا صعبًا.»
رولاندس: «ستجد أسماءهم في دفتر المواعيد. يجب أن أبحث عنهم. أتذكَّر بعضهم وهم كوهين وليون وبيتمان واثنان أو ثلاثة من هواة جمع الأنتيكات، ولكن لنطَّلع على السجل. لا أعرف ما الذي جرى في الحوارات أو ما الذي نوى مارتن فعله، ولكن لا شك أنه كتب بعض الملاحظات عن الموضوع. بالطبع لا بد أن أبحث عنها لأنه ينبغي أن نحلَّ أمر الخاتم.»
ثورندايك: «على أية حال، أين الخاتم؟»
رولاندس: «لماذا؟ إنه هنا في الخزنة، وإذا لم يكن فيها، فلا بد أنه أخذه إلى البنك.»
ثورندايك: «أظن أنه في الخزنة بلا شك.»
رولاندس: «لا، على الأقل …» ووقف فجأة ثم قال: «لم أرَه. ربما من الأفضل أن نتأكد.»
أسرع إلى المكتب وتوقف فيه وأخذ ينظر إلى الجثة المغطاة. قال بصوت خافت: «ستجد المفتاح في جيبه.» ثم اقترب من الأريكة ببطء وعلى مضض ورفع الغطاء برفق من على الجثة، وبدأ البحث في جيوب الرجل الميت.
وبعد مدة قال: «ها هي المفاتيح.» وأخرج عددًا من المفاتيح وعزل واحدًا يبدو أنه يعرفه. عبر الغرفة إلى الخزنة وأدخل المفتاح وفتح الخزنة.
هتف بارتياح واضح: «يا إلهي! كلُّ شيء على ما يرام. سؤالك أعطاني طرف الخيط. هل فتح العلبة ضروري؟»
أمسك علبة محكمة الغلق مكتوب عليها «خاتم نبوخذ نصر» وأخذ ينظر إلى ثورندايك في تساؤل.
أجاب ثورندايك بابتسامة لطيفة: «الأمر لا يحتاج إلى سؤال.»
رولاندس: «نعم، أظن أن هذا أفضل.» وبذلك قطع الخيط المربوط ونزع القفل وفتح العبوة وأخرج علبة صغيرة من الورق المقوَّى تحتوي على شيء أسطواني الشكل ملفوف في قطعة من الورق.
أخرج رولاندس ما كان بداخل العبوة وأزال الورقة وعرض أسطوانة صغيرة من الذهب محفور على جميع جوانبها حروف مسمارية دقيقة. كان الخاتم بطول بوصة وربع تقريبًا وبسُمك بوصة تقريبًا وبه ثقب محفور ويمرُّ محورُه من الطرف إلى الطرف.
رولاندس: «أرى أن هذه الورقة تحتوي على نسخة من وصف الخاتم الذي كتبه المشرف؛ وزنه وأبعاده وما إلى ذلك. يمكننا أن نعتنيَ بذلك أيضًا.»
ناول الأسطوانة الصغيرة إلى ثورندايك حيث إنه أمسكها بلطف بين أصابعه ونظر إليها وقد تصاعدت أنفاسه. في الحقيقة كان الخاتم صغيرًا، ولكن به شيء مثير للإعجاب في مظهره وفي فكرة أنه يخصُّ ملكًا عظيمًا مثل نبوخذ نصر وربما ارتداه هذا الملك في العصور البعيدة شبه الأسطورية، شكله مألوف للغاية غير أنه من زمن سحيق؛ ولذلك فكرت وأنا أشاهد ثورندايك يتفحص هذا الشيء الصغير المهيب بطريقته العلمية الدقيقة والغريبة، إذ كان يفحص الحروف الدقيقة باستخدام عدسته، وأخذ يُنعم النظر في الطرفين وينظر من خلال الثقب المركزي.
