ريكس في برنابي
جرت العادة في ممارسات الطب بوجه عام أن سرعان ما يترقَّى طبيب العائلة ويصبح صديقًا للعائلة. كانت عائلةُ برنابي ولا تزال على قائمة مرضاي، وسرعان ما تحوَّلت العواطف المتبادلة إلى علاقة أعمق. الأسرة تغمرها السعادة وتحوطها أجواءُ المودة وعلى وجه الخصوص ثقافة الانتماء إلى المنزل وعدم التكلف. ما يُثير الاهتمام في هذه الأسرة هو الفارق في العمر بين الرجل وزوجه؛ وبالتالي كانت الأجواء داخل المنزل غيرَ عادية نوعًا ما مما يُثير حفيظة التأمُّل والتفكير فيها. المنزل به أمور أخرى سيُشار إليها في الوقت الحاضر.
فرانك برنابي رجلٌ مرهف الحس إلى حدٍّ ما ويُشارف على الخمسين من عمره؛ هادئ أو بالأحرى خَجِل ولطيف وعطوف، ومن الواضح أنه ساذَجٌ ويثق بالآخرين. شغل منصبًا في مكتب السجلات مما أكسبه عاداتٍ غريبة وطريفة من تعامله مع الوثائق القديمة؛ مختارات كان يسردها في محيط الأسرة بمزيج من الخيال التصويري وقدرٍ من الفكاهة الهادئة والساخرة مما يبعث البهجة لدى المستمع. لم أقابل في حياتي مَن هو في جاذبيته، ولم أحبَّ أو أحترم شخصًا أكثر منه.
زوجتُه لا تقلُّ عنه جاذبية، ولكنَّ جاذبيتَها مختلفة؛ فهي امرأة ذات جمال أخَّاذ كما أنها دون الثلاثين من عمرها — تخطَّت كونها فتاةً بقليل — إنها في الحقيقة ودودة ومفعمة بالحيوية والمرح، ومع ذلك فهي بارعة ومثقفة وتهتم بشئون زوجها اهتمامًا بالغًا. بديَا لي أنهما زوجان ينعمان بالسعادة وتربط بينهما المشاعر وتجمعهما عاطفةٌ غامرة. أنجب برنابي أربعة أطفال من زوجته الأولى — ثلاثة أولاد وبنت — ويدلُّ حبُّهم الخالص لزوجة أبيهم الصغيرة على أنها تُوليهم قدرًا كبيرًا من الرعاية.
ولكن لم يخلُ هذا الوئام المنزلي مما يُنغصه، على الأقل هذا ما شعرتُ به. كان هناك صديقٌ آخر للأسرة، وهو رجل صغير في السن اسمه سيريل باركر. لم أكنَّ له في نفسي أيَّ شيء ضده من الناحية الشخصية، ولكني لم أطمئنَّ بشأن العلاقة. كان رجلًا حسنَ المظهر ولطيفًا وذكيًّا ومثقفًا للغاية؛ نظرًا لكونه شريكًا في دار نشر ويعمل مصححًا للمطبوعات لدى الشركة، وما حدث أنه — مثل السيد برنابي — اكتسب مادةً دسمة من الأمور المثيرة بفضل مهنته في القراءة. ولكنني لم أستطع أن أتغاضَى عن وصول إعجابه وانجذابه إلى زوجة برنابي إلى مرحلة خطرة، وبالتأكيد كانت المشاعر العاطفية — من جانبه — تتزايد بدرجة تُنذر بالسوء. ومن جانبها، لم تتخطَّ العلاقة حدودَ الصداقة الصريحة، على الرغم من قوتها، ولكني نظرتُ إلى العلاقة بارتياب. زوجة برنابي امرأةٌ يقع أيُّ رجل في حبِّها، ولم أحبَّ التعبير الذي كنتُ ألاحظه أحيانًا في عين باركر عندما ينظر إليها. وعلى الرغم من ذلك، لم ينمَّ سلوكُ أيٍّ منهما عن أدنى قدرٍ من الخروج على الإطار الطبيعي للصداقة ولم يُنذرْ بأي حالٍ من الأحوال عن الكارثة الرهيبة التي تكاد تقع.
بدأت المأساةُ بحدثٍ تافهٍ نسبيًّا. بسبب كثرة الانكفاء على المخطوطات ذات الحروف الصغيرة والمتشابكة، أُصيب السيد برنابي بأعراض إجهاد العين مما دفعني إلى إرساله إلى طبيب عيونٍ للكشف وتحديد مقاسات نظارة مناسبة. في مساء اليوم الذي استشار فيه طبيبَ العيون، تلقيتُ استدعاءً عاجلًا من زوجة برنابي وعند وصولي إلى المنزل، وجدتُ زوجَها يعاني مرضًا خطيرًا نوعًا ما. الأعراض محيرة قليلًا لأنها لا ترتبط بأي مرض معروف. وجدتُ وجهه محمرًّا وارتفعت درجةُ حرارته قليلًا وزادت سرعةُ نبضاته على الرغم من تباطؤ التنفس وأُصيب حلقه بجفاف بالغ واتسعت حدقتَا عينَيه. كانت حالةً استثنائية، وعلى حدِّ علمي فهي لا تدل على شيءٍ سوى التسمُّم بالأتروبين.
سألت: «هل تناول أيَّ أدوية من أي نوع؟»
هزَّت زوجة برنابي رأسها: «لم يتناول أيَّ عقاقير أو أدوية إلا ما تصفُه له؛ ولا يمكن أن يكون تناول شيئًا لأن الأزمة أصابتْه بعدما دخل المنزل مباشرةً قبل أن يأكل أو يشرب شيئًا.»
الأمر اكتنفه الغموضُ والمريض نفسه لم يستطع أن يتعرف على السبب الأساسي في الإصابة بالأزمة. ولما كنتُ أفكر في المسألة، تصادف أن وقعتْ عيناي على رفِّ الموقد ولاحظتُ عليه قطرةً مكتوبًا عليها «قطرة العين» وروشتة وصفة طبية. لما فتحت الروشتة، وجدتُ أن طبيب العيون وصف قطراتٍ عبارة عن محلول ضعيف من كبريتات الأتروبين.
سألتُ: «هل وضع أيَّ شيءٍ من هذه القطرات؟»
زوجة برنابي: «نعم، وضعتُ بضع قطرات في عينه بمجرد أن دخل، قطرتان في كل عينٍ حسب تعليمات الطبيب.»
هذه الحالة بالغة الغرابة. كمية الأتروبين في هذه القطرات الأربع أقلُّ من واحد بالمائة من وحدة القمحة؛ وبالتالي يستحيل أن تتسبب جرعةٌ صغيرة في إحداث هذه الأعراض، ولكن كل الأعراض تُشير إلى تناول جرعة سامة، ومن الواضح أن هذا لم يحدث لأن زجاجة القطرة كانت ممتلئة تقريبًا. لم أستطع التوصل إلى استنتاج، ولكني تعاملتُ مع الحالة على أنها تسمم بالأتروبين ولمَّا أحدث العلاج تحسنًا ملموسًا، رجعت إلى المنزل وقد زادت الحيرة لديَّ أكثر من ذي قبل.
عندما اتصلتُ في الصباح التالي، علمتُ أنه تعافى بالفعل وأنه ذهب إلى مكتبه، ولكني تلقيتُ رسالة عاجلة أخرى في تلك الليلة، وعندما أسرعتُ إلى منزل السيد برنابي، وجدته يُعاني أزمة مشابهة ولكنَّ حدَّتَها أشدُّ من حدة الأزمة التي تعرَّض لها في اليوم السابق. وعلى الفور حقنتُه بالبيلوكاربين وأعطيتُه علاجاتٍ مناسبة أخرى واطمأننتُ لما رأيتُ تحسنًا سريعًا في حالته، ولكن عندما أثبتتْ فاعليةُ العلاج أن الأعراض ناتجة بالفعل عن التسمم بالأتروبين، تبيَّن أنه لم يتناول أتروبين إلا بالقدر الضئيل جدًّا المتضمن في قطرات العين.
المسألة غامضة. لم تنجح الاستفسارات التفصيلية في اقتراح أيِّ مصدر محتمل للتسمم باستثناء قطرات العين؛ لأنَّ كلَّ أزمة تحدث بعد فترة وجيزة من استخدامها، يستحيل تجاهلُ العلاقة الواضحة على الرغم من الجرعة الضئيلة التي لا تُذكَر.
قلت مخاطبًا زوجةَ برنابي والسيد باركر الذي اتصل كي يطمئن: «ليس لديَّ تفسيرٌ سوى أن برنابي مصابٌ بتحسس ذاتي، أي أنه يعاني حساسية مفرطة تجاه هذا الدواء.»
