القسم الثالث
نذكر هنا تراجم أشهر العلماء الذين وجدنا سيرتهم كما وعدنا في خطبة تاريخنا، ثم نذكر من الأولياء ترجمة الصوفي، وجملة صغيرة عن الروبي، ونبقي ذكر بقية الأولياء إلى القسم الرابع، حيث نذكر أشهر الأضرحة؛ وذلك لأننا لم نقف على تراجمهم، ثم نذكر بعض النثر والنظم مما يختص بالفيوم.
العالم ابن سعيد الفيومي
ذكر المقريزي في خططه عند الكلام على تاريخ اليهود وأعيادهم أسماء جماعة من علماء اليهود منهم العالم ابن سعيد الفيومي، وهو على ما ذُكر في كتاب الفهرست لأبي الفرج كان من علماء اليهود وأفاضلهم المتمكنين من اللغة العبرانية، وتزعم اليهود أنها لم ترَ مثله، واسمه سعيد الفيومي ويقال سعد، وله من الكتب كتاب المبادي، وكتاب الشرائع، وكتاب تفسير أشعيا، وكتاب تفسير التوراة نسقًا بلا شرح، وكتاب الأمثال وهو عشر مقالات، وكتاب تفسير أحكام داود، وكتاب تفسير النكت وهو تفسير زبور داود — عليه السلام — وكتاب تفسير السفر الثالث من النصف الآخر من التوراة مشروح، وكتاب تفسير كتاب أيوب، وكتاب إقامة الصلوات والشرائع، وكتاب العبور وهو التاريخ.
العالم الشيخ شعبان الفيومي
هو الفاضل الشيخ شعبان الفيومي الأزهري الشافعي الإمام الفقيه المتضلع بالعلوم الشرعية، شيخ الأزهر، ما قرأ عليه أحد إلا انتفع به وحصلت له بركته. وُلد بالفيوم سنة خمسة عشر وألف هجرية تقريبًا، وحفظ القرآن، ودخل إلى مصر وأخذ عمن بها من أكابر العلماء كالشهاب القليوبي، والشمس الشوبري، وكان ملازمًا لهما سنين عديدة، وكان يستغرق أوقاته في إقراء العلم والتدريس في العلوم النافعة، وكان يقرأ عليه كل يوم ما ينيِّف عن مئة طالب، وله في كل يوم ثلاثة دروس حافلة: واحد بعد الفجر إلى قرب طلوع الشمس، والثاني بعد الظهر، والثالث بعد العصر، وهذا دأبه دائمًا، وكان يجتمع فيها من طلبة العلم خلق كثير، وكان محافظًا على الجلوس في الأزهر لا يخرج منه إلا لحاجة، وكان يستحضر كتب الفقه المتداولة بين المصريين، وتخرج به كثير من العلماء، منهم العلَّامة منصور الطوخي، وإبراهيم البرماوي، وعطية الشورى، وغيرهم.
وكان قليل الكلام، كثير الاحتشام، لا يتردد إلى أحد، معظَّمًا عند العلماء، مشهورًا بالورع، وكان إذا قرأ القرآن يكاد يغيب عن حواسه، وكان كثير الدعاء لمن يقرأ عليه، ولا يُسمع منه كلام إلا في تقرير مسائل العلم، وكان إذا مر في السوق يمر مسرعًا مطرق الرأس. وله كرامات ظاهرة، منها أن رجلًا تسلط عليه فكان إذا مر مطرقًا يحاكيه ويتمثل به ويطرق رأسه مثله، فأتى إليه ذات يوم وهو مطرق ففعل مثله وأطرق رأسه فلم يقدر على رفعه ولا تحريكه يمينًا ولا شمالًا، ثم أتى إليه واعتذر وتاب فعفا عنه ودعا له فعافاه الله تعالى ببركته، ومنها الاستقامة في جميع الأحوال التي هي أوفى كرامة. توفي بمصر في جماد الأول سنة خمس وسبعين وألف، ودُفن بتربة المجاورين، رحمه الله!