قال وهو يسترق النظر إلى الورقة التي يحملها رولاندس: «أرى أن المشرف لم يكتب سوى قطرٍ عرضيٍّ واحدٍ، وحسبما أرى، ربما ظنَّ أن الخاتم أسطوانة حقيقية، ولكنه ليس كذلك. فالقطر متباين. فهو ليس دائرةً منتظمة وجوانبه ليست بالتوازي المثالي.»
أخرج من جيبه مقياس معايرة وأغلق الفكَّين على الأسطوانة وأخذ قراءة الورنية. ثم قلب الأسطوانة على جانب حيث أصبح واضحًا أن المقياس غير متلامس مع أطراف الخاتم.
وعندما أقفل المقياس مرة أخرى وأخذ القراءة، قال: «يوجد فرق بقيمة مليمترين تقريبًا.»
برودريب: «يا لَك من رجل يا ثورندايك! فذلك المشرف لا يمتلك عينك الدقيقة في الحسابات، ولكن يبدو أن القياسات الدقيقة لا تهمُّ في واقع الأمر.»
ثورندايك: «ولكن على الجانب الآخر، القياسات غير الدقيقة لن تُفيدنا في القضية على الإطلاق.»
عندما أمسكنا الخاتم وتفحصناه جميعنا، أعاده رولاندس إلى العلبة وأرجعه إلى الخزنة، ثم عُدْنا إلى غرفة الضيافة.
برودريب: «قُل لي يا ثورندايك، ما الموقف من السؤال بشأن مبلغ التأمين؟ ماذا تقول فيه؟»
ثورندايك: «أظن أننا سنترك السؤال مطروحًا حتى تبدأ التحقيقات. يجب الإصرار على طلب تحليلٍ من خبير؛ فربما يخرج شيء إلى النور بشأن هذه القضية. يجب أن ننطلق إلى المحطة الآن. أتوقَّع أن لديك أعمالًا كثيرة ينبغي أن تنجزها.»
برودريب: «نعم، ولذا لن أعرضَ أن أتمشَّى معك. فأنت تعرف الطريق.»
اعتذر ثورندايك وأصرَّ على رفض ضيافة رولاندس الكريمة؛ ومن ثَم أخذ حقيبته التي تحتوي على أدوات البحث ولمَّا تصافحنا مع صاحب المنزل، صحِبَنا إلى الباب وغادرنا.
ولما انطلقنا إلى الطريق، قلت: «ليست قضية مرضية بدرجة كبيرة، ولكن لا يمكنك إصابةُ الهدف في كل مرة.»
ثورندايك: «لا، ليس بإمكانك سوى مراقبة الوقائع وملاحظتها. وهذا يذكِّرني أن لدينا بعضَ البيانات التي ينبغي جمعُها في الغابة. سآخذ قوالب من آثار الأقدام هذه في حال تبيُّن أنها ذات أهمية. دائمًا ما يفيد هذا الإجراء الاحترازي، فوضوح آثار الأقدام يتلاشى مع الوقت.»
ارتأيت أن هذا الإجراء الاحترازي لا أهمية له، ولكن لم أُبدِ تعليقًا؛ وعندما وصلنا إلى الممشى عبر الغابة واختار أوضح آثار أقدام، شاهدتُه يُخرج من حقيبته علبةَ جصٍّ وزجاجةَ مياه وملعقةً ووعاءً مطاطيًّا صغيرًا، وتساءلتُ عما يدور في ذهنه. بدا واضحًا أن آثار نعال «إنفيكتا» تعود للرجل الميت، ولكن ماذا إذا كانت آثار أقدامه؟ وما استخدامات قوالب لطبع آثار قدم الرجل الآخر؟ كان الرجل مجهولًا، ولم يكن وجوده يُثير الشك حسبما أرى، ولكن عندما سكب ثورندايك الجصَّ السائل في زوج آثار الأقدام، شرع في إجراءٍ أعقد. وبخلط بعض الجص اللين، ملأ الأثرَين المتاخمين لعصا الرجل الغريب. بعد ذلك أخذ بكرةَ خيط من الحقيبة وقطع الخيط بطول ياردتين وشدَّ الخيط وثبَّتَه بطول الحفرتين من المنتصف بالضبط حتى استقرَّ الجصُّ وثبت في موضعه. بعد الانتظار إلى أن يجفَّ الجص، وبعد أخذ قوالب آثار الأقدام ووضعها في الحقيبة، رفع القالب الأول ثم الثاني برفق؛ وكان كلُّ قالب منهما صورةً طبق الأصل بلون أبيض ناصع من طرف العصا التي تركت الأثر المحفور على القالبين، وتم الوصل بينهما بطول الخيط مما كشف عن المسافة الدقيقة بين الأثرين.