باركر: «هل هذه حالة معروفة؟»
رددتُ: «نعم، يتفاوت الأشخاص تفاوتًا كبيرًا في الطريقة التي يتفاعلون بها مع الأدوية. بعضهم لا يتحمل أدوية معينة على الإطلاق — مثل اليود — لدرجة أن الجرعات الطبية العادية تُحدث تأثيراتٍ سامة، في حين أن البعض الآخر يتمتع بدرجة تحمُّل استثنائية. يذكر كريستيسوري في أطروحته عن السموم حالةَ رجل غير معتاد على الأفيون تناول أونصة تقريبًا من اللودانيوم من دون ظهور أيِّ تأثيرات، وهذه الجرعة كفيلة بقتل رجل عادي. هذه العقاقير شَرَكٌ خطير للأطباء الذين لا يعرفون مرضاهم. فكِّر في الاحتمالات التي كان سيتعرض لها برنابي إذا أعطاه شخصٌ جرعةَ دواء كاملة من البيلادونا.»
سألت الزوجة: «هل البيلادونا لها تأثير الأتروبين نفسه؟»
رددتُ: «نعم، الأتروبين هو العنصر النشط للبيلادونا.»
قالت متعجبة: «الحمد لله أننا اكتشفنا هذا التحسُّس الذاتي في الوقت المناسب. هل من الأفضل أن يتوقف عن استخدام القطرات؟»
أجبتُها: «نعم، بالتأكيد، وسأكتب إلى السيد هينز وأُخبره أن الأتروبين غير عملي.»
وعليه راسلتُ طبيب العيون الذي شكَّكَ بلباقة في أن تكون هناك صلةٌ بين القطرات والتعرض لتلك الأزمات. ومع ذلك، اتخذ برنابي قرارَه في المسألة ورفض تناول المزيد من قطرات الأتروبين رفضًا قاطعًا؛ قرارُه له مبرراته في ذلك الوقت؛ إذ إنه لم يتعرض لأزماتٍ وقتَ التوقف عنها.
مرَّ شهران. تلاشت الحادثة من عقلي إلى حدٍّ بعيد، ولكن انتعشت هذه الحادثة في عقلي مرة أخرى ولم تُصبني بالذهول فحسب، بل أصابَتْني بقلقٍ بالغ. كنتُ على وشك الانطلاق إلى جولتي الصباحية حينما قابلتْني خادمةُ برنابي عند باب منزلي وهي تلهث وتحمل خطابًا. كان الخطاب من زوجة برنابي تتوسَّل فيه أن آتيَ على الفور وتُخبرني أن زوجها تعرَّض لأزمة صحية شبيهة بالأزمات التي تعرَّض لها من قبل. هُرعت لأُحضرَ حقيبة الطوارئ ثم أسرعتُ إلى المنزل ووجدتُ برنابي ممدَّدًا على أريكة ووجهه محمر كالدم — بل يُنذر بسوء — وتظهر عليه أعراضٌ لا تدل إلا على التسمم بالأتروبين، لكن لم تكن هذه الأزمة حادة، وسرعان ما تحسنت الحالة إلى الأفضل بعد تناول العلاجات الملائمة.
لما جلس وهو يتنفس الصعداء، قلت: «الآن يا برنابي، ما الذي فعلتَه؟ هل كنت تستخدم هذه القطرات مرة أخرى؟»
ردَّ: «لا، لماذا آخذُها مرة أخرى؟ لقد انتهى هينز من علاج عيني.»
«لقد تناولت شيئًا يحتوي على الأتروبين.»
«أحسبُ أني تناولت شيئًا، ولكن لا يمكنني أن أخمِّنَ ما هو. فأنا لا أتناول أيَّ أدوية من أي نوع.»
«ألم تتناول أيَّ حبوبٍ أو أقراصٍ للمص أو دهان أو أشرطة لاصقة أو مرهم؟»
ردَّ: «لم أتناول أيَّ علاج من أي نوع. في الحقيقة، لم يدخل جوفي أيُّ شيء اليوم سوى إفطاري؛ وأُصبت بالأزمة بعده مباشرة على الرغم من أنه كان بسيطًا للغاية — والله وحده يعلم — إذ تكوَّن من بيضتَي حمام وجزء من رغيف توست والشاي.»
قلت بابتسامة عريضة: «بيض حمام، لماذا لم تتناول بيض عصافير؟»
شرحت زوجةُ برنابي: «أظن أن سيريل أرسلهما على سبيل المزاح (تقصد السيد سيريل باركر)، ولكن يجب القولُ إن فرانك استمتع كثيرًا. فكما تعلم، بدأ سيريل مؤخرًا في تربية الحمام والأرانب وغيرها من الحيوانات الصالحة للأكل، وأظنُّ أنه أرسلها في الأصل من أجل فرانك لأنك طلبتَ منه اتباعَ نظامٍ غذائي خاص. دائمًا ما يُرسل لنا سيريل بعضًا من هذه الحيوانات — خاصة الحمام والأرانب — وبعمر أصغر بكثير مما نجده في المحلات.»
برنابي: «إنه رجل سخيٌّ. أعتقد أنه يُرسل لي أكثر من نصف نظامي الغذائي. ونادرًا ما أحب أن أقبل منه قدرًا كبيرًا.»
زوجة برنابي: «إنه يسعد بإرسال هذه الهدايا لنا، ولكني أتمنى أن يسعد بذبح هذه الحيوانات أولًا. دائمًا ما يُحضرها أو يُرسلها حية، والطاهية تكره ذبحَها. وأنا لا أذبحها أبدًا، على الرغم من أنني أتعامل مع الحيوانات المذبوحة بعد ذلك. وأحضِّر لفرانك بنفسي جميع طعامه تقريبًا.»
نظر برنابي إلى زوجته بنظرةٍ يملؤها الحب، وقال: «نعم، مارجريت فنانة في الأكلات الشهية والرخيصة وأنا أحب هذا التفنُّن في المأكولات. يمكنني أن أُخبرَك يا دكتور أنني أعيش مثل ديك مقاتل.»
كل هذا جيد، ولكن يبقى السؤال وهو: من أين جاء الأتروبين؟ إذا لم يدخل إلى جوف برنابي شيءٌ سوى الإفطار، فلا بد أن الأتروبين كان في هذا الإفطار. أشرتُ إلى هذه النقطة.
برنابي: «ولكنك تعلم يا دكتور أن هذا غير ممكن. يمكننا تنحية البيض جانبًا. فلا يمكنك إدخالُ السمِّ في البيض من دون إحداث ثقب في القشرة، وكانت البيضتان سليمتَين. وبالنسبة إلى الخبز والزبد والشاي، فجميعُنا تناول هذه الأشياء ولم يُصَب الآخرون بأي سوء.»
قلت: «هذا الرأي ليس حاسمًا؛ فجرعة الأتروبين التي قد تكون سامة بالنسبة إليك، قد لا يكون لها تأثيرٌ في الآخرين، ولكن اللغز الحقيقي هو كيف يمكن أن يدخل الأتروبين على الأرض إلى أي طعام.»
برنابي: «لا يمكن أن يدخل.» وهذا ما أُومن به، لكن النتيجة غير مرضية؛ لأن اللغز لا يزال من دون تفسير. وعندما هممتُ بالرحيل كي أتابعَ زياراتي، شعرتُ بعدم الارتياح؛ لأنني لم أتمكن من وضْع يدي على مكمن الخطر ولم أحمِ مريضي من التعرض له مرة أخرى.
لم أجد تفسيرًا لعدم ارتياحي. مرَّ ما يزيد على الأسبوع عندما أتاني استدعاءٌ جديد إلى منزل برنابي المليء بالحيرة والتخوف. وبالفعل كان هناك سببٌ وجيه لهذا التخوف، عندما وصلتُ إلى المنزل وجدتُ برنابي مستلقيًا غيرَ قادر على الكلام وتحولت عيناه الزرقاوان إلى قرصين فارغين سوداوين يشعُّ منهما «البيلادونا». وعندما شعرتُ بتسارع نبضه وجهوده العبثية لابتلاع رشفة ماء، بدأتُ أسأل نفسي إن كان علاجه مستحيلًا. السؤال نفسه رأيتُه في أعين زوجته المرعوبة التي نهضت من جانب الفراش وكأنها شبح عندما دخلت الغرفة، ولكنه استجاب للعلاج مرة أخرى على الرغم من بطء الاستجابة هذه المرة، وبعد مرور ساعة شعرتُ بالارتياح عندما رأيتُ أن الخطر العاجل قد زال، على الرغم من أنه لا يزال يعاني مرضًا شديدًا.
