ناشر الأوبئة
لا تزال الصداقة الحميمة بين ثورندايك وتابعِه المخلص بولتون قائمةً — على الأقل جزئيًّا — ربما بفضل أوجه تشابه معينة في شخصيتَيْهما. بولتون حرفي بارع ومتعدد المواهب، رجل يمكنه فعلُ أيِّ شيء، بل يُتقن كلَّ ما يفعله؛ ولا يبرح ثورندايك عن قوله بأنه لو لم يتخصص بولتون في العلوم، لاختار أن يُصبح حرفيًّا ماهرًا. ومهما كانت الأعمال، فهو يمتاز ببراعته في العمل على جميع أجهزة وأدوات البحث، كما أن بإمكانه ابتكارَ عمليات وأجهزة جديدة ويتعاون مع مساعده في تنفيذها.
حدث هذا التعاون عند فتح القضية الجديدة. خطر على عقل ثورندايك أن الطباعة الحجرية يمكن أن يُفيدَ تطبيقها في البحوث الطبية القانونية، وفي هذا الصباح بعينه كان هو وبولتون يُجريان تجربة في فنِّ الطباعة على الحجر. وفي وسط العمل، سُمع رنين الجرس من الطابق السفلي؛ ومن ثَم وضع بولتون بكرةَ الطباعة بالحبر على مضض وهو يمسح يديه في طرف سرواله وغادر كي يفتح الباب.
ولما عاد، قال: «إنه السيد راباج، ويقول إن لديه موعدًا معك يا سيدي.»
ثورندايك: «نعم صحيح، وحسبما فهمت، سيعرض علينا لغزًا عميقًا كي نحلَّه، ومن الأفضل أن تأتيَ معنا يا جيرفيس وتسمع ما سيقوله.»
السيد راباج رجلٌ نبيل مسنٌّ، ولما دخلنا نظر إلينا من خلف نظارته المقعرة وألقى علينا التحية «بابتسامة لطيفة وطفولية». نظر إليه ثورندايك ودخل إلى الموضوع بلباقة.
راباج: «ما أتى بي إلى هنا إلا مسألة شديدة الغموض. عرضتُ الأمر بالفعل على ضابط تحقيقات بارع للغاية وأعرفه معرفة سطحية وهو السيد بادجر، ولكنه قال إن الأمر أكبرُ من قدراته ونصحني أن أستشيرك.»
ثورندايك: «هذا الإطراء الطيب من حسن أخلاق بادجر.»
«نعم، قال إنه متأكد من أنك ستحلُّ هذا اللغزَ من دون أيِّ صعوبة؛ ولذا أتيتُ إليك. وربما من الأفضل أن أعرِّفَكم بنفسي إذا لم تكونوا تعرفونني. أنا مدير دار «سانت فرانسيس» لرعاية القطط المسنة والمريضة والتي لا مأوى لها؛ هذه المؤسسة معنية بتحويل حياة هذه الحيوانات البائسة من خريف تتساقط فيه الأوراق إلى ربيع ينبض بالحياة بفضل توفير سُبُلِ الراحة. يمكن القولُ بأن الدار هي مشروعي الخاص. وأنا أوفر الدعم لها من مصادري الخاصة، ولكني لا أمانع تلقِّي المساهمات؛ وتحقيقًا لهذا الغرض، ثبَّتُّ صندوقًا كبيرًا في قضبان الحديقة بفتحة عريضة مكتوب عليه عبارة تدعو إلى التبرُّعات بالأموال أو التبرُّعات العينية أو بالطعام أو الأطعمة المخصصة للقطط.»
سألتُ: «هل تجمع مبلغًا كبيرًا؟»
ردَّ: «من المال، مبلغ زهيد للغاية. من التبرُّعات العينية، لا شيءَ على الإطلاق. أما من تبرعات الطعام، فأجمع العديد منها، ولكن المتبرعين يُظهرون جهلًا غريبًا بعادات القطط المنزلية. على سبيل المثال، قد أجد أنواعًا من المخللات وقشور الموز، وعلى الرغم من عدم شكِّي في حسن النية، فإنها لا تُناسب طعام القطط، ولكنَّ أغربَ تبرُّعٍ تلقيتُه على الإطلاق ذاك التبرع الذي وجدتُه في الصندوق أول أمس. وجدتُ عددًا من التبرُّعات العينية، ولكن يبدو أنها جميعًا من متبرع واحد؛ وكانت لها سمةٌ غريبة للغاية مما دفعني إلى عرضها على السيد بادجر كما أخبرتُك وتحيَّر هو الآخر في شأنها ومن ثَم دلَّني عليك. تضمنتِ المجموعة ثلاثَ حقائب يد للسيدات ومحفظة من الجلد المغربي وعلبة صغيرة من الألومنيوم. أحضرتُها معي كي أريَها لك.»
سأل ثورندايك: «ما الذي يوجد في حقائب اليد؟»
اتسعت حدقةُ السيد راباج وهو ينظر إلينا وقال: «لا شيءَ. وجدتُها فارغةً تمامًا. وهذا ما يذهلني.»
«وماذا عن المحفظة الجلدية؟»
«كانت فارغةً أيضًا، باستثناء بعض الأوراق الغريبة.»
«وماذا عن العلبة الألومنيوم؟»
السيد راباج متعجبًا: «نعم، هذا أكثر شيء أذهلني على الإطلاق. إنها تحتوي على عددٍ من الأنابيب الزجاجية! وهذه الأنابيب موجودة فيها الآن، فما قولك فيها؟» توقَّفَ عن الحديث مندهشًا، وعندما لم يقدِّم أيٌّ منا اقتراحًا، أتت الإجابة عن سؤاله: «البراغيث والقمل! نعم بالتأكيد! البراغيث والقمل! أليس هذا تبرعًا غير عادي؟»
ثورندايك: «بالتأكيد، ربما يعرف الجميع أن مسكن القطط قد تملؤه البراغيث من تلقاء نفسه.»
راباج: «بالضبط، هذا ما جال بخاطري على الفور، ويمكن القول إنه جال بخاطر السيد بادجر أيضًا، ولكن دعْني أُرِك هذه الأشياء.»
أخرج مجموعة من الأشياء من حقيبة يده وبسطها على الطاولة ومن الواضح أنها متعلقات «أشخاص مسروقين» نشلها بعضُ النشالين الفاسدين ممَّن يمثِّل لهم صندوقُ التبرعات الذي وضعه السيد راباج هديةً من الله. تناول ثورندايك حقائبَ اليد واحدةً تلو الأخرى وأخذ يُمعن النظر بداخلها الفارغ، ثم وضعها جانبًا. نظر إلى محفظة الأوراق بمزيد من الانتباه، لكن من دون أن يُفرغ محتوياتِها، ثم أخذ العلبة الألومنيوم وفتحَها. كانت هذه العلبة لغزًا محيرًا. كانت تُفتح مثل علبة السجائر. أحدُ الجوانب مثبَّت عليه ستة أنابيب عينات وكلُّ أنبوب مزود بغطاء ورقي محكم الغلق، وكلُّ غطاء مثقوب بعدد من ثقوب الإبر، أربعة من الأنابيب الستة تحمل براغيث — حوالي عشرة براغيث في كل أنبوب — كان بعضُها ميتًا والبعض الآخر على قيد الحياة، أما الأنبوبان المتبقيان فكانَا يحتويان على قمل وكان القمل كلُّه ميتًا. في الجانب الآخر من العلبة، كان مثبتًا عليه مقبض ولوح ملاحظات من السليلويد مكتوب عليه بعض الأرقام بالقلم الرصاص.
عند الانتهاء من الفحص، قال السيد راباج: «هل يمكنك اقتراحُ حلٍّ لهذا اللغز؟»
هزَّ ثورندايك رأسَه متأسفًا. ردَّ قائلًا: «كلَّا يا رجل، فهذه المسألة ستحتاج إلى دراسة متأنية. اترك هذه الأشياء لي لإجراء المزيد من عمليات الفحص وسأُخبرك بالنتيجة التي توصلتُ إليها في غضون بضعة أيام.»
نهض السيد راباج ومدَّ يدَه مصافحًا وقال: «شكرًا لك، أظن أن معك عنواني.»
نظر في ساعته وانتزع حقيبةَ يده وخرج من الباب وبعد لحظات سمعناه ينزل على الدرج مسرعًا ولاهثًا وكأنه شخص قضى معظم حياته من دون نشاط.