لما وضع علامة بالقلم الرصاص على واحد من القوالب قلت: «أظن أن الخيط لمعرفة المسافة بين الخطوتين.»
أجاب: «لا، هذا لتحديد الاتجاه الدقيق الذي مشى فيه الرجل ولتحديد الجزء الأمامي في العصا والجزء الخلفي.»
لا أفهم شيئًا من هذا. تفكير ألمعي الذكاء، ولكن لماذا استخدمه على الأرض؟ ما الذي يمكن أن يُثبتَه؟
جال في عقلي بعضُ الأسئلة المبدئية، ولكن لم أتوصل إلى تفسير سوى الحقيقة الواضحة وهي أنه لا فائدة من تأجيل جمع الأدلة إلى ما بعد الحدث. لم أعرف ما هو الحدث الذي يقصده ولم أتوصل إلى أي شيء، أشار إلى سائق سيارة أجرة عندما وصلنا إلى فيكتوريا وأمر السائق أن يوصله إلى سكتولاند يارد.
عندما نزل من السيارة، قال: «الأفضل ألا تنتظر. لديَّ بعض الأعمال التي سأتحدث فيها مع ميلر أو المفوض المساعد وقد تستغرق بعضَ الوقت، ولكن سأكون في المنزل ليلًا.»
اعتبرتُ أن هذه دعوة لزيارته في مسكنه، وبالفعل زرتُه بعد العشاء وحاولت أن أخرج بأي معلومات منه ولكن من دون جدوى.
قال: «أرجو أن تعذرني على تملُّصي، ولكن هذه القضية تعجُّ بالتخمينات لدرجة أنني لا أستطيع التوصل إلى أيِّ استنتاج محدد إلى أن تصلَني المزيدُ من البيانات. قد أضع نظريات بدون أساس ثابت، ولكني سأنطلق صباح الغد في الثامنة والنصف لوضع بعض الاستنتاجات التي توصلتُ إليها محل الاختبار. وإذا رغب صديقي المثقف في أن يمنحني الدعم في هذه الرحلة الاستكشافية، فصُحبتُه شيء أفتخر به كثيرًا، ولكنها ستكون مهمة مراقبة من دون لفت الانتباه ومن المرجح ألَّا يحدث شيء.»
قلت: «سآتي وأراقب من بعيد. فمهمات المراقبة من دون لفت الانتباه تخصُّصي.» غادرت والحيرة تتملَّكني أكثر من ذي قبل.