في هذه الأثناء، لم تنجح الاستفسارات في توضيح أيِّ تفسير لسبب حدوث الأزمة. ظهرت الأعراضُ بعد العَشاء بوقت قصير؛ وكان العَشاء عبارةً عن وجبة بسيطة تتكوَّن من حمامٍ مطهوٍّ في طبق خزفي أعدَّتْه زوجةُ برنابي بنفسها وخضراوات وبودينج خفيف تَشارك في تناوله جميعُ أفراد الأسرة وكمية قليلة من مشروب الشابليز من زجاجة فتحوها في غرفة الطعام. لم يتناول شيئًا آخر ولم يتناول أيَّ أدوية من أيِّ نوع. وعلى الجانب الآخر، تأكَّدتْ أيُّ شكوك بشأن طبيعة حدوث الأزمة عندما أجريتُ اختبارًا كيميائيًّا وتأكدت النتيجة لدى جمعية البحوث السريرية؛ وكانت النتيجة أنه لا شك في وجود الأتروبين على الرغم من أن الكمية كانت قليلةً نسبيًّا، ولكن ظلَّ مصدرُ الأتروبين لغزًا غامضًا.
كان الوضع مزعجًا للغاية. تجاوزُ الأزمة الأخيرة كان شديدَ الصعوبة ولا يزال مصدرُ السمِّ غيرَ معروف. ويمكن التعرضُ لجرعةٍ جديدةٍ من المصدر غير المعروف نفسه في أي وقت، ولكن مَن يستطيع التنبؤ بالنتيجة؟ كان برنابي المسكين في حالةٍ من الرعب المزمن وبدأ مظهرُ زوجته يتغير إلى الأقبح بسبب استمرار الخوف والقلق. وأنا لم أكن في حالة أفضل منهما، ومهما كان ما حدث، فالمسئولية تقع على عاتقي. أرهقتُ عقلي بالتفكير من أجل الوصول إلى بعض التفسيرات المحتملة ولكن لم أصِلْ إلى أي نتيجة، على الرغم من تسلُّلِ بعض الأفكار المروعة إلى عقلي في بعض الأحيان، وما كان مني إلا أن أطردَها ساخطًا.
في ليلةٍ بعد الأزمة الأخيرة بعدة أيام، زارني أخو برنابي وهو اختصاصيُّ علمِ أمراضٍ يعمل لدى إحدى مستشفيات لندن، ولكنه متقاعد. الدكتور جيم مختلف عن أخيه اللطيف والودود اختلافًا كبيرًا؛ إذ كان أخوه قويًّا وحازمًا وحيويًّا وأقلَّ منه في دماثة الأسلوب. إننا على دراية بالموضوع بالفعل وبالتالي لم يتطلب الأمرُ أيَّ مقدمات ودخل إلى صلب الموضوع مباشرةً.
«يمكنك تخمينُ ما توصلت إليه يا جاردين، هذه مسألة أتروبين. ما الإجراءات التي تُتَّخذ حاليًّا في هذه المسألة؟»
أجبتُه بنبرة إحباط: «لا أعلم أن هناك إجراءاتٍ قيد التنفيذ. لا يمكنني التوصُّل إلى استنتاج.»
«ما يتم هو الانتظار حتى التعرُّض لأزمة أخرى، أليس كذلك؟ وكما تعلم، فهذا لن يُجديَ نفعًا. يجب إيقاف هذه المسألة قبل فوات الأوان. إذا لم تكن على علمٍ بمصدر السم، فهناك شخص يعرف. همممم! وقد حان الوقت لمعرفة هذا الشخص؛ فهم ليسوا كُثُرًا كي تحتارَ في الاختيار من بينهم. سأذهب الآن كي أتفقدَ المكان وأُجريَ بعض التحريات. ومن الأفضل أن تأتيَ معي.»
سألتُ: «هل ينتظرون قدومك؟»
أجاب بنبرة خشنة: «لا، ولكنني لستُ غريبًا ولا أنت أيضًا.»
قررتُ الذهاب معه، على الرغم من عدم حبي لأسلوبه كثيرًا. وبدا واضحًا أنه تعمَّد أن تكون الزيارة مفاجئة، ولم أواجه صعوبةً كبيرة في تخمين ما يدور برأسه. وعلى الجانب الآخر، لم أشعر بالأسى على مشاركة المسئولية مع رجل بمكانته وقرابته للمريض. وبناءً على ذلك، انطلقتُ معه بطيب خاطر مني، وبدا لي أنه من الأفضل أن آخذَ حقيبة الطوارئ معي.
عندما وصلنا، وجدنا السيد برنابي وزوجتَه على وشك الجلوس لتناول العشاء — تناول الأطفال وجبةَ العشاء بأنفسهم — ورحَّبَا بنا بكرم الضيافة الذي أضفى السعادة على هذا المنزل. جلس الدكتور جيم على المقعد المقابل لي، وشعرت بسعادةٍ خافتة عندما لاحظتُ عينَيه تتجوَّلان خفيةً على الطاولة، ومن الواضح أنه يقيِّم كلَّ صنفٍ من الطعام ليعرف إن كان ناقلًا للأتروبين أم لا. عندما اكتمل الجمع، قالت زوجة برنابي: «لو أنك أخبرتَنا بقدومك يا جيم، لكنا أعددْنا لك طعامًا أفضل من ظهر الضأن، ولكن بما أن الأمر كذلك، فلا مفرَّ من تناول الموجود.»
ردَّ الدكتور جيم: «ظهرُ الضأن شهيٌّ وأحبُّه.» ولما رفع برنابي الغطاء من على طبق خزفي صغير، سأل: «ولكن ما الطعام الموضوع على الأرض الذي تناوله فرانك؟»
أجابت: «هذا لحمُ أرانب مقلي. هذا الحيوان النحيل كان لا يزال صغيرًا. ربما بكتِ الطاهية عند ذبحه.»
تعجَّب الطبيب: «ذبحه! هل تشترون الأرانب حية؟»
ردَّت: «لم نشترِ هذا الأرنب. بل أحضره السيد سيريل باركر، أنت تعرفه.» أضافت هذه الجملةَ بسرعةٍ بوجنتَين محمرتَين؛ إذ إنها رمقت نظرةً متجهمة تنفذ منها التساؤلات. «إنه يُرسل الكثيرَ من الدواجن والأرانب وغيرها من الحيوانات من مزرعته من أجل فرانك.»
قال الطبيب وعينُه لم ترتفع من فوق الطبق الخزفي: «أها! همممم! يضع لها الغذاء بنفسه، أليس كذلك؟ أين تقع مزرعته؟»
«في إلثام، ولكنها ليست مزرعةً فعلية. إنه يربي الأرانب والدجاج والحمام في مكان خصَّصه لها في نهاية الحديقة.»
سأل الدكتور جيم وعينُه تُحملق من جديد في الطبق الخزفي: «هل الطاهية امرأة إنجليزية؟ تلك المسألة لها ذوق فرنسي لدى فرانك.»
برنابي: «يرحمك الله يا جيم، أنا لا أعتمد على أيِّ طهاة. فأنا الذواقة المدلل. تُحضِّر مارجريت معظمَ غذائي بيدَيها المباركتين. لا يستطيع الطهاة صنْعَ مثل هذه المأكولات.» ثم تناول قدرًا جديدًا من الطعام بنفسه من الطبق الخزفي.
بدا أن الدكتور جيم يفكر تفكيرًا عميقًا في هذا التفسير. بعد ذلك غيَّر الموضوع من فنِّ الطهي إلى أناجيل ليندسفارن وبالتالي جذب انتباه أخيه إلى موضوع جديد تمامًا. برنابي ميوله متجهة نحو مخطوطات القرنين السابع والثامن وكانت معرفته بهما كبيرة بقدر حماسه تجاههما.
قالت زوجة برنابي: «أوه، تناول عشاءك يا فرانك، فأنت تتحدث في كلام كثير. سيبرد الطعام.»
قال معترفًا: «نعم يا عزيزتي، ولكني لن أدخل في التفاصيل. ما أريد سوى أن أُريَ جيم هذه المطبوعات من «كتاب دورهام». اعذريني.»
نهض من على الطاولة ومشى إلى المكتبة المجاورة، ثم عاد بعد فترة وجيزة ومعه محفظة مستندات صغيرة.
لما سلَّم محفظة المستندات لأخيه قال: «هذه هي اللوحات. تصفَّحْها إلى أن أنتهيَ من طعامي.»
أخذ السكينة والشوكة وبدا أنه سيستأنف تناول طعامه. ثم وضعهما على الطاولة واتكأ بظهره على الكرسي. قال: «أظن أنني لا أريد المزيد من الطعام.»
اللهجة التي تحدث بها جعلتني أنظر إليه بعين الانتقاد؛ لأن حديثي مع أخيه جعلني متوترًا ومتخوفًا من حدوث مزيد من المشكلات. ما أراه الآن لم يكن مطمئنًا بأي حال من الأحوال. بدا الاحمرار على وجهه ودفعني قلقٌ في تعبيراته إلى التساؤل بهدوء من الخارج وغليان من الداخل: «هل أنت بخير برنابي؟ أرجو أن تكون بخير.»
