(١) تمهيد
ليست الصوفية باستثناءٍ للقاعدة العامة التي تَقضي بضرورةِ وضْعِ تأثيرِ الاستعمار
الأوروبي في الاعتبار عند فهْمِ أيِّ جانبٍ من جوانب التاريخ الإسلامي الحديث. ففي حين
شهد النصف الثاني من القرن الثامن عشر وقوعَ أعداد كبيرة من المسلمين تحت السيطرة
الأوروبية في شبه جزيرة القرم والبنغال في حالة الإمبراطورية الروسية، و«إمبراطورية
الشركة» المُتمثِّلة في شركة الهند الشرقية البريطانية، فإنَّ القرن التاسع عشر شهد
أكبرَ توسُّعٍ أوروبي في المناطق الإسلامية. ومن المُهمِّ إدراك نطاق هذه
التطورات.
1 فتَحْتَ أسماءٍ إدارية مختلفة، تضمَّنَ الاستعمارُ البريطاني الاستحواذَ
التدريجي على ما يُعرَف اليومَ بالهند وباكستان وبنجلاديش، وماليزيا وسنغافورة،
ونيجيريا والسودان والصومال، وزنجبار وكينيا، وأوغندا وجنوب أفريقيا، ومصر، ولفترةٍ
أقصرَ فلسطين والأردن. وتحتَ أسماءٍ متنوِّعة مماثِلة، تضمَّنَ الاستعمارُ الفرنسي
الاستحواذَ على الجزائر وتونس والمغرب، والسنغال وموريتانيا ومالي، وتشاد والنيجر،
ولفترةٍ أقصرَ سوريا ولبنان. وتضمَّنَ الاستعمارُ الهولندي غزْوَ أَرْخَبيلِ الجزر
الشاسع الذي يضم إندونيسيا حاليًّا. وتضمَّنَ الاستعمارُ الروسي غزْوَ شبهِ جزيرة القرم
ومناطق الفولجا، والقوقاز (لا سيما الشيشان)، والتوسُّعَ الهائل في وسط آسيا فيما
يشكِّل الآن جمهوريات كازاخستان، وتركمانستان، وأوزبكستان. علاوةً على ذلك، عاشت أعدادٌ
أصغر من المسلمين تحت الحكم النمساوي المجَري في البلقان، وتحت الحكم الإسباني في شمال
وغرب أفريقيا، بينما شهد التوسُّع الغربي لإمبراطورية تشينج في وسط آسيا حكمَ أسرةِ هان
الصينية للمسلمين في المنطقة التي ظلَّت حتى يومنا الحاضر منطقةَ سنجان أويغور ذات
الحكم الذاتي، التي يسيطر عليها الصينيون. وفي عشرينيات القرن العشرين، كانت أفغانستان
وإيران والدولتان القوميتان الجديدتان المتمثِّلتان في تركيا والسعودية، هي المناطق
الكبيرة الوحيدة التي نجَتْ من الحكم الاستعماري، وإنْ كانت القوة الأوروبية فيها أيضًا
محسوسةً بقوة، وإنْ كان على نحوٍ غير مباشِر.
في الفصل الثالث رأينا كيف كانت الصوفية عند تكوين الدول الجديدة والأوسع نطاقًا في
أوائل العصر الحديث كامنةً في عدة مستويات في الحياة الاجتماعية والسياسية. وهذا
الإسلام الصوفي الذي لم يكن ظاهرةً «تصوُّفية» محدودةَ النِّطاق، أصبَحَ من الناحية
المؤسَّسية والعقائدية أساسَ المجال الإمبراطوري والزراعي والتجاري والبيروقراطي بجانب
الديني. ورأينا أيضًا كيف أنه بعدَ قرنين من الألفية الإسلامية الجديدة في عام ١٥٩١
انتشرَتْ حملةُ تصحيحٍ تُطالِب بالتجديد الديني، استُخدِمت فيها السُّنَّة النبوية
والشريعة لمواجَهةِ عمليةِ التنويع التي حدثت في القرون السابقة. في بعض الحالات (كما
في حالة الإمبراطورية العثمانية)، حدَثَ انتشارُ هذه الصوفية الأكثر التزامًا بالشريعة
داخل إطار مؤسَّسات الدولة القائمة، بينما في حالات أخرى (مثل حالة أفريقيا جنوب
الصحراء الكبرى)، أسهمت هذه الصوفية في تكوين دولٍ حدودية جديدة. ولم يُسفِر تدهورُ أو
انهيارُ الكثير من تلك الدول، وحلولُ الإمبراطوريات الأوروبية المُمتدة عبر مناطق
إقليمية متعدِّدة محلَّها؛ عن تقليل النفوذ الصوفي على نحوٍ فوري، بل على النقيض من
ذلك، كانت التغيُّرات في السلطة مصحوبةً بإعادةِ توزيعِ الموارد، وتكوينِ تحالُفات
جديدة؛ حيث سعَتِ القوى الجديدة، سواء الاستعمارية أو المحلية، إلى كسب الشرعية النابعة
من التعاون مع وَرَثة النبي الصوفيِّين. وفي فترةٍ شهدت تغيُّراتٍ اجتماعيةً وسياسية
سريعة، اكتسبَتِ استمراريةُ التقليد الذي يمثِّله الصوفيون رأسمالًا رمزيًّا أكبر
قدرًا. وحتى عندما بدأ العلم الحديث يهدِّد مزاعمَ صحةِ أنماط المعرفة الإسلامية
والمسيحية القديمة، كان يوجد الكثير من الصوفيين الذين رأوا فرصًا في التقنية العملية
للعلوم الجديدة. وفي مثالَيْن من أبرز الأمثلة على ذلك، أدَّى ظهور الطباعة في العالَم
الإسلامي منذ عشرينيات القرن التاسع عشر، والتوسُّع في السَّفَر منذ خمسينيات القرن
التاسع عشر عن طريق السفن والقطارات التي تعمل بالمحرِّكات البخارية؛ إلى وصول الصوفيين
إلى جماهير جديدة في أمريكا الشمالية وأوروبا، بالإضافة إلى مناطقهم القديمة.
على الرغم من ذلك، كانت توجد على المدى الطويل عدةُ نتائج للتغيُّرات الاجتماعية
والسياسية الهائلة التي صاحَبَت الاستعمارَ التدريجي لمُعظم أجزاء العالَم الإسلامي.