وفي الموعد المحدد في الساعة الثامنة والنصف من اليوم التالي، وصلتُ إلى مدخل مسكن ثورندايك. وجدت سيارة الأجرة منتظرة عند الرصيف ولما صعدت العتبة، ظهر زميلي على السُّلَّم. دخلنا مع بعضنا إلى سيارة الأجرة وانطلقنا من فورنا ومضينا إلى ميدل تمبل لين ثم إلى إمبانكمينت، ثم اتجهنا نحو الغرب. أول محطة توقفنا بها هي نيو سكوتلاند يارد، ولكن لم يتوقف ثورندايك أكثر من دقيقة أو دقيقتين. انطلقنا بعد ذلك باتجاه ويستمينستر، وبعد بضع دقائق، وصلنا عند زاوية بيتي فرانس ونزلنا هناك ودفعنا الأجرة. تجولنا على مهل باتجاه الغرب ومررنا بسيارة كبيرة مغطاة وواقفة بجانب الرصيف، تقابلنا وقتئذٍ مع شخص مهم وهو المشرف ميلر، كان يرتدي آخر صيحات الموضة ويدخن سيجارًا. من الواضح أن الاجتماع مخطَّطٌ له، وبدأ ميلر الحديث من دون ديباجة: «كلُّ شيءٍ على ما يرام حتى الآن يا دكتور، غير أننا متأخرون. سنقع في مشكلة كبيرة إذا تأخرنا. يوجد رجلان بملابس مدنية منذ أن اتصلت ليلة أمس، ولم يحدث شيءٌ آخر حتى الآن.»
ثورندايك: «يجب ألَّا تتعامل مع الأمر على أنه حقيقة مؤكدة يا ميلر. إننا لا نتصرَّف إلا بناءً على احتمالات منطقية، ولكن قد نُخطئ الهدف في النهاية.»
ابتسم ميلر ابتسامة لطيفة: «أعلم يا سيدي. سمعتك تقول هذا من قبل. على أية حال، إنه موجود في الوقت الحالي؛ رأيته لتوِّي من نافذة المتجر، يا لَحظي! إنه هنا!»
تبعتُ نظراتِ المشرف ورأيتُ رجلًا كبيرًا وطويلًا بعضَ الشيء يمشي في الجهة المقابلة من الطريق. كان يمشي بخُطًى ثابتة ممسكًا عصًا ورأيت ظهره منحنيًا وكأنه يعاني ضعفًا، وفي يده التي لا تُمسك العصا علبةٌ خشبية صغيرة معلقة في حزام من القماش، ولكن ما لفت انتباهي بحقٍّ هي العصا التي يمشي بها؛ إذ ظهر لي بقدر ما أتذكَّر أنها نسخة طبق الأصل من العصا التي عرضها علينا توم رولاندس.
تابعنا سيرنا باتجاه الغرب وتركنا السيد ليون — على حسب ظني — أن يتجاوزنا. ثم استدرنا وتابعنا السير لمسافة قصيرة، ثم لاحظتُ رجلَيْن طويلَيْن بمظهر عسكري سبق أن التقينا بهما وظلَّا على مقربةٍ من خلفنا. وفي زاوية بيتي فرانس، أوقف السيد ليون سيارة أجرة؛ أسرع ميلر الخُطى ودخل إلى السيارة الكبيرة المغطاة.
لما فتح السيد ليون الباب ودخل السيارة، قال ميلر: «ادخل بسرعة. يجب ألَّا يغيب عن ناظرينا.» وبذلك دفعني أنا وثورندايك لركوب السيارة وبعد أن تحدَّث بكلمةٍ إلى السائق، دخل إلى السيارة ثم تبعه الرجلان بملابس مدنية. انطلقت السيارة وسارت بسرعة إلى أن أصبح يفصلها عن سيارة الأجرة بعض ياردات؛ ومن ثَم أبطأ السائق السرعة كي يمشيَ خلف سيارة الأجرة ويتبعها في حركة المرور الآخذة في التزاحم إلى أن اتجهنا إلى وايتويل، وهناك سمح سائقُنا لسيارة الأجرة أن تسبقَنا بعضَ الشيء. لمَّا وصلنا إلى طريق تشارينج كروس، اقتربنا من سيارة الأجرة وظللنا خلفها مباشرة وسط الزحام المروري في مدينة ستراند. وحين استدار للعبور ليقف أمام فندق أكروبوليس، ظللنا نتبعه وتجاوزناه في فناء الفندق حتى وصلنا إلى المدخل الرئيسي أولًا. في الوقت الذي دفع فيه السيد ليون أجرتَه، سبقناه في الدخول وانتظرنا في ردهة الفندق.