ردَّ: «لستُ بخير. توشك عيناي ألَّا ترى وحلقي …» وهنا حرَّك شفتَيه وابتلع ريقه ولكن بدا أنه يبتلعه بصعوبة.
نهضتُ مسرعًا وأنا أرى الرعب البادي في عينَي زوجته، وذهبتُ إليه ونظرت في عينيه. وعندما نظرت إليهما، انخلع قلبي. وجدتُ أن حجم حدقة العين وصل إلى ضعف الحجم الطبيعي ويشعُّ البريق المألوف من عينَيه الداكنتين. تملكني الرعبُ ولما كنتُ أنظر إلى وجه برنابي الذي لا يكاد يخفي ذعره، تردَّدت في أذني كلماتُ أخيه المشئومة. هل انتظرت حتى أتت «أزمة أخرى كي أستفسرَ عن الأسباب»؟
بمجرد أن ظهرت الأعراض، تطورت بسرعة. ومع كل دقيقة تمرُّ، كانت الأعراض تتفاقم، وكذلك كان تسارع اتساع حدقة العين يُنذر بشدة التسمم. أسرعتُ بالخروج إلى الصالة لأجلب حقيبتي ولما دخلتُ مرة أخرى رأيتُه ينهض ويتلمس بيديه من دون أن يرى إلى أن أمسكت زوجتُه ذات الوجه الشاحب والمرتعب يدَه وقادته إلى الباب.
قلت: «كان من الأفضل أن أعطيَه حقنة بيلوكاربين على الفور.» كنتُ أُخرج محقنة للحقن تحت الجلد وأنظر إلى الدكتور جيم الذي أخذ يراقبني برباطة جأش.
قال موافقًا: «نعم، وقليل من المورفين أيضًا! وربما يحتاج إلى قدر من مادة منبهة. لن أذهب للتحدث إليه؛ فقط سأفكر في الأمر.»
تابعتُ المريض إلى غرفة النوم وأعطيتُه الترياق على الفور. ولما شرع في خلع بعض ملابسه بمساعدة زوجته، نزلتُ إلى الطابق السفلي بحثًا عن زجاجة براندي وماء ساخن، أوشكتُ أن أدخل غرفة الطعام ووجدتُ أن الباب مفتوحٌ جزئيًّا ورأيتُ الدكتور جيم يقف بجانب الموقد فاتحًا حقيبةَ يده التي جلبها من الصالة إلى الطاولة أمامه ورأيت في يده وعاءً زجاجيًّا بوهيميًّا أخذه من رفِّ الموقد. توقفتُ للحظة لا إراديًّا؛ ولما فعلتُ ذلك، وضع الزجاجة التي في يده في الحقيبة وأغلقها، ثم أقفلها بمفتاح صغير ثم وضعه في جيبه.
كان إجراءً غريبًا ولكنني بالطبع لم آبَهْ له، ولكن بدلًا من الدخول إلى غرفة الطعام، تسللتُ خفية إلى المطبخ وأحضرت الماء الساخن بنفسي. عندما عدتُ، وجدت الحقيبة على الطاولة في الصالة مرة أخرى ووجدتُ الدكتور جيم يغدو ويروح في غرفة الطعام وهو متجهم الوجه. طرح عليَّ بعض الأسئلة لما كنت أبحث عن البراندي ثم تفاجأتُ بعضَ الشيء عندما اقترح الصعود لمساعدة المريض.
حينما دخلتُ إلى غرفة النوم، وجدتُ برنابي البائس مستلقيًا بنصف ملابسه على الفراش وفي حالة يُرثى لها؛ إذ كان مرعوبًا ومتعبًا جسديًّا ويهذي في بعض الأحيان. ركعتْ زوجته بجانب الفراش بوجه شاحب وعينَين حمراوين وجسدٍ يرتجف من الرعب، على الرغم من أنها كانت هادئة تمامًا ومنضبطة النفس. لما دخلنا، نهضت لإفساح الطريق لنا وفي أثناء فحص نبضات المريض وسماع سرعة نبضات القلب، شغلتْ نفسها في صمت بإحضار المواد المنبهة.
لما ناولني الدكتور جيم سماعتي الطبية، همستْ قائلة: «لا تظن أنه سيموت، أليس كذلك؟»
ردَّ بنبرة جادة، أو بالأحرى قاسية: «لا فائدة من التفكير، سنرى.» وبذلك أدار لها ظهرَه ونظر إلى أخيه مقطب الجبين.
ظل هذا السؤال من دون إجابة لمدة تزيد على الساعة. ومن لحظة إلى أخرى، توقعتُ أن أشعر بتلاشي نبضات القلب المتسارعة؛ ومن ثَم أسمع اضطراب التنفس وهو يختفي مع حشرجة الموت. ومن وقتٍ لآخر، كنا نزيد جرعة الترياق ونعطيه الأدوية المقوية ولكن بحذر، بيْد أنه يجب أن أعترف بأن الأمل لديَّ كاد أن يندثر. ولم يُخفِ الدكتور جيم تشاؤمَه. ومع انسلاخ لحظات القلق، ولما كنتُ أتوقع وصول ملك الموت، لم يَغِب عن خاطري سؤالٌ لم أجرؤ على البوح به. ما معنى هذا كلِّه؟ متى أتى السمُّ؟ ولماذا لم يجد السمُّ في المنزل طريقَه إلا إلى برنابي، وهو الشخص الذي لا يتحمل جرعة صغيرة منه؟
بعد مدة ليست بالقصيرة، حدث تغييرٌ لا يكاد أن يُدرَك في البداية أو يُرى بقليل من الثقة. ولكن بعد فترة أصبح التغييرُ أوضح؛ إذ سرعان ما بدأت الأعراضُ في الاختفاء. ابتلع المريض فنجان قهوة بسهولة وتلذذ بمذاقه؛ تباطأت نبضاتُ القلب وأصبح التنفس طبيعيًّا وبدأ مفعول المورفين في هذا الوقت؛ ومن ثم غَطَّ في غفوة كانت تتفاوت درجاتُ هدوء النوم فيها.
الدكتور جيم: «أعتقد أنه سينام الآن؛ ولذا لن أبقى أكثر من ذلك، ولكن كان الرجل قاب قوسَيْن أو أدنى من الموت يا جاردين، كان قريبًا لدرجة لا يطمئن معها القلب.»
مشى إلى الباب ولما خرج، استدار وانحنى بشدةٍ لزوجة أخيه احترامًا لها. تبعتُه وهو ينزل على السلم، بل كنتُ أتوقَّع أن يعود إلى الموضوع الذي زارني من أجله، ولكنه لم يتحدث عنه، وفي الحقيقة لم يَقُل أيَّ شيء إلى أن وقف على عتبة الباب وحقيبته في يده. ثم أدلى بملاحظةٍ غامضةٍ نوعًا ما: «حسنًا يا جاردين، لقد أنقذه «كتاب دورهام»، ولكن بسبب هذه المطبوعات، كان سيُصبح ميتًا.» مشى بعد ذلك وتركني عازمًا على تفسير هذه الملاحظة الغامضة بقدر ما أستطيع.
بعد ربع ساعة، ولما كان برنابي ينام في سلام وتأكَّدنا من زوال الخطر، غادرتُ وبمجرد أن أصبحت خارج المنزل، عكفت على وضع خطة كانت تجول في عقلي على مدار الساعة الأخيرة. هذه القضية يحوطها بعضُ الغموض ومن الواضح أن حلَّها يفوق قدراتي، ولكن يجب حلُّها إذا كنا نريد حمايةَ برنابي وحتى لا تُمسَّ سمعتي؛ ولذا قررتُ أن أضع الوقائع أمام صديقي ومعلمي السابق الدكتور ثورندايك وأطلب مشورتَه ومساعدته إذا لزم الأمر.
قال: «لذا أهديتَني مجاملة طيبة بوصفي صديقًا. تصرُّفٌ لبق منك. ما طبيعة مشكلتك؟»
«المشكلة هي أن لديَّ مريضًا تكرَّر تسمُّمُه بالأتروبين ولا أستطيع أن أصلَ إلى أي استنتاج.»
وهنا بدأت أُعطي تلخيصًا عن الوقائع، ولكنه أوقفني بعد دقيقة أو دقيقتين.
قال: «لا تختصر يا جاردين. فلا يزالُ الليل طويلًا. لنُكمل تاريخ الحادثة بالتفاصيل عن جميع الأشخاص المعنيين والعلاقات المشتركة بينهم. فلا تتجنب ذكرَ التفاصيل.»
جلس ووضع كراسة على ركبته ولما أشعل الغليون، شرعتُ في سرد أحداث القضية وبدأتُ بقطرة العين وانتهيتُ بالأحداث التي تُنذر بالسوء في ليلتنا هذه.