لقد كان الاستعمار مشروعًا خطابيًّا إلى جانبِ كونه مشروعًا مؤسسيًّا؛ ومن ثَمَّ
تضمَّنَ مواجَهةً عنيفة مع أشكال المعرفة المحلية التي قابَلَها الأوروبيون. ولم تكن
أشكال المعرفة الصوفية — بما في ذلك أُسُسها المعرفية القائمة على الرؤى والطقوس
والوساطات — استثناءً في هذا الشأن. وفي هذا السياق الاستعماري صاغ الإنجليز لأول مرة
المُقابلَ الإنجليزي لمصطلح «صوفية»، وذلك عندما زاد تفاعُل الأوروبيين مع المسلمين في
أماكن مثل البنغال.
2 في البداية كانت التعريفات والصفات التي أُعزِيَت لهذا المصطلح إيجابيةً؛
وذلك بين وَرَثة التنوير المتحمِّسين أمثال السير ويليام جونز (١٧٤٦–١٧٩٤)، ويوهان
فولفجانج فون جوته (١٧٤٩–١٨٣٢)؛ حيث كان يُعتبَر الصوفيون واحديِّين مُتسامحين لديهم
ذوق رفيع في الشعر والموسيقى والخمر.
3 وحتى المسيحيُّون الإنجيليُّون أمثال المبجَّل هنري مارتن (١٧٨١–١٨١٢) —
الذي يُعدُّ أولَ المبشِّرين في إيران — رأوا الصوفيين بطريقةٍ إيجابية؛ إذ اعتبروهم
متنوِّرين على نحوٍ كافٍ، يجعل تحوُّلَهم إلى المسيحية ممكنًا. إلا أنه مع توسُّع
الاستعمار مع مرور القرن التاسع عشر، أصبح من المُحتمَل وجود التفاعُلات الأوروبية مع
الصوفيين في ساحة المعارك، مثلما من المحتمَل وجودها على صفحات الشعر الفارسي؛ ونتيجةً
لذلك، اكتسب مصطلح «الصوفية» — وبصفة خاصة المصطلحات المُقترَضة الدالة على المُنتسِبين
لها مثل «فقير»، و«درويش» و«مرابط» و«مريد»، التي دخلَتْ لغاتٍ مثل الإنجليزية
والفرنسية والروسية — دلالاتٍ سلبيةً تمثَّلت في التعصُّب والاحتيال.
4 وعلى الرغم من ذلك، حتى في أوج العصر الاستعماري لم تكن التوجُّهات
الأوروبية تجاه الصوفية سلبيةً على نحوٍ موحَّد، وفي أواخر القرن التاسع عشر، أسفَرَت
الاختلافاتُ بين مختلِف الأوروبيِّين حول الإسلام عن خلْقِ تعريفٍ للصوفية استمرَّ حتى
يومنا الحاضر. والسببُ في ذلك يرجع إلى أنه بينما نظر السَّوَادُ الأعظم من ممثِّلي
الاستعمارِ إلى المسلمين كمُتعصِّبين، استخدَمَ الجناحُ الأكثر ليبراليةً — المتمثِّل
في مفكِّري أواخر العصر الفيكتوري والعصر الإدواردي — خطابَ التصوُّف الجديد الرائج
لتصوير الصوفيين على أنهم المقابل الإسلامي لحكماء اليوجا والبوذية الأكثر مُسالَمةً.
وبهذا الأسلوب، سلَّطَ هؤلاء الباحثون الاستعماريون المُتعاطِفون الاهتمامَ على الأمور
محلَّ المقارَنة والعامة، بدلًا من التركيز على الأمور السياقية والخاصة. بالإضافة إلى
ذلك، سعوا في ظل البيئة الجدلية المناهِضة للإسلام التي كانوا يَكتبون فيها إلى إثارةِ
التعاطف مع المسلمين من خلال تهميش الأبعاد الإسلامية في الصوفية على نحوٍ يَنطوي على
التناقض، وهذا التركيز على الجانب التصوفي والمُتسامِي في الصوفية تضمَّنَ أيضًا تهميشَ
الطقوس والمؤسسات الصوفية التي بدتْ «مرتبطةً بالخرافات» أو «باباوية» على نحوٍ
مُستهجَن في عين البروتستانت أو غيرهم من الأوروبيين المناهِضين للمؤسَّسات الدينية.
وعلى نحوٍ يَنطوي على مفارَقة، كانت العوامل التي همَّشَها هؤلاء المدافعون عن الصوفية
بنِيَّةٍ حسنةٍ لجعل الصوفية أكثر استحسانًا لدى الجمهور الأوروبي والأمريكي، هي نفسها
بالضبط تلك التي أبرزها في الوقت نفسه المُصلِحون المسلمون المناهِضون للصوفية كأسبابٍ
تدفع المسلمين أنفسَهم للتخلِّي عن التقليد الصوفي. والسببُ في ذلك هو أنه في بداية
القرن العشرين وجَدَ كلٌّ من البُعْد المنتقد للصوفية والبُعْد المدافع عنها في التصور
الاستعماري للصوفية صداه بين المصلحين المناهضين للصوفية من ناحيةٍ، وبين المجدِّدين
الصوفيين المحدِّثين من ناحيةٍ أخرى.
إذا كانت الفرص التي جاءت مع التعاون الاستعماري والتقنيات الصناعية تُشير إلى ضرورة
عدم اعتبارِ أن الصوفيين هم الخاسِرون الواضحون في عصر الاستعمار والحداثة، فإنهم
بالتأكيد ليسوا الجماعة الإسلامية الوحيدة التي انتهَزت الفرصَ التي قدَّمتها الظروف
الجديدة. فالنسق الذي بدأ كإصلاحٍ صوفيٍّ فقهيِّ التوجُّه في أوائل العصر الحديث نأى
بنفسه تدريجيًّا مع مرور القرن التاسع عشر عن أصوله الصوفية تحت ضغوط الاستعمار، وأصبح
حركةَ إصلاحٍ مناهِضةً بشدة للصوفية، قدَّمت الصوفيين على أنهم العقبة الأساسية في
سبيلِ تجديدِ الإيمان وليسوا الوسيلةَ له.
5 وتزايَدَ الهجومُ القديم على البِدَع في أواخر القرن التاسع عشر ليتحوَّل
إلى مطالَبةٍ بإصلاح كامل للإيمان، وكان هذا إلى حدٍّ ما استجابةً لقراءةٍ دينية
للتاريخ رأت أنَّ الاستعمار وانهيار القوة الإسلامية عقابٌ على الانحراف عن طريق
الإسلام الحق. وفي كثير من الحالات السابقة كان قادةُ حركات الإصلاح هذه هم أنفسهم من
الصوفيون، وكانت وسائلهم التنظيمية هي الطرق الصوفية، واعتمادًا على تطوُّرات القرن
الثامن عشر من خلال مزايا السفر بوسائل النقل البخارية، أصبحَتْ بعض هذه الطرق
الإصلاحية عالميةَ النطاق حقًّا؛ فربطَتْ أفريقيا وشبه الجزيرة العربية وجنوب شرق آسيا
وأوروبا داخلَ إطارِ سيرةِ أفراد منفردين.
