فيليس أنسلي على حافة الإعدام
بينما كنا جالسين في انتظار وصول المحامي السيد مايفيلد، قال ثورندايك: «يميل المرء في بعض الأحيان إلى الأسف من أعمالنا لأنها في كثير من الأحيان يشوبها الكدرُ والقبح.»
قلت: «أتفق معك؛ فالطب الشرعي على وجه الخصوص ليس مهنةً مريحة على الدوام، ولكنه عملنا وعلينا أن نقوم به رغم ما ينطوي عليه من مميزات وعيوب.»
ثورندايك: «استنتاج فلسفي يا جيرفيس، ولا يخرج إلا من صديق مثقف. ولا ريب أن أوثقَ علاقة بين القانون والطب تتجلَّى في الجرائم التي تُرتكب ضد الأفراد وبالتالي فالدراسة التي تُلائم تخصص الطبيب الشرعي هي هذا النوع من الجرائم. إنها حقيقة تدعو إلى الأسف، ولكن لا بد أن نقبلها.»
قلت: «وفي الوقت نفسه، يبدو أنه لا توجد أيُّ مسائل طبية قانونية في قضية السيدة لوسي بلاند هذه. من الواضح أن المرأة قُتلت. والسؤال الوحيد هو مَن قتلها؟ ويبدو أن الإجابة عن هذا السؤال واضحة بشدة.»
ثورندايك: «أتفق معك، ولكن سنتمكن من الحكم في هذه المسألة بمزيد من الحنكة عندما نسمع ما سيُخبرنا به مايفيلد. وأظن أنني أسمع نقرَ نعله على السُّلَّم الآن.»
نهضتُ كي أفتح الباب لزائرنا، وعندما دخل رمقتُه بنظرة فضول. السيد مايفيلد شابٌّ هادئ ويجمع بين التميز والعصبية في أسلوبه، ولما دخل الغرفة لم تُنبئ هيئتُه عن خبرة مهنية كبيرة.
أخذ كرسيًّا هزَّازًا ناوله له ثورندايك، ثم قال: «آسف يا سيدي أنني تأخرتُ عليك من أجل التحقيقات اللازمة أو على الأقل من أجل إجراءات محكمة الشرطة.»
ثورندايك: «طلبتَ حفظ دفاعك، أليس كذلك؟»
المحامي بابتسامة لطيفة: «نعم، اضطررتُ إلى ذلك. لم يكن هناك ما يُقال؛ ولذا تقدمتُ بالدفع بالبراءة وحفظتُ الدفاع على أمل ظهور شيء ما، ولكني سئمتُ كليًّا. يبدو أنه لا أمل في هذه القضية. لا أعرف ما تقول في هذه القضية يا سيدي.»
ثورندايك: «لم أطَّلع إلا على التقارير الصحفية. ولم أجدها مشجعةً بالتأكيد، ولكن دعْنا نُنَحِّها جانبًا. أقترح أن تسردَ وقائع القضية وسأطرح أيَّ أسئلةٍ أراها ضروريةً لتوضيح المسألة أكثر.»
مايفيلد: «جيد جدًّا، سأبدأ إذن باختفاء السيدة لوسي بلاند. اختفَت السيدة في الثامن عشر من مايو الماضي تقريبًا. في هذا الوقت، كانت تعيش بعيدةً عن زوجها في مسكن مفروش في ويمبلدون. خرجتْ بعد الغداء يوم الثامن عشر، وقالت إنها لن تكون في المنزل حتى المساء. رآها شخصٌ يعرفها في محطة ويمبلدون على رصيف النزول الساعة الثالثة تقريبًا. وبعد الساعة السادسة بقليلٍ من اليوم نفسه، ذهبت إلى مكتب البريد في لوار ديتون لشراء بعض الطوابع البريدية. موظفة البريد تعرف السيدة شكلًا وهي متأكدةٌ من أنها كانت في المكتب ولكنها لا تتذكَّر متى كانت هناك بالتحديد. على أية حال، لم تَعُد إلى المنزل في تلك الليلة ولم تُرَ حيةً بعدها. اتصلتْ صاحبةُ المسكن بزوجها وهو تقدَّم إلى الشرطة على الفور، ولكن لم تُثمر التحقيقات عن شيء. فقد اختفَتْ من دون ترْكِ أثرٍ.
اكتُشف الأمر بعد أربعة شهور، أي في السادس عشر من سبتمبر. في ذلك اليوم، ذهب بعضُ العمال إلى منزل اللاركس وهو منزل صغير نوعًا ما وبطراز قديم على ضفة النهر خارج لوار ديتون لفحص بعض الأسلاك الكهربائية. المنزل استأجره شخصٌ جديد، وعندما أظهر العداد أنه يوجد تسريبٌ لا تفسير له في التيار على مدار الشهور الثلاثة الماضية، ذهبوا لتفقُّد المشكلة.
لكي ندخلَ في صلب الموضوع، اضطر العاملون أن يرفعوا جزءًا من أرضية غرفة الضيافة، وعندما رفعوا الألواح، ارتعبوا من اكتشاف قدمَين تظهران من أسفل اللوح التالي ومن الواضح أنها تعود لامرأة. ذهبوا على الفور إلى مركز الشرطة وأبلغوا عمَّا رأَوْه، وعليه رافقهم المحقِّق والجرَّاح إلى المنزل وأمروهم برفع مزيدٍ من الألواح، وقد فعلوا. وجدوا جثة امرأة محشورة بين روافد الخشب وبعد ذلك تمَّ التعرف عليها بأنها السيدة لوسي بلاند. بدا أن صاحبة الجثة لم تَمُت إلا من فترةٍ وجيزة للغاية، ولكن اكتُشف بعد ذلك أنها تعرضت لتجربة التحنيط أو الحفظ بحقن محلول الفورمالدهايد ومن المحتمل أن تكون ماتت منذ ثلاثة أو أربعة شهور. ذكرت التحقيقاتُ أن سبب الوفاة هو الخنق، وربما سبقه الإجبارُ على تناول مخدر الكلوروفورم.»
ثورندايك: «حسبما أفهم، هل المنزل يخصُّ أحد المتهمين؟»
«نعم، يخصُّ السيدة فيليس أنسلي. المنزل ملكُها وحدَها، وكانت تعيش فيه حتى وقت قريب. في الخريف الماضي، بدأت في السفر؛ ومن ثَم فكَّكت بعض أثاث المنزل وخزنت معظمه ولكنها أبقَتْ على أثاث غرفتين من غُرَف النوم والمطبخ وغرفة الضيافة إذ أبقت على ما يمكن استخدامُه في الغرفة، ثم اعتادت على أن تقضيَ يومًا أو يومين في المنزل وقت الرجوع من سفرها بمفردها أو مع الخادمة.»
«ما العلاقة بين السيدة فيليس وأسرة السيدة لوسي؟»
«لقد تعرَّفتْ عليهم منذ بضع سنوات. كانت على علاقة ودية مع السيد ليونارد بلاند، ولكن لا توجد أدلة على أن العلاقة بينهما كانت غيرَ لائقة. اعتاد السيد بلاند أن يزورها لما كانت تعيش هناك واعتادَا على التنزُّه في النهر في قارب يخصُّ البيت. اعتادت السيدة لوسي أيضًا زيارة السيدة فيليس من وقت لآخر، ويبدو أنه نشأت علاقة طيبة بينهما. بالطبع كانت تعرف أن زوجها يُكنُّ مشاعر لتلك المرأة، ولكن لم يبدُ عليها أيُّ انزعاج من تلك العلاقة.»
ثورندايك: «كيف كانت العلاقة بين الزوج وزوجته؟»
«كانت علاقةً غريبة. لم يكن أيٌّ منهما مناسبًا للآخر؛ ولذا اتفقَا ببساطة أن يعيش كلٌّ منهما كيفما شاء، ولكن يبدو أن العلاقة بينهما كانت ودية، كما أن السيد بلاند اتصف بالاهتمام الشديد فيما يتعلق بالتزاماته المالية تجاه زوجته؛ فهو لم يوفر لها الحرية فحسب، بل بذل قصارى جهده لتقديم الدعم لها. سأضرب لك مثالًا أثار إعجابي كثيرًا.
أحدُ معارفه القدامى، وهو السيد يوليوس ويكس الذي كان يعمل في استوديو لصناعة الأفلام لعدة سنوات في لوس أنجلوس، قدم إلى إنجلترا منذ سنة تقريبًا واقترح على بلاند البدءَ في إنشاء دار أو دارَين للسينما في البلاد، شارك بلاند بتوفير الأموال — إذ كان بمقدوره توفيرها — وشارك ويكس بالمعرفة الفنية والإدارة الفعلية. وافق بلاند وأقيمت الشراكة على أساس أن ثلثَي الأرباح ستئول إلى بلاند والثلث الأخير سيئول إلى ويكس، ووضع شرطًا بأن تئول جميعُ حقوق بلاند بصفته شريكًا إلى زوجته في حالة وفاته.»
«وماذا إذا توفي ويكس؟»
«لم يكن ويكس متزوجًا، على الرغم من أنه خطب ممثلة سينمائية. وفي حالة وفاته، سينتقل نصيبُه إلى بلاند، وبالمثل إذا توفي بلاند بعد زوجته، فسينتقل نصيبُه إلى شريكه.»
قلت: «يبدو أن بلاند كان رجلَ أعمال ماهرًا كثيرًا.»
مايفيلد: «نعم؛ فكلُّ الترتيبات كانت لصالحه، ولكن كما ترى فهو صاحب رأس المال. والنقطة الأهم في ذلك أن بلاند كان على دراية تامة بمصالح زوجته. لم يكن هناك ما يدل على عداوةٍ بينهما.»
ثورندايك: «إذن، ثمة دافع مستبعد. هل سبق أن طُرحت مسألة الطلاق؟»
مايفيلد: «كلَّا، لم تُطرح. لا توجد أسباب لذلك لدى أيٍّ منهما، ولكن يبدو أنها أدركَت واعترفَت بأنه إذا أصبح بلاند حرًّا من قيود الزوجية فسيتزوج السيدة فيليس؛ فقد كانَا منجذبَين لبعضهما البعض بدرجة كبيرة.»
قلت: «هذا يبدو دافعًا قويًّا جدًّا.»
مايفيلد: «يبدو الأمر كذلك بالنسبة إليَّ، ولكن استنادًا إلى معرفتي بهما لسنوات ودائمًا ما كان رأيي هو المفضل لديهما، فمن الواضح أنني لا يمكنني ربطُ هذه الجريمة الفظيعة بهما على الإطلاق، ولكن ليست هذه المشكلة. يجب أن أُكملَ سرْدَ الوقائع.
بعد الاكتشاف بفترة وجيزة في منزل اللاركس، علمت الشرطة بانتشار شائعات في لوار ديتون عن حدوث أشياءَ غريبةٍ فيما مضى في المنزل وبأن اثنين من العمال وهما برودي وستانتون يعرفان شيئًا محددًا؛ وبالتالي بحثت الشرطة عن هذين الرجلين واستجوبت كلَّ واحدٍ منهما على انفراد، وعندئذٍ أدلى كلٌّ منهما بالأقوال نفسها، وكانت كما يلي:
في منتصف مايو تقريبًا — لم يُعطِ أيٌّ منهما تاريخًا محددًا — بين الساعة التاسعة والعاشرة مساءً، كان الرجلان يتمشيان في الممر المؤدي إلى منزل اللاركس ورأيَا رجلًا يتخفَّى متربصًا في الحديقة أمام المنزل. وهما في طريقهما، أتى إلى البوابة وأشار إليهما ولما اقتربَا همس لهما قائلًا: «اسمعاني يا رفاق، هناك شيءٌ غريب يحدث في هذا المنزل.»
برودي: «كيف علمت؟»
الرجل: «ظللْتُ أنظر لبعض الوقت من ثقب القُفْل. يبدو أنهم يُخفون شيئًا تحت الأرض. تعاليَا وانظرَا.»
تبعه الرجلان في الحديقة ووصلَا إلى المنزل من الخلف، حيث أخذهما إلى إحدى نوافذ غرفة في الطابق الأرضي وأشار إلى ثقبَين في السدائل الخارجية.
الرجل: «انظرا فقط من هذين الثقبين.»
وضع كلُّ رجلٍ منهما عينَه على ثقبٍ ونظرَا بالداخل؛ وإليك ما رأياه معًا: وجدَا غرفتين يصل بينهما قوسٌ كبير. ومن خلال القوس وفي طرف الغرفة الثانية، رأيَا شخصَين؛ رجلًا وامرأة. وجداهما يجثيان على أيديهما وركبتَيهما، ومن الواضح أنهما يفعلان شيئًا في الأرضية. بعد فترة وجيزة، نهض الرجل الذي يرتدي قميصَ رسام أبيض ورفع لوحًا كان يقف على طرفه مقابل الجدار. ثم انحنى مرة أخرى وكأنه يُمسك بشيء مستلقٍ على الأرض — شيء يُشبه حزمةً كبيرة أو سجادة ملفوفة. في تلك اللحظة، مرَّ شيءٌ أمام الثقوب وحجب الرؤية — وبالتالي لا بد أنه كان هناك شخصٌ ثالث في الغرفة. عندما ابتعد الجسم الذي يحجب الرؤية مرة أخرى، وجدَا الرجل جاثيًا على الأرض ينظر إلى الأسفل على الحزمة ثم أتت امرأةٌ ووقفت تحت القوس مباشرة وفي يدها كماشتان. كانت ترتدي مئزرًا منقَّطًا بياقة بحار بيضاء، وتعرَّف الرجلان كلاهما عليها على الفور بأنها السيدة فيليس.»
ثورندايك: «عرفاها من شكلها، أليس كذلك؟»
«بلى، الرجلان من سكان ديتون. وهي بلدة صغيرة وكلُّ شخصٍ فيها لا بد أنه يعرف السيدة فيليس وعائلة بلاند أيضًا على كل حال. رأياها تقف في الممر أسفل القوس رأْيَ العين. ولا يشكُّ أيٌّ من الرجلين في هُويتها مثقال ذرة. رأياها لمدة نصف دقيقة تقريبًا. ثم تحرك الرجل غير المرئي أمام الثقبين وحجب الرؤية.
عندما ابتعد الحاجز، وجدَا أن المرأة عادت إلى الغرفة البعيدة ووجداها راكعة على الأرض. اختفت الحزمة وأخذ الرجل اللوحَ الذي كان قد أسنده على الحائط وأعاده إلى مكانه في الأرض. بعد ذلك، ظلَّ الشخص الذي يحجب الرؤية يغدو ويروح؛ ولذا لم يتسنَّ لمن يُراقبان المشهد سوى لمحات خاطفة مما كان يحدث. رأيَا الرجل رأْيَ العين وهو يدق المسامير بالمطرقة في الأرضية وسمعَا أصواتَ طرقٍ خافتة. وفي إحدى المرات، عندما أوشكت الإجراءات على الانتهاء، رأيَا رجلًا يقف تحت القوس ووجهُه إليهما، ومن الواضح أنه ينظر إلى شيء في يده. لم يتمكَّنَا من رؤية هذا الشيء، ولكنهما تعرفَا على الرجل وعلمَا تمام العلم أنه السيد بلاند، الذي كانا يعرفانِه. حُجبت الرؤية مرة أخرى، وعندما رأيَا السيد بلاند، وجدَاه واقفًا بجانب السيدة فيليس في الغرفة البعيدة وهو ينظر إلى الأرض ويخلع قميصه. لمَّا بدَا أن العمل قد انتهى وأنه ربما يخرج السيد بلاند والسيدة فيليس، اعتقد الرجلان أنه من الأفضل أن يبتعدَا عن المكان خشيةَ أن يُكشَفَ أمرُهما.
أثناء سيرهم في الممر، ناقشوا الأشياء الغامضة التي شاهدوها، ولكن لم يصلوا إلى تفسيرٍ لأيٍّ منها. قال الغريب: إنه من المحتمل أن السيدة فيليس تُخفي شيئًا ثمينًا أو قيِّمًا للحفاظ عليه في مكانٍ آمن أثناء سفرها، وألمح إلى أن الأمر قد يستحق أن يستغرق الشخصُ وقتًا في رفع الأرضية ورؤية ما تحتها. ولأن برودي وستانتون رجلان محترمان، رفضَا هذا الاقتراح بقوةٍ وقالَا إنه ما دامت المسألة لا تخصُّهما، فمن الأفضل ألَّا يذكرَا شيئًا عنها، لكن من الواضح أنهما أفصحَا عن بعض ما رأيَا؛ لأن الحديث عن المسألة بدأ ينتشر في القرية، وبالطبع عندما اكتُشفت الجثة تحت أرضية المنزل، وصلت الأنباء إلى الشرطة في فترة قصيرة.»
سأل ثورندايك: «هل تقدَّم الرجل الثالث ليُدليَ بما لديه من أدلة؟»
«لا، لم يُعثَر عليه حتى الآن. كان غريبًا ولم يعرفه الرجلان؛ على ما يبدو أنه عامل أو مزارع أو متشرد. ولا يُعرف شيءٌ عنه. هذه هي الوقائع، وهذه القضية ميئوس منها للغاية. بالطبع تمَّ التعرف على أحد المتهمين؛ ويدينُها في ذلك الدافعُ الواضح غاية الوضوح وشهادةُ شاهدَي عيان. هل تظنُّ أنك ستميلُ إلى تولِّي الدفاع يا سيدي؟ أعلم أنني أطلب الكثير منك.»
ثورندايك: «يجب أن أفكر في المسألة مليًّا وأُجري بعض التحقيقات الأولية. وينبغي أن أطلع على الأقوال في المحضر بالتفاصيل الكاملة. هلَّا سمحت لي بالاطلاع عليها؟»
«لديَّ تقريرٌ مأخوذ من إجراءات محكمة الشرطة والتحقيقات. سأتركه معك الآن. متى سيصلني قرارُك؟»
«في نهاية بعد غد.» وبناءً على هذا الرد، أخرج المحامي حزمة أوراق من حقيبته ووضعها على الطاولة وشكر كلَينا وغادر.
عندما غادر مايفيلد، قلت: «أشعر بحيرة شديدة يا ثورندايك. أعلم أنك لن تتولَّى الدفاع الرسمي فحسب، ولكن يجب أن أعترف أنك قد تقوم بأشياء تفوق خيالي. في رأيي، تنحلُّ هذه القضية باستدعاء النيابة الشهود وبعدها سيصدر الحكم «بالإدانة» تلقائيًّا.»
ثورندايك: «هذا ما يبدو لي. وإذا ظل الأمر كذلك بالنسبة إليَّ بعد الاطلاع على الأقوال وإجراء التحقيقات الأولية، فسأرفض المرافعة، ولكن الأمور التي تراها لا تكون على حقيقتها في بعض الأحيان.»
أخذ التقارير ودفتر الملاحظات الذي دوَّن فيه بعضَ النقاط الموجزة مما كتبه مايفيلد عن القضية بوجه عام، وسحب كرسيًّا إلى الطاولة وبدأ بتركيز تامٍّ في الاطلاع على الأوراق ودوَّن ملاحظات بشأن الأدلة. بعدما انتهى، أعطاني التقارير، ووضع دفتر ملاحظاته في جيبه ونظر في ساعته.
قال: «اقرأ التقارير يا جيرفيس وأخبرني إذا رأيت أيَّ مخرج محتمل. سأُجري مكالمة أو مكالمتين، ولكن من المفترض ألَّا أغيبَ أكثر من ساعة. وعندما أعود، أحبُّ أن أسمع آراءك في القضية.»
في فترة غيابه، اطَّلعتُ على التقارير بانتباهٍ شديد. هناك شيءٌ في نبرة ثورندايك يُلمِّح إلى قصور محتمل في إجراءات النيابة بشأن القضية، ولكني لم أجد بُدًّا من إدانة هذين الشخصين؛ فالتقارير لا تُسهب إلا فيما ذكره مايفيلد، والتفاصيل الإضافية أكَّدت الأدلة أكثر، خاصة في حالة شاهدَي العيان. لم أرَ الأدوات الأساسية حتى بالنسبة إلى الدفاع الرسمي.
بعد أقل من ساعة، عاد زميلي إلى الغرفة، وأوشكتُ على أن أذكر له انطباعاتي عن الأدلة، ولكنه بادرني بقوله: «لا زال الوقت باكرًا على هذا يا جيرفيس، ولكن أعتقد أنه من الأفضل أن نذهب لتناول الغداء. رتبتُ للذهاب إلى ديتون بعد ظهر اليوم وإلقاء نظرة على المنزل. أعطاني مايفيلد مذكرةً سأسلمها إلى رقيب الشرطة، وقال: إن المفتاح بحوزته بالفعل.»
قلتُ: «لا أرى فائدةً من إلقاء نظرة على المنزل.»
قال: «ولا أنا، ولكن دائمًا ما تُفيد قاعدةُ تفتيش مسرح الجريمة وجميع الأدلة بأكبر قدرٍ ممكن.»
قلت: «لا جدوى من ذلك. اطَّلعتُ على الأدلة ويبدو لي أنها تُثبت إدانة المتهمين. لا أرى أن الدفاع سيُجدي نفعًا على الإطلاق. هل تتفق معي؟»
ثورندايك: «لا أتفق معك في الوقت الحالي، ولكنَّ هناك نقطة أو نقطتين ينبغي أن أتثبَّتَ منهما قبل أن أقرِّر ما إذا كنت سأتولَّى الدفاع أم لا. والمشاهدة بالعين أصدقُ من الخبر المنقول.»
تناولنا غداءً خفيفًا في أحد المطاعم التي نتردَّد عليها في شارع فليت ستريت ثم أخذنا سيارة أجرة وأوصلتنا إلى واترلو، ومنها أخذنا القطار إلى لوار ديتون. وضعتُ التقارير في جيبي واطَّلعتُ عليها مرة أخرى أثناء السفر على أملِ أن أكتشف أيَّ نقطةٍ يمكن أن تتضح بتفتيش مسرح الجريمة.
على الرغم من الغرض المبهم الذي ينطوي عليه تفسير ثورندايك، إلا أن شيئًا في أسلوب زميلي وكذلك الخبرة الطويلة بطريقته جعلاني أشكُّ في أن لديه شيئًا محددًا في عقله. لم يتفوَّه أحدٌ منا أثناء الرحلة ولم نتناقش في القضية؛ فلم يكن هناك ما نتناقش فيه حسبما أرى.
حظينا باستقبالٍ حارٍّ للغاية في مركز شرطة لوار ديتون. تعرف الرقيب على ثورندايك على الفور — يبدو أنه من المعجبين المتحمسين لزميلي — وبعد الاطلاع على المذكرة من مايفيلد للحظات، أخذ مفتاحًا من فوق مكتبه وارتدى قبعته.
قال: «بارك الله فيك يا سيدي، لا أحتاج إلى أن تعرفني عن نفسك. رأيتُك في المحكمة وسمعتُك. سآتي معك إلى المنزل بنفسي.»
حسبت أن ثورندايك سيعتذر عن هذا الاهتمام ولكنه قَبِله بلطف وانطلقنا في القرية ومررنا بممرٍّ هادئ يقبع في نهايته المنزل المشئوم. في أثناء سيرنا، أبدى الرقيبُ تعليقاتٍ على القضية بحرِّيَّة بعيدًا عن الطابع الرسمي مما أثار فضولي.
«أظن أنك ستعطل أعمالك يا سيدي إذا كنت ستتولَّى الدفاع، ولكني أتمنى لك حظًّا موفقًا. تعرفتُ على السيدة فيليس منذ بضع سنوات؛ إذ كانت معروفةً في القرية هنا كما أنها ألطف وأجمل وأفضل امرأة يمكن أن تقابلَها. لا يمكنني أن أتخيَّل أنها على علاقةٍ بالقاتل — أو أنها القاتلة — شيءٌ لا يصدقه عقل! المسألة في غاية التعقيد، ولكن هذا ما تذكرُه الوقائع، إلا لو كان هذان الرجلان يكذبان.»
سألت: «هل يوجد أيُّ سبب يجعلك تفترض أنهما يكذبان؟»
«لا يوجد لديَّ أسبابٌ. فهما رجلان صالحان ومتزنان ومحترمان. وستكون هذه الكذبة افتراءً شنيعًا منهما. كما أن كليهما يعرفان السجينَين ويحبانِهما. الكلُّ أحبَّ السيد بلاند والسيدة فيليس على الرغم من أن صداقتَهما قد لا تكون على النحو الملائم، ولكن سأُخبرك يا سيدي، كان الرجلان مضطربَين بدرجة مخيفة وقت الإدلاء بالشهادة. هذا هو المنزل!»
فتح البوابة ودخلنا إلى الحديقة وكان من خلفها منزلٌ صغير بعضَ الشيء بطراز قديم حيث النوافذ في الطابق الأرضي محمية بسدائل من الخارج. مشينا إلى أن وصلنا إلى المنزل من الخلف، حيث توجد حديقةٌ أخرى ينبت بها العشب وممرٌّ يؤدي إلى النهر.
سأل ثورندايك: «هل هذا مرفأ القارب؟» وأشار إلى جملون صغير يظهر من أعلى شجيرات الليلك.
الرقيب: «نعم، ويوجد القارب عنده؛ وهو عبارة عن زورق جيد وواسع ومريح اعتادت السيدة فيليس وصديقها أن يخرجَا للتنزه به. هذه هي النافذة التي نظر منها الرجلان، ولكن لا يمكنك رؤيةُ ما بالداخل بوضوح الآن لأن الغرفة مظلمة تمامًا.»
نظرتُ إلى النافذتَين الفرنسيتَين اللتين تفتحان باتجاه العشب وفكرتُ في هذا المثال الجديد على حماقة المجرمين. كلُّ نافذة مثبَّتٌ عليها زوجٌ من السدائل القوية التي تُغلَق من الداخل وكلُّ سديلٍ مثقوب بمقدار خمس أقدام تقريبًا من العتبة بثقب دائري يزيد قطرُه على البوصة بقليل. لا يُعقل أن يتورط شخصان عاقلان في إخفاء جثة مقتولة ويتركان هذه الثقوبَ الأربعة من دون تغطيتها خشيةَ أن يتنصت أو يتجسس عليهما أحد.
زادت دهشتي من عدم الاحتياط أكثر عندما أدخلنا الرقيب ووقفنا داخل الغرفة ووجدنا أن النافذتَين كلتيهما وكذلك النافذتان في الغرفة البعيدة جميعها مؤثثة بستائر ثقيلة.
ردَّ الرقيب على تعليقي: «نعم، إنه أمر غريب أن يُغفِلَ هذان الشخصان مسائلَ ذات أهمية بالغة. أتعرف، لقد أسدلوا جميع الستائر في غرفة الرسم، ولكنهم نسوا إسدال هذه الستائر. هل هناك شيء تودُّ رؤيته على وجه الخصوص يا سيدي؟»
ثورندايك: «يجب أن أرى مكان إخفاء الجثة، ولكني سأتفقَّد الغرف أولًا.»
تجوَّل في الغرف ببطء، وأخذ ينظر من حوله وبدا أنه يُثبت مظهر الغرف في ذاكرته. لم يكن هناك الكثير لرؤيته أو تذكُّره. تتَّصل الغرفتان المربعتان تقريبًا ببعضهما عن طريق قوس عريض ويُفصَل بينهما بستارة كما هو واضح من قضيب الستارة. لا يوجد أيُّ أثاث في الغرفة الخلفية باستثناء الستائر على النافذة، ولكن الغرفة الأمامية لم يوجد بها الأثاث بالكامل على الرغم من أن الأرضية والجدران كانت مكشوفة. وجدنا الخوان لا يزال في موضعه ويحمل في كلِّ طرف مصباحًا كهربائيًّا طويلًا، كما هو الحال في رفِّ الموقد. احتوت الغرفةُ على ثلاثة كراسيَّ لمائدة الطعام ومائدة ذات مقاس جيد وأرجل مزخرفة قريبة من الجدار.
ثورندايك: «أرى أنك لم تُثبت ألواح الأرضية بالمسامير.»
«لا يا سيدي، ليس بعد؛ وبالتالي يمكننا رؤيةُ المكان الذي أُخفيت فيه الجثة ومكان المفتاح الكهربائي. خلع الكهربائيون اللوح الخطأ في البداية، وبذلك اكتُشفت الجثة. ويقول أحدهم إن الألواح التي فوق المفتاح الكهربائي رُفعت مؤخرًا، وأظن أن الجناة كانوا ينوون إخفاءَ الجثة في ذلك المكان، ولكنهم فوجئوا بالمفتاح الكهربائي وبالتالي اختاروا مكانًا آخر.»
انحنى ورفع الألواح المفكوكة التي وقف عند طرفها وفي الجهة المقابلة رف الموقد، حيث انكشفت الروافد وقعر الأرضية على مسافة قدم واحدة تقريبًا. وُجد مفتاح كهربائي قيد التشغيل في إحدى الفراغات وفي الفراغ المجاور وُجد مفتاح غاز غير مستخدم على ما يبدو.
الرقيب مشيرًا إلى مساحة فارغة: «هنا وجدنا المرحومة السيدة لوسي. كان المشهد مروعًا. لقد أرعبني بحق. كانت المرحومة مستلقيةً على جنبها محشورةً بين الروافد وأنفُها مفلطح على خشبة. لا بد أن من ارتكب هذه الجريمة متوحشون ولا أصدق — حقًّا لا أصدق — أن السيدة فيليس كانت واحدةً من هؤلاء المجرمين.»
قلت: «يبدو أن المكان ضيقٌ على أن يتسع لجسد مستلقٍ.»
وضع ثورندايك مسطرةً صغيرةً عبر الفراغات وقال: «المسافة بين الروافد ست عشرة بوصة، وسُمكها بوصتان ونصف. ألواح ثقيلة وفراغات واسعة.»
وقف ثم التفَت ونظر باتجاه نوافذ الغرفة الخلفية. تبعتُ نظراتِه ولاحظتُ من الوهلة الأولى الثقبَين في سديل النافذة جهة اليسار (بالطبع هي النافذة جهة اليمين من الخارج) يشعَّان بالنور داخل الغرفة المظلمة وكأنهما عينان يلمع فيهما الفضول وتتوجهان بأصابع الاتهام. لا تُلاحَظ الثقوب في النافذة الأخرى بسهولة، والسبب وراء الاختلاف واضح. تتكوَّن النافذة الأولى من ألواح صغيرة وقوائم وسطى أو أعمدة نوافذ، وكانت النافذة الأخرى مزودةً بألواح زجاجية كبيرة ولم يكن فيها قوائمُ وسطى.
ردًّا على تعليقه الذي لم يتفوَّه به: «بالطبع عمَّ الظلام في ذلك الوقت وربما أُضيئت هذه الغرفة بطريقة ما أو بأخرى.»
ردَّ: «ليس ظلامًا دامسًا في مايو. يوجد غرفة نوم مؤثثة، أليس كذلك أيها الرقيب؟»
الرقيب: «غرفتان يا سيدي.» وفتح الباب على الفور ومشى عابرًا الصالة وصعد السلم.
قال: «هذه غرفة السيدة فيليس.» وفتح الباب بحذرٍ وأخذ ينظر بالداخل.
دخلنا إلى الغرفة ونظرنا من حولنا بفضولٍ يكسوه الغموض. أثاث الغرفة بسيط ولكنه ينمُّ عن الأناقة وحسن الذوق، تحتوي الغرفة على فراش صغير له أربعة أعمدة وكرسي هزاز خفيف ومائدة كتابة صغيرة ومهندمة.
أشار الرقيب إلى صورة شخصين لها إطار وتوجد على المائدة، وقال: «هذان هما السيد بلاند والسيدة فيليس بذاتها.»
رفعتُ الإطار ونظرت إلى صورة الشخصين بفضول. بالنسبة إلى قاتلين، بالتأكيد رأيتهما جذَّابَين بطريقة غير عادية. الرجل كان إنجليزيًّا من الطبقة المتوسطة وأحسب أن عمره يبلغ خمسة وثلاثين عامًا تقريبًا وذا مظهر وسيم، والمرأة تتصف بالجمال ولها وجه يكسوه الوقار واللطافة والرقة.
قلت: «إنها تتبع شيئًا من التقاليد اليابانية بهذه اللفة أعلى الرأس ودبوس الشعر الكبير المصنوع من العاج الذي تستخدمه لتثبيت الشعر.»
ناولتُ الإطار لثورندايك وبدا الاهتمام عليه في النظر إلى صورتهما ثم أخرج الصورة من الإطار وتفحص كلًّا منهما من الأمام والخلف قبل أن يعيد الصورة إلى مكانها.
لما وضع ثورندايك الإطار، قال الرقيب: «غرفة النوم الأخرى عبارة عن غرفة احتياطية. لا يوجد شيءٌ يستحق الرؤية فيها.»
ولكنه أخذنا إليها وعندما تحققنا مما قاله رجعنا ونزلنا إلى الطابق السفلي.
ثورندايك: «قبل أن نذهب، سأرى ما المقابل لهذه الثقوب.»
مشى إلى النافذة وبدأ ينظر إلى الخارج من خلال أحد الثقوب وحينها تبعه الرقيب عن كثَبٍ ولكن زلَّت قدمُه فجأةً على الأرض وكاد يسقط.
قال متعجبًا: «لطفك يا رب!» وانحنى لالتقاط شيء صغير. قال: «يوجد شيء خطير متروك على الأرض. قطعة من قلم رصاص، على الأقل مظهره يقول ذلك.»
ناوله إلى ثورندايك؛ ومن ثَم دقق النظر فيه وقال: «نعم، الأشياء التي تتدحرج تحت القدم قد تتسبب في كسر العظام، ولكن أعتقد أنه من الأفضل أن تحتفظ به. قد أضطرُّ إلى أن أسألك عنه في المحاكمة.»
ودَّعنا الرقيب في نهاية الممر، ولما مشينا على الرصيف إلى المحطة قلت: «يبدو أننا لم نخرج بمعلومات أكثر مما أخبرنا به مايفيلد، باستثناء القلم الرصاص. على أية حال، لماذا طلبتَ من الرقيب أن يحتفظ به؟»
«من باب الاحتفاظ بكل شيء سواء له صلة أو ليس له صلة بالقضية، ولكنه لم يكن قلمَ رصاص، بل قطعة من قضيب كربون صغير.»
قلت: «أظنُّ أنه سقط من أحد الكهربائيين الذين كانوا يعملون في الغرفة. هل توصلتَ إلى قرار بشأن القضية؟»
«نعم، سأتولَّى الدفاع.»
قلت: «أنا لا أتخيل أي مسلكٍ ستسلكه. تحوم شبهاتٌ قوية حول هذَيْن الشخصَيْن حتى إن لم يكن هناك شهود، ولكن شهادة شهود العيان كفيلة أن تُثبت إدانتَهما.»
ثورندايك: «أتفق معك تمامًا، وهذا رأيي. أنا أبني القضية على شهادة هذين الرجلين، وآمل أن يظهر شيءٌ أثناء الاستجواب.»
هذه العبارة من ثورندايك جعلت رأسي يدور بالأفكار في الأيام التالية، ولكنها لم تكن ذات أهميةٍ كبيرة؛ لأن القضية لا تزال غيرَ مفهومةٍ تمامًا. وبالتأكيد إذا تبيَّن كذبُ شهادة شاهدي العيان، فربما تسقط القضية ضد المسجونَين لأنه سيكون هناك شخصٌ آخر مشتبه به، ولكن من الواضح أن شهادتهما ليست كذبًا؛ فالرجلان يشتهران بالاحترام ولا أحدَ يشكُّ في صدْق شهادتهما.
لم تُفكَّ ألغاز القضية بأي طريقة من خلال إجراءات ثورندايك. استدعينا السجينَين ولكننا لم نخرج بأي وقائعَ جديدة منهما. وكذلك لم نتمكن من إقامة حجة واضحة أو اقتراح لتفسير ما ذكره شاهدَا العيان. لم يُقدِّمَا سوى إنكار بسيط بوجودهما في المنزل في ذلك الوقت أو خلْع ألواح الأرضية.
أثار السجينان كلاهما إعجابي بهما. بدا بلاند الذي قابلناه في بريكستون رجلًا لطيفًا وصريحًا ومباشرًا على الرغم من ذكائه الشديد ومظهره الذي يُشبه رجال الأعمال؛ والسيدة فيليس التي قابلناها في هولواي كانت شابة جذابة حقًّا؛ إذ كان وجهها جميلًا وتتصف بالكرم واللطف في تعاملها، ولكني وجدتُها بائسة في جانب ما. اختفت لفةُ الشعر الجذابة من فوق رأسها وقصَّت شعرها بحيث أصبح طولُه يصل إلى ما فوق الحاجب. لاحظ ثورندايك هذا التغيير حتى إنه أبدى تعليقًا عليه.
قالت: «نعم، تدهورت حالتي. ولم أعتَدْ على هذه الحالة، ولكن ليس لديَّ خيار. تعرَّضتُ لحادث عندما كنت في باريس في فصل الربيع. كنت أنظف شعري بالبنزين وعندها اشتعلت فيه النيران. كان الحادث مروعًا. كان لدى مصفِّف الشعر حضورٌ ذهني مما جعله يرمي فوطة رطبة على رأسي، وهذا ما أنقذ حياتي، ولكن احترق شعري كلُّه تقريبًا. ولم يكن لديَّ خيار سوى أن أقصَّه كي أسويَه بقدر المستطاع. بدا منظرُه بشعًا في البداية. لديَّ صورة فوتوغرافية التقطها باترون بعدما عدتُ إلى المنزل بفترة وجيزة، التقطتها لمجرد الذكرى، وأظهرُ فيها بشكل غريب للغاية. إنني أُشبه فتًى في المدارس الخيرية التي يرتدون فيها الزيَّ الأزرق.»
ثورندايك: «على أية حال، متى عدتِ من السفر؟»
«عدتُ إلى إنجلترا في منتصف أبريل تقريبًا وذهبتُ مباشرة إلى شقتي الصغيرة في بادينجتون وأعيش فيها منذ ذلك الحين.»
«هل تتذكرين أين كنتِ في يوم الثامن عشر من مايو؟»
«كنتُ في شقتي، ولكني لا أتذكَّر ما الذي كنت أفعله في ذلك اليوم. ولا أحدَ يتذكَّر ما لم يحتفظ بدفتر يوميات وهذا الأمر لا أفعله.»
لم يكن هذا مبشِّرًا. لمَّا خرجنا من السجن، شعرتُ من ناحية بأن هذه السيدة الجميلة الكريمة ليس لها يدٌ في هذه الجريمة الشنعاء، ومن ناحية أخرى؛ شعرت باليأس التام من إمكانية إخراجها من هذه الظروف المتشابكة التي وقعت في شراكها.
لم أخرج من ثورندايك بشيء سوى أنه سيتابع تحقيقاتِه في القضية ليصلَ إلى واقعة بالغة الأهمية. كذلك لم تكن لديه سوى إجابة واحدة على أسئلتي التي حاولتُ الالتفاف حولها ببراعة: «عزيزي جيرفيس، أنت اطلعت على الأدلة ورأيت المنزل ولديك جميعُ الوقائع. فكِّر في القضية مليًّا وفكِّر في الاحتمالات التي يمكن أن تحدث أثناء الاستجواب.» وهذا ما استطعتُ أن أخرجَ به منه.
كان مشغولًا بالتأكيد، ولكن ما يفعله لا يزيدني إلا حيرة. أرسل مهندسًا معماريًّا معروفًا لعمل مقياس رسم هندسي للمنزل والحديقتين، وأرسل بولتون لالتقاط صور للمكان من كل زاوية ممكنة. لم يكن لدى بولتون وقتٌ من كثرة انشغاله بأعماله، وكان يستمتع بذلك للغاية، ولكنه بحر لا يُدرَك قاعه. وعندما ذهب وهو يبتهج من السعادة ويتغنَّى بالرضا التام، أثار سخطي لدرجة أنني كدتُ أضرب رأسه الصغير في الحائط. باختصار، على الرغم من أنني شاهدتُ تطوُّرَ القضية منذ البداية، إلا أنني لم أفهم ولو قدرًا ضئيلًا منها حتى عندما جلستُ في المحكمة صبيحة يوم المحاكمة.
كانت مناسبةً لا تُنسى، ولا تزال كلُّ واقعة فيها حية في ذاكرتي. أتذكر على وجه الخصوص الانجذاب الذي يشوبه الخوف إلى السجينة وهي تقف بجانب صديقها خلف القضبان شاحبة الوجه إلا أنها لم تفقد رباطةَ جأشها ووسامة وجهها وجمالها وكرامتها؛ يقشعر بدني عندما أتذكَّر أن هذا العنق الرشيق — والذي بدا أطول وأهيف بسبب قصر شعرها — قد يلتف حوله حبلُ المشنقة في غضون أيام. انقطعت هذه الأفكار المحزنة بدخول شخصين — رجل وامرأة — يبدو أن لهما علاقةً بالقضية؛ لأنهما عندما جلسَا نظرَا إلى القفص وتبادلَا التحية مع السجينين من دون كلام.
سألت: «هل تعرف مَن هذان الشخصان يا مايفيلد؟»
ردَّ: «هذا السيد يوليوس ويكس شريك السيد بلاند وخطيبته الآنسة يوجينيا كروب الممثلة السينمائية.»
أوشكتُ أن أسألَه هل حضرَا اليوم للإدلاء بشهادتهما أم لا، ولكن انتهت الإجراءات التمهيدية وقتئذٍ ونهض النائب العام السيد جون تورفيل لتقديم مرافعته.
كانت مرافعةً جيدة ووقائعها سديدة على نحوٍ واضح، ولكن هذا السداد أضرَّ بالسجينَين. بدأت المرافعةُ بسرد الوقائع التي كانت متطابقة تقريبًا مع ما لخصه السيد مايفيلد، وبعد ذلك ذكر شهادة الشهود التي أدلى بها الشاهدان الأساسيان.
عندما انتهي السيد جون من مرافعته قال: «والآن، لنخرج هذه الوقائع إلى النور. وباعتبار الجناة عصابة مرتبطة ببعضها، إليكم ما حدث. في السادس عشر من سبتمبر، وُجدت جثة لامرأة مقتولة مخبوءة تحت الأرضية في غرفةٍ بعينها وفي منزل بعينه. هذه المرأة زوجة منفصلة عن زوجها الذي على علاقة عاطفية مع امرأة أخرى يرغب في الزواج بها وترغب في الزواج به على حدِّ ما ورد في الاعترافات. باختصار، كانت هذه المرأة المقتولة العقبة أمام الزواج الذي يرغب هذان الشخصان في إتمامه. أيضًا، المنزل الذي أُخفيت فيه الجثة ملك لهذين الشخصين، وكلاهما يمكنهما الدخولُ إليه دون غيرهما. ومن هنا، وبادئ ذي بدء، هذه مجموعة من الملابسات التي تُثير الشبهاتِ حولهما.
ولكن ما زال هناك ما هو أهم. هذه المرأة البائسة، الزوجة المنبوذة من زوجها السجين السيد بلاند، اختفت في ظروف غامضة في الثامن عشر من مايو الماضي؛ وسيُثبت الشهود أنه تم التخلصُ من الجثة تحت الأرضية في هذا اليوم أو قريبًا منه. وفي هذا اليوم أو في يوم قريب منه، وفي هذا المنزل نفسه، وفي هذه الغرفة نفسها، وفي هذه البقعة من الغرفة نفسها، هذان السجينان الماثلان في قفص الاتهام، رآهما شاهدان محترمان رأْيَ العين وهما يُخفيان شيئًا كبيرًا تحت أرضية الغرفة. ماذا كان هذا الشيء؟ لم يوجد تحت أرضية الغرفة سوى جثة هذه السيدة المقتولة البائسة وهي ممددة تحت الألواح. والنتيجة التي لا تقبل الجدال هي أن هذين الشخصين اشتركَا في إخفاء هذه الجثة.
وفي الختام، أقول بأن الأسباب أو الدوافع التي تُدين هذين السجينَين بارتكاب هذه الجريمة التي اتُّهمَا بها تنحصر في ثلاث نقاط؛ النقطة الأولى: هي الدافع القوي والملموس لارتكاب الجريمة، والثانية: هي إتاحة الفرصة لارتكابها، والثالثة: هي شهادة شاهدَي العيان؛ مما يدل عمليًّا بأن السجينَين ارتكبَا الجريمة بالفعل على حسب شهادة الشاهدَيْن.»
لمَّا جلس النائب العام منتظرًا يمينَ الشاهد الأول، استدرتُ إلى ثورندايك وقلت في قلق: «لا يمكنني أن أتخيَّلَ ما تقوله ردًّا على هذه المرافعة.»
أجاب بهدوء: «ردِّي سيتقيَّدُ إلى حدٍّ كبير بما يمكن أن أستخلصَه من الاستجواب.» نُوديَ على الشاهد الأول وهو الكهربائي الذي اكتشف الجثةَ وأدلى بشهادته، ولكن لم يستجوبْه ثورندايك. بعد ذلك نُوديَ على الرقيب الذي وصف اكتشافَ الجثة بمزيد من التفاصيل. لمَّا جلس النائب العام، قام ثورندايك وانتبهتُ له بكل حواسي.
سأل: «هل ذكرتَ كلَّ شيء رأيتَه أو وجدتَه في الغرفة؟»
«في ذلك الوقت، نعم، ولكن في الثاني من أكتوبر، وجدتُ قلمَ رصاصٍ كربونيًّا صغيرًا على الأرض أمام الغرفة القريبة من النافذة.»
أخرج من جيبه ظرفًا استخرج منه القطعة التي قال عنها «القلم الرصاص» وأعطاها لثورندايك، الذي ناولها إلى القاضي وذكر أنه يرغب في ضمِّها إلى مستندات القضية، ثم جلس. تفحَّص القاضي القطعةَ بفضول ثم رمق ثورندايك بنظرة يكسوها الفضول، وسبق أن رمقه بهذه النظرة مرة أو مرتين. نادرًا ما أرى زميلي في دور المحامي، ولكنه عادةً ما يفجِّر المفاجآت.
مع تتابع الشهود بعد ذلك، استمع ثورندايك إلى أقوالهم وكلُّه آذان صاغية ولكنه لم يستجوبْهم، رأيتُ الفضولَ في نظر القاضي إليه من وقت إلى آخر ونمَا فضولي أنا الآخر أكثر وأكثر. بدا لي أنه يوفر جهدَه لأهم الشهود. بعد مدة، نُوديَ اسم جيمس برودي، ودخل عاملٌ كبيرٌ في السن بمظهرٍ ينمُّ عن جديَّتِه. أدلى بشهادته بوضوح وثقة، على الرغم من وضوح التردُّد من جانبه، ورأيت أن وصْفَه الدقيق لهذا المشهد المشئوم ترك انطباعًا كبيرًا لدى هيئة المحكمة. بعدما انتهى القاضي من استجواب الشاهد، نهض ثورندايك وانتبه القاضي كي يُصغيَ إلى ثورندايك بكلِّ حواسه.
سأل ثورندايك: «هل سبق أن دخلتَ إلى منزل اللاركس؟»
«كلَّا يا سيدي. كنت أمرُّ من جانب المنزل مرتين يوميًّا لسنوات، ولكني لم أدخلْه قطُّ.»
«عندما نظرتَ من الثقب، هل كانت الغرفة مضاءة؟»
«كلَّا، وجدتُها معتمةً للغاية. لم أستطع أن أرى سوى ما كان يفعله مَن كانوا بالداخل.»
«وبرغم ذلك تعرفتَ على السيدة فيليس بوضوح تام؟»
«لا، لم أتعرف عليها في البداية. لم أتعرف عليها إلى أن وقفتْ تحت القوس. بدا الضوء ساطعًا نوعًا ما في تلك البقعة.»
«هل رأيتَها وهي تخرج من الغرفة الأمامية وتمشي إلى أن وقفت تحت القوس؟»
«لا، رأيتُها في الغرفة الأمامية ثم أتى شيءٌ وحجب الثقب وبالتالي أصبح كلُّ شيء مظلمًا. ثم مشى الحاجز من أمام الثقب مرة أخرى ورأيتُها واقفة تحت القوس، ولكني لم أرَها إلا لمدة دقيقة أو دقيقتين. ثم حُجبت الرؤية من الثقب مرة أخرى ولما فُتحت مرة أخرى وجدتُها عادت إلى الغرفة الأمامية.»
«كيف عرفتَ أن المرأة في الغرفة الأمامية هي السيدة فيليس؟ هل رأيتَ وجهها في هذا الضوء الخافت؟»
«لا، ولكني تعرفتُ عليها من ملابسها. كانت ترتدي مئزرًا مخطَّطًا بياقة كبيرة بيضاء تُشبه ياقةَ البحارة. بالإضافة إلى ذلك، لم يكن هناك أحدٌ آخر.»
«بالنسبة إلى السيد بلاند، هل رأيتَه يخرج من الغرفة الأمامية ويمشي إلى أن وقف تحت القوس؟»
«لا، حدث ما حدث مع السيدة فيليس. شيءٌ ما حجب الرؤية من الثقب. رأيتُه في الغرفة الأمامية، ثم رأيتُه أسفل القوس ثم في الغرفة الأمامية مرة أخرى.»
«عندما كانَا تحت القوس، هل كانا يتحرَّكان أم ظلَّا واقفَين؟»
«بدَا أن كلَيهما كانَا يقفان ساكنَين.»
«هل كانت السيدة فيليس تنظر إليك مباشرةً؟»
«لا، كانت تنظر إلى مكان يبعد عني قليلًا.»
«أريدك أن تنظر إلى هذه الصور الفوتوغرافية وتُخبرنا بما إذا كان أيٌّ منها يُظهر الرأس بالوضعية التي رأيتَها بها أم لا.»
سلَّم حزمة من الصور الفوتوغرافية إلى الشاهد، ومن ثَم أخذ ينظر إليها صورة تلو الأخرى وبعد مدة أخرج صورة.
قال: «هذه الصورة توضِّح الاتجاه الذي كانت تنظر إليه بالضبط. ربما كانت تقف بزاوية التقاط هذه الصورة بالتحديد.»
ناول الصورة إلى ثورندايك الذي لاحظ الرقم المكتوب عليها وناولها إلى القاضي الذي لاحظ الرقم هو الآخر ووضعها على مكتبه. ثم تابع ثورندايك: «قلتَ إن الضوء كان خافتًا للغاية في الغرفة الأمامية. هل كانت المصابيح الكهربائية مضاءة؟»
«لم أرَ مصابيح مضاءة.»
«كم عدد المصابيح الكهربائية التي استطعتَ أن تراها؟»
«رأيتُ ثلاثة مصابيح معلَّقة في السقف وشمعدانَيْن على رفِّ الموقد وواحدًا على الخِوان. ولكني لم أرَ أيًّا منها مضاءً.»
«هل كان هناك شمعدان واحد فقط على الخِوان؟»
«ربما كان هناك أكثر، ولكني لم أرَها لأنني لم أرَ سوى زاوية واحدة من الخِوان.»
«هل رأيتَ رفَّ الموقد بالكامل؟»
«نعم، شاهدت شمعدانًا في كل طرف.»
«هل رأيتَ أيَّ شيء في الجانب القريب من رفِّ الموقد؟»
«كانت هناك طاولة؛ طاولة قابلة للطي بأرجلٍ ملتوية، ولكني لم أرَ سوى جزء من ذلك؛ فجانب القوس حجب الجزء الآخر.»
«ذكرتَ أنك لم ترَ السيدة فيليس بوضوح تام وأنك رأيتَ الملابس التي كانت ترتديها. هل رأيتَ طريقة تصفيف شعرها؟»
«نعم، كان ملفوفًا أعلى رأسها أو كما يسمونها كعكة وربما كان هناك دبوسٌ أو ما شابه يُثبته.»
عندما أدلى الشاهد بإجابته، انشرح صدري. لم ينشرح كثيرًا؛ لأن اللغز لا يزال من دون حلٍّ. ولكني رأيتُ أن ثورندايك أعدَّ خطة استراتيجية محددة تمامًا. وعندما نظرتُ إلى قفص الاتهام، أدركتُ على الفور أن السجينَين انشرح صدرُهما أيضًا.
تابع ثورندايك: «وصفتَ شيئًا يُشبه الحفرة في الأرضية، حيث خُلعت بعضُ الألواح بالقرب من منتصف الغرفة. هل كانت هذه الحفرة أقرب إلى الخِوان أم إلى رفِّ الموقد؟»
أجاب الشاهد: «كانت أقربَ إلى رفِّ الموقد.» هنا جلس ثورندايك ونزل الشاهد من على المنصة، وعلى الفور قلب كلٌّ من القاضي والمدعي العام مذكراتِهم والدهشة بادية عليهما.
الشاهد التالي هو ألبرت ستانتون، وما أدلى به لم يختلف كثيرًا عما أدلى به برودي؛ ومن ثَم طرح ثورندايك سلسلة الأسئلة نفسها أثناء الاستجواب؛ ومن ثَم سلَّط مزيدًا من الضوء على الإجابات نفسها حتى فيما يتعلَّق بالتعرُّف على الصورة الفوتوغرافية نفسها. وهذا ما أعاد لي بصيصَ الأمل مرة أخرى، ولكنه مجرد بصيص.
لما كان ستانتون آخر الشهود في المحكمة، حسم الاستجواب المقتضب الذي أجراه السيد جون تورفيل القضيةَ بثبوت الإدانة. وهنا نهض ثورندايك وقال إنه دعا شهودًا آخرين، وصعِد أولهم على الفور إلى المنصة. الشاهد هو السيد فريدريك ستوكس، المهندس المعماري وزميل المعهد الملكي للمهندسين المعماريين البريطانيين، وبعد أن أقسم اليمين، قال إنه أعدَّ مسحًا دقيقًا للمنزل الذي يُدعى اللاركس في لوار ديتون وأنه رسم مخططًا بمقياس رسم نصف بوصة إلى قدم. أقسم أن المخطط صحيحٌ ودقيق من جميع الجوانب؛ ومن ثَم أخرج النسخة الأصلية وعددًا من النسخ المطبوعة طبق الأصل. أخذ ثورندايك المخططات منه وناولها القاضيَ وطلب ضمَّ النسخة الأصلية ضمن مستندات القضية وأعطى النُّسَخ إلى هيئة المحكمة.
الشاهد الثاني هو جوزيف بارتون، مصور فوتوغرافي من كنسينجتون. أقسم وقال إنه التقط الصور للسيدة فيليس في مناسبات مختلفة، وآخر صورة التقطها كانت في الثالث والعشرين من أبريل الماضي. أخرج نُسَخًا منها والتاريخ مكتوب على كل صورة. أقسم أن التواريخ المكتوبة هي التواريخ الصحيحة. سُلِّمت الصور الفوتوغرافية للقاضي ونظر فيها واحدة تلو الأخرى. وفجأة، ظهر الذهول على القاضي وأخذ يقلب بسرعة بين الصورة الفوتوغرافية والمذكرات؛ علمتُ أنه صُعق من آخر صورة، الصورة التي تظهر فيها السيدة بشعر قصير.
لما نزل المصور الفوتوغرافي من فوق المنصة، أخذ مكانَه شخصٌ له أهمية كبيرة وهو موظف المختبر. ولما وقف مكانه، ابتسم إلى القاضي وهيئة المحكمة وإلى مَن في المحكمة بوجه عام وكان وجهُه مشرقًا بهذه الابتسامات. بعد أن أقسم ناثانيال بولتون، قال إنه في الخامس عشر من أكتوبر، ذهب إلى منزل اللاركس في لوار ديتون والتقط ثلاثَ صور فوتوغرافية للغُرَف في الطابق الأرضي. التُقطت الصورة الأولى من الثقب جهة اليمين في السديل المحدد بالحرف «أ»، والتُقطت الصورة الثانية من خلال الثقب جهة اليسار، والتقُطت الصورة الثالثة من نقطة داخل الغرفة الخلفية بين النوافذ ومن مكان نقطة أقرب إلى النافذة المحددة بالحرف «ب». أخرج هذه الصور الفوتوغرافية بالمواصفات المكتوبة على كلٍّ منها. أعدَّ كذلك بعضَ الصور الفوتوغرافية المركَّبة بحيث يظهر شخصان بملابس مثل الملابس التي وصفها الشاهدان برودي وستانتون. الجسمان في الصور الفوتوغرافية هما جسم السيدة وينيفريد بليك وجسم المحامي روبرت أنستي، على التوالي. وفوق هذين الجسمين، ركَّب رأسَي المسجونَين؛ ثم شرح بولتون طريقةَ التركيب بالتفصيل. الغرض من الصور الفوتوغرافية هو توضيح أنه يمكن طباعةُ صورة برأس شخص وجسم شخص آخر. قال أيضًا إنه رأى صورةً للسجينين وأخذها، وقال إنه وجدها في غرفة النوم؛ ومن ثَم أخرجها وأعطاها للقاضي. وبذلك انتهى من الإدلاء بشهادته.
استدعى ثورندايك السجينَ السيد بلاند وبعد أن جعله يُقسِم على نفْي هذه التهمة عنه، تقدَّم وسأله عن الأرباح التي يجنيها من دور السينما الثلاث؛ وبدا أن الأرباح تزيد على ستة آلاف جنيه سنويًّا.
«في حالة وفاتك، إلى مَن ستئول هذه الثروة الكبيرة؟»
«إذا كانت زوجتي حية، كانت ستنتقل إليها، ولكنها متوفاة الآن؛ وبالتالي ستنتقل إلى شريكي ومديري السيد يوليوس ويكس.»
«مَن كان المسئول عن المنزل في ديتون حينما كانت السيدة فيليس في فرنسا؟»
«أنا، المفاتيح كانت معي.»
«هل سبق أن أخذ أحدٌ المفاتيح منك؟»
«لمدة يوم واحد فقط؛ طلب مني شريكي السيد ويكس أن أسمح له باستخدام القارب لأخْذ جولةٍ في النهر وأن يتناول وجبة في المنزل؛ ولذا أقرضتُه المفاتيح وأعادها لي في اليوم التالي.»
بعد استجواب بسيط، رجع بلاند إلى قفص الاتهام ثم جاء الدور على السيدة فيليس التي أقسمت على نفْي هذه التهمة عنها، ووصفت تحركاتِها في فرنسا وفي لندن في الفترة التي ارتُكبت فيها الجريمة. ولما سُئلت، وصفت الأحداث التي فقدت فيها شعرها.
سأل ثورندايك: «هل تتذكَّرين التاريخ الذي وقع فيه الحادث؟»
«نعم، وقع الحادث في الثلاثين من مارس. كتبتُ التاريخ كي أعرف المدة التي استغرقها شعري كي ينموَ مرة أخرى.»
عندما جلس ثورندايك، نهض المدعي العام وأجرى بعض الاستجوابات البحثية، ولكن من دون زعزعة ما أدلى به السجينان بأي شكل من الأشكال. عندما انتهى وعادت السيدة فيليس إلى قفص الاتهام، نهض ثورندايك مخاطبًا المحكمة من أجل الدفاع.
بدأ قائلًا: «السادة هيئة المحكمة الموقرة، لن أُشغلَ الوقت في سرد الأقوال ولا في مناقشة مسألة الدافع خلف ارتكاب الجريمة. إدانة السجينين أو براءتهما تعتمد على دقة ما أدلى به الشاهدان وهما برودي وستانتون أو على عدم دقة ما أدليَا به، وسأقتصر على تفنيد الأقوال.
كما لاحظتم، فهذه الشهادة تنطوي على بعض التناقضات التي لا تخفَى على أحد؛ بدايةً وصفَ الشاهدان كلاهما ما رأياه بعبارات متطابقة؛ فقد رأيَا الأشياء نفسها بالضبط في الأماكن نفسها بالضبط نسبيًّا، ولكن هذا مستحيل عمليًّا إذا كانَا ينظران حقًّا إلى داخل الغرفة؛ والسببُ أنهما كانَا ينظران من نقطتَي رؤية مختلفتين ومن خلال ثقبَين مختلفين يبعدان عن بعضهما بمقدار ستِّ بوصات، ولكنَّ هناك تناقضًا آخر مذهلًا أكثر. وصفَ الرجلان كلاهما عددًا من الأشياء في الغرفة بأوصاف واقعية وكاملة وواضحة؛ في حين أن هذه الأشياء لا يمكن أن يراها أيٌّ منهما، وكذلك وصف كلاهما أشياءَ أخرى بأوصاف جزئية على الرغم من وقوعها في مرمى البصر بالكامل. على سبيل المثال، وصف الشاهدان كلاهما رفَّ الموقد بالشمعدانَيْن والطاولة ذات الأرجل الملفوفة بالقرب منه؛ ولم يرَ كلاهما سوى زاوية من الخِوان، ولكن إذا نظرنا إلى مخطط المهندس المعماري وجربَّنا باستخدام مسطرة مستقيمة، فسنرى أنه لا يمكن لكليهما رؤيةُ رفِّ الموقد ولا الطاولة. هذا الجزء بالكامل من الغرفة كان مخفيًّا عنهما بدعامة القوس، ولكن بالنسبة إلى الخوان، نجده واقعًا في مرمى بصر برودي بالكامل بأعمدته، ونجده مرئيًّا لستانتون بالكامل ما عدا جزءًا من الجانب القريب منه. الأدهى من ذلك، إذا وضعنا المسطرة المستقيمة على النقطة «ﺟ»، واختبرناها بمطابقة جوانب القوس، فسنجد أن الشخص الذي يقف في تلك البقعة سيرى الأوصاف التي ذكرها الشاهدان بالضبط. أرفقتُ نُسَخ المخططات مرسومًا عليها خطوط بالقلم الرصاص توضِّح ما أقول؛ وإذا وجدتم صعوبةً في تتبُّع المخططات، فقد أرفقتُ الصور الفوتوغرافية التي التقطها بولتون للغرفة. التُقطت الصورة الأولى من الثقب الذي استخدمه برودي، وتوضح تمامًا ما سيراه إذا نظر من خلال هذا الثقب؛ وترى المحكمة الموقرة أن الصورة تتطابق مع المخطط تطابقًا كاملًا وتتعارض بالكامل مع ما ذكره الشاهد. توضح الصورة الثانية الأشياءَ المرئية لستانتون، أما الصورة الثالثة التي التُقطت من النقطة «ﺟ»، فتوضح تمامًا المشهد الذي وصفه الشاهدان بالضبط، ولكن يستحيل أن يرى كلاهما هذا المشهد في ظلِّ الظروف المذكورة.
والآن، ما تفسير هذه التناقضات غير العادية؟ أظن أن لا أحدَ يشكُّ في صدْق الشاهدين. وبالتأكيد لا أشكك أنا أيضًا. ولا أشك بأي حال أنهما قالَا الحقيقة بناءً على ما رأياه. ولكنهما ذكرَا أنهما رأيَا أشياء يستحيل رؤيتُها عمليًّا من مكان وقوفهما. فكيف يمكن التوفيق بين هذه التناقضات المذهلة؟»
توقَّف ثورندايك وخيَّم الصمت على المكان، ولاحظتُ أن القاضي يُحدق فيه وعينُه تنتظر ما سيُدلي به؛ ورأيتُ هذه النظرة في أعين هيئة المحكمة وكلِّ من حضر إلى المحكمة.
استأنف قائلًا: «سأقول لكم أيها السادة، هناك تفسير واحد للتوفيق بين هذه التناقضات توفيقًا تامًّا؛ كما أن هذا التفسير يوفق بين جميع التناقضات والتعارضات الغريبة الأخرى التي ربما لاحظتموها. إذا افترضنا أن هذين الرجلَين كانَا ينظران بالفعل إلى صورة متحركة على شاشة ممتدة عبر القوس، بدلًا من النظر من خلال قوس إلى داخل الغرفة حسب ظنهما، فستتلاشى كلُّ هذه التناقضات. وبذلك يُصبح كلُّ شيء واضحًا تمامًا ومتسقًا ومفهومًا.
من نقطتَي رؤية مختلفتين، رأى الرجلان المشهد نفسه؛ وهذا طبيعي إذا نظر كلاهما إلى الصورة نفسها، أما خلاف ذلك فمستحيل تمامًا. مرة أخرى، من النقطة «أ»، رأى الرجلان كلاهما مشهدًا لا يمكن رؤيتُه إلا من النقطة «ﺟ». وهذا المشهد طبيعي تمامًا إذا نظر كلاهما إلى صورة التُقطت من النقطة «ﺟ»؛ والسببُ أن الصورة لا تتغير بتغير زاوية الرؤية التي تُرى منها. ولكنَّ خلافَ ذلك مستحيلٌ عمليًّا.
يمكنكم الاعتراضُ استنادًا إلى قدرة الرجلين في التمييز بين الصورة والغرفة الحقيقية. ربما يمكنهما ذلك حتى في الإضاءة الخافتة، ولكن إذا نظرَا إلى المشهد بالعينين وليس بعين واحدة، لكنَّ كلَّ واحد منهما لم يكن ينظر إلا بعين واحدة من خلال ثقبٍ صغير. الأمر يتطلب استخدام العينين كلتيهما للتمييز بين الشكل المجسم والصورة المسطحة. لا يوجد فرقٌ من منظور الأعور — وربما كان هذا السبب في كون الرسام الأعور أدقَّ في رسم أعماله الفنية — فهو يرى العالم من حوله على أنه صورة مسطحة، تمامًا كما يرسمها، في حين أن الرسام السليم العينين يضطر إلى تحويل الشكل المجسم إلى صورة مسطحة. وللسبب نفسه، إذا نظرنا إلى صورة بعين واحدة وأغلقنا العين الأخرى، فغالبًا ما سنراها مجسمة، والسبب في الحقيقة هو تحوُّل الإطار والأشكال المجسمة من حولها إلى صورة مسطحة. ولذا، إذا لُوِّنت هذه الصورة — ولا بد أنها لُوِّنت — فلن يتمكن شخصٌ ينظر بعين واحدة أن يميزَها طالما الواقع من حوله مجسم.
إذن، لنتعرف كيف تتلاشى التناقضات الأخرى. هنا تظهر السجينة السيدة فيليس. شوهدت في يوم الثامن عشر من مايو أو بعده بشعرها الطويل الملفوف أعلى رأسها، ولكن في ذلك التاريخ كان شعرها قصيرًا جدًّا. وسمعتم هذا في أقوالها ورأيتموه في الصورة التي التقطها المصور في الثالث والعشرين من أبريل وهي تظهر بشعر قصير، بطول شعر الرجل. يذوب هذا التعارض من مجرد معرفة أن هذين الرجلين لم ينظرا إلى السيدة فيليس على الإطلاق، وإنما رأيَا صورة فوتوغرافية لها التُقطت منذ ما يزيد على عام.
كلُّ الشواهد تتطابق مع هذا الافتراض. تبيَّن أن مظهر السيدة فيليس الذي ذكره الشاهدان يتطابق مع مظهرها في هذه الصورة الفوتوغرافية، وهذه الصورة كانت موجودةً في المنزل وبإمكان أيِّ شخص يدخل إلى المنزل أن يطبع نسخة منها. صورتُها كانت ساكنةً تمامًا. ظهرت السيدة فيليس فجأة في القوس ثم اختفت؛ أي لم تُرَ تجيء وتروح. وظلَّ الضوء يتَّقد وينطفئ، وكانت هناك فتراتٌ من الظلام لا تفسيرَ لها، ولكن هذا يتناسب تمامًا مع مرات ظهور السيدة ومرات اختفائها. ثم أُلقي ضوءٌ ساطع على الصورة، على الرغم من أن الغرفة كانت مظلمة تقريبًا. بالطبع سُلِّط قدر كبير من الضوء عليها. فكان لا بد أن يتعرف عليها مَن بالخارج. وبالطبع كانت الإضاءة في باقي الغرفة خافتة؛ لأنه لا ينبغي التعرُّف على ممثلي الفيلم في الخلفية.
أيضًا، يوجد ملبس غير عادي؛ المئزر المخطط ذو الياقة البيضاء وسترة الرسام التي يرتديها السيد بلاند. لماذا هذا التنكُّر السخيف؟ الغرض منه واضح. الغرض هو جعلُ مَن ينظر من الخارج يصدق أن الصور التي عند القوس — التي أخطآها واعتقدَا أنها أناسٌ حقيقيون — هي لأشخاص مثل ممثلي الفيلم في الخلفية، الذين لا يمكن تمييزُ ملامحهم. وقد أوضح لنا السيد بولتون طريقة تدبُّرِ أمر الملابس في الصور.
هناك إضاءة الغرفة كذلك. كيف كانت إضاءتُها؟ لم تُضَأْ أيٌّ من المصابيح الكهربائية، ولكن عُثر على قلم رصاص كربوني من لمبة في القوس — مثل الذي يستخدمه المصور السينمائي — بالقرب من النقطة «ﺟ» التي التُقطت منها الصورة وعُرضت؛ وفي يوم قريب من هذا التاريخ، أظهر عدادُ الكهرباء أن هناك تسريبًا غير مبرَّر في التيار وهو ما يمكن تفسيرُه باستخدام مصباح القوس.
ثم إن أقوال الشاهدَين توضح وجود الحفرة في الأرضية في المكان الخطأ. بالطبع لا يمكن أن تكون حفرةً حقيقية؛ لأن مفاتيح الغاز والكهرباء تحتها مباشرة. ربما كانت الحفرة عبارة عن مستطيل من الورق الأسود، ولكن لماذا وُضعت في المكان الخطأ؟ أظن أن السبب هو أن الصورة التُقطت قبل ارتكاب جريمة القتل (وربما عُرضت أيضًا قبل الجريمة)؛ وهذه البقعة الموضحة كانت هي البقعة المزمع دفن الجثة فيها، ولكن لما رُفعت الألواح بعد جريمة القتل، اكتُشفت المفاتيح تحت الأرضية وبات لزامًا اختيارُ مكان آخر.
في النهاية، وفيما يتعلق بالتناقضات، ما الذي حلَّ بالمُشاهد الثالث؟ أين هو الرجل الغامض الذي أتى إلى البوابة ونادى على الرجلين من الممر الذي يمران به كلَّ يوم في الوقت نفسه تقريبًا؟ مَن هو هذا الشخص الغامض؟ وأين هو؟ هل يمكن أن نعرف اسمه؟ هل يمكن القول بأنه موجود في هذه اللحظة في هذه المحكمة، ويجلس بين الحضور، ويستمع إلى توسُّلات الضحيتَين البريئتَين اللذين سُجنَا ويقفان خلف القضبان وهما ينتظران خلاصَهما؟ أؤكد لكم أيها السادة أنه هنا. وإلى هنا تنتهي مرافعتي ولا أزيد على ذلك.»
توقف ثورندايك وخيَّم صمت غريب ومثير للدهشة على قاعة المحكمة. استرق الرجال والنساء النظرَ من حولهم؛ حدقت هيئةُ المحكمة النظرَ في قاعة المحكمة وأخذ القاضي يبحث في أوراقه، ويبحث متفحصًا أسماء مَن شاهدوا الحادث. وفجأةً، وقعت عيني على السيد ويكس وخطيبته. رأيتُه يمسح العرق الذي يتصبَّب على وجهه الشاحب المرتاع؛ وألقت المرأة برأسها على يدَيها وأخذت ترتجف وكأنها مصابة بنوبة قلبية.
لم أكن الوحيد الذي لاحظ هذا. التفتت جميعُ الأعين في المحكمة إليهما، عينًا تلو الأخرى بمن فيهم الحاضرون والحاجب وهيئة المحكمة والمستشارون والقاضي؛ إذ لاحظ الجميع الرعب في أعينهما. خيَّم الصمت على المكان وكأن على رءوسنا الطير.
كانت لحظةً مأساوية. توترت الأجواء وأبدى الحاضرون الذين يعجون بالمحكمة التعاطف. وقف ثورندايك ينظر لبرهة بشخصيته القيادية ووجهه الشديد الانفعال في سكونٍ دون حَراك وكأنه يجسِّد «القدر والعدالة»؛ ومن ثَم ترك العواطف تتوج مرافعته.
استأنف ثورندايك مرافعته بعد فترة. بدأ قائلًا: «قبل الختام، يجب أن أقول بعض كلمات بشأن جانب آخر من جوانب القضية. قال المدعي العام المستنير وهو يُشير إلى الدافع وراء ارتكاب الجريمة: إن السجينَين عمدَا إلى إزالة عقبةٍ في طريق زواجهما، ولكن تبيَّن بالدليل أن هناك أشخاصًا آخرين لديهم دافع أقوى وأوضح للتخلُّص من المرحومة لوسي بلاند. سمعتم أنه في حالة وفاة السيد بلاند، فسيرث شريكُه السيد يوليوس ويكس تركةً تُدِرُّ عليه ستةَ آلاف جنيه سنويًّا، ولكن بشرط أن تكون زوجة السيد بلاند متوفاة. الآن، تحقَّق الشرط الأول للحصول على التركة وهو موت السيدة لوسي بلاند، وفي حالة الحكم بالإدانة على السجين السيد بلاند، فبموته على حبل المشنقة سيتحقَّق الشرط الثاني؛ وبالتالي ستنتقل التركة إلى شريكه يوليوس ويكس، هذه نقطة غاية في الأهمية، وهناك حقيقة أخرى لا تخفى عليكم وهي أنه منتجٌ سينمائي خبير ومدير دار سينما وثبت أنه دخل إلى المنزل في ديتون وأنه خطيب ممثلة سينمائية.
في الختام، أقول بأن شهادةَ كلٍّ من برودي وستانتون تؤكد أنهما كانَا يُشاهدان صورةً متحركة، وأقول بأن جميع الأقوال الأخرى تُثبت هذا التأكيد. وأيضًا الأقوال بشأن الصورة المتحركة دليل على تبييت أمرٍ بليل لرمي التهمة على السجينَين، ولكن المؤامرة لا بد لها من متآمرين. ولا شك في أن هؤلاء المتآمرين هم القتلة الحقيقيون الذين قتلوا السيدة لوسي بلاند. ولكن إذا كان الأمر كذلك، وأنا أؤكد أنه لا ريب كذلك، فسيتبع ذلك براءة المتهمين من الجريمة المنسوبة إليهما؛ وبناءً عليه أطلب الحكم بالبراءة.»
لما جلس ثورندايك، ارتفعت أصوات الهمهمة في المحكمة، ولكن لا تزال جميعُ العيون موجهة نحو ويكس ويوجينيا كروب. وبعد لحظة، نهض الاثنان ومشيَا بخُطًى متخبطة باتجاه الباب، ولكن في هذا الوقت، لاحظتُ المشرف ميلر ظهر فجأةً ووقف عند المدخل ومعه شرطيٌّ يرتدي الزيَّ الرسميَّ. لما وصل ويكس ويوجينيا إلى الباب، رأيتُ الشرطيَّ يهزُّ رأسه. وسواء كان معه إذنٌ أو لم يكن معه، كان سيمنع هروبهما من المحكمة. كانت هناك وقفة وجيزة. فجأةً، اندلع صخبٌ فوضوي وأصوات عالية وصوت طلقات نارية وكسرٌ في زجاج؛ رأيت ميلر يُمسك معصم الرجل ويُثبته على الحائط، وكانت المرأة تصيح وتصارع الشرطي كي تصلَ إلى الباب.
بعد إدخال المشاغبين إلى الحجز، تطورت الأحداث بسرعة. كان ردُّ المدعي العام مقتضبًا وحياديًّا، وبعيدًا عن توجيه الاتهام، ولكن لخَّص القاضي مرافعة ثورندايك مع توجيه واضح إلى الحكم بالبراءة. لم يكن هناك حاجة إلى المزيد؛ فهيئة المحكمة حسمت أمرها لدرجة أن كاتب العدل لم يكد يتفوَّه بالطعن عندما ردَّ رئيس المحكمة بالحكم «بعدم الإدانة». بعد دقيقة وعندما هدأ التصفيق وبعد تهنئة قصيرة من القاضي، خرج المتهمان من قفص الاتهام ونزلَا إلى ساحة المحكمة وعيناهما تذرفان الدموع والابتسامة بادية على وجهَيهما. صافحَا ثورندايك وشكرَاه على تخليصهما من هذه التهمة.
أخذ مايفيلد يمسح دموعَه خفيةً، وقال: «نعم، تلك هي الحقيقة. كان الأمر رائعًا ومع ذلك كان كلُّ شيء واضحًا جدًّا عندما عرفت.»