استمع بآذان صاغية، ولم يقاطعْني في الحديث إلا في بعض الأحيان كي يسألَ عن تاريخ الواقعة؛ إذ كان يكتبه وبجانبه بعض التفاصيل. لما انتهيتُ، وضع كراسته جانبًا ولما أطفأ غليونه قال: «قضية لافتة للنظر يا جاردين، وما يُثير الاهتمام فيها هو طبيعة السم غير العادية.»
قلتُ متعجبًا: «أوه، إنها مسألة مثيرة للقلق! أنا لستُ اختصاصيًّا في السموم. أنا ممارس عام وأريد أن أعرف ما الذي ينبغي لي فعلُه.»
قال: «أعتقد أن واجبك واضحٌ وضوحَ الشمس. يجب أن تُبلغ الشرطة، سواء بمفردك أو بالتعاون مع أحد أفراد العائلة.»
نظرتُ إليه متوجسًا. وقلت متلعثمًا: «ولكن ما الذي ينبغي أن أقوله للشرطة؟»
ردَّ: «ما أخبرتني به، ولكن اختصر الوقائع، قلْ ما يلي: تعرَّض فرانك برنابي لثلاث أزمات من التسمم بالأتروبين، من دون أن تذكر قطرات العين. وكل أزمة يبدو أنها مرتبطة ببعض أصناف الطعام التي تُعدُّها زوجتُه ويُقدِّم مكوناتِها السيدُ سيريل باركر.»
قلت متعجبًا: «ولكن، يا ربي! أنت لا تشك في زوجة برنابي، أليس كذلك؟»
ردَّ: «أنا لا أشك في أحد. ربما لا تكون القضية محاولةَ قتلٍ بالسمِّ على الإطلاق، ولكن يجب حمايةُ السيد برنابي وبالتأكيد يجب التحقيق في القضية.»
سألت مقترحًا: «أليس من الأفضل أن أُجريَ بعض التحريات بنفسي أولًا؟»
هزَّ ثورندايك رأسه وردَّ قائلًا: «الخطر كبير للغاية. قد يموت الرجل قبل أن تصل إلى استنتاج، ولكن من المحتمل أن تتسبب بعضُ التحريات التي تُجريها الشرطة في تعطيل المسألة، إلا لو كان التسمم غيرَ متعمدٍ بطريقةٍ لا يمكن تخيُّلها.»
كانت هذه مشورته التي تفضَّل بها، وشعرتُ أنه على حق، ولكنها تضعُ على عاتقي واجبًا كبيرًا؛ ولما كنتُ عائدًا إلى المنزل، حاولتُ أن أتوصل إلى بعض الوسائل التي تُخفِّف من وطأة هذا الواجب. وفي النهاية قررتُ أن أحاول إقناع زوجة برنابي أن تنضمَّ إليَّ في إبلاغ الشرطة.
لم تكن هناك ضرورة للتحدث إليها على الإطلاق. عندما أجريتُ زيارتي الصباحية، وجدتُ سيارة أجرة واقفة أمام الباب وبدت الخادمة التي فتحت لي الباب وكأنها رأت شبحًا.
لما قادتني إلى غرفة الاستقبال بوجه مكتئب، سألت: «لماذا، ما الأمر يا مابيل؟»
هزَّت رأسها. «لا أعلم يا سيدي. أنا أخشى من أن يكون هناك مكروه. سأُخبرهم بأنك هنا.» بذلك أغلقت الباب وغادرت.
أسلوب الخادمة والاستقبال الرسمي غير المعتاد أثارَا هواجسي بأن هناك سوءًا في الأمر. ولكن حتى لما كنتُ أتساءل ما الذي ربما حدث، تلقيتُ الإجابةَ عن السؤال بدخول رجلٍ طويل وكأنه حارسٌ بملابسَ مدنية.
سألني: «هل أنت الدكتور جاردين؟» ولما أومأتُ برأسي، عرَّفني بنفسه وأراني بطاقته: «أنا المحقق لين. أُمرت بإجراء بعض التحريات بشأن بعض معلومات وصلتْ إلينا. تقول المعلومات إن السيد فرانك برنابي يُعاني تأثيراتِ سمٍّ. في حدود علمك، هل هذا صحيح؟»
رددتُ: «أرجو أن يكون قد تعافَى الآن، ولكن ما يبدو لي أنه تعرَّض ليلة أمس للتسمم بالأتروبين.»
سأل الرقيب: «هل تعرَّض لأي أزمات مشابهة من قبل؟»
أجبتُ: «نعم، هذه كانت الأزمةَ الخامسة، ولكن أول أزمتين كان من الواضح أنهما نتيجة بعض قطرات العين التي استخدمها.»
«وبالنسبة إلى الثلاث حالات الأخرى، هل لديك أيُّ فكرة عن مصدر السم؟ هل كان في الطعام، على سبيل المثال؟»
«ليس لدي فكرة أيها الرقيب. لا أعلم شيئًا أكثر مما أخبرتُك به؛ وبالطبع لن أضع أيَّ تخمينات. هل تسمح لي أن أسأل عمن أعطاك المعلومات؟»
رد: «أستميحك عذرًا؛ فهذا غير مسموح به يا سيدي، ولكن ستعرف قريبًا. لدينا اتهامٌ محدَّد ضد زوجة برنابي — وأُلقيَ القبض عليها — وسنحتاج إلى شهادتك في التحقيقات.»
حدَّقتُ إليه وأنا في حالة ذعر تام. قلتُ لاهثًا: «أتقصد أنك ألقيت القبض على زوجة برنابي؟»
ردَّ: «نعم، بتهمة تسميم زوجها.»
صُعقتُ تمامًا، ولكن عندما تذكرتُ كلماتِ ثورندايك وتذكرتُ تخميناتي المشئومة التي نبذتُها على الفور، لم يكن هناك ما يفاجئني في هذا التحول الصادم في الأحداث.
سألتُ: «هل يمكنني التحدثُ قليلًا مع زوجة برنابي؟»
ردَّ: «ولكن ليس بمفردكما، ومن الأفضل ألا تتحدثَ معها على الإطلاق، ولكن إذا كانت لديك أيُّ مسألة …»
قلت: «نعم لديَّ مسألة معها.» ومن ثَم أخذني إلى غرفة الاستقبال وهناك وجدتُ زوجةَ برنابي جالسةً متخشبة على كرسي ووجهها شاحب كأنها جثةٌ هامدة، ولكنها كانت هادئة تمامًا على الرغم من حالة الذهول التي اعترتْها. في الجهة المقابلة لها، كان هناك رجل بزيٍّ عسكري يجلس بجانب الطاولة وكأنه لا يدري بوجودها ولم يُبدِ ملاحظة عندما مشيتُ إلى سجينته وأمسكتُ يدها بصمت.
قلت: «لقد أتيتُ يا سيدة مارجريت لأسأل إن كان هناك ما ينبغي لي القيام به. هل يعلم برنابي بهذه الفاجعة؟»
أجابت: «لا، سيتوجب عليك إخبارُه إذا كان في حالةٍ تسمح له بذلك، وإذا لم يكن في حالةٍ تسمح له بمعرفة الخبر، فأريدك أن تُخبرَ أبي في أقرب وقتٍ ممكن. هذا كل ما أريده منك، ومن الأفضل أن تذهب الآن، لأنه يجب ألَّا نُعيقَ عمل هؤلاء الرجال. مع السلامة.»
صافحتْني ببرود وعندما واسيتُها متلعثمًا ببعض كلمات التشجيع والتعاطف المقتضبة، خرجتْ من الغرفة ولكني انتظرتُ في الصالة لأرى آخر ما ستئول إليه الأمور.
تحلَّى ضباط الشرطة بأدب كبير وراعوا الظروف. وعندما خرجتُ، أحضروها بطريقة غاية في الاحترام. ولما كان الرقيب على وشك أن يفتح الباب المطل على الشارع، رن جرس الباب؛ ولما فُتح الباب تبيَّن أن السيد باركر يقف على العتبة. كاد أن يخاطب زوجة برنابي ولكنها تخطَّتْه بانحناء بسيط ونزلت من على الدرج وكان الرقيب من أمامها والمحقق من خلفها. أمسك الرقيب باب السيارة كي يبقى مفتوحًا إلى أن ركبت، ثم ركب هو الآخر وأغلق الباب. ركب المحقق بجانب السائق وانطلقت السيارة.
سألني باركر والانزعاجُ بادٍ على وجهه: «ما الذي يجري يا جاردين؟ يبدو أن هذين الشخصين رجالُ شرطة بملابس مدنية.»
قلت: «نعم، لقد ألقوا القبض على زوجة برنابي بتهمة محاولة وضْع السم لزوجها.»
ظننت أن باركر كاد يسقط على الأرض. فما حدث أنه ترنَّح إلى كرسي في الصالة وسقط عليه وهو في حالة انهيار. قال لاهثًا: «الرحمة يا رب! ما أبشع هذا الخبر! ولكن ليست هناك أيُّ أدلة محتملة، أي أسباب حقيقية للاشتباه بها. لا بد أنه مجرد تخمين غير دقيق. وإني أتساءل مَن طرح هذا التخمين.»