6
ونظرًا لأن الأنماط الاستعمارية المتغيرة للتجارة العالمية خلقَت حالاتِ تدهورٍ
مقابلةً في المناطق الخارجة عن السيطرة الاستعمارية، أو نظرًا لأنَّ ظروف الحكم
الاستعماري عزَّزت التحرُّرَ من سطوة القادة الصوفيين المتمرِّسين؛ تمكَّنت الطرقُ
الإصلاحية من الاستفادة من المُطالَبة الجديدة بالتغيير الديني، مع التعهد في الوقت
نفسه بتقديم النسخة الأصلية من التقليد الصوفي.
7 على الرغم من ذلك، وبالنظر في التجربة التاريخية المتمثِّلة في انهيار
القوة الإسلامية، فإنه في أوائل القرن العشرين اتخذ المتحدِّثون الرسميون للحركات
الإصلاحية الأخرى، والأكثر نجاحًا في نهاية المطاف، خطوةً كارثية تتمثَّل في ترك
التقليد الصوفي بالكامل. ونظرًا للخلفية الصوفية لكل كبار مؤسسي حركات الإصلاح
المناهِضة للصوفية، يُمكن الزعم بأن الطرق الإصلاحية التي ظهَرت في القرن التاسع عشر
كانت بمنزلةِ حصانِ طروادة، الذي سمحَ بتفريغ الصوفية تدريجيًّا من الداخل؛ ففي فترةٍ
شهدَتْ ظهورَ الحركات «الأصولية» في عدد من أديان العالم، زعمَتْ حركاتُ التجديد التي
ظهرت في مناطقَ إسلاميةٍ مختلفة أنَّ العودةَ إلى أُسُس الإسلام المتمثِّلة في الكتاب
والسُّنَّة تتطلَّب التخلُّصَ من كلِّ ما يقف بين المسلم المعاصر وبين القرآن والحديث.
ونظرًا لأن الصوفية هي مجموع الطقوس والتأمُّلات والمؤسَّسات التي تكوَّنت أثناء هذه
القرون المتخللة — أيْ أنها تقليد — فقد كانت الضحيةَ المطلوبةَ للعودة الإصلاحية
المباشِرة هذه إلى الأصول.
وجد هذا الرفضُ للتقليد مؤيدين كُثُر، خاصةً بين الطبقة الوسطى من الحضريين
والمتعلِّمين الذين مقتوا ما اعتبروه أبَّهةً وامتيازاتٍ وفتورًا وكسلًا من جانب
الصوفيين الذين عاشوا معتمدين على الشحاذة في الشوارع أو على المعاشات في عزبهم. وفي
أوائل القرن العشرين، كانت تحوُّلات الحداثة تخلق سكانًا مسلمين جددًا، إما معزولين عن
المؤسسات الصوفية القديمة المتمثِّلة في الأضرحة والطرق، وإما غير مرتبطين بها. وعن
طريق المدارس الحديثة والأفكار العلمية، كانت تَنتشر أيضًا بين المسلمين المؤسساتُ
وأنواعُ المعرفة الجديدة التي تجاهَلَتِ الصوفيين أو تحدَّت الأُسُس المعرفية
لتعاليمهم، وكان هذا راجعًا جزئيًّا إلى تأثير الاستعمار. وبالنسبة إلى كثير من
المسلمين الذين نشئوا في هذه الظروف الجديدة مَثَّل الصوفيون نوعًا من الإسلام غير
مناسب، إنْ لم يكن زائفًا. ومع ظهور الحركات القومية المناهِضة للاستعمار عزَّز قرْبُ
كثيرٍ من الصوفيين البارزين من القوى الاستعمارية أو من النخب غير المؤتمنة في المناطق
الإسلامية القليلة المستقلَّة؛ الأبعادَ المناهِضة للصوفية، المُميِّزة لهذا النوع من
التديُّن المتحرِّر من الوهم.
على الرغم من ذلك، لم يكن هذا المسار المألوف بعض الشيء للحداثة المناهِضة للتصوُّف
سوى جزءٍ من القصة، وعلى الرغم من التوقُّعات العلمانية لمُنظِّري الحداثة في مُنتصف
القرن العشرين، فإنَّ الصوفية لم تختفِ في النصف الثاني من القرن في أعقاب نهاية
الاستعمار؛ فعن طريق الحوار الجدلي للصوفيِّين مع مُنتقِديهم الإصلاحيِّين والحداثيين
ظهرت أيضًا حركةٌ مناهِضة للإصلاح، حاوَلَتْ إصلاحَ أو تحديثَ الصوفية بدورها. وفي
حالات كثيرة، اختار المُنتسبون لهذه الحركات المناهِضة للإصلاح عدمَ وصفِ أنفسهم
بالصوفيين المنتمين للطرق الصوفية، بل وصفوا أنفسهم — كما هو الحال مع الحركة البريلوية
البالغة النجاح في الهند وباكستان — بالمسلمين المُلتزمين المنتمين إلى «أهل السُّنَّة
والجماعة»، الذين تعلَّموا في المدارس بدلًا من المساكن الصوفية المميزة.
8 ومن ثَمَّ عند تتبُّع الوَرَثة المعاصرين للتقليد الصوفي الذي يعود لقرون
طويلة، يجب أن نضع في اعتبارنا أن كثيرًا من هؤلاء الوَرَثة اختاروا عدمَ وصْف أنفسهم
ﺑ
«الصوفيين». ومع تحوُّل العصر الاستعماري إلى عصرِ عولمة ما بعد استعماري، لم تَبْقَ
فقط المؤسساتُ الصوفية القديمة التي قاوَمَتْ عواصفَ القرنين الماضيين من خلال
التحالُفات الذكية والاستثمارات المُربِحة، بل ظهرت أيضًا في كاليفورنيا وكذلك في
القاهرة أشكالٌ جديدة من الصوفية راقَتْ للاحتياجات والأذواق الحديثة، وكان من السمات
الجذَّابة الضرورية لهذه الصوفية الجديدة تقديمُها في صورةٍ جديدة كممارَسة «تصوُّفية»
صرفة، متمثِّلة في مجموعةِ أساليبَ يحقِّق الفردُ من خلالها التواصُلَ الشخصي مع الله،
دون المُشتِّتات المتمثِّلة في الطقوس والمعتقدات؛ ومن ثَمَّ فإن هذه الصوفية المعزولة
عن السياسة وعن جذورها الأصلية، والتي أصبحت تصوُّفًا صرفًا من خلال قَطْع علاقاتها
بطوائف تبجيل الأولياء القائمة على الخرافة والدول الراعية «الفاسدة»، كانت نفسها
نتيجةً لعملية تاريخية متمثِّلة في الاستمرارية التراكمية للتقليد، التي طالها الرفض
في
النهاية هي وتأثير الأيديولوجيات الحديثة مِن قِبَل النقد الاستعماري والإصلاح
الإسلامي. وكما سنرى في الصفحات المقبلة، فإنه فيما يتعلق برفض الصوفية وإعادة
اختراعها، كان ظهور كلٍّ منهما في القرنين التاسع عشر والعشرين ردًّا على التجربة
التاريخية في الفترة المُعاصرة والسابقة له.