عندما ذهب الرجل، قلت: «أنا مندهش منك يا ثورندايك على تشجيع مزحة سخيفة من بادجر في العمل. لماذا لم تَقُل لهذا العجوز الأحمق إن ما عليه سوى الذهاب إلى أماكن هؤلاء النشالين وينتهي الأمر؟»
«هذا لأنني لم أتوصَّل إلى حلِّ اللغز أيها المثقف. ينتابني بعضُ الفضول بخصوص صاحب المسروقات، وما عملُه بمجموعة من البراغيث والقمل؟»
قلت: «لا أرى أن شيئًا من هذا يهمُّك، وما أرى صاحب الحشرات سوى عالم حشرات متخصص في علم الطفيليات الحيوانية الخارجية. ربما كان يجمع عدة أنواع وفصائل.»
فتح ثورندايك العلبة وناولها لي ثم قال: «ما قول صديقي المثقف في رائحة اليانسون الخفيفة التي تفوح من هذه المجموعة؟»
قلت: «لا أرى لها تفسيرًا على الإطلاق، إنها رائحة كريهة. شممتُ الرائحة عندما فُتحت العلبة للمرة الأولى. لا يمكنني القولُ سوى أن تاجر البراغيث يحبُّها، أو أنه يظن أن البراغيث تحبُّها.»
ثورندايك: «الاقتراح الثاني هو الأقرب، فأنت لاحظت أن الرائحة تنبعث في الأساس من الأغطية الورقية للأنابيب الأربعة التي تحتوي على البراغيث. ومن الواضح أنه لا توجد رائحة من الأنابيب غير المغطاة. لننظر الآن عن كثب إلى محفظة الأوراق.»
فتح المحفظة وأفرغ محتوياتِها ولم تكن هذه المحتويات ذات أهمية بالغة. من الواضح أن النشال أفرغ الأشياء الثمينة ولم يترك سوى الأشياء التي لا قيمة لها. فاتورة أو فاتورتان تُسجِّلان المشتريات من محلات وجدول وخطاب مختصر بالفرنسية ليس معه مظروفٌ ولا يحمل عنوانًا أو تاريخًا أو توقيعًا، بالإضافة إلى مجموعة من الخرائط الصغيرة المثبتة على بطاقة رفيعة، كان هذا كل ما في المحفظة ولم يكن في المحتويات أيُّ شيء يعطي تلميحًا ولو بسيطًا لتحديد هوية صاحب المحفظة.
تملَّك الفضول من ثورندايك وهو ينظر إلى الخطاب وأخذ يقرؤه بصوتٍ عالٍ.
ثورندايك: «هذه مجرد لفتة بسيطة بأن الخطاب ينبغي ألا يحملَ اسم المخاطب وينبغي ألا يحملَ العنوان أو التاريخ أو التوقيع وأن يكون من دون مظروف. من الواضح أنه تجنَّب أيَّ وسيلة لتحديد الهوية. وعلى الرغم من ذلك، فالمسألة بسيطة وخالية من التعقيد؛ مجرد موعد للاجتماع في قصر «مايل إند بيكشر بالاس» ولكن في الواقع، هذه الخرائط تُثير الاهتمام أكثر، فالألغاز تحيط بها من كل جانب.»
أفرغ محتوياتِ المحفظة ولاحظتُ أنه يُمسكها بحرص من الحواف ويضعها على الطاولة. تضمَّنت المحفظة سبع بطاقات وكلُّ بطاقة عليها خريطة أو بالأحرى مقطع ملصق على جانبَي البطاقة كليهما. أُخذت المقاطع من إحدى خرائط الشوارع لمدينة لندن، وتبلغ أبعادُ كلِّ بطاقة ثلاث بوصات في أربع بوصات ونصف، وكلُّ مقطع يمثل مساحة ميل في ميل ونصف. أُعدَّت هذه المقاطع باحترافية بالغة ورُصَّت بعناية على البطاقات ودُهنت بطبقة ورنيش، ويحمل كلُّ مقطع حرفًا مميزًا، ولكن السمة الأغرب هي عدد الدوائر الصغيرة المرسومة بالقلم الرصاص على مختلف أجزاء الخرائط، وكلُّ دائرة تحيط برقم.
سألتُ: «ما الذي تستنتجه من هذه الدوائر يا ثورندايك؟»
ردَّ: «ليس عندي سوى فرضية تخمينية. وأنا أميل إلى ربطها بالبراغيث والقمل. تلاحظ أن جميع الخرائط تمثِّل معظمَ الأجزاء القذرة في شرق لندن — مثل سبيتالفيلدز وبيثنال جرين ووايت تشابل وغيرها — وهذه الأماكن تكثر فيها البراغيث والقمل، وتلاحظ أيضًا أن لوح السليلويد في علبة الحشرات مكتوبٌ عليه بعضُ الملاحظات بالقلم الرصاص التي ربما تُشير إلى هذه الخرائط. على سبيل المثال، انظر إلى هذه الملاحظة «ب ٢١ أ + ب …»، وستلاحظ أن كلَّ قيدٍ يتضمن الحرف «أ» والحرف «ب» توجد بينهما إما علامة الجمع أو الطرح. وإذا افترضنا أن الحرف «أ» يعني البراغيث وأن الحرف «ب» يعني القمل، أو العكس، فيمكن أن تُشكِّل الخرائط والملاحظات معًا سجلًّا لعمليات جمع أو تجاربَ على أساس جغرافي.»
قلت موافقًا: «ربما، ولكن لا يوجد أيُّ دليل على ذلك على الرغم من كونها فرضيةً رائعة للغاية. نحن لا نعلم ولا يوجد سببٌ يجعلنا نفترض أن علبة الحشرات والمحفظة يمتلكهما شخصٌ واحد. ولا توجد لدينا وسائلُ لمعرفة ما إذا كان شخصٌ واحد يمتلكهما أم لا.»
ثورندايك: «أنت تجور علينا يا جيرفيس. ألسنا مصمِّمي مطبوعات حجرية؟»
قلت: «لا أرى من أين تأتي الطباعة الحجرية هنا.
ثم ينبغي أن تجرب. فهذه قضية اختبار. هذه الخرائط عليها طبقة ورنيش؛ ومن ثَمَّ تعتبر ورقًا شفافًا للطباعة الحجرية، وكذلك لوح السليلويد به سطحٌ لا يمتصُّ المياه. وإذا تعاملتَ مع الورق الشفاف بلا مبالاة عند الرسم عليه، فغالبًا سيترك إصبعُك بصمتَه عليه مثل الرسم عند الشفِّ على الحجر؛ وعليه إذا طبعنا هذه الخرائط ولوحَ الملاحظات على الحجر، فربما نتمكَّن من كشف بصمات الأصابع التي تعاملَت مع هذه الخرائط؛ ومن ثَم يمكننا أن نعرف هل تخصُّ شخصًا واحدًا أم أكثر بناءً على بصمات الأصابع.»
قلت: «ستكون هذه التجربة مثيرةً للاهتمام، على الرغم من أنني لا أرى أيَّ أهميةٍ أن نعرف هل المتعلقات تخصُّ شخصًا واحدًا أو أكثر.»
ثورندايك: «ربما، على الرغم من احتمالية أهميتها، ولكن لدينا طريقة جديدة وينبغي أن نجربها.»
أخذنا الأشياء إلى المختبر وشرحنا المسألة لبولتون، وقد انخرط في النقاش متحمسًا. بعدما أخرج حجارة جديدة من الدولاب، أفرغ محتويات المحفظة واحدة تلو الأخرى (بالإضافة إلى ملاقيط يستخدمها المختصون بإصلاح الساعات)، وسرعان ما بدأ العمل في كشف البصمات غير المرئية — وربما غير الموجودة — من الخرائط ولوح الملاحظات إلى الحجر. لاحظتُه وهو يتنقَّل بين مختلف العمليات بدقته وحرصِه وبراعته، ورجوتُ ألَّا تذهبَ كلُّ هذه الجهود أدراج الرياح. ولم تذهب؛ لأنه عندما بدأ في الطباعة على الحجر بحذرٍ، اتضح أن هناك شيئًا، على الرغم من عدم اتضاح كُنهِ هذا الشيء، ولكن في الوقت الحالي، اتخذت العلامات الغامضة شكلًا محدَّدًا أكثر، وأصبح يمكن التعرُّف على ثماني كُتَل غامضة من بصمات الأصابع المتروكة من دون تحديدٍ وبعضها كان غيرَ مكتملٍ وكانت جميعُها مختلطةً ومتراكبة بحيث قد يستحيل تحديدُ هوية أيِّ واحدة منها.