كانت لديَّ شكوك قوية بشأن هذا الموضوع ولكني لم أذكرها؛ وعندما رأيتُ باركر في غرفة الطعام وشرحتُ المسألة بمزيد من التفاصيل، صعدتُ إلى الطابق العلوي وأخذتُ أجهِّز نفسي للمهمة التي فُرضت عليَّ من دون رغبة فيها.
وجدتُ أن برنابي تعافى تمامًا، على الرغم من خمول حركته بسبب المورفين، ولكن الأخبار التي جلبتُها جعلتُه يفيق بالكلية. وفي لحظة نهض من فوق الفراش وأسرع كي يرتديَ ملابسه؛ وعلى الرغم من أن وجهَه الشاحب والمحدد التعبيرات يُنبئ عن مدى صدمته من سماع هذه الكارثة، إلا أنه كان مستجمعًا لقواه وعقله تمامًا.
ردًّا على تعبيرات التعاطف التي أبديتُها، قال: «لا فائدة من انفعالنا يا دكتور. مارجريت في موقف خطير للغاية. ما عليك سوى أن تفكر فيما هي عليه — امرأة شابة جميلة — وما أنا عليه، لتُدرك ذلك. يجب أن نتصرف بسرعة. سأذهب وأرى والدها، فهو محامٍ قدير ويجب أن نعثرَ على محامٍ مخضرم.»
بدتْ أن هذه فرصةٌ لذكر مؤهلات ثورندايك المميزة في القضايا من هذا النوع، وهذا ما فعلتُه. استمع برنابي منتبهًا، وبدا أنه غيرُ متأثر، ولكنه ردَّ بكلمات حذرة: «ينبغي أن نترك اختيار المحامي لهارات، ولكن إذا كنتَ تهتمُّ باستشارة الدكتور ثورندايك في هذا الوقت، فأنا أفوضك في ذلك. وأنا سأخبر هارات.»
انطلقتُ مغادرًا بعد هذه الكلمات، ولم أرتَحْ بعضَ الشيء للطريقة التي تعاطى بها مع الأخبار السيئة؛ وبمجرد أن انتهيتُ من أهم جزء في عملي، ذهبتُ إلى مسكن ثورندايك بحيث ألحق به في الوقت المناسب تمامًا عند عودته من المحاكم.
لما عرف ما حدث حتى ذلك الحين، قال: «حسنًا يا جاردين، ما الذي تريد مني أن أفعله؟»
رددتُ: «أريدك أن تفعل ما بوسعك كي تُثبتَ براءة زوجة برنابي.»
ظلَّ ينظر إليَّ متسائلًا لبضع دقائق، ثم قال بنبرة هادئة ولكنها جادة: «ليس من عادتي أن أقدِّم أدلة استنتاجية. ولا يجوز للشاهد الخبير أن يتخذ صفة المحامي. وإذا أجريتُ التحقيقات في أدلة هذه القضية، فسيتعيَّن أن تكون أنت المسئول بصفتك ممثلًا عن المتهمة؛ وذلك لأنه يجب الإفصاح عن أيِّ واقعة قد يعرفها الشاهد — مهما كانت ضارة — بما يتفق مع شروط اليمين، هذا بالإضافة إلى أنه لا خلاف على أنه يجب على كل شخص أن يعمل على تحقيق أهداف العدالة. بصفتي محاميًا وبحمل الوقائع المعروفة على قيمتها الظاهرة، فلا أنصحك بأن توظفني للتحقيق في هذه القضية بوجه عام. فربما تكتشف أنك ما فعلتَ شيئًا سوى أن قويتَ يدَ النيابة في القضية.
ولكن سأضع اقتراحًا. يبدو لي أن هناك احتمالًا لافتًا للانتباه ومثيرًا للاهتمام كثيرًا في هذه القضية. دعْني أتحرَّ عن هذا الأمر وحدي. وإذا أدَّتْ تحرياتي إلى نتائج إيجابية، فسأُخبرك ويمكنك حينها استدعائي بصفتي شاهدًا. وإذا أدَّت إلى نتائج سلبية، فمن الأفضل ألا تُقحمَني في القضية.»
لم أجدْ مفرًّا من الموافقة على هذا الاقتراح، ولكن عندما غادرتُ من عند ثورندايك، غادرتُ وإحساس الإحباط والفشل يتملَّكني. من الواضح أن تلميحه «القيمة الظاهرية للوقائع المعروفة» يدل على أن تلك الوقائع ضد المتهمة، ولكن «الاحتمال اللافت للانتباه» لم ينطوِ على شيءٍ سوى أملٍ ضعيف وبالتالي لم يَبنِ عليه آمالًا كبيرة.
لست بحاجة إلى متابعة الأعمال المرهقة بالتفصيل. في الجلسة الأولى أمام القاضي، لم تُقدِّم الشرطة سوى الاتهام وأدلة القبض على المتهمة، وطلب كلٌّ من الشرطة والدفاع الحبس على ذمة التحقيق، ومن الواضح أنه لم يرغب أيٌّ منهما في الكشف عن أوراقه؛ وبناءً على ذلك، تأجَّلت القضية لمدة سبعة أيام ولما رفضت المحكمة الكفالة، احتُجزت المتهمة في الحبس.
في هذه الأيام السبعة الكئيبة، قضيتُ أطول مدة ممكنة مع برنابي وعلى الرغم من إعجابي بصلابته وتمالكه لنفسه، فإن وجهَه الشاحب والممتقع عصرَ قلبي. في هذه الأيام القليلة، ظهرت ملامحُ الشيخوخة عليه. وفي منزله، قابلتُ السيد هارات والد زوجة برنابي، إنه رجل طيب وكريم ومحامٍ كبير نمطي في إجراءاته؛ لا أستطيع أن أصف كم هو مثير للشفقة أن ترى والدَ المتهمة وزوَجها وهما يحاولان شدَّ أزر بعضهما البعض على الرغم من أن الخوف والقلق يمزِّقهما. وفي إحدى المرات، كان السيد باركر حاضرًا وبدا عليه الأسى والاكتئاب أكثر منهما، ولكن أسلوب السيد هارات معه كان شديدَ الفتور والقسوة لدرجة أنه لم يكرِّر الزيارة. في هذه الزيارات، ناقشنا القضية بحرية، مما ابتلاني بمصيبة أخرى. فلم أتمكَّن من إيجاد أيِّ دليلٍ يمكنني تقديمُه إلى المحكمة بحيث يدعم القضية مباشرةً.
مرَّ ستة أيام من السبعة، ولم يكن هناك أيُّ خبر من ثورندايك، ولكن في مساء اليوم السادس، تلقيتُ خطابًا منه مقتضبًا وبلغة جادة، ولكني لا أزال أتمسك ببصيص أمل. كانت الرسالة المختصرة كما يلي:
لقد تحريتُ عن المسألة التي تحدثتَ معي فيها، وأظنُّ أن الأمر يستحق البحث. وبناءً عليه، كتبت إلى السيد هارات أقدم له مشورتي بشأن هذه القضية.
كان خطابًا غيرَ محدد المعالم، ولكني أعرف ثورندايك تمام المعرفة بحيث أعرف أن وعودَه عادة لا تنمُّ عن نواياه كاملة. عندما قابلتُ السيد هارات وبرنابي في الصباح التالي في المحكمة، دلَّ شيءٌ في أسلوبهما — همة وأمل جديدان — على أن ثورندايك كتب المزيد من التفاصيل في خطابه إلى المحامي. وعلى الرغم من ذلك، كان قلقهم كفيلًا بانفطار قلب المجرم عليهما، على الرغم من شجاعتهما الظاهرية.
المشهد في المحكمة عندما نُوديَ على القضية رسم صورةً في ذهني لا أستطيع أن أنسى تفاصيلَها. امتزج البؤس بالمأساة، والطيش مع الوقار المهيب — القاضي المتجهم الجالس على المنصة ورجال الشرطة متبلدو الإحساس والمحامون المنشغلون والزحام الهائج من الحاضرين المفتقرين إلى الإحساس والذين لم تُرفع عيونهم عن الواقفة في قفص الاتهام — كلُّ هذا كان مجموعةً متنوعة من التناقضات التي أرجو ألَّا أراها مرة أخرى.
بالنسبة إلى المسجونة نفسها، أصابني مظهرُها بغصَّة في حلقي. وقفتْ متصلبةً وكأنها تمثال من الرخام لا ينبض بالحياة، وقفتْ في قفص الاتهام يحرسها اثنان من رجال الشرطة وهي تنظر باندهاش لا حَراك معه على هذا المشهد المتنافر، كانت هادئة من الخارج وكأنها تنتظر الموت المحتوم. وعندما نهض محامي الادعاء كي يفتتح القضية للشرطة، نظرتُ إليه وكأنها ضحية على مقصلة الإعدام تحملق في السياف.