(٣) تراجُع المؤسسة الصوفية: ما وراء نطاق الاستعمار، من عام ١٨٠٠ تقريبًا إلى عام
١٩٥٠
على الرغم من التأثير الهائل للاستعمار على كلٍّ من الصوفيين ومنافِسيهم أثناءَ القرن
التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، فإننا يجب أن نحذر المبالغة في المدى
العالَمي للقوة الاستعمارية؛ ففي جبال بامير الشاهقة البعيدة، التي توجد على أطراف
الحكم الروسي، عاش الشاعر الصوفي مبارك الوخاني (تقريبًا ١٨٤٠–١٩٠٣) في عزلة، لدرجةِ
أنه اخترع عودًا ضخمًا يشبه آلة الرباب مكوَّنًا من تسعة عشر وترًا ليُصاحِبه في غناء
قصائده، واضطر إلى صنعِ آلةٍ لتصنيع الورق كي يَكتُب قصائدَه عليه. لقد كان الاستعمار
الروسي بعيدًا كل البُعْد عن تفكيره، وتظهر معاناتُه في أبياتٍ مثل: «أحاسيسي وأفكاري
متعلِّقتان بالورق.»
73 وعلى الرغم من أن أعضاء الطرق الصوفية الذين عقدوا تحالُفات مع الحكَّام
الاستعماريِّين كانوا بالتأكيد تحت مراقَبة سلطات الاستعمار، فإن هذا لم يمنع الصوفيين
في نهاية المطاف من الاستفادة من شبكات السَّفَر الجديدة، التي اعتمد عليها أيضًا
الحكمُ والتجارةُ الأوروبيَّان؛ فافتتاحُ طرُقٍ عبر إقليمية مكَّنَ المسلمين في المناطق
البعيدة من التواصُل حول العالَم بعضهم مع بعض بمزيدٍ من السهولة والانتظام.
74
في بعض الحالات، ساعدت البِنْيةُ التحتية الجديدة هذه، المتمثِّلة في طرق السَّفَر،
في تأسيس طرقٍ صوفية جديدة نَشِطة، ونَشْرها سريعًا من المناطق الإسلامية التي كانت
نائيةً في السابق. وفي حالة الطريقة الرشيدية الأحمدية، نجد أن الشيخ السوداني إبراهيم
الرشيد (١٨١٣–١٨٧٤) جدَّد التقليد الذي ورثه عن شيوخه، من خلال طريقةٍ جديدة سرعان ما
انتشرت في شبه الجزيرة العربية وسوريا ومصر والسودان وليبيا وغرب أفريقيا ودول الملايو
وبورنيو وسنغافورة، وفي نهاية المطاف تايلاند وكامبوديا.
75 وإلى حدٍّ ما كان هذا الانتشار الهائل ناجمًا عن توفُّر آلات الطباعة، التي
من خلالها أصبح من الممكن طباعة كتبِ الطرق الجديدة بأعداد كبيرة لتوزيعها على نطاق
عالَمي. وفي الغالب كانت توجد تلك المطابع في مراكز النقْل الرئيسية، مثل إسطنبول أو
بومباي أو سنغافورة، وكانت الكتب تُوزَّع في مقاصد الحج العالَمية مثل مكة.
76 تُظهِر تلك التحرُّكات عبر المناطق الواقعة تحت الاستعمار أن الصوفية
قدَّمت أشكالًا من الإلهام والتنظيم قويةً على نحوٍ كافٍ لمقاوَمة الضغوط الاستعمارية،
ولعل الأهمَّ من هذا الانتشار لطرق جديدة عبر المناطق الواقعة تحت الاستعمار أن أجزاءً
من العالَم الإسلامي ظلَّتْ بمنأًى عن الاستعمار الأوروبي. فمِن المُهمِّ أن نقارن ما
رأيناه من التجربة الاستعمارية بمصائر الصوفيين في تلك المناطق غير الخاضعة للاستعمار؛
ذلك لأنه بالنظر إلى تاريخ الصوفيين في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في
الإمبراطورية العثمانية وإيران وأفغانستان، نجد أنه توجد عدة أنماط عامة تُشبه سياساتِ
الدول الاستعمارية من أوجه معيَّنة. وهذا بدوره يُشير إلى ضرورةِ وضعِ السيناريوهات
الاستعمارية التي تناولناها في إطار الأنماط التاريخية الأطول أجلًا، المُتعلِّقة
بالتفاعُل بين الصوفيين أصحابِ النفوذ القوي والقُوى الدولية، سواء أكانت قوًى
«استعمارية» أم قوًى «محلية».
من بين أهم المناطق الإسلامية التي لم تطُلْها يد الاستعمار إلا بعد الحرب العالمية
الأولى، ظلَّت الإمبراطورية العثمانية، التي بدأت أراضيها في التضاؤل وإنْ ظلَّت
مساحتها شاسعةً بالرغم من ذلك، تمثِّل ساحةً مهمة للصوفيين، وكانت أيضًا من المناطق
التي تشابَهَت فيها تفاعلاتُ الصوفيين مع الدولة وتفاعلاتُهم في المناطق الواقعة تحت
سيطرة الاستعمار. كان الحدَثُ الصوفي الأهم في أوائل القرن التاسع عشر هو الإلغاء
الرسمي للطريقة الصوفية البكتاشية عام ١٨٢٦، بالإضافة إلى فرقة الإنكشارية العسكرية،
التي لطالَما كانت قاعدةَ الدعم الأساسية لها على مدارِ ما يزيد عن ثلاثة
قرون،
77 وجاء في صيغة «الفرمان» الذي أعلنت فيه الإمبراطوريةُ العثمانية الإلغاءَ
المشترك ما يلي: «الأولى عدو للدولة، والأخرى عدو للدين.»
78 ونظرًا لأن طقوس البكتاشية لطالَما ضمَّت ممارساتٍ مشبوهة مثل شرب الخمر،
فإن قرار الإلغاء يمكن أن يُعتبَر — إلى حدٍّ ما — جزءًا من التوجُّه الطويل الأمد، الذي
يهدف إلى ترويج أشكال الصوفية الأكثر التزامًا بالشريعة، ويؤكِّد وجهةَ النظر تلك
تزامُنُ سقوطِ البكتاشية مع الظهور السريع للفرع المُلتزم بالشريعة الجديد من الطريقة
النقشبندية المجدِّدية، التي أسَّسها الصوفي الكردي الرحَّالة الشيخ خالد النقشبندي
(المتوفَّى عام ١٨٢٧) في أوساط النخبة العثمانية.