تفحَّصها ثورندايك سريعًا وهو متشكك في أمرها. قال: «هذا الاختلاط فظيع، ولكن أعتقد أنه يمكننا اختيارُ البصمات الواضحة بدرجة كافية لتحديد هوية صاحبها إذا تطلَّب الأمر. أيٌّ من هذه البصمات مأخوذ من لوح الملاحظات يا بولتون؟»
ردَّ: «البصمة في الركن العلوي جهة اليمين يا سيدي.»
ثورندايك: «يا له من خبر! إذن ستُجيب هذه البصمة عن سؤالنا. على الرغم من تداخل البصمات، فإنه يمكن رؤيةُ بصمة الإبهام الأيسر بوضوح تام على أنها بصمة الإبهام نفسها المطبوعة على الخرائط.»
بعد المقارنة، قلت: «نعم، لا أشك كثيرًا في تماثُل البصمتين. والسؤال هو، ماذا بعد ذلك؟»
ثورندايك: «نعم، هذا هو السؤال.» عندئذٍ خرجنا من المختبر وتركنا بولتون مستمتعًا باستخراج الأدلة.
في الأيام القليلة التالية، امتلأ عقلي بالتساؤلات عما يفعله زميلي في هذه القضية، حتى إنه يعمل مع كائن لا يمكنني تخيلُه. مسألة السيد راباج بالغة التفاهة لدرجة أنها لا تستحقُّ أن تُؤخذ على محمل الجد، ولم يكن ثورندايك يسعى إلى حلِّ قضية كما هي عادته ولكنه كان يسعى لمجرد التجربة، ولكن بعد يوم أو يومين، تجلَّت القضية الأصلية وأصبحت تشغل بالَنا من أجل الوصول إلى غرض معين.
كانت الساعة تقارب السادسة مساءً عندما اتصل السيد نيكولاس بالكومب علينا يطلب موعدًا، وبدأ في عرض قضيته بأسلوب شبه رسمي.
قال: «نصحني صديقي ستولكر من شركة «جريفين» لتأمينات الحياة أن أستشيرَك. يقول ستولكر إنك أخرجتَه من مصاعب لا حصر لها، وأرجو أن تتمكن من مساعدتي في الخروج من مشكلتي، على الرغم من أنها خارج منطقة سلطتك حسبما قال لي ستولكر، ولكنك ستعرف حلَّها أفضل مني.
أنا مدير بنك رذرفورد — فرع كورنهيل — ومررت بتجربةٍ أثارت قلقي للغاية. في حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر يوم أمس، تسلَّمنا صندوقًا لحمل الصكوك ومعه خطاب من أحد عملائنا وهو السيد بيلتشر — محامٍ يعمل في بيلتشر وماركهام وسادبيريز — وطلب منا إيداعَه في غرفة الخزينة وإعطاءَ حامله إيصالًا به. بالطبع نُفذ هذا الأمر بالطريقة المعتادة للأعمال، ولكن وقع ظرفٌ غير عادي تبيَّن أنه من حسن حظنا على ما يبدو. بسبب زيادة الأعمال، أصبحت غرفةُ الخزائن غيرَ كافية لاحتياجاتنا؛ ومن ثَم بنينا غرفة أخرى مؤخرًا بأحدث التقنيات بالإضافة إلى مواد ممتازة مضادة للحريق. لم تكن الغرفة استُخدمت بعدُ حينما وصل صندوق السيد بيلتشر لحفظ الصكوك، ولكن كانت الغرفة القديمة ممتلئةً عن آخرها، فُتحت الغرفة الجديدة وأُودِع صندوق الصكوك فيها.
لم يحدث شيءٌ حتى غادرتُ البنك، ولكن في حوالي الساعة الثانية صباحًا، لاحظ الحارس الليلي رائحةَ احتراق، وبعد البحث، تبيَّن أن الرائحة تنبعث من باب غرفة الخزائن الجديدة. أبلغ كبيرَ العمال على الفور الذي كان دورُه النومَ في المنشآت، وفي الحال اتصل كبيرُ العمال بمركز الشرطة. وصل ضابط الشرطة في غضون دقائق مع اثنين من رجال إطفاء الحريق وطفاية حريقة يدوية. أنزلهم العامل إلى غرفة الخزائن وفتح قفل الباب. وبمجرد أن انفتح الباب، اندلعت كتلةٌ من الدخان وخرجت من الباب، ثم رأوا صندوق الصكوك، أو بالأحرى البقايا المتبعثرة منه على الأرض. أخذ الشرطي ما تبقَّى من الصندوق، ولكن أظهر فحصٌ سريع للغاية أُجريَ على الموقع أن الصندوق كان في حقيقته قنبلةً حارقة مزودة بفتيلِ توقيت بطيء أو إجراء مشابه.»
سأل ثورندايك: «هل لحق تلفٌ بأيِّ شيء؟»
بالكومب: «لحسن الحظ لا، ولكن فكِّر في الأشياء التي كانت ستحدث! لو وُضع الصندوق في غرفة الخزائن القديمة، فلا بد أنه كان سيدمر ممتلكات تبلغ قيمتُها آلاف الجنيهات. أو لو كان الصندوق يحتوي على مادة متفجرة بدلًا من المادة الحارقة، فلربما تناثر المبنى كلُّه إلى قِطَعٍ صغيرة.»
«ما تفسير بيلتشر للحادث؟»
«كان ردُّه غايةً في البساطة. قال إنه لا يعرف شيئًا عنه. وقال إن شخصًا ما زوَّر الخطاب، وإن الورقة من أوراق الشركة التي تتضمَّن ترويستها أو ربما ورقة مقلدة تمامًا لها.» تابع السيد بالكومب: «وتخيَّل أن الحادث لم يقع في هذا الفرع وحده. فقد سألتُ مديري الفروع الأخرى كلًّا بشخصه، واكتشفتُ أن العديد منهم تعرَّض فرعُه لمثل هذه الاعتداءات، وبعضُها أدَّى إلى نتائجَ خطيرة. وربما وقعت حوادثُ أكثر. فكما تعلم، هم لا يتحدثون عن هذه الأشياء. ثم هناك هذه الحرائق؛ حريق هائل في الأشجار في ستيبني وحرائق أخرى في المستودع الكبير بالقرب من أرصفة لندن، هناك شيء غريب بشأن هذه الحرائق. إنها تبدو وكأن عصابةً كانت تعمل لأجل الضرر التام والتدمير.»
«بالتأكيد تشاورتَ في ذلك مع الشرطة، أليس كذلك؟»
«بلى، وأشعر من داخلي بأنهم يعلمون شيئًا، ولكنهم مُتحفِّظون للغاية؛ ولذا أظنُّ أنهم لا يعرفون ما يكفي. على أية حال، أريدك أن تحقِّق في القضية بعيدًا عن مساعدة الشرطة كما أن المديرين لديَّ يريدون ذلك؛ فالوضع منذرٌ بخطرٍ بالغ.»
سأل ثورندايك: «هلَّا أريتني خطاب بيلتشر؟»
بالكومب: «لقد أحضرتُه معي. حسبتُ أنك قد تريد الاطلاع عليه. سأتركه معك، وإذا كان باستطاعتنا تقديمُ أيِّ معلومات أخرى أو مساعدة، فسيُسعدنا ذلك.»
سأل ثورندايك: «هل أُحضر الصندوق إليك تسليمًا باليد؟»
بالكومب: «نعم، ولكني لم أرَ حامله. يمكنني أن أعرف الوصف من الرجل الذي استلم الطرد، إذا كان هذا سيُفيد.»
ثورندايك: «يمكننا معرفةُ أوصاف الرجل الذي أعطى الصندوق واسمه وعنوانه، لربما نحتاج إليه بوصفه شاهدًا.»
نهض بالكومب وأخذ قبعته ثم قال: «سأُحضر تلك المعلومات. سأبحث عنها بنفسي. وستُخبرني بأي معلومات تتوصل إليها في المدة المحددة.»