لما استمعتُ إلى المرافعة الافتتاحية المختصرة، انفطر قلبي على الرغم من أن مستشار التاج الملكي المحامي السير هارولد لايتون عرض قضيتَه بإنصاف دقيق للمتهمة مما يجعل محكمة العدل الإنجليزية محكمةً لا تُضاهَى على مستوى العالم، ولكن عدم ذكر سوى الوقائع المجردة من دون تعليق كان شيئًا مروعًا. لم تكن هناك حاجةٌ إلى مرافعةٍ بليغة لإظهار أنهم توجهوا مباشرة إلى الاستنتاج الملعون.
فرانك برنابي رجلٌ مسن ومتزوج من شابة جميلة، وقد أعطتْه في ثلاث مناسبات منفصلة وبدهاء سمًّا قاتلًا وهو الأتروبين. سيثبت أن الرجل عانى تأثيراتِ ذلك السمِّ وأن أعراضَ السمِّ تلت تناول أصناف معينة من الطعام التي تناولها بمفرده وأن هذه الأصناف المذكورة كانت تحتوي على السمِّ المذكور وأن الطعام الذي يحتوي على السم أعدَّتْه له زوجتُه المتهمة بيديها كي يأكلَه وحده. لا يوجد دليل حتى الآن بشأن حصول المتهمة على السمِّ أو أن السمَّ بحوزتها بأي حالٍ من الأحوال، كما أنه لا يوجد أيُّ اقتراحاتٍ بشأن الدافع وراء ارتكاب تلك الجريمة، ولكن بناءً على دليل إعطاء السمِّ بالفعل للزوج، طلب إدانة السجينة بناءً على هذا الدليل. ثم انتقل إلى استدعاء الشهود، وكنتُ أنا أولهم بالطبع. وعندما أقسمتُ اليمين وأدليت بشهادتي، طرح المحامي بعض الأسئلة التي توضح تاريخ القضية التي لم أكن أحبُّ تكرارها. ثم تابع قائلًا:
«هل لديك أيُّ شكوك في سبب الأعراض التي عاناها السيد برنابي؟»
«لا، بالتأكيد كان سببُها التسمُّم بالأتروبين.»
«هل السيد برنابي لديه أيُّ تأثُّرٍ صحي فيما يتعلق بالأتروبين؟»
«نعم، إنه يعاني حساسية مفرطة تجاه الأتروبين.»
«هل كانت المتهمة على علم بهذه الحساسية المفرطة؟»
«نعم، سبق أن أخبرتُها عن الأمر.»
«على حدِّ علمك، هل كان أحدٌ آخر على علم بهذه المعلومة؟»
«السيد باركر كان حاضرًا عندما أخبرتُها والسيد برنابي وأخوه الدكتور جيم أيضًا كانوا على علم.»
«على حدِّ علمك، هل هناك أيُّ طريقة تستطيع بها المتهمةُ الحصول على الأتروبين؟»
«ليست هناك طريقةٌ سوى وصفة طبيب العيون لقطرات عين تحتوي على الأتروبين.»
«هل تعلم أن هناك أيَّ وسيلة أخرى — غير الطعام — يمكن أن يصل بها الأتروبين للسيد برنابي؟»
رددتُ: «لا أعلم.» بذلك اختتمتُ شهادتي، ولكن لما نزلتُ من فوق منصة الشهود، انتابني ضيقُ الصدر وفكَّرتُ أن كل كلمةٍ خرجت من فمي أحكمت الاتهامَ ضد المسكينة الصامتة في قفص الاتهام.
نُوديَ على الشاهدة التالية وهي الطاهية. شهدتْ بأنها ذبحت الأرنب وسلخته وسلَّمته إلى المتهمة التي طهتْه بالقلي بحيث أصبح جاهزًا للأكل. لم تُشارك الشاهدة في عملية الطهي ولم تكن حاضرةً في المطبخ في إحدى المرات ولو لعدة دقائق، وتركت المتهمة بمفردها.
عندما اختتمت الطاهيةُ شهادتَها، نُوديَ على اسم جيمس برنابي وصعِد الطبيب إلى منصة الشهود، وبدا عليه عدمُ الارتياح ولكنه كان متجهمًا وحازمًا. استوضحت الأسئلة الأولية ملابسات الزيارة إلى منزل أخيه والإصابة المفاجئة بالمرض. عرف من الوهلة الأولى أن المرض بسبب جرعةٍ كبيرة من الأتروبين، وافترض أن السمَّ كان في الطعام الذي أُعدَّ له خصِّيصى.
سأل المحامي: «هل اتخذتَ أيَّ إجراءاتٍ للتأكُّد من حالة التسمُّم؟»
«نعم، بمجرد أن أصبحتُ وحدي، أخذتُ جزءًا مما تبقَّى من الأرنب ووضعتُه في علبة زجاجية وجدتُها على رفِّ الموقد كنتُ قد شطفتها بالماء أولًا. ثم حملتُ عينة الطعام إلى البروفيسور بيري؛ ومن ثَم حلَّلها في وجودي واكتشف أنها تحتوي على الأتروبين. حصل منها على كميةٍ من كبريتات الأتروبين تساوي جزءًا من ثلاثين جزءًا من وحدة القمحة.»
«هل هذه الجرعة سامة؟»
«ليست سامَّةً للشخص العادي، على الرغم من أنها تتجاوز الجرعة الطبية بكثير، ولكنها يمكن أن تكون جرعةً سامة بالنسبة إلى فرانك برنابي. إذا ابتلع هذه الجرعة بالإضافة إلى ما تناوله مسبقًا، فلا شك عندي أنها ستقتله.»
بذلك اختُتمت القضية بالنسبة إلى النيابة، ولا شك أن القضية أصبحت تتجه نحو الأسوأ. لم يكن هناك استجواب، ولما وصل ثورندايك قبل نفاد الوقت وتشاور مع السيد هارات ومحاميه، بالتالي استنتجتُ أن الدفاع قد يتخذ شكلَ الهجوم المرتد عن طريق إثارة قضيةٍ جديدة. وهذا ما حدث بالفعل. عندما صعِد ثورندايك إلى منصة الشهود وانتهى من الإجراءات الأولية، تركه محامي الدفاع «يتحدث بحريته».
أبدى ثورندايك موافقته وقال المحامي: «أجريتَ تحقيقاتٍ معينةً بشأن القضية، أليس كذلك؟ لن أطرح أسئلة معينة، ولكن سأطلب منك وصْفَ التحقيقات ونتائجها وأن تُخبرنا عن الدوافع التي جعلتْكَ تُجريها.»
ثورندايك: «أتتني القضيةُ بناءً على إخطار من الدكتور جاردين الذي أخبرني بجميع الوقائع التي يعرفها. كانت هذه الوقائع لافتةً للنظر بدرجة كبيرة وتُشير إلى تفسير محتمل لمصدر التسمم عند جمْعها مع بعضها. تضمنت القضيةُ أربعَ نقاط تُثير الدهشة. أولًا: الطبيعة غير العادية للسم. ثانيًا: الحساسية المفرطة غير العادية التي يعانيها السيد برنابي تجاه هذا السم. ثالثًا: حقيقة أن الطعام الذي يحتوي على السم أتى من المصدر نفسه؛ أي أرسله السيد سيريل باركر. رابعًا: كون الطعام من بيض الحمام ولحم الحمام ولحم الأرانب.»
سأل المحامي: «وما اللافت للنظر في ذلك؟»
«اللافت للنظر أن الحمام والأرانب تتمتع بمناعة غير عادية تجاه الأتروبين. معظم الحيوانات والطيور التي تتغذى على الأعشاب يرتفع لديها مستوى المناعة أو يقلُّ تجاه السموم في الخضراوات. تتمتع العديدُ من الحيوانات والطيور بمناعةٍ كبيرةٍ ضد الأتروبين، ولكن الحمام يتمتَّع بمناعةٍ استثنائية بين الطيور، والأرانب تتمتع بأقصى مناعة بين الحيوانات. بإمكان الأرنب تناول جرعة من الأتروبين تساوي ١٠٠ ضعف الجرعة التي تقتل الإنسان من دون أن تضرَّه؛ وعادة ما تتغذى الأرانب بحريتها على أوراق البيلادونا وثمارها أو عنب الثعلب السام.»
سأل المحامي: «هل عنب الثعلب السام يحتوي على الأتروبين؟»
«نعم، الأتروبين من العناصر النشطة في نبات البيلادونا ومن المكونات التي تجعله سمِّيًّا.»
«لو تغذَّى حيوان مثل الأرنب على نبات عنب الثعلب، فهل يُصبح لحمُه سامًّا؟»
«نعم، هناك حالات تسمم من أكل لحم الأرانب — سجلتها فيرث آند بنتلي — على سبيل المثال.»