79 وكانت العوامل السياسية المتعلقة بتغيُّر المكانة هذا، ما بين البكتاشية
والنقشبندية المُجدِّدية، متعلِّقةً بحملات الغزو الاستعماري التي رأينا أنها أدَّتْ
إلى زيادةِ مكانةِ الطرق الصوفية الملتزِمة بالشريعة في شمال الهند والجزائر والقوقاز
في العقد نفسه؛ ذلك أن ما أدَّى مباشَرةً إلى قمع البكتاشية كان اندلاعَ الثورة
اليونانية عام ١٨٢١، ومجموعةَ الهزائم التالية التي لحقَتْ بالجيوش العثمانية، التي
انتهَتْ باستقلال اليونان بعد ذلك بعقد. ونظرًا لأن أجزاءً من اليونان كانت تحت السيطرة
العثمانية لما يزيد عن أربعة قرون، فقد أثارت الخسارةُ المفاجِئة للأجزاء الغربية من
الإمبراطورية العثمانية غضبًا عارمًا، ليس فقط على الجيوش، بل على التردِّي الأخلاقي
الذي اعتقد الكثيرون أنه أضعَفَ الإمبراطوريةَ من الداخل. وبسبب طقوسِ البكتاشيين
المُرِيبة، وثرائِهم المؤسَّسي، وعلاقاتِهم بصفوة جنود الإمبراطورية العثمانية، فقد
كانوا أهدافًا واضحة للسخط الشعبي، ولسخط البلاط الإمبراطوري أيضًا، وبالإضافة إلى ذلك،
منَحَ القضاءُ على البكتاشية الفرصةَ للدولة للاستيلاء على الأملاك الوقفية العديدة
التي جمعَتْها الطريقةُ على مدار قرون.
80 وفي محاكاةٍ عثمانية لردودِ الأفعال تجاه التوسُّع الأوروبي في المناطق
الإسلامية الأخرى، شهدت العقودُ التالية ظهورَ صوفيِّين أدانوا علنًا التدني الأخلاقي
للبكتاشية، كان أبرزَهم أعضاءُ طريقةِ النقشبندية المُجدِّدية التي أسَّسها الشيخ خالد
النقشبندي. وحتى سبعينيات القرن التاسع عشر، ظل وَرَثة الشيخ خالد النقشبندي يتقلَّدون
منصبَ «شيخ الإسلام» الذي يُعدُّ أعلى منصب ديني في البيروقراطية الإمبراطورية،
بالإضافة إلى تقلُّد مناصب الوعَّاظ في أكبر مساجد إسطنبول.
81
في خمسينيات القرن التاسع عشر ساعدت أزمةٌ عثمانية أخرى — حربُ القرم في هذه المرة
—
في ظهورِ جماعةٍ إصلاحية أخرى لم تجد حتى أن الصوفيين الملتزمين بالشريعة يُقدِّمون
حلًّا كافيًا لها في مواجَهة الانتصارات الأوروبية التي أتاحها العلم.
82 إلا أن الازدهار الوجيز لمصلِحِي تلك «التنظيمات»، الذي حدث ما بين عام
١٨٣٩ وعام ١٨٧٦، لا يدلُّ على الإطلاق على انتهاءِ النفوذ الصوفي في الأراضي العثمانية؛
إذ إن الهزيمة التي ألحَقَها الروس بالعثمانيين في الفترة ما بين عامَيْ ١٨٧٧ و١٨٧٨
سحبَتِ البساط من تحت أقدام مُصلِحي التنظيمات أيضًا، مما أدَّى إلى الحكْم الرجعي
للسلطان عبد الحميد الثاني (١٨٧٦–١٩٠٩). وبعد الإصلاحات الدستورية في العقود السابقة،
دفعَتْ حاجةُ السلطان عبد الحميد الثاني إلى الشرعية، أثناءَ محاوَلةِ احتكارِ السلطة
في يدَيْه بصفته السلطانَ، إلى طلب المساعدة من الصوفيين، وكان أبو الهدى الصيادي
(١٨٥٠–١٩١٠) شيخُ الطريقة الرفاعية رئيسَ مَراسِم سياسةِ إضفاءِ الشرعية هذه، من خلال
رعاية المؤسسات الإسلامية الصوفية القديمة. وقد أشرَفَ الصيادي على عمليةِ حشدٍ بالغةِ
الكفاءة للصوفيِّين من خلال «سياسة الدمج»، وفيها تمكَّنَ السلطان عبد الحميد الثاني
من
الاعتماد على التطورات الدينية المركزية التي انتهجَتْها الإمبراطورية العثمانية في
السابق، والتي تناولناها في الفصل الثالث.
83 وبالإشراف على ما يمكن أن نطلق عليه «مجلسًا استشاريًّا» — الذي كان
مؤلَّفًا من ثلاثة شيوخٍ صوفيين آخَرين، تربطهم علاقاتٌ بشمال أفريقيا وجنوب الهند —
نظَّم الصيادي مشروعًا دعائيًّا عابرًا للقوميات، قُدِّم فيه السلطانُ عبد الحميد
الثاني في صورةِ خليفةِ كلِّ مسلمي العالَم، أو قائدهم.
84
وكان يوسف النبهاني (١٨٥٠–١٩٣٢) الصوفي الفلسطيني التابع للطريقة القادرية من
الشخصيات البارزة الأخرى في هذا التجديد للتحالُف القديم بين الصوفيين والحكَّام؛ حيث
تدرَّجَ سريعًا في مناصب الخدمة القضائية العثمانية في ثمانينيات القرن التاسع عشر،
بعدَ أنْ قضى عامين في القضاء في إسطنبول.