قطع ثورندايك على نفسه الوعد الذي طلبه الرجل ثم غادر عميلنا.
لما اختفى صوت الخطوات المتسارعة على السلم، قلت ضاحكًا: «وصل إلى أُذُنَيك إطراءٌ طيب اليوم. يبدو أن صديقنا يظنُّ أنك واحد من أصحاب المعجزات، وكأنك حرفيٌّ بارع يمكنه صناعةُ الطوب ليس من دون قشٍّ فحسب، بل من دون طين أيضًا. ليس هناك أساسٌ ننطلق منه على الإطلاق.»
ثورندايك موافقًا: «من المؤكد أن هناك شيئًا ما. بيدِنا هذا الخطاب وأوصافُ الرجل الذي ترك الطرد عندما تصلُنا، ولا أظن أن شيئًا منها سيساعدنا كثيرًا.»
اطَّلع على الخطاب وعلى المظروف ورفع الخطاب في النور ثم ناولهما لي.
لما اطلعتُ على الخطاب والمظروف من دون الوصول إلى أيِّ سمة مميزة في أيٍّ منهما، قلت: «ينبغي أن نعرف ما إذا كانت هذه الورقة ورقةً أصلية من بيلتشر أم أنها مزورة؛ لأنه إذا كانت من الأوراق الأصلية، فلا بد أن الرجل المجهول على اتصال بشخص أو موظف داخل المؤسسة.»
ثورندايك: «لا بد أن هناك صلةً على أية حال. حتى الورقة المزورة تنمُّ عن امتلاكه للورقة الأصلية، ولكنك محقٌّ تمامًا. إنها سلسلة من التحريات، وهذا هو السبيل العملي الوحيد لحلِّها.»
أُجريت التحريات في اليوم التالي، وتبينت الحقيقة واضحةً بأن الورقة كانت من أوراق بيتشر، ولكن الحبر لم يكن من عنده. بدا أن خطَّ اليد غيرُ معروفٍ صاحبُه، ولم يتمكن أحدٌ ممن له صلة بالشركة من التعرف على صاحبه. وجدنا الموظفين كلَّهم — حتى القائمين بالأعمال — يتصفون بالاحترام الكبير وفوق مستوى الشبهات في تورطهم في أعمال من هذا النوع.
السيد بيتشر: «على كلٍّ، هناك مئاتُ الطرق التي يمكن أن تضيعَ بها الورقة إذا أرادها شخص ما، سواء بأخذها من الطابعة أو القرطاسية أو حتى من المكتب، فدائمًا ما تكون هناك أوراقٌ على رفِّ الأوراق على المكتب.»
بذلك المفتاح الوحيد الذي معنا — إذا جاز أن نسمِّيَه مفتاح لغز — وصلنا إلى حلقة مفرغة، وانتظرتُ والفضول يحيط بي كي أرى ما قد يفعله ثورندايك بعد ذلك، ولكن حسبما أرى، فهو لم يفعل شيئًا ولم يتحدث بأيِّ حال عن هذه القضية الغامضة في الأيام القليلة التالية. كنا مشغولين بقدر كبير من الأعمال، وحسبتُ أن هذه الأعمال استحوذت على تفكيره.
وبعد مرور أسبوع تقريبًا وفي إحدى الليالي، تكلَّم للمرة الأولى عن القضية وبدا لي أن الحديث مليءٌ بالألغاز.
قال: «خطَّطتُ لرحلة تفقدية قصيرة غدًا. وأقترح قضاء يوم أو بعض يوم في المنطقة الريفية لمدينة بيثنال جرين.»
سألت: «أي قضية ترتبط بتلك المنطقة؟»
ردَّ: «قضية بالكومب. أجريتُ بعض التحريات الحذرة بمساعدة بولتون، وركزتُ في المقام الأول على الباعة المتجولين وأصحاب المقاهي، وأعتقد أني أمسكتُ طرف خيط.»
سألت: «ما نوع التحريات التي تُجريها؟»
«أنا أبحث عن رجل — أو رجال — يقدِّم عروضًا ترفيهية في الشارع. هذا ما تقترحه البيانات التي لَدَيْنا، بالإضافة إلى احتمالات أخرى.»
تعجبتُ: «البيانات التي لدينا! لا أعلم أن لدينا أيَّ بيانات.»
«لدينا المقدار الذي أعطاه لنا بالكومب بشأن محاولة إحراق البنك. هذا أعطانا بعض التلميحات عن عمل الرجل الذي نبحث عنه. وهناك بيانات أخرى محددة، يمكن أن يتذكَّرها صديقي المثقف.»
قلت: «لا أتذكر أيَّ شيء يُخبر عن رجل يقدم عروضًا ترفيهية في الشارع.»
ردَّ قائلًا: «ليست بيانات مباشرة. إنها فرضية ضمن عدة فرضيات، ولكن المرجح أنها الافتراضية الصحيحة لأنني سمعتُ عن هذا الشخص كلامًا يوافق افتراضي، وتأكدت من أنه يمكن أن يوجد في أيام معينة. وأقترح أن أذهب إليه في مكانه على أملِ أن أراه. وإذا كنتَ تفكر في المجيء معي، فيجب أن أذكِّرَك بأن المنطقة ليست راقية.»
انطلقنا في حوالي الساعة العاشرة في الصباح التالي، ولأن الملابس غير المألوفة في بيثنال جرين يمكن ملاحظتُها بسهولة في المعبد، دخلنا من شارع تيودر وسلكنا طريقنا إلى محطة بلاكفريرز. وبدلًا من «التحري المعتاد في القضية»، لاحظتُ أن ثورندايك كان يحمل حقيبةَ أغراض مصنوعة من ألياف الخشب، وأنه ليس معه عصاه. دخلنا إلى ألدجيت ومنه سلكنا شارع فالانس باتجاه بيثنال جرين، ومشينا بخُطًى سريعة في الطريق الذي سلكناه، ورأيت أن ثورندايك يسير نحو هدفٍ محدد، ولكن عندما دخلنا إلى متاهة الشوارع الضيقة المتاخمة لطريق بيثنال جرين، تباطأتْ خُطانا ومشينا الهوينَى، وأخذ ثورندايك يتوقف عند الزوايا ومفترقات الطرق من وقت إلى آخر؛ وكان يرجع في بعض الأحيان إلى بطاقةٍ في جيبه مكتوبٍ عليها أسماء الشوارع وأيام الأسبوع.
مرَّ حوالي ساعتين في هذا التجول الذي بدا بلا هدف في الشوارع الخلفية.
علقتُ وأنا أكتم التثاؤب: «يبدو أن الحظَّ لن يُحالفَك كثيرًا. وبدَورنا، فلستُ متأكدًا من أننا لسنا تحت «المراقبة»؛ فقد لاحظتُ رجلًا نحيلَ الجسم ورثَّ المظهر يُبقينا على مرأًى منه من بعيد، ولكنني لا أراه الآن.»
ثورندايك: «هذا احتمال واردٌ للغاية. هذا الحي مريبٌ وأيُّ شخصٍ من سكَّانه سيعرف أننا لسنا من هنا. صباح الخير! هلَّا شممتَ بعض الهواء النقي؟»
طُرح السؤال السابق على رجلٍ كان يقف على عتبة مقهى صغير، ومن الواضح أنه خرج كي يأخذ قسطًا من «الراحة».
ردَّ: «لا أعلم شيئًا عن الهواء النقي، ولكنَّ الهواء هنا هو الأفضل. على أية حال، رأيتُ أحدَهم يحجب الهواء الذي أخبرتُكَ عنه، ولكنه مشى من توِّه. غريبٌ معه فئران. إذا أردتَ أن تُشاهد عرضه، أظن أنك ستجده في تلك البقعة التي تعجُّ بالنفايات بالقرب من مساكن الإيجار في شارع بولتر.»
ثورندايك مرددًا كلامه: «مساكن الإيجار في شارع بولتر؟ أليس هذا الشارع متفرعًا من شارع سالكومب؟»
ردَّ: «نعم هو. ستجده في منتصف الطريق على الجهة اليمنى.»
بفضل المعلومات التي لدينا، خرج ثورندايك من الشارع ولما دخلنا المنعطف التالي نظرتُ خلفي. في هذه اللحظة، خرج صاحب الجسم النحيل الذي لمحته قبل ذلك من مدخل ومشى خلفنا بخُطًى توحي أنه يخشى أن نغيب عن ناظره.