«وهل تظن أن السمَّ في الحالة التي بين أيدينا كان في الحمام والأرانب نفسَيهما؟»
«نعم، كانت صدفةً مدهشة أن يحدث التسمم بعد تناول هذين الحيوانين اللذين يتمتعان بمناعة استثنائية، ولكن كان هناك سببٌ آخر لربط حالة التسمم بهما. كانت الأعراض متناسبة تناسبًا صادمًا مع كمية السم المحتملة في كل حالة. وبالتالي كانت الأعراض خفيفة بعد تناول بيض الحمام، ولكن لا يمكن لبيض الحمام المسمم أن يحملَ سوى كمية ضئيلة من السمِّ. بعد تناول الحمام، ارتفعت حدةُ الأعراض كثيرًا؛ لأن لحم الحمام الذي تغذَّى على البيلادونا يمكن أن يحتويَ على كمية أتروبين أكبر من الكمية المحتملة في البيضة. وأخيرًا، بعد تناول الأرنب، أصبحت الأعراضُ مرعبةً إلى حدٍّ بعيد، ولكن الأرنب يتمتع بأعلى مستوى من المناعة وغالبًا تناول كمياتٍ كبيرة من أوراق البيلادونا.»
«هل اتخذتَ أيَّ إجراءات لاختبار نظريتك؟»
«نعم، يوم الاثنين الماضي، ذهبت إلى إلثام وتأكدت من أن السيد سيريل باركر يعيش هناك، واستعرضتُ المنشآت من الخارج. في نهاية الحديقة، يوجد حقل صغير محاط بجدار. اقتربت نحو الحقل عبر مرج ونظرتُ من فوق الجدار؛ ومن ثَم رأيتُ أن الحظيرة مزودة بمنازل للطيور الصغيرة وأبراج للحمام وأقفاص للأرانب. كلُّ هذه المساكن كانت مفتوحة وكانت الطيور والحيوانات تتجوَّل في الحقل الصغير. في أحد جوانب الحظيرة، وبالقرب من الجدار، يوجد كمية كبيرة من نباتات عنب الثعلب السامة التي تتجاوز طولَ الجدار بالكامل ويبلغ عرض مساحة الأرض التي تنبت عليها ياردتين. وفي جزء من هذا السياج الدائري المجهز بشبكة سلكية، يوجد خمسة أرانب في منتصف النضوج. كانت هناك سلةٌ تحتوي على كمية من أوراق الكرنب وغيرها من أوراق النباتات الخضراء. ولكن لما شاهدتُ المكان، رأيت أرانب صغيرة تلعب بحريتها على نباتات عنب الثعلب وبدا أنها تفضِّلُها على الغذاء الذي يُقدَّم لها.
في اليوم التالي، ذهبت إلى إلثام مرة أخرى وأخذتُ معي مساعدًا كي يحمل الأرنب الصغير في سلة صغيرة. راقبنا الحقل الصغير إلى أن أصبح المكان خاليًا. ثم قفز مساعدي من فوق السور وسرق أرنبًا صغيرًا من داخل السياج الدائري وسلَّمه لي. بعد ذلك أخذ الأرنب من السلة التي معنا وأسقطه داخل السياج. وبمجرد أن خرجنا من المرج، ذبحنا الأرنب كي نمنعَ أيَّ زوال محتمل للسم الذي قد يكون ابتلعه. عند الوصول إلى لندن، أخذتُ الأرنب الميت على الفور إلى المختبر الكيميائي بمستشفى سانت مارجريت وبحضور الدكتور وودفورد — الأستاذ الدكتور في الكيمياء — سلختُه وجهزتُه وأزلتُ الأحشاء وكأنه سيُطهى. عندئذٍ فصلتُ العظم عن اللحم وسلمتُ الأرنب إلى الدكتور وودفورد في حضوري؛ ومن ثَم أجرى عليه اختبارًا كيميائيًّا شاملًا للتحقُّق من وجود الأتروبين. خرجت نتيجةُ الاختبار بوجود الأتروبين في جميع العضلات؛ وبإجراء اختبار كمي، ووجدنا أن العضلات بمفردها تحتوي على ما لا يقل عن ٠٫٩٣ قمحة.»
سأل المحامي: «هل هذه الجرعة سامة؟»
«نعم، هذه الجرعة سامة للرجل العادي. وفي حالة شخص يعاني حساسية مفرطة مثل السيد برنابي، فبالتأكيد ستكون جرعة قاتلة.»
بذلك اختتم ثورندايك شهادتَه. لم يستجوب القاضي ثورندايك ولم يطرح عليه أسئلة. عندما نُوديَ على الدكتور وودفورد وأدلى بشهادته التأكيدية، تقدَّم محامي زوجة برنابي لمخاطبة هيئة المحكمة، ولكن قاطعه القاضي.
قال: «في الحقيقة لا يوجد قضية كي نناقشَها. ما أدلى به الشهود الخبراء يوضح تمامًا أن السمَّ كان موجودًا بالفعل في الطعام عندما وصل إلى أيدي المتهمة؛ وبالتالي تسقط عنها تهمةُ دسِّ السمِّ ولا بد من إخلاء سبيلها. أنا متأكد من أن الجميع سيتعاطف مع هذه السيدة القليلة الحظ التي وقعت ضحيةً لهذه الظروف غير العادية كما سيبتهجون مثلي عند سبْر أغوار اللغز. وعليه أحكم بإخلاء سبيلها.»
كانت لحظةً درامية عندما خرجت زوجةُ برنابي من قفص الاتهام وسط تصفيق الحاضرين وشبكتْ يدها في يد زوجها الممتدة والمبسوطة إليها ولكن لمَّا لم يتمالكَا نفسَيهما بعد هذا الخلاص المفاجئ، حسبتُ أنه من الأفضل ألا أتباطأَ في الانطلاق مع ثورندايك ولكن بعد أن أقدِّمَ لهما التهاني. غير أنه كانت هناك واقعةٌ سعيدة شهدتُها قبل أن أذهب وهي أنه لما كان الدكتور جيم يقف بعيدًا ويبدو عليه الحرج بعض الشيء، جرتْ إليه زوجةُ برنابي ومدَّت يدَها كي تصافحَه.
قال بنبرة خشنة: «أظن يا مارجريت أنكِ تعتقدين أني وغدٌ كبير؟»
ردَّت: «في الحقيقة لا، تصرفتَ كما يجب وأحترم فيك هذه الشجاعة المعنوية. ولا تنسَ يا جيم أن تصرُّفَك أنقذ حياة فرانك. ولولاك لما وصلنا إلى الدكتور ثورندايك ولولا الدكتور ثورندايك لكان هناك أرنبٌ مسموم آخر.»
ونحن خارجون من المحكمة، سألتُ ثورندايك: «ما قولك في هذه القضية؟ هل تظن أن التسمم كان حادثًا عرضيًّا؟»
هزَّ ثورندايك رأسه وردَّ قائلًا: «لا يا جاردين. توجد العديد من المصادفات. تلاحظ أن الحيوانات التي تحمل السمَّ لم تظهر إلا بعدما علم السيد باركر منك أن برنابي يعاني حساسية مفرطة تجاه الأتروبين ومن الممكن أن يتسمم بجرعة طبية عادية. ثم إن إرسال الحيوانات حية يبدو أنه إجراء احترازي لإبعاد الشكوك عن نفسه وللتشويش على القضية. وكذلك السياج الدائري ونباتات البيلادونا لها مظهرٌ يُثير الشكوك، والنباتات نفسها لم تكن كثيرة كثرة غير عادية، بل إن الكثير منها كان صغيرًا جدًّا ويبدو وكأنه مزروع. إضافة إلى ذلك، عرفتُ مصادفةً أن شركة باركر نشرت كتابًا عن السموم منذ عام واحد فقط وورد في الكتاب مناعة الحمام والأرانب ومن المحتمل أن باركر قرأه.»
«هل تظن إذن أنه تعمَّد جعْل زوجة برنابي — المرأة التي كان واقعًا في حبها — تذوق مرارة جريمته؟ لا أكاد أصدق هذه الخسة والنذالة.»
ردَّ: «لا أظن، أحسب أن الأرنب الذي أمسكته أو واحدًا آخر كان سيُرسَل إلى برنابي في غضون عدة أيام. كانت الطاهية ستجهزه له وبالتأكيد كانت ستذبحه، وذبحه سيكون دليلًا على براءة زوجة برنابي. كانت ستحوم الشكوك حول الطاهية، ولكن لا أظن أنه سيُتَّخَذ أيُّ إجراء ضده، فمن المؤكد عمليًّا أنه لا يوجد قاضٍ يُدينه بناءً على شهادة مني.»
كان ثورندايك محقًّا في رأيه. لم تُتَّخذ إجراءاتٌ ضد باركر، ولكنه لم يدخل إلى بيت برنابي مرة أخرى.