85 ومن منصبه في بيروت كتب أعمالًا دعائية تحتفي بإنجازاتِ السلطان وتُدافِع
عن أهدافه الاستبدادية، وتهاجِم في الوقت نفسه المناهِضين للصوفية ومُناصِري الحداثة،
واصفًا إياهم بمِعْوَل أوروبا الذي سوف يُضعِف الأُسسَ الإسلامية للمجتمع العثماني. وفي
سلسلةٍ من الأعمال الجدلية، هاجَمَ قادةَ الفكر في حركة الإصلاح السلفية الناشئة
المناهِضة للصوفية، ووصَف جمالَ الدين الأفغاني بأنه «مُرتَد»، ومحمد عبده بأنه
«شيطان»، ومحمد رشيد رضا بأنه «شرير»،
86 إلا أن النبهاني لم يكن ألعوبةً بيدِ سلطانٍ حكْمُه غير مستقر، ومن خلال
مطبوعاته الكثيرة صاغ استجابةً محافظةً لكنْ مُتماسِكة للتغيُّرات الاجتماعية والدينية
التي صاحبَتْ تقلُّصَ الإمبراطورية العثمانية. وفي حين كان يرى الإصلاحيون أمثالُ عبده
أن الاستجابةَ المناسبة لهذه الظروف هي ترْكُ التقليد الصوفي، من خلال «الاجتهاد»
وتقديم تفسيرٍ جديد كامل للنصوص المقدسة التي تمثِّل أُسُس الإسلام؛ كان يرى النبهاني
أن «إعادة فتح أبواب التفسير» في هذه الأوقات العصيبة يُعدُّ أخطرَ من أي وقتٍ
مضى.
ولم يكن النبهاني فقط هو الذي تبنَّى هذا الموقف؛ ففي العديد من المدن الإقليمية
في
كل أنحاء مُلكِ عبد الحميد الثاني كانت توجد كتلةٌ محافظةٌ أكبرُ من الصوفيين
العثمانيين المتأخِّرين، المدعومين بالتعيينات الحكومية أو بالمعاشات المالية، والذين
لم يكن التقليد بالنسبة إليهم مجردَ أمرٍ واقع يُدافِعون عنه بكلِّ غالٍ ونفيس، بل كان
مجموعةَ مواردَ عقائديةٍ ومؤسَّسيةٍ يُمكن أن تواجِه تحديات العصر الحديث وكذلك تعاليم
الحداثيين. لكن لم يَحُلْ هذا التوجُّهُ المحافظ دونَ حدوثِ تطورات جديدة؛ فمنذ
ثمانينيات القرن التاسع عشر في دمشق، كان أتباع الثائر الجزائري السابق المنفي عبد
القادر الجزائري مضطلعين بإحياء الاهتمامات الأدبية والتاريخية التي ستُسفِر في النهاية
عن «النهضة» العربية.
87 أما على صعيد الحركة السلفية التي ظهرت في سوريا ومصر العثمانيتين، في
بداية القرن العشرين تقريبًا، فكان ثمة رجالٌ — مثل محمد عبده (١٨٤٩–١٩٠٥) الذي كان من
طنطا، وأتباع عبد القادر الجزائري في دمشق — أداروا ظهورَهم لنشأتهم الصوفية عندما
نضجوا، مفضِّلين إسلامًا عقلانيًّا رفضوا فيه الطقوسَ والمعجزات الصوفية؛ لأنها غير
متوافِقة مع عالَم المعرفة العلمية الحديث، الذي يجب أن يكون فيه الدين قائمًا على
تفسيراتٍ عقلانيةٍ للنص، وليس على قبولِ تقليدٍ محرَّف.
88 وكان التحوُّل السريع من الإسلام الصوفي إلى الإسلام السلفي في مناطق كثيرة
من العالَم (لا سيما الشرق الأوسط)، من أكبر التغيُّرات الاجتماعية والدينية في التاريخ
الإسلامي الحديث.
وبقدومِ الجيل الثاني من السلفيِّين، أصبحت الشخصيات السلفية البارزة أمثال محمد
رشيد
رضا (١٨٦٥–١٩٣٥) منذ أوائل القرن العشرين أكثر ضراوةً في إدانةِ الفساد وفرطِ التمجيد
في الذات والفسْقِ لدى الصوفيِّين العثمانيين، وفي واحدةٍ من أكثر المقالات المنشورة
تأثيرًا، وصَف رضا الشهوانيةَ المنحَطَّة في أحد العروض الصوفية، فقال عنهم: «غلمان
مُرْدٌ حِسَان … يَلْبسون ملابسَ ناصعةَ البياض كملابس العرائس، ويرقصون بها على نغمات
الناي المثيرة للمشاعر.»
89 ومن المراكز الرئيسية للسلفيين في الشرق الأوسط، نشروا نقْدَهم المناهِض
للصوفيين في كل الأنحاء، من خلال أسفارِ تلاميذهم وإصدارِ صحفٍ مثل صحيفة
«المنار».
90 وبسبب أن تلك الحِقبة قد تميَّزت بالصراع الشديد، فعندما كانت الغلَبة
للإصلاحيين من خلال ثورة تركيا الفتاة عام ١٩٠٨، اعتبروا الصوفيين أكثر من أي وقت مضى
أعداءً للتقدُّم يَخدمون مصالحهم فحسب، ومدمِّرين لتعاليم النبي الصحيحة؛ لذا في عام
١٩٠٩ طُرِد النبهاني من منصبه القضائي. على الرغم من ذلك، فإن القومي التركي المتحمِّس
بشدة للحداثة ضياء جوك ألب (١٨٧٦–١٩٢٤) استطاع أن يرى أن الأبعاد الفكرية وكذلك
الاجتماعية للصوفية تمثِّل أصولًا قيِّمة، زاعمًا أن تعاليم ابن عربي (المتوفَّى عام
١٢٤٠) سبقَتْ فلسفةَ بيركلي وكانط ونيتشه،
91 وبحلول عام ١٩١٨ كان كل شيخ صوفي في إسطنبول قد تلقَّى نموذجًا مطبوعًا
يُطالِبه بذِكْر مؤهلاته، وتاريخه الوظيفي، وعدد الأتباع والبيعات.
92 وعندما سقطت الإمبراطورية العثمانية رسميًّا عام ١٩٢٢، كنتيجة للقتال في
الصف الخاسر في الحرب العالمية الأولى، أخذ مؤسِّس الجمهورية التركية مصطفى كمال
أتاتورك (١٨٨١–١٩٣٨) في النهايةِ الخطوةَ الجذرية التي تمثَّلت في حظْرِ الطرق الصوفية
عام ١٩٢٥ حظرًا كاملًا.
93 وعلى الرغم من أن كثيرًا من الصوفيين قبلوا نظام الحكم الجديد، فقد تحدَّى
غيرهم أتاتورك وجمهوريتَه العلمانية الجديدة، من خلال رفْضِ تقلُّدِ الوظائف الحكومية
وممارَسةِ طقوسهم سرًّا في منازلهم. وكان أحد هؤلاء الصوفيين الشيخ سعيد البالوي، الذي
قاد تمرُّدَ قبائل الزازا الكردية قبل أن يُلقَى القبض عليه ويُعدَم عام ١٩٢٥ إثرَ
ذلك.
94 لكنْ بالرغم من الدفاع القوي عن علمانية الجمهورية التركية، فإن اختفاء
الصوفية من الحياة العامة في ذروة العصر الجمهوري لم يُسفِر على الإطلاق عن انتهاءِ
التأثير الصوفي في الحياة التركية.