العالم الشيخ عبد البر الفيومي
هو عبد البر بن عبد القادر بن محمود بن أحمد بن زين الفيومي العوفي الحنفي، أحد أدباء الزمان الموفقين وفضلائه البارعين، كان كثير الفضل، جم الفائدة، شاعرًا مطبوعًا، مقتدرًا على الشعر، قريب المأخذ، سهل اللفظ، حسن الإبداع للمعاني، مخالطًا لكبار العلماء والأدباء، معدودًا من جملتهم، أخذ العلم بمصر عن الشيخ أحمد الوارشي الصديقي، والأدب عن الشيخ محمد الحموي، والقراءات عن الشيخ عبد الرحمن اليمني، وفارق وطنه فحج أولًا وأخذ بمكة عن ابن علان الصديقي، وكتب له إجازة مؤرَّخة بأواخر ذي الحجة سنة اثنين وأربعين وألف، ثم دخل دمشق وحلب في سنة ثمان وأربعين، وأخذ بحلب عن النجم الحلفاوي الأنصاري، ولزمه للقراءة عليه في شرح الدرر في الفقه مع حاشية الواني، وشرح ابن ملك على المنار مع حواشيه الثلاث لعزمي زاده، وقرأ كمال والرضا ابن الحنبلي الحلبي، وشرح الجامي مع حاشيته لعبد الغفور، ومختصر المعاني مع حاشيته للخطائي. ثم خرج إلى الروم فورد مورد العلَّامة أبي السعود الشعراني وقرأ عنده جامع الأصول للربيع اليمني، وهو في تحرير الأحاديث، وشرح الهمزية لابن حجر بتمامه، ونصف سيرة الخميس أو قريبًا منه، وجانبًا من فتاوى قاضي خان، وبعض فرائض السراجية، وكثيرًا من مباحث التفسير، وأجازه، ولزم الشهاب الخفاجي فقرأ عليه بعض شرح المفتاح للتفتازاني، وبعض شرح نفسه على الشفا، وكتب له خطه على هامش الكتابين.
ولما ولي قضاء مصر استصحبه معه إلى صلة رحمه، واستنابه بين بابي الفتح والنصر، وصيَّره معيدًا لدرسه في حاشيته على تفسير البيضاوي وفي شرح صحيح مسلم للنووي، وأخذ بالروم عن المولى يوسف بن أبي الفتح الدمشقي إمام السلطان، وولى من المناصب إفتاء الشافعية بالقدس مع المدرسة الصلاحية، ودخل دمشق وأقام بها في حجرة بجامع المرادية نحو سنتين، ولم يقدر على الدخول إلى القدس خوفًا من الشيخ عمر بن أبي اللطف مفتي الشافعية قِبلهم، ثم لما مات الشيخ عمر ترحل إليها، ومكث بها أيامًا، ولما لم ينل حظه من أهلها ترك الفتوى والتدريس ورأى المصلحة في الرجوع إلى الروم، فانتقل إليها وأقام بها مدة، ثم انتظم في سلك الموالي، فولي بعض مناصب، ومات وهو معزول. وله تآليف كثيرة حسنة الوضع، أشهرها كتاب «منتزه العيون والألباب في بعض المتأخرين من أهل الآداب»، جعله على طريقة الريحانة، إلا أنه رتبه على حروف المعجم، وجمع فيه بين شعراء الريحانة وشعراء المدائح الذي ألفه التقي الفارسكوري، وزاد من عنده بعض متقدمين وبعض عصريين، وهو مجموع لطيف، وفيه يقول الأديب يوسف البديعي:
وله حاشية على شرح الهمزية لابن حجر صغيرة الحجم، وكتاب بلوغ الأدب والوسول بالتشرف بذكر نسب الرسول، وكتاب اللطائف المغنية في فضل الحرمين وما حولهما من الأماكن الشريفة، وكتاب حسن الصنيع في علم البديع، وله بديعية على حرف النون وشرحها، ومطلعها:
وله رسالة في التوشيع سماها إرشاد المطيع، ورسالة سماها مشكاة الاستنارة في معنى حديث الاستخارة، ورسالة في القلم، وأخرى في السيف، وله شعر كثير غالبه مسبوك في قالب الإجادة وعليه رونق الانسجام والبلاغة، فمن ذلك قوله:
ومن لطائف شعره قوله في الغزل:
الأول ساء بالهمز مقصور للشعر، ولمى أي للريق فاعل، وإساءته منعه لورَّاده، والثاني ماضٍ والألف للتثنية، والثالث أمر الاثنين، والرابع من الإسالة والماء قُصر للضرورة، والخامس من السؤال سُهِّلت الهمزة ضرورة، وما سؤال على سبيل تجاهل العارف.