لما دخل خلفنا، توقَّف وأخذ ينظر من حوله حتى وقعت عيناه على رجلٍ قويِّ البنية وحليقِ الذقن يجلس على كرسيٍّ من الخيزران، وحتى يلفت انتباه السيد ليون، نهض وتقدَّم إليه. وفي هذه اللحظة، لمسه السيد ميلر من كتفه مما جعله يستدير ويُبدي تعبيرَ إنذارٍ شديد اللهجة.
ميلر: «أعتقد أنك السيد موريس ليون. أنا ضابط تحقيق.» توقَّف وتسمَّرَت عيناه على التاجر الذي اصفرَّ لونُه حد الموت. ثم تابع قائلًا: «أنت تحمل عصا مشي وأعتقد أنها ليست عصاك.»
تنفَّس ليون الصُّعَداء قائلًا: «أنت محقٌّ تمامًا، ولكن لا أعرف مالكها. إذا كنت تعرفه، فسيسرني أن تُعيدَها إليه وتأتيَ بعصاي التي تركتُها له بالخطأ.»
قدَّمها إليه مترددًا، وأخذها ميلر منه وسلَّمها إلى ثورندايك.
ميلر: «هل هذه هي العصا؟»
تفحَّص ثورندايك العصا بسرعة ثم قلبها وأجرى فحصًا دقيقًا للطويق وانتهى بأخذ أبعادها بقطرين ومطابقة النتائج مع بعض الملاحظات المكتوبة.
تململ السيد ليون وضاق ذرعًا. قال: «ليست هناك حاجة إلى كلِّ هذا العناء. أخبرتكم أن العصا ليست عصاي.»
ميلر: «اهدأ إذن، ولكن يجب أن نتحدث على انفراد بشأن هذه العصا.»
وهنا التفت إلى أحدِ مسئولي الفندق الذي توجَّه إليه بتوجيه من أحد الرجلين اللذين يرتديان ملابس مدنية، وبنبرة يظهر فيها القلق اقترح عليه أن إجراء مقابلة العمل في غرفة خاصة في الجزء الخلفي من المبنى أفضلُ من الردهة العامة. تحرَّك الرجل كي يُريَنا الطريق وحينها اقترب الرجل الغريب الحليق الذقن من السيد ليون ومدَّ يده باتجاه العلبة الخشبية.
وبحيلة ذكية سأل: «هل آخذُ هذا الصندوق؟»
صدَّه ميلر بشدة وقال: «ليس الآن يا سيدي. سيتحدث إليك السيد ليون بعد فترة وجيزة.»
أبدى الآخرُ اعتراضًا شديد اللهجة: «ولكن هذا الصندوق يخصُّني، ومَن أنت؟»
ميلر: «أنا ضابط شرطة، ولكن إذا كان هذا الصندوق ملكك، فمن الأفضل أن تأتيَ معنا وتُبقيَ عينك عليه.»
لم أرَ رجلًا يظهر على وجهه القلقُ مثل صاحب الصندوق هذا، باستثناء السيد ليون الذي شحب لونه مرة أخرى، ولكن لما سار بنا المدير إلى الجزء الخلفي من الردهة، تبعَنا الرجلان في صمت بإشارة من المشرف وبقية الجمع، وصلنا إلى صالة أو غرفة انتظار صغيرة ذات أرضية رخامية، وحينها أغلق المدير الباب وخرج.
ميلر: «الآن، أريد أن أعرف ما بداخل هذا الصندوق.»
الغريب: «سأخبرك. يوجد به قطعة نحت وهي تخصُّني.»
أومأ ميلر قائلًا: «اسمح لنا أن ننظر إليها.»