بالعودة إلى إيران، رأينا في الفصل الثالث كيف أدَّى ظهورُ طبقةِ رجالِ الدين الشيعة
في الإمبراطورية الصفوية إلى قمع الصوفيين في إيران في نهاية المطاف، وبالرغم من ذلك،
شهدت السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر عودةَ وَرَثةِ الطريقة النعمتلاهية من الهند
إلى إيران، وكانت تلك الطريقة قد انتشرت في السابق من إيران في القرن السادس عشر إلى
السلطنة البهمنية في جنوب الهند،
95 ومن خلال الشيوخ الرحَّالة أمثال نور علي شاه (المتوفَّى عام ١٧٩٧)
وأتباعهم في الجيل التالي، أشرَفَ هؤلاء الصوفيون المهاجرون على حدوثِ إحياءٍ صوفي كبير
في إيران، ولفعْلِ ذلك، اقترحوا عقيدةً جذَّابة تَرتكِز على تجاربِ النشوة القائمة على
مشاعرَ رفيعةٍ مثل «الحب»، و«العشق»، و«الود»، و«الهوى»، يُمكن استحضارها بغناء قصائد
الحب الفارسية القديمة التي كتبها الرومي وبابا طاهر بمصاحَبة الموسيقى.
96 وبلغَتْ جاذبيةُ الصوفيين مبلغًا كبيرًا، لدرجةِ أنهم في ثلاثينيات القرن
التاسع عشر اكتسبوا أتباعًا من المجتمع اليهودي في مدينة مشهد، وهناك استخدم الحاخامات
اليهود الأفكارَ الصوفية في تفسيراتهم للتوراة، ومن خلال رؤى أبي القاسم القشيري
(المتوفَّى عام ١٠٧٤) ابتدعوا روابطَ مُتخيَّلةً مع التقليد الصوفي الخاص بفترة العصور
الوسطى في منطقة خراسان المجاورة.
97
على الرغم من أن الإحيائيِّين الصوفيين في إيران قُوبِلوا بمعارَضةٍ شديدة من المؤسسة
الدينية الشيعية، مما أدَّى إلى إعدام العديد من «المبشِّرين» بالطريقة النعمتلاهية،
فقد وجد الصوفيون دعمًا كافيًا من التجار الأثرياء؛ بحيث انتشروا سريعًا عبر المدن
التجارية داخل إيران. وبحلول منتصف القرن التاسع عشر، وجد الصوفيون الدعمَ أيضًا من
البلاط الملكي الإيراني، وبصفةٍ خاصة من خلالِ تقلُّدِ الصوفي المنتمي إلى الطريقة
النعمتلاهية حاج ميرزا أقاسي (١٧٨٣–١٨٤٨) منصبَ الصدر الأعظم في عهد الحاكم القاجاري
محمد شاه (الذي حكم من عام ١٨٣٤ إلى عام ١٨٤٨)، وتحت رعاية أقاسي حدَثَ ترميمٌ وتوسيعٌ
للأضرحة المُتداعِية المُقامة لكبار الصوفيين في إيران في فترة العصور الوسطى — أمثال
أبي يَزيد البسطامي وشاه نعمة الله ولي — بالإضافة إلى منح الصوفيين معاشات أو تمليكهم
للأراضي.
98 ومن خلال عقد هذه التحالفات الاستراتيجية مع السلالة القاجارية الجديدة،
المُنحدِرة من القبائل التركمانية السابقة، التي لم تكن مختلفة تمامًا عن القوى
الاستعمارية في فقدان الشرعية، استعاد أبناءُ الطريقة النعمتلاهية للصوفيين حصةً في
المجتمع الإيراني لم يتحصَّلوا عليها منذ مائتَيْ سنة. ومع مرور القرن، تمسَّكَ
الصوفيون بهذه المكانة المستعادة من خلال الحفاظ على علاقاتهم بالتجار الإيرانيين،
وبصفةٍ خاصة مجتمع التجار الإيرانيين الثري، الذي ظهر في بومباي المستعمَرة.
99 وعلى غرار القرون السابقة، فقد استغلَّ الصوفيون الشبكاتِ العالميةَ
الدولية لتجاوُزِ سيطرةِ القوى الوطنية.
ومن ثَمَّ أسفرَتِ التغيُّرات في المناطق الاستعمارية عن نتائجَ غيرِ مباشِرةٍ تصبُّ
في صالح الصوفيين الموجودين في مناطق خارج السيطرة الاستعمارية، وكانت تلك النتائج في
بعض الحالات تصبُّ في صالحِ جماعاتٍ صوفية معينة؛ فبعدَ أن نشأ الصوفي الإيراني البارز
صافي علي شاه (المتوفَّى عام ١٨٩٩) التابع للطريقة النعمتلاهية في أصفهان، أطلق حياته
المهنية من خلال فترة إقامته في بومباي، التي اكتسب منها دعْمَ التجار الإيرانيين في
الشتات هناك، وكذلك طبَعَ فيها قصيدتَه الواقعة في كتابٍ بعنوان «زبدة الأسرار»، التي
رسَّختْ سمعتَه لدى عودته إلى الوطن.
100 وفي عصر الطباعة الجديد مثَّلت أشعارُ صافي علي شاه استيلاءً على التقليد
الصوفي القديم وامتدادًا له، من خلال المحاكاة المتعمَّدة لأسلوبِ أشعارِ العظيم جلال
الدين الرومي التي تعود لفترة العصور الوسطى.
101 إلا أنه بعدَ شهورٍ من وفاة صافي علي شاه عام ١٨٩٩، تحوَّلَتْ طريقته إلى
منظمةٍ تميل إلى الحداثة على نحوٍ متعمَّد، تُعرَف باسم «أنجمان أخوت» (أيْ جمعية
الأخوة)، مزجت التقليدَ الصوفي بالتصوف المأخوذ من الماسونية.
102 ومن خلال حفلات العشاء الخيري التي كانت تقيمها تلك الجمعية، ومن خلال
وسائل الحداثة الأخرى مثل المجلات والأكاديميات الفلسفية، نجد أن الصوفيين الإيرانيين
في أوائل القرن العشرين ربطوا أنفسَهم في عصر الحداثة بطموحاتِ نُخبةٍ قومية جديدة. وعن
طريق توجيهِ إرثهم المتمثِّل في الكتابة بالفارسية وفقًا للأيديولوجية الجديدة
المتمثِّلة في القومية الإيرانية، وعن طريق تعديل الدور الصوفي القديم المُتمثِّل في
الوعظ الأخلاقي لمُواجَهةِ مخاوفِ العصر الحديث المُتعلِّقة بتعاطي المخدرات وحقوق
المرأة؛ ظلَّ الشيوخ الصوفيون في إيران حتى الثورة الإسلامية عام ١٩٧٩ يجدون الرعايةَ
لدى أعلى المستويات في الدولة، بما في ذلك الإمبراطورة فرح ديبا.