تبيَّن أن مساكن الإيجار في شارع بولتر عبارةٌ عن زقاق عريض مرصوف، يطلُّ أحد جوانبه على مقلب نفايات وفيه عددٌ من المنازل القديمة المهدمة. أعجزُ عن وصف القذارة في هذا المكان؛ ولم يقتصر الأمر على ترك حطام المنازل المهدمة في شكل أكوام بغيضة، بل من الواضح أن الحيَّ اتخذ المكانَ بقعةً عامة لرمي النفايات المنزلية. يتناثر على الأرض بقايا الخضراوات وحتى الحيوانات ويحوم البعوضُ والذباب الكبير الحجم حول القمامة ويقف عليها بالمئات، وكان الهواء تنتشر فيه رائحةٌ تُشبه رائحة صناديق القمامة القديمة المصنوعة من الطوب.
ولكن على الرغم من هذه الأجواء المزرية، وجدنا حشدًا كبيرًا يتألَّف معظمه من النساء والأطفال، وكان في وسط الحشد رجلٌ يقدِّم عرضًا ترفيهيًّا مع مجموعةٍ من الفئران المدربة على تقديم العروض. أخذنا نتجوَّل بين مساكن الإيجار وتوقفنا كي نشاهد العرض. في تلك اللحظة، شاهدنا فأرًا أبيض اللون يتسلَّق عمودًا معلَّقًا فيه علم صغير محشور في تجويف. شاهدْناه وهو يتسلَّق العمود بسرعةٍ ويُمسك سارية العلم بأسنانه ويُخرجه من التجويف، وينزل من على العمود ويُعطي العَلَم لمدرِّبه. بعد ذلك أُحضرت عربةٌ صغيرة وأسرع الفأر ودخل إلى العربة، كان هناك فأرٌ آخر أبيض يرتدي عباءةً وجالس على مقعد، وقد أُخذ هذا الفأر في جولةٍ حول المسرح وقُدِّم للجمهور باسم السيدة مورفي.
في أثناء العرض الترفيهي، تفقدتُ المنشأة وصاحبها. يتألَّف المسرح من ألواحٍ معلقة خفيفة ويطلُّ على عربة يدوية صغيرة بأربع عجلات، ومن الواضح أنها مصنوعة في المنزل. في أحد طرفَي العربة، يوجد صندوقٌ كبير منقسمٌ إلى جزأين يفصل بينهما لوحٌ سلكي ويحتوي كلُّ جزءٍ على عددٍ من الفئران البيضاء والمرقطة، وكانت الفئران في القسم الثاني كلها فئران برية، ولكني لاحظتُ أنها ليست من الفئران البنِّيَّة الشائعة أو النرويجية، بل فئران سوداء بريطانية تنحدر من سلالةٍ قديمة. ذكرتُ تعليقاتي حول ما رأيناه لثورندايك.
قال: «نعم، ربما أمسكها من أماكن محلية؛ فالمجاري هنا تسكنها الفئران البنية، أما المنازل في حي قديم مثل هذا الحي فستجدها موبوءة بالفئران السوداء أكثر من سواها. ما قولك في صاحب العرض؟»
رأيتُ الرجل من قبل، وكنت أسترق النظر إليه مرة أخرى الآن. الرجل ذو جسم متوسط البنية وله عينان غائرتان وسوداوان أنهكهما التعبُ — وكان يُديرهما تجاهنا من وقت لآخر — ولم يكن يرتدي قبعة وأشعَث اللحية.
كان ردِّي: «أعتقد أنه من الصقالبة، ربما من روسيا أو لاتفيا، ولكن تلك اللحية ليست مقنعةً البتة.»
ثورندايك موافقًا: «لا، ولكنها مكياج جيد. ربما من الأفضل أن نتحرك الآن؛ فلدينا نائبٌ هنا وأنت لاحظتَه.»
عندما كان يتحدث، رأيتُ الرجل النحيل الذي لاحظتُه وهو يتبعنا يتجوَّل بين مساكن الإيجار؛ ولما أخذ يقترب، حدقت مُذهَلًا عندما انكشف أمامي رجلٌ لا يمكن أن يكون سوى مساعدنا البارع في المختبر وهو بولتون. تغيَّر مظهرُه تغييرًا غريبًا حقًّا إذ رأيت مخترعنا الذي اعتاد على الأناقة والهندام بملابس رثَّة ويد قذرة، وعندما كان يتجول وهو لا يأبه بوجودنا، مرَّت على مخيلتي ذكرياتٌ خافتة لابتسامته التي تُظهر التجاعيد المألوفة على وجهه.
لما أوشكنا على الرحيل، اندلعت موجةٌ من الصراخ الممتزج بالضحك من المتفرجين الذين سرعان ما تبعثروا يمينًا وشمالًا، ووقعت عيناي في لحظتها على فأر أسود كبير يقفز في المكان ثم اختفى في كومة من أكوام الحطام الكثيرة. اكتشفتُ أن صاحب العرض فتح الصندوق وأخرج أحد الفئران السوداء، وعندئذٍ انتهز أحدُ الفئران المنتظرة لتقديم العرض الفرصةَ وقفز خارج الصندوق وهرب، يبدو أنه كان قد أُمسك حديثًا.
قالت لي امرأةٌ بابتسامة لطيفة: «هناك الكثيرُ من الأماكن التي تأتي منها هذه الفئران. ينبغي أن ترى هذا المكان في ضوء القمر ليلًا! سترى عرضًا مباشرًا معها!»
تجوَّلنا في مساكن الإيجار وبطول الشارع المتقاطع. وفي طريقنا، فكَّرتُ في التحريات الفريدة التي بدا أن ثورندايك منغمسٌ فيها. كان مظهرُ مروِّضِ الفئران مريبًا؛ فمظهرُه واضح أنه ليس حقيقيًّا، وبالتأكيد كانت لحيته مصطنعة، ولكن بمهارة؛ إذ لم تكن سوى لحيةٍ «مستعارة»؛ وعيونُه مجهدة ويظهر فيها المكرُ وهناك غرابة مكبوتة في بعض سلوكه مما يلمح إلى شيء أبعدَ مما هو عليه في الظاهر، ولكن إذا كان هذا هو الرجل الذي أثار استفزازَ السيد بالكومب، فكيف توصل ثورندايك إلى هُويته، وفوق كلِّ هذا، ما نوع الاستدلال الذي اتبعه كي يربطَ حريق البنك بفئران مدربة على تقديم العروض الترفيهية؟ كشف الإجراء المنهجي أنه توصَّل إلى المتهم، ولكن كيف؟ فقد بدَا لي أنه لا توجد واقعةٌ واحدة كي يبدأَ التحقيق من عندها.
قطعنا الشارع المتقاطع ووقفنا قبل أن ننعطف حينما ظهر جمعٌ من الأطفال من مساكن الإيجار. ثم أتى صاحبُ العرض وهو يجرُّ عربته والقفص عليه قطعة قماش، ثم أتى المزيدُ من الأطفال، وفي النهاية بولتون على مسافة قصيرة وهو يتسكع محاولًا إخفاءَ نفسه وإبقاءَ العربة على مرأًى منه.
ثورندايك: «أظن أننا قد نستفيد من إلقاء نظرة على مكان العرض الأخير وكأننا ندرس الصرف الصحي في المنطقة.»
رجعنا إلى مساكن الإيجار في بولتر التي أصبحت شبهَ مهجورة الآن وتجولنا في قطعة الأرض المنثورة بالقمامة وبأكوام الطوب والخشب المتعفن والبيوت المتهدمة.
ثورندايك: «صديقتُك كانت محقَّة؛ فهذه جنة مثالية للفئران. مساكن مريحة بين الخرابات والمؤن التي لا حصر لها ويمكنها الانتقاءُ منها كيفما شاءت.»
قلت: «من الواضح أنك أيضًا كنتَ على حقٍّ فيما يتعلق بالفصائل التي تسكن هذه المنشآت المهيأة لها. يبدو أن هذا فأرٌ أسود.» وأشرتُ إلى فأر ميت وملقًى على مدخل أحدِ الجحور.
اندفع ثورندايك نحو جثة الفأر الصغيرة وبعد فحصٍ مختصر، ارتدى قفازًا في يده اليمنى.