لم تكن هناك طاولة، جلس ليون على كرسيٍّ ووضع الصندوق على ركبتَيه وفكَّ الشرائط وتملَّكت الرعشةُ أصابعه التي تساقطت عليها حباتُ العرق من جبينه. عندما فتح الصندوق، رفع الغطاء وأخرج رأسَ تمثالٍ صغير من الجصِّ، نسخة مصغرة من تمثال سانت سيسليا الذي صنعه النحات دوناتيلو، وكانت أكتاف التمثال مثبتةً بكراتٍ من الورق وقد أخرج ليون هذه الكرات بطريقة خرقاء، وعندما أخرج آخرها، رفع التمثال الصغير بحذرٍ بالغ وأعطاه لميلر كي يتفحصَه. أخذه الضابط منه برفقٍ، بعد أن ألقى نظرةً فاحصةً على الصندوق، وأمسكه بيديه كلتيهما ونظر إليه من دون ظهور أيِّ تعبير على وجهه.
قال بصوت مشوش بعض الشيء: «ملمسُه يدل على أنه رطب.» ثم نظر إلى ثورندايك وعينُه مليئة بالتساؤلات؛ ومن ثَم أخذ ثورندايك التمثال المصغَّر منه ووضعه في راحة يده وبدا أنه يقدِّر وزنه. ألقيتُ نظرةً خاطفة على ليون واندهشتُ حين لاحظت أن التاجر يراقب ثورندايك بنظرةٍ يظهر فيها الارتياع في حين أن الغريب لم يكن أقلَّ منه قلقًا.
تقدم الغريب وقال متوسلًا: «أقسمتُ عليك يا رجل أن تكون حريصًا! فأنت ستُسقطه!»
لم يكد الرجل يتنبَّأ بما سيحدث حتى تحقَّق. أسقطه بالفعل على الأرض بطريقة متعمدة ومدروسة تمامًا؛ وبالتالي سقط التمثال المصغر على ظهره على الأرض الرخامية وتفتَّت على الفور إلى مائة قطعة. كانت مسألة مذهلة، ولكن العجب الأكبر فيما حدث بعد ذلك. لما تناثرت الشظايا المكسورة التي بلون الثلج يمينًا وشمالًا، انفصلت أسطوانة معدنية صفراء من أحدها وتدحرجت ببطءٍ على الأرض. اندفع الغريب إلى الأمام وانحنى ليُمسكها، ولكن ميلر انحنى عليها هو الآخر وتقابلَا بالرأس ووجدت أن رأس المشرف هو الأصلب، حيث إنه نهض وهو يفرك رأسه بإحدى يدَيه ويعطي الأسطوانة بالأخرى لثورندايك.
سأل: «هلَّا أخبرتنا ما هذا يا دكتور؟»
ثورندايك: «نعم، إنه خاتم نبوخذ نصر، وهو بحوزة قتلة الراحل مارتن رولاندس الذي قُتل في الليلة قبل الماضية.»
لما انتهى من الكلام، انسلَّ ليون من فوق الكرسي وانبطح على الأرض دون مبالاة واندفع الغريب فجأةً نحو الباب حيث وجد نفسه على الفور في قبضة رجلٍ ضخم بملابس مدنية، ثبَّته الرجل على الفور وألبسه زميله الأصفاد.
لما أخذنا طريقنا إلى المنزل، قلت: «إذن، لم يكن لقوالب آثار العصا وآثار الأقدام ضرورةٌ على الإطلاق.»
ردَّ: «على النقيض من ذلك، إن لها أهميةً كبيرة. إذا لم ينجح الخاتم في شنق السيد ليون، فمن المؤكد أن هذه القوالب ستلفُّ حبل المشنقة حول رقبته.» (بالمناسبة، هذا ما حدث. دُحضت حجة الدفاع بأن السيد ليون تلقَّى الخاتم من شخصٍ مجهول بإخراج قوالب آثار أقدام السيد ليون وآثار عصاه في المحكمة، وهذا ما أثبت أن السجين كان في بينويل بصحبة المتوفَّى في الوقت الذي قُتل فيه أو قريبًا منه؛ وبالتالي ثبتت إدانتُه.)