وله قصيدة ميمية عارض بها ميمية شيخ الإسلام أبي السعود العمادي التي مطلعها:
ومطلع قصيدته هو هذا:
وهي طويلة تنيِّف على ثمانين بيتًا، وقد تضمنت حكمًا كثيرة، ولولا طولها لذكرتها كلها، وقد ختم كتابه المنتزه بها، ولم يذكر بعدها إلا تاريخ ابتداء إنشائه لهذا الكتاب، وهو يوم الخميس سادس عشر صفر سنة خمس وخمسين، وتاريخ الفراغ من تبييضه كله وهو يوم الأحد الحادي والعشرين من المحرم سنة ستين وألف، وكانت وفاته سنة إحدى وسبعين وألف بقسطنطينية.
العالم أحمد بن أحمد العطشي الفيومي
هو الإمام الفاضل أحمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عامر الفيومي الشافعي، كان من أحد المتصدرين بجامع ابن طيلون، وكان له معرفة في الفقه والمعقول والأدب، وكان يخبر عن نفسه أنه يحفظ اثني عشر ألف بيت من شواهد العربية وغيرها، أخذ عن الأشياخ المتقدمين، وكان إنسانًا حسنًا، منوَّر الوجه والشيبة، مات في سادس جمادى الثانية عن نيف وثمانين سنة بعد المئة والألف.
العالم الشيخ إبراهيم الفيومي
هو الإمام المحدث الشيخ إبراهيم بن موسى الفيومي المالكي، شيخ الجامع الأزهر، تفقه على الشيخ محمد بن عبد الله الخرشي، قرأ عليه الرسالة وشرحها، وكان معيدًا له، وتلبس بالمشيخة بعد موت الشيخ محمد شنن، ومولده سنة اثنتين وستين وألف، وأخذ عن الشبراملسي والزرقاني والشهاب أحمد البشبيشي والجزائرلي الحنفي، وأخذ الحديث عن الشيخ يحيى الشاوي وعبد القادر الواطي، وعبد الرحمن الأجهوري، وإبراهيم البرماوي وآخرين، وله شرح على العزية في مجلدين. توفي سنة سبع وثلاثين ومئة وألف عن خمس وسبعين سنة.
العالم الشيخ سليمان الفيومي
هو الأستاذ الشيخ سليمان الفيومي المالكي، حفظ القرآن وجاور برواق الفيمة بالأزهر، ولازم الشيخ الصعيدي في أول مجاورته، فكان يمشي خلف حمار الشيخ وعليه درَّاعة من صوف وشملة صفراء، ثم حضر دروسه ودروس الشيخ الدردير واختلط مع المنشدين، وكان صوته حسنًا، وكان يذهب معهم إلى بيوت الأعيان في الليالي، وينشد معهم ويقرأ الأعشار فيعجبون منه، ويكرمونه زيادة على غيره، ثم اجتمع على بعض الأمراء المعروفين بالبرقوقية من ذرية السلطان برقوق، وكانوا نظارًا على أوقاف السلطان المذكور، فراج أمره، وكثرت معارفه بالأَغَوات الطَّواشيِّة، فتوصل بهم إلى نساء الأمراء، وصار له زيادة قبول عندهن وعند أزواجهن، وصار يتوكل لهم في القضايا والدعاوى، وتجمل بالملابس وركب البغال.