103
وفي الوقت نفسه، في جنوب آسيا وآسيا الوسطى، أدَّى بقاءُ الولايات الأميرية والدول
«الحاجزة» على أطراف الهند البريطانية إلى استمرار التحالُفات القديمة بين الحكام
المسلمين والمؤسسة الصوفية في القرن العشرين أيضًا، ونجد أنه في حيدر أباد (وهي ولاية
أميرية هندية في حجم فرنسا تقريبًا) أدَّى وجودُ طبقةٍ مسلمة حاكمة إلى استمرارِ تقديمٍ
الرعاية للأنشطة الصوفية، خاصةً أثناء حكم نظامِ محبوب علي خان (الذي حكم من عام ١٨٦٩
إلى عام ١٩١١)، الذي أدَّى كرمُه إلى استضافةِ حيدر أباد لصوفيين من أماكن بعيدة عن
سواحل الهند. وفي ظل الحماية من التغيير الذي أحدَثَه الاستعمار في النظام الاجتماعي،
أكمَلَ الصوفيون في حيدر أباد تقليدَهم الأدبي القديم من خلال كتابة كتب طبقات مثل
«مشكاة النبوة» المكتوب بالعربية، للمؤلِّف غلام علي قادري (المتوفَّى عام ١٨٤٢)، الذي
ربط الصوفيين الأحياء في حيدر أباد بالأولياء القدماء في خراسان وبغداد من خلال سلاسل
الانتساب.
104 وعندما تسلَّلت حركاتُ الإصلاح المناهِضة للصوفية السائدة في الهند
البريطانية عبر الحدود إلى حيدر أباد، استطاع صوفيو حيدر أباد كما في حالةِ معين الله
شاه (المتوفَّى عام ١٩٢٦)، بمساعَدةِ أصحابِ المصانع المحليين، تكييفَ أنفسهم مع مفهوم
الإصلاح الجديد وتمرير تعاليمهم، حتى بعد اندماج حيدر أباد عام ١٩٤٨ في الهند
المستقلة.
105
في أفغانستان الواقعة شمال غربي الهند البريطانية، كان الحكَّام الأفغان المناصِرون
للحداثة يجاهدون في أوائل القرن العشرين لتأكيد سلطتهم الهشَّة على القبائل الجامحة
ورجال الدِّين المعارِضين، ممَّا دفعهم إلى عقد اتفاقٍ مُشابه مع الصوفيين
البارزين.
106 وفي منطقةٍ كان فيها الولاء القبَليُّ للأسلاف من الأولياء الصوفيين أقوى
من الولاء لملكٍ بعيد يقيم في كابُل، وجد حكَّامُ أفغانستان المركزيون في أوائل القرن
العشرين أنه من الحكمة استخدامُ الصوفيين كجُسورٍ للوصول إلى رعاياهم
المُمانِعين.
107 وفي عام ١٩١٩، تضمَّن هذا السعي الملكيُّ إلى السلطة أيضًا إعلانَ الجهاد
على الإمبراطورية البريطانية، التي كانت في أعقاب الحرب العالمية الأولى أضعفَ من أن
تَرُدَّ ردًّا كاملًا. وعندما أعلَنَ الملكُ أمان الله (الذي حكم من عام ١٩١٩ إلى عام
١٩٢٩) رسميًّا هذا الجهادَ غيرَ المحتمل بعدَ صراعٍ عائلي على السلطة أعقَبَ اغتيالَ
أبيه الحاكم، حرصَ على وقوف الشيخ النقشبندي الجليل شاه أغا (المتوفَّى عام ١٩٢٥) إلى
جانبه قبل أن يَبعث هذا الشيخَ وأخاه شير أغا بصحبةِ قواته إلى المعركة،
108 ومقابل ما قدَّمه الأخوان من دعمٍ، حصَلا على أراضٍ كبيرة في ضواحي كابُل،
وألقابٍ شَرَفية مثل «شمس المشايخ»، وعندما أُطِيح بالملك أمان الله في انقلابٍ، عيَّنَ
خلفُه نادر شاه (الذي حكم من عام ١٩٢٩ إلى عام ١٩٣٣) شير أغا رئيسًا للَّجنة القومية
لعلماء الدين الجديدة، وأرسَلَ أخاه الصوفيَّ الثالثَ جول أغا سفيرًا لمصر.
109 وعلى الرغم من أن النفوذ الصوفي كان لا يزال كبيرًا في ثلاثينيات القرن
العشرين، فقد شهدت العقود التالية تراجُعَ النفوذ الصوفي في أفغانستان؛ فكما هو الحال
في مناطق أخرى، فضَّلَ آخِر الملوك الأفغان زاهر شاه (الذي حكم من عام ١٩٣٣ إلى عام
١٩٧٣) الحداثةَ العلمانية على التحالُف مع الأولياء الأحياء، وفي الوقت نفسه بدأ
المُفكِّرون في الطبقة الوسطى الأفغانية الصغيرة يتأثَّرون بالأفكار الشيوعية القادمة
من آسيا الوسطى السوفييتية المُجاورة؛ ومن ثَمَّ اعتبروا الصوفيين عُملاء للملوك،
وبالرغم من ذلك كانت الصوفية لا تزال راسخةً على نحوٍ كافٍ في النظام الاجتماعي الأوسع
نطاقًا، لدرجةٍ جعلت تحجيمَ النفوذ الصوفي أجندةً للمُصلِحين الأفغان الدينيين
والعلمانيين على السواء،
110 إلا أنَّ الريف الجبَليَّ الأفغاني ظلَّ محتفظًا بكثيرٍ من سمات الأشكال
الإقليمية المحلية من التقليد الصوفي التي كانت اختفَت في ذلك الوقت، في ظلِّ ضغوطِ
التحديث أو الإصلاح التي أعادَتْ تشكيلَ البلدان الإسلامية الأخرى في القرن
العشرين.
111 وفي مدينة تاشقرغان (المعروفة أيضًا باسم خُلم) الواقعة في شمال أفغانستان،
بقيَتْ أشكالٌ محلية من التقليد الصوفي توارثَتْها الأجيال عبر كتيبات باللغتين
الفارسية والأوزبكية، ربطت النجَّارين والدبَّاغين وغيرهم من الحِرَفيِّين بطقوسِ
وسلالاتِ أولياء معينين، وربطت صُنَّاع الحلوى ببابا فريد كنج شكر، ابن مدينة
ملتان.
112