قلت: «على أية حال، كيف توصَّلت إلى أن ليون هو مرتكب الجريمة؟ أظن أن الأمر بدأ من آثار العصا في الغابة. ما الذي يميز هذه الآثار؟»
«المميز في تلك الآثار أنها لعصًا من الواضح أنها ليست ملكًا لحاملها.»
قلت متعجبًا: «بربِّك يا ثورندايك! هل هذا ممكن؟ كيف لأثرٍ على الأرض أن يدلَّ على ملكية شيء؟»
ردَّ: «هذه نقطة تُثير الفضول، على الرغم من بساطتها في جوهرها، وهذا يعتمد على الطريقة التي تآكل بها طويقُ العصا. في العصا المتناسبة العادية التي بدون قبضة، يتآكل الطويق بالتساوي، ولكن العصا التي لها قبضة على شكل منحنى أو غيرها من المقابض المحددة التي تُمسك بطريقةٍ معينة ودائمًا ما تُوضع على الأرض بالوضعية ذاتها، يتآكل الطويق من الجانب، الجانب المقابل لليد أو الجزء الأمامي من العصا، ولكن النقطة المهمة هي أن التآكُل لا يُقابل المقبض بالضبط؛ ولهذا السبب تجده منحرفًا إلى أحد الجوانب قليلًا. يضع الرجل عصاه على الأرض وتتأرجح القبضة إلى الأمام والخلف، ولكن مع المشي تتأرجح القبضة بعيدًا عن جسده قليلًا، بحيث تلفُّ العصا إلى الخارج بعضَ الشيء؛ وبالتالي يكون تآكل الطويق إلى الداخل قليلًا. وهذا يعني أنه في عصا الرجل الأيمن يكون التآكل قليلًا إلى اليسار وفي عصا الرجل الأيسر يكون التآكل قليلًا إلى اليمين، ولكن إذا مشى الرجل الأيمن بعصا رجل أعسر، فالأثر على الأرض سيُظهر ميلَ التآكل على الجهة اليمنى، وهذا هو الجانب الخاطئ، وسيؤدي دورانُ العصا جهة اليمين إلى إبعادها قليلًا في هذا الاتجاه. في هذه القضية، أظهرت الآثارُ جزءًا ضحلًا يتطابق مع ميل التآكل على الجانب الأيمن؛ وبالتالي كانت العصا لرجل أعسر، ولكن من حملها كان يُمسكها بيده اليمنى؛ وبالتالي بات واضحًا أنها ليست ملكًا للشخص الذي يحملها.
ولما كان الرجل مجهولًا، فكانت هذه المسألة مجردَ فضولٍ ولا تهمُّنا، ولكن انظر كيف تراكمت الأدلة الظرفية بسرعة. عندما رأينا قدمَي المتوفَّى، عرفنا أنها الأقدام التي رأينا آثارها في الغابة؛ وبالتالي كان برفقة الرجل صاحب العصا؛ وظهر هذا الرجل على الفور في المشهد. ثم أخبرنا توم رولاندس أنه فقد عصاه وأنه رجل أعسر؛ وأرانا عصًا تبدَّلت مع عصاه، وانظر إلى المفاجأة! كانت هذه العصا لرجل أيمن وتأكدت لما تفحصتُ الطويق. أصبح لدينا رجل أعسر فقد عصاه التي تبدلت مع عصًا أخرى لرجل أيمن؛ وفي الغابة، وجدنا الرجل الأيمن الذي كان يحمل عصًا لرجل أعسر وكان برفقة المتوفى. كانت صدفة مدهشة. إضافة إلى ذلك، خلصتُ إلى اقتراحٍ بأن الرجل المجهول واحدٌ ممن دعاهم توم إلى مكتبه؛ وبالتالي فهو واحد ممن أرادوا الاستحواذ على الخاتم. والسؤال الذي طرح نفسه على الفور، هل نجح في الاستحواذ على الخاتم؟ ذهبنا إلى الخزنة وأصبح واضحًا أنه نجح بالفعل.»