وتزوج بامرأة بناحية قنطرة الأمير حسين، وسكن بدارها، وماتت وهي على ذمته فورثها، ثم لما مات الشيخ محمد العقاد تعين لمشيخة رواق الفيمة، وبنى له محمد بك المعروف بالمبدول دارًا عظيمة بحارة عابدين، فاشتُهر ذكره وعلا شأنه وطار صيته، وسافر في بعض مقتضيات الأمراء إلى دار السلطنة، ثم عاد إلى مصر فأقبلت عليه الهدايا من الأمراء والأعيان والأغوات والحريمات، واعتنَوْا بشأنه، وزوَّجته الست زليخا زوجة إبراهيم بك الكبير بنت عبد الله الرومي، فتصرف في أوقاف أبيها، وكان من ضمنها عزب البر تجاه رشيد فاشتُهر بالبلاد البحرية والقبلية.
وكان كريم النفس جدًّا يجود بما عنده مع حسن المعاشرة والبشاشة والتواضع والمواساة للكبير والصغير والجليل والحقير، وطعامه مبذول للواردين، ومن أتى إلى منزله لحاجة أو زائرًا لا يمكِّنه من الذهاب حتى يتغدى أو يتعشى، وإذا سأله أحد حاجة قضاها كائنة ما كانت، ومما اتفق مرارًا أنه يركب من الصباح في قضاء حوائج الناس فلا يعود إلا بعد العشاء الأخيرة.
ثم حضر حسن باشا الجزائرلي إلى مصر، وارتحل الأمراء المصريون إلى الصعيد، وأحاط بدورهم، وطلب الأموال من نسائهم، وقبض على أولادهم، وأنزلهم في سوق المزاد، فالتجأ إليه الكثير من نساء الأمراء الكبار فأواهن واجتهد بنفسه في حمايتهن والرفق بهن مدة إقامة حسن باشا بمصر، وكذلك في إمارة إسماعيل بك، ثم لما رجع أزواجهن بعد الطاعون إلى إمارتهم ازداد عندهم قبولًا، فكان يدخل بيت الأمير ويطلع محل الحريم ويجلس معهن ويكرمونه، ولم يزل على هذه الحالة إلى أن طرق الفرنسوية البلاد المصرية وأخرجوا منها الأمراء، وخرجت النساء من بيوتهن، وذهبن إليه أفواجًا أفواجًا حتى امتلأت داره وما حولها من الدور، وتصدى وتداخل في الفرنسوية ودافع عنهن، وأقمن بداره شهورًا، وأخذ أمانًا لكثير من الأمراء المصرية وأحضرهم إليها، وأحبته الفرنسوية وقبلت شفاعته، وقررته في رؤساء الديوان الذي رتبوه لإجراء الأحكام بين المسلمين.
ولما نظموا أمور القرى والبلدان المصرية على النسق الذي جعلوه ورتبوا على مشايخ كل بلدة شيخًا ترجع أمور البلد ومشايخها إليه، فجعلوه شيخ المشايخ، وبقي على ذلك إلى أن انفضَّت أيامهم وحضرت العثمانية وهو في عداد العلماء والرءوس، وافر الحرمة، شهير الذكر.
ولما قُتل خليل أفندي الرجاني الدفتردار وكتخداي بك في حادثة مقتل طاهر باشا، التجأ إليه أخو الدفتردار وخازنداره وغيرهم، فواساهم حتى سافروا إلى بلادهم. ولم يزل على شهرته إلى أن توفي في شهر ذي الحجة من سنة أربع وعشرين ومئتين وألف، ودُفن بالمجاورين، رحمه الله تعالى!
عبد الله بك السيد العجماوي
هو العالم الإداري المهندس عبد الله بك السيد الفيومي العجماوي، دخل مدرسة الألسن بالقاهرة تحت نظارة رفاعة بك، وأتقن فنون الإدارة الملكية، وشهد له أقرانه بالألمعية والعرفان، وسافر إلى بلاد فرنسا ليتقن علم الإدارة، فأقام هناك مدة طويلة حتى تمكن غاية التمكن، وحضر إلى مصر بالشهادات الكافية، فتعين أولًا لتدريس علم الإدارة بالمحروسة، ثم توظف بمدرسة المهندسخانة ببولاق، ثم جُعل من أعضاء القومسيون — اللجنة — الذي تشكل في عهد المرحوم عباس باشا للنظر في دعوى أقامها على الحكومة شخص إفرنكي يدعى الخواجه روشتي، تتعلق بمادة احتكار صنف السنامكي، ثم جُعل ناظرًا على قلم التوصيات بالخزينة المصرية، ثم رئيسًا على مجلس التجار بالإسكندرية، ثم توظف في عهد أفندينا الخديو الأسبق إسماعيل باشا بجملة وظائف بالمالية والداخلية، وتصفية القومبانية الزراعية، وأُرسل في مأموريات مهمة إلى بلاد أوربا من طرف الحضرة الخديوية، ثم عُيِّن عضوًا بمحكمة الاستئناف بالإسكندرية.
الشيخ محمد الصوفي رحمه الله
الشيخ العارف بالله تعالى محمد الصوفي، رحمه الله، نزيل مدينة الفيوم، كان رضي الله عنه من أكابر العارفين، يأكل من عمل يده بالحياكة وغيرها، ولا يقبل من أحد شيئًا، وكان يحل مشكلات الشيخ محيي الدين بن العربي بأفصح عبارة، ومن كلامه، رضي الله عنه: «اعلم أن السير في الطريق سيران: سير إلى الله وسير في الله، فما دام السالك في المسالك الفانية التي هي طريق العدم فهو في السير إلى الله، فإذا قطع كرة الوجود صار إلى المعبود، ولم تكن هذه الرتبة إلا من طريق الأسماء، كما أشار إلى ذلك سيدي عمر بن الفارض، رضي الله عنه، بقوله:
ففي البداية أنت أنت والاسم الاسم، وفي وسط الطريق تارة أنت وتارة الاسم، وفي النهاية أنت ولا اسم، فإن التخلق به يظهر فعله على ناسوتك لقوته، فلا يرى منك إلا فعل الاسم، فالمرئي أنت لا الاسم لقصور نظر الرائين، وأما النافذ البصر فهو يعرف قوة الإكسير، يرجع صاحب هذا المقام به من غير مفارقة ولا بعد مسافة ولا قربها»، قال: «وثَمَّ مقام يدخل به العبد إلى حضرة الرب من غير واسطة أسماء»، وأطال في ذلك بكلام يدق على العقول، رضي الله عنه، وكان يقول: «طي المعاني مجال أهل العلم الأكبر، وطي المحسوسات مجال أهل العلم الأصغر»، وكان يقول: «الصفات وإن كانت راجعة لعين واحدة فبعضها متوقف على بعض توقف ظهور لا توقف إيجاد؛ لأنها زمام الباطن من حيث الظاهر، والباطن زمام لها من حيث إن الفيض لها لا يكون إلا منه، وانظر كم شخص يقول لا إله إلا الله فلا يحصل له فتوح أهلها.»
المؤلف: ضريح هذا الولي في الجهة الغربية من المدينة، ويُعمل له في شهر رجب مولد صغير، وله جامع بالقرب منه منفصل عنه.
الشيخ علي الروبي رحمه الله
هو ولي الله الشيخ علي الروبي، تقول العامة عنه: «إنه من نسل روبيل النبي»، ويقول بعضهم: «إنه كان رومي الأصل فأسلم وصار وليًّا، وإنه لم يكن من الفيوم بل من بلاد الروم، وإنه مات هناك فلما خرجوا بجنازته طار من بين أيديهم بنعشه وجاء الفيوم، وإن الناس رأوه طائرًا بنعشه وهو حي قاعد فيه، فقال لهم إنه أتى من بلاد الروم، ثم نزل في مكان دفنه المعلوم الآن»، وهذا بعيد عن الصحة، أما القول الأول فجائز.
ولهذا الولي مولد عظيم هو أكبر موالد الفيوم يستغرق النصف الأول من شهر شعبان، تأتيه الناس من كثير من بلاد القطر، فتزدحم شوارع المدينة وخصوصًا في وسطها حيث مكان الضريح والجامع. ولهذا المولد فائدة في ترويج بعض أصناف التجارة، غير أنه يُعمل به كثير من الموبقات، كما يُعمل في غالب موالد الأولياء في أنحاء القطر المصري، وذلك مثل شرب الخمور جَهَارًا، والحشيش، ورقص العاهرات في وسط حفلات الرجال، والحكومة لا تمنع ذلك، فعساها تحظر على الناس ارتكاب هذه المعاصي! فإن نفس الأولياء ينكرون هذه الأمور ويحرمونها.
الفصل الأدبي من القسم الثالث
نثبت في هذا الفصل بعض النَّظْم والنثر من المحرَّرات التي وردت إلينا، أو صدرت منا، أو التي يكون فيها وصف أشياء تختص بالفيوم، وذلك بين سجع وشعر وزجل، وقد قصدنا بذلك تَفْكِهة القارئ لتاريخنا بعبارات أدبية.
فمن ذلك ما كتبه إلينا حضرة صاحب البيان، ورب التبيان، المطاول لسَّحْبان، والمفتخر بمقاله على حسَّان، نابغة هذا الزمان، وعلامة ذوي العرفان، الذي أتى في كلامه بالعَجب العُجاب، فسحر الأذهان وخلب الألباب، وهو الأستاذ الفاضل، والعالم الكامل، الشيخ محمد النجار، أحد أساتذة نظارة المعارف، وصاحب جريدة «الأرغول» الغراء، وذلك من نوع المواليا، قال:
وقد كان كلفني بعمل حُصُر منقوشة بألوان فأرسلتها، فأرسل لي هذا الزجل الآتي، قال:
وبلغه أنني عاتب عليه في أمر بلغني عنه، فأرسل لي هذه القصيدة الحسناء، قال حفظه الله:
وقال حضرة الأديب الأريب محمود أفندي زكي ياسين، يصف بعض أشياء من الفيوم بهذا الزجل الرقيق، وهو:
المطلع
دور
دور
دور
دور
دور
دور
دور
دور
دور
دور
دور
دور
والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، إنني لفي شوق لمشاهدة بدر طلعتك، ونور بهجتك، فكلما تخيلته بهرني لامعه، وأدهشني عن النظر إليه ساطعه، وعهدي بك في التحرير، أن لا تحتاج إلى تذكير؛ لأنه مني بمنزلة الشفاء من العليل، والإرواء من ذي الغليل، وأن تمدني منه بمداد؛ لأنه من فؤادي بمكان السويداء، ومن عيني بمكان السواد، وأن لا تضن بكثيره، فضلًا عن يسيره. فلم تغيرت أيها الجليل، على علمك أن إبراهيم خليل؟ فإن كان لتقصير فما قولك في من أناب؟ أو لذنب فكيف تكون مقابلتك لمن تاب؟ وإن كان عفوًا، فأستمنحك عفوًا على قبول هذا العتاب، ومقارنته بالجواب، وإلا فلا تبرأ علة السقيم. ولا تبرد نار إبراهيم.
لبيك أيها الخاطر، ولك العذر، فقد أضناك الجفا، وأحرقك الولوع، وأغرقتك المدامع، وإن للمحبة لسرائر يكتمها الجهر، ويكتبها هذا الأخرس الناطق، الذي تدعوه إلى مراسلة من هو أصل هذا الشجن، وباعث ذاك الأسى، وسبب هذه الشكوى، وداعي تلك الهواجس، فتضم على لظى الوجد سعيرًا، وتزيد فوق أسطر الدمع سطورًا، وماذا يضرك لو عاملته بالنظير وإنه بديع أفاضل الكتاب من أمثاله، وطريق أوائل الأشراف من أصحابه وآله. فإن أبيت إلا ما رأيت، فهذا كتابي إليه وسلامي عليه، ينشره الشمال ويطويه الشمول، وهذه عبارات الثناء التي أقدمها له مني بيد تخيل تلك الصفات، وتصور محاسن هذه الذات. فافهم رمزي أيها الرسول، الذي أبعثك لحملها، وأدعوك لتبلغها، وعد إليَّ بالإفادة، وقد صدقت الظن في كل ما أرجوه من دوام صحته وكمال عافيته، والسلام.
إيهِ أيها الرسول الكريم، وقصَّ عليَّ هذا النبأ العظيم، فقد أسكرني كلامه، وآلمنى عتابه وملامه، وطيَّب الأرجاء نشرُه، ولعب بالعقول سحره. وتمهل في حديثك عاتبا، فقد بلغ السيل الربى، وسامعك حليف