قال: «نعم، هذا الفأر من جنس الفئران المنزلية، على الرغم من أن لونه الفاتح غيرُ مألوف. أظن أنه من الأفضل أخْذُ هذا الفأر وفحصُه في وقت فراغنا.»
بعد أن ألقى نظرةً من حولنا للتأكد من أننا غيرُ مراقَبين، فتح حقيبة الأغراض وأخرج منها علبة صفيح كبيرة نوعًا ما وأزال الغطاء ولاحظتُ أنه مدهون بالفازلين في مكان إحكام غلقه. اندفع والتقط الفأر الميت من ذيله بيده التي يرتدي فيها القفاز وأسقطه في العلبة وأحكم الغطاء ووضع العلبة في حقيبة الأغراض. وبعد ذلك نزع القفاز ورماه على كومة القمامة.
قلت: «إنك بحرُ علمٍ عظيم.»
قال: «الفأر الميت شيء قذر، وكان القفاز قديمًا.»
في طريقنا إلى المنزل، قمتُ بعدة محاولات حذرة لاستخراج بعض التلميحات من ثورندايك بشأن الهدف من التحقيقات وطريقته في الإجراءات، ولكني لم أخرج منه بشيء باستثناء بعض الأمور العامة.
قال: «عندما يُدخل رجلٌ قنبلةً حارقة إلى غرفة خزائن البنك، من المنطقي أن نتحرى عن دوافعه. وعندما نتوصل إلى نتيجة واضحة نوعًا ما بخصوص ماهية هذه الدوافع، يمكن أن نسأل أنفسنا ما نوع السلوك الذي يمكن أن تؤديَ إليه هذه الدوافع؛ وهذا يكشف نوعية الأنشطة التي ربما يكون لها صلة بتلك الدوافع وبالحالة العقلية الملائمة لتلك الدوافع. وأيضًا، عندما نقرر بشأن الدوافع، يمكن أن نبحث عن شخص يقوم بهذه الأنشطة؛ وإذا وجدنا هذا الشخص، فمن هنا يمكن أن تتضح ملابساتُ القضية. وما تبقَّى ما هو إلا مسألة تحقق.»
قلت معترضًا: «هذا جيد جدًّا يا ثورندايك، ولكن إذا عثرتَ على رجلٍ يريد أن يُضرمَ النار في بنك، فلن أستنتج على الفور أن مهنته المعتادة تقديمُ العروض الترفيهية بالفئران في الشوارع الخلفية في بيثنال جرين.»
ضحك ثورندايك ضحكة هادئة. «ملاحظةُ صديقي المثقف منطقية تمامًا. إنها ليست قاعدة عامة. ولكننا نتعامل مع قضية محددة وفيها وقائع أخرى نعرفها. وأصبح يجب العثور على الصلة، إذا كانت هناك صلة. فمن الممكن ألا يكونَ صاحبُ هذا العرض هو الرجلَ الذي يقصده بالكومب بعد كلِّ هذا.»
«وإذا لم يكن هو؟»
«أظن أننا سنحتاج إليه في كل الأحوال، ولكني سأتأكد من ذلك في غضون ساعتين.»
في هذا الوقت، لم أستطع اكتشاف ما حدث في هاتين الساعتين لأنني كنتُ على موعد عشاء مع بعض الزملاء في المهنة وكان يتعين عليَّ الإسراع في أقرب وقت بعدما أنفضُ غبار هذه الرحلة من «الشرق» غير النظيف. عندما عدتُ إلى السكن في حوالي الساعة العاشرة والنصف، وجدتُ ثورندايك جالسًا على كرسيه الهزاز ومنهمكًا في دراسة عن الآلات الموسيقية القديمة. من الواضح أنه انتهى من القضية.
سألتُ: «ما الذي توصَّل إليه بولتون؟»
ثورندايك: «لقد أثار إعجابي، تعقَّب صديقُنا صاحبَ العروض الترفيهية من بيثنال جرين إلى شارع جانبي في راتكليف، واتضح أنه يقطن فيه، ولكنه فعل ما هو أكثر. أعددْنا كتابًا صغيرًا من عشرات أوراق الشف التي كتبتُ فيها باللغة الفرنسية بعض القواعد الناجحة في ترويض الفئران. وعندما كان الرجل ذاهبًا إلى بيته، أوقفه بولتون وطلب منه رأيَه في هذه التوجيهات بصفته خبيرًا. أظهر الغريبُ النبيلُ عدمَ صبر واضطراب في البداية، ولكن عندما نظر في الكتاب، أصبح مهتمًّا ومستمتعًا كثيرًا وفي النهاية قرأ مجموعةَ القواعد كلها باهتمام. بعد ذلك، أعاد الكتاب إلى بولتون وأوصاه أن يتبعَ القواعد بحذافيرها وعرض عليه أن يقدِّمَ له بعض الفئران كي يُجريَ تجاربَ عليها، ولكن طلب منه بولتون أن يُعلِّقَ العرض لمدة يوم أو يومين.
بمجرد أن وصل إلى المنزل، قطع بولتون أوراقًا من الكتاب ووضعها على الحجر، وكانت هذه هي النتيجة.»
أخذ من مفكرة جيبه عددًا من قصاصات الورق، وكلُّ قصاصة محددة ببصمات أصابع مطبوعة طباعة حجرية بقدرٍ من الوضوح قد يزيد أو ينقص، ووضعها على الطاولة. تصفحتُها باهتمام وراودني شعورٌ بأني شاهدتها قبل ذلك.
قلت: «أليست هذه البصمةُ للإبهام الأيسر تُشبه البصمةَ على الخرائط التي أخرجناها من محفظة الأوراق التي أعطاها لنا السيد راباج؟»
ردَّ: «إنها نسخة مطابقة منها، وها هي أدلة البصمات على الخرائط ولوح الملاحظات. وإذا قارنتها، فيمكن معرفة أن التماثل لا يقتصر على الإبهام الأيسر فحسب، بل في بصمات الأصابع الأخرى.»
بالمقارنة المتمعنة، تبيَّن أن الأمر كذلك.
قلت متعجبًا: «ولكني لا أفهم شيئًا من هذا على الإطلاق. هذه بصمات أصابع عالم الطفيليات المجهول الذي يبحث عنه السيد راباج. وأحسب أنك تبحث عن رجل بالكومب.»
ردَّ: «إحساسي يقول إنهما شخص واحد، على الرغم من أنه لا يوجد دليل قاطع بذلك، ولكن سنعرف قريبًا. تحققتُ من معلومة عن الرجل الغريب، ورتَّب ميلر لمداهمة المنزل في راتكيلف في صباح الغد الباكر؛ ونظرًا إلى الأهمية التي يُنبئ بها الحدث، فأنا أقترح أن تكون حاضرًا. فهل سأحظى بصحبة صديقي المثقف؟»
رددتُ: «بلا شك إطلاقًا، على الرغم من أنني لا أفهم شيئًا من هذه القضية برمَّتها.»
ثورندايك: «لذا أُوصيك بالاطلاع على سجلِّ القضيتين بطريقة منهجية في فترة الراحة.»
في السادسة من صباح اليوم التالي، كنا في منزل مهجورٍ في حارة أولد جرافيل في راتكليف، بصحبة مدير قسم الشرطة ميلر وثلاثة رجال أقوياء البنية بملابس مدنية منتظرين إشارة من خفير. ارتدينا جميعنا سترات مهندسين وكانَت تفوح منها رائحةُ النفثالين. كانت السراويل مدسوسةً في الجوارب وكانت الجوارب والأحذية ملطخةً بكمية كبيرة من الفازلين وكذلك أساور المعصم وكانت الأكمام محكمةَ الربط بشريط. أعطتني هذه الاستعدادات، بالإضافة إلى المسدس الآلي الذي أُعطيَ لكل فرد منَّا، بعضَ التلميحات الطفيفة عن طبيعة القضية، على الرغم من أنها لا تزال غيرَ محددة المعالم في عقلي.
بعد السادسة والربع، وصل مرسالٌ وقال إنهم داهموا المنزل المستهدف وفتحوه. عندئذٍ انطلق ميلر وواحدٌ من رجاله وتتابع الآخرون على فترات قصيرة. عند الوصول إلى المنزل الذي كان على مسافة قريبة من مكان تجمُّعِنا، وجدنا رجلًا ذا ملامح حادة وبملابس مدنية يحرس الباب المفتوح وامرأةً بملابس رثَّة تحمل إبريقًا من الحليب تطلب الدخول إلى منزلها بلهجة غاضبة ولغة إنجليزية ليست سليمة بدرجة كبيرة. لما تجاوزنا مدبرة شئون المنزل الغاضبة، دخلنا إلى ممرٍّ مظلم ووجدنا أن ميلر يخرج من غرفة في الطابق الأرضي.
قال: «تلك هي حجرة المرأة، والمطبخ أشبه بحديقة الفئران. الأفضل أن نرى الطابق الأول.»
سار وصَعِد السُّلَّم وعندما وصل إلى بسطة السُّلَّم، جرب فتح مقبض باب الغرفة الأمامية. ولما وجد الباب مغلقًا بقفل أو مزلاج، انتقل إلى الغرفة الخلفية وحاول فتح الباب ولكنه وجده مغلقًا أيضًا. ولما رفع إصبعه بإشارة التحذير، بدأ في إصدار صفير بنغمة مشهورة ذات صوت جميل وعالٍ، وبالنقر بقدمَيه كلتيهما على الأرض العارية. وعلى الفور سُمع صوتٌ غاضب من الغرفة الأمامية، وصوتُ خطوات نعل تتبدل بسرعة عبر الغرفة. ثم سُمع صوتُ سحبِ المزلاج ومن ثَم انفتح الباب، وعلى الفور وقعت عيناي على الرجل صاحب عرض الفئران مرتديًا منامةً شديدة الاتساخ، ولكن لم يستغرق الأمر سوى بضع لحظات. وحتى لما تقابلتْ أعينُنا، حاول أن يُغلقَ الباب بقوة ولكنه فشل بسبب دخول أحدِ رجال الشرطة عنوة؛ وبالتالي اندفع الرجل إلى الخلف وقفز إلى الفراش وانطلق عبرَ مدخل متصل بالغرفة الخلفية وأغلق الباب بالمزلاج.
ميلر: «هذا مؤسف، سنواجه مشكلة الآن.»
كان مديرُ قسم الشرطة محقًّا. وفي أول محاولة لاقتحام الباب، أحدثتْ رصاصةُ مسدس من الداخل ثقبًا في اللوح العلوي وتحدَّث مَن بالداخل من خلال الثقب مع المقتحم المحتمل. ردَّ المقتحم من خلال الثقب وسُمع بعد ذلك صوتُ زمجرة وتحطيم زجاج. ولما تنحَّى الشرطي جانبًا ثم توالت الرصاصات من الداخل وامتلأ البابُ بالثقوب المبعثرة عليه. مشيتُ أنا وميلر وثورندايك على أطراف أصابعنا إلى أن وصلنا إلى بسطة السلم وابتعدنا أبعد مسافة ممكنة ودفعنا بأنفسنا على الفور نحو باب الغرفة الخلفية. كان حمْلُ الرجال الثلاثة بالغَ الثقل على هذا الباب الخشبي الضعيف. عندما اندفعنا على الباب، تحطَّم وكأنه تعرَّض لانفجار وطارت مفصلاتُه وسقط أمامنا ومن ثَم اندفعنا داخل الغرفة.
كان الممرُّ ضيقًا بالنسبة إلى بعضنا. وقبل أن نقف على أرجلنا، التفت إلينا صاحبُ العرض موجهًا المسدس إلى رأس ميلر مباشرة. القوة الدافعة لثورندايك رمتْه إلى منتصف الغرفة، وفي لحظة خاطفة قبل أن تنطلق الرصاصة، أمسك المسدس في خطفة واحدة ووجَّهَه إلى أعلى وخرجت الرصاصة مما أدى إلى تساقط الجبس من السقف ولكن من دون أن يؤذيَ أحدًا. وتسبَّب عراكُنا في تغيير تكتيكاته على الفور. ترك المسدس في قبضة ثورندايك واندفع قاطعًا الغرفة باتجاه منضدة العمل وكان عليها صفٌّ من العلب الأسطوانية الواقفة. أوشك الرجل على سحب واحدة من هذه العلب الصفيح ولكن جذبه ثورندايك من المنامة من بين كتفيه وسحبه مرة أخرى وهنا اندفع ميلر إلى الأمام وقبض عليه. احتدم الصراع واستشاط لبضع دقائق وأخذ الرجل يُصارع بيدَيه وقدمَيه وأسنانه وكأنه مفترس بريٌّ؛ ومن ثَم تغلَّب على الرجلَين وظلَّ يجرُّهما باتجاه المنضدة. وفجأةً، انطلقت رصاصة من المسدس ثم خيَّم السكون. كان المسدس لا يزال في قبضة ثورندايك ولكنه وقع في يد الرجل ولا أعرف إن كان مصادفةً أو بالإصرار؛ ومن ثَم ضغط على الزناد واخترقت الرصاصةُ رأسَه من فوق أذنه مباشرة.
انذهل ميلر ورفع جبهته وأخذ يمسحها وقال: «أفٍّ! كانت هذه الرصاصة قريبة. وإذا لم توقفه يا دكتور لتطايرنا جميعًا وكأننا ضُربنا بقذيفة.»
قلت: «أتظنُّ أن هذه العُلَب الصفيح عبارة عن قنابل؟»
قلت مكررًا: «أتظنُّ؟! أزلتُ اثنتين مثلهما تمامًا من مكتب البريد العام، وتبيَّن أنها ممتلئة بمركَّب ثلاثي نترات التولوين. وهذه العُلَب المربعة على الرف ليست سوى عُلَب من عينة العلبة التي اندلعت في بنك رذرفورد.»
لما كنَّا نتحدث، أخذتُ أنظر من حولي على الممر وتفاجأتُ لما رأيتُ المرأة التي رأيناها بالأسفل لا تزال تُمسك بإبريق الحليب وتحدق بعين يملؤها الرعب إلى الثائر الميت. لاحظها ثورندايك أيضًا؛ ومن ثَم مشى إلى حيث تقف وسألها: «هلَّا أخبرتِني هل أُصيب أيُّ شخصٍ بمرضٍ في هذا المنزل، أو مصابٌ حاليًّا؟»
أجابت المرأة من دون أن ترفعَ عينها عن الرجل الميت: «نعم، يوجد رجلٌ نبيل مريض في الطابق العلوي، اسمه ديري. أنا لم أرَه؛ فقد اعتاد أن يرعاه.» وأشارت إلى جثة مقدِّم العروض.
ثورندايك: «أعتقد أننا سنصعد إلى الطابق العلوي ونُلقي نظرة على الرجل المريض. من الأفضل ألَّا تأتيَ يا ميلر.»
بدأنا في صعود السلم، وفي طريقنا سألتُ: «هل تظن أن هذه حالة مصابة بالطاعون؟»
ردَّ: «لا، أظن أن قسم تخليق الطاعون في المطبخ، ولكن سنرى.»
تجوَّل على البسطة التي وصلنا إليها الآن ثم فتح باب الغرفة الأمامية، وعلى الفور وقعت عيناي على غريبٍ وشممتُ رائحةً تفوح قذارتُها ونظرتُ في الغرفة فوجدت رجلًا مستلقيًا على الفراش غائبًا عن الوعي ومغطًّى بملاءة فراش لا يمكن وصفُ قذارتها. دخل ثورندايك واقترب من الفراش، ثم تبعتُه. كان الضوء خافتًا، ولم نتعرف على المرض حتى أصبحنا على مقربة من المريض.
قلت منذهلًا: «لطفك يا رب!»
نظر ثورندايك إلى ملاءة الفراش ونظر إلى رقبة الشيطان البائس، قال: «نعم، يمكننا الآن معرفة كيف جمَع هذا الشريرُ عيناتِه.»
انحنيت على الرجل البائس وكان فاقدًا للوعي فقيرًا، ويتمتم بكلمات، وتملَّكني الرعبُ. كانت ملاءة الفراش والوسادة والمريض كلها تعجُّ بالحشرات الزاحفة.
•••
في طريق عودتنا إلى المنزل، قلتُ: «بالطبع أفهم الانحراف العام لهذه القضية، لكن ما لا يمكنني فهمُه هو كيفية ربط الحقائق.»
ثورندايك: «لنُنَحِّ الجدال جانبًا ونتتبع العلاقات. نقطة البداية هي علبة الألومنيوم التي أحضرها السيد راباج. كان واضحًا أن أنابيب البراغيث والقمل لم تكن ظاهرةً طبيعية. وفقًا لاقتراحك، فربما جُمعت من أجل غرضٍ علمي، ولكن هذا الاحتمال مستبعد. كانت البراغيث على قيد الحياة وتعمَّد جامعُها أن تظلَّ على قيد الحياة حسبما تدلُّ الأغطية المثقوبة للأنابيب، ووجدنا القمل ميتًا؛ لأن القمل يموت بسرعةٍ إذا لم يحصل على غذاء. لم يبدُ أنه تعرَّض للقتل، ولكن على عكس وجهة نظرك، كانت هناك حقيقتانِ مذهلتان، وأحسبُ أنك لم تلحظ أيًّا منهما. لم تكن البراغيث هي البراغيث الشائعة التي تُصيب الإنسان، بل كانت براغيثَ من فئران آسيوية.»
قلت معترفًا: «أنت محقٌّ تمامًا. لم ألحظ هذا.»
تابع: «ثم كانت هناك رائحة اليانسون التي تعطَّرَت بها أغطيةُ الأنابيب. ونحن نعلم أن رائحة اليانسون لا تقاومها الفئران. فهو طُعم لا يخيب، ولكنه ليس جذابًا للبراغيث. فما هو الغرض من الرائحة؟ كان لا بد من قبول الإجابة المؤقتة؛ لأنها كانت الإجابة الوحيدة التي تطرح نفسها، وتبيَّن صحتُها. وإذا عُرضت واحدة من هذه الأنابيب للفئران — كأن تُرمى في جُحر فأر على سبيل المثال — فمن المؤكد أن الفئران ستقضم الأغطية الورقية. وعندئذٍ تنطلق البراغيث، لأنها براغيث فئران؛ وبالتالي ستُمسك في الفئران على الفور؛ وبالتالي تُصبح الأنابيب جهازًا لنشر براغيث الفئران.
ولكن ما الذي يجعل أي شخصٍ يريد نشر براغيث الفئران؟ خرج من رحم السؤال حقيقة مدهشة وهي أن هذه الأنابيب المحملة ببراغيث الفئران وقمل الجسم كانت تحمل مرضًا مميتًا. تحمل براغيث الفئران الطاعون ويحمل قمل الجسم حمَّى التيفوس. كانت مصادفة رائعة؛ ومن ثَم بات محتملًا أن انتشار براغيث الفئران ربما يكون سبيلًا لنشر الطاعون، وإذا انتشر القمل أيضًا، فهذا يعني انتشار حمى التيفوس أيضًا.
والآن، فكِّر في الخرائط. تُشير الدوائر جميعُها إلى مناطق عشوائية قديمة استأجرها غرباء من طبقة فقيرة. والمناطق العشوائية القديمة تكثر فيها الفئران والغرباء الفقراء يكثر لديهم القمل. وهنا تكمن مصادفة أخرى. توافر معنا أيضًا لوح الملاحظات الذي يحمل أرقامًا مرتبطة بالحرف «أ» والحرف «ب» وعلامة الجمع وعلامة الطرح. قد يُشير الحرفان «أ» و«ب» إلى الفئران والقمل أو الطاعون وحمى التيفوس، وقد تُشير علامات الجمع والطرح إلى نجاح التسبُّب في تفشي المرض أو الفشل في ذلك. لم يكن هذا سوى تخمين، ولكنه كان متسقًا تمامًا.
حتى الآن، نتعامل مع فرضية قائمة على ملاحظة بسيطة، ولكن هذه الفرضية قد تتأكد أو تُدحَض. والسؤال هو: هل كانت هذه الحشرات مصدرَ مرض أم لا؟ للإجابة عن السؤال، أخذتُ برغوثًا من كل أنبوب من الأنابيب الأربعة وزرعته في مادة الأجار، وكانت النتيجة أن حصلت على مزرعة نموذجية من جرثومات الطاعون وتحققت من الأمر باستخدام اختبار ترسبات هافكين. فحصتُ أيضًا إحدى القملات من كلِّ أنبوب من الأنبوبين، وفي كل حالة وجدتُ تفاعلًا محددًا لحمى التيفوس؛ وبالتالي وجدت الحشراتِ مصابةً وتأكَّدتِ الفرضية.
الشيء التالي هو العثور على صاحب الأنابيب. أشارت الدوائر على الخرائط إلى نوع ما من الأنشطة، وأظن أنه مرتبط بالفئران وينفَّذ في هذه المناطق.
زرتُ هذه الأماكن وأجريتُ محادثاتٍ مع السكان حول الفئران وصيادي الفئران وحفر الفئران والمجاري وكل ما له علاقة بالفئران؛ وبعد فترة سمعتُ عن مقدم عروض بالفئران. وأنت تعرف الباقي. وجدنا الرجل، ولاحظنا أن جميع الفئران التي معه — باستثناء الفئران البيضاء — كلها من فصيلة الفئران السوداء التي تحمل الطاعون كما وجدنا في تلك البقعة فأرًا ميتًا، وتأكدت من أنه مات بالطاعون لما فحصت الجثة. وأخيرًا، كان معنا كتاب بولتون الصغير الذي دلَّنا على بصمات أصابع صاحب العلبة الألومنيوم. وبذلك اكتمل تحديدُ الهوية، وأظهرت التحريات لدى مجلس الحكم المحلي أن هناك حالات إصابة بالطاعون والتيفوس في المناطق المحددة.»
سألت: «ألم تتخذ السلطات أيَّ خطوات بشأن هذه المسألة؟»
رد: «بلى؛ فقد أجروا حملة تطهير شاملة ضد الفئران في أرصفة لندن، وهي أرجح مصدر محتمل للعدوى. وبطبيعة الحال، لن يفكروا في مجرم مجنون يجدُّ في نشر الطاعون.»
«وكيف ربطت بين الرجل وحريق البنك؟»
ردَّ: «لم أفعل ذلك البتة. فغالبًا كانت مسألةَ استنتاج. فأنت ترى أن الجريمتَين متماثلتان تمامًا. كانتَا جريمتَين من النوع نفسه. تندرج الجريمتان كلتاهما تحت الأعمال التخريبية الغبية، ومن الواضح أن المنفذ في كلٍّ منهما يعاني عتهًا أخلاقيًّا ولا تخفى عداوتُه للمجتمع. يندر وجودُ هؤلاء الأشخاص في المجتمع، وعندما يوجدون، فعادة ما يكونون غرباء وغالبًا ما يكونون من روسيا أو شرق أوروبا أو مناطق مشابهة. كان المفتاح الفعلي الوحيد هو التاريخ على خطاب بيلتشر؛ إذ كانت طريقة كتابته غريبة نوعًا ما مثل الكتابة على الخرائط ولوح الملاحظات. ومع ذلك، لم يكن الأمر أكثر من مجرد تخمين، على الرغم من أنه تبيَّنت صحتُه.»
«وكيف تفترض أن هذا الشخص تجنَّب الإصابة بالطاعون والتيفوس؟»
«من المرجح أنه كان مصابًا بكليهما، ولكن يسهل تجنُّبُ الإصابة بالتيفوس عن طريق المواظبة على النظافة والتعقيم، وبالنسبة إلى الطاعون، فربما استخدم إجراءات هافكين للوقاية من الطاعون ثم أعطاها للمرأة. يبدو أنه لم يجدر به التسبُّب في إصابة حالة بالطاعون وجعل مسئول الصحة يفتش المبنى.»
وصلنا إلى نهاية القضية، ولكن ينبغي أن أُدرجَ ضمن أحداثها مكافأةً مالية كبيرة أرسلها رئيسُ مجلس الحكم المحلي لزميلي.
ثورندايك: «أعتقد أننا كسبنا هذه المكافأة ولا أظن أن السيد راباج مخولٌ للحصول على حصة منها.»
في الواقع، عندما اتصل هذا الشخص الخيِّر بعد بضعة أيام لاستلام تقرير غامض بعضَ الشيء ولدفع الرسوم، خرج مبتهجًا وهو يحمل تبرعًا معه كي يهبَ به فراشًا إضافيًّا للأطفال أو سلة في دار سانت فرانسيس لرعاية ذوي الحاجات.