«كان الخاتم في الخزنة مزيفًا، أليس كذلك؟»
«نعم، ومزيفًا بطريقة سيئة، على الرغم من المهارة في تزييفه. طُبعت حروفه بالترسيب الكهربائي، ولم تكن أبعاده متناظرة؛ وبالتالي لا يتطابق مع القياسات التي كتبها المشرف، ووجدت الثقب على الرغم من اتساخ أطرافه، إلا أنه كان برَّاقًا من المنتصف بسبب المثقاب.»
«ولكن كيف عرفت أن ليون هو من فعلها؟»
«لم أعرف، ولكنه كان المرجح في رأيي إلى حدٍّ بعيد. إنه يمتلك نسخةً من الخاتم، ومن هذه النسخة يمكن الحفر على صفيحة ترسيب كهربائي، وهو يمتلك المهارة الكبيرة المطلوبة لتحويل صفيحة ترسيب كهربائي مسطحة إلى أسطوانة. كان مزورًا محترفًا للأنتيكات وكان تاجرًا يمتلك الإمكانيات للتخلُّص من الخاتم المسروق، لكنه كان مجرد احتمال، وعلى الرغم من ضغط الوقت، اضطررنا إلى التصرف بناءً عليه. ولما رأيناه والعصا في يده، أصبح الأمر شبه مؤكد.»
«وكيف خمَّنت أن الخاتم قد يكون بداخل التمثال المصغر؟»
«توقَّعت أن يكون مدفونًا في جسم من الجص؛ فهذه أكثر طريقة آمنة لإخفائه وتهريبه خارج البلاد إلى الولايات المتحدة. عندما رأيت التمثال المصغر، اتضح الأمر. صُنع التمثال على عجَل وكان نسخةً من تماثيل بروتشياني. وجدتُ أن الجصَّ رطبٌ — ينحت بروتشياني الجصَّ لديه جافًّا — وكان واضحًا أنه لم يمرَّ على نحته سوى بضع ساعات؛ ولذا كسرتُه. وإذا اكتشفت أنني أخطأتُ، كنت سأستعيض عنه بخمسة شلنات، ولكنَّ كلَّ الملابسات جعلت الأمر يكاد يكون مؤكدًا.»
«هل لديك أيُّ فكرةٍ عن طريقة إعطاء ليون السمَّ للقتيل؟»
ردَّ قائلًا: «يمكنني أن ألخِّصَ لك الأمر. ربما أخذ معه بعضًا من محلول السيانيد — إذا كان هذا هو السُّمَّ — وسكبه في الويسكي للسيد رولاندس وقت عدمِ انتباهه. هذا سهل للغاية؛ وجرعةٌ واحدة من سمٍّ سريع المفعول مثل هذا سيُنهي الأمر في دقيقة أو دقيقتين، ولكن من غير المحتمل أن نعرف التفاصيل على الإطلاق.»
أظهرتِ الأدلةُ في التحقيق أن ثورندايك كان محقًّا على الأرجح، وأن شهادته في المحاكمة حسمت القضية ضد ليون. أما بالنسبة إلى الرجل الآخر — الذي ثبت أنه تاجرٌ أمريكي معروف جيدًا لمسئولي جمارك نيويورك — فقد سقطت القضيةُ المرفوعة ضده لعدم وجود أدلة تُثبت علمه بجريمة القتل أو السرقة. وهكذا انتهت قضية خاتم نبوخذ نصر؛ قضية جعلت السيد برودريب مقتنعًا أكثر من أيِّ وقت مضى بأن ثورندايك إما موهوب بحاسة سادسة مكَّنته من استنباط الأدلة أو كان متحالفًا مع شيطان مألوف قام بذلك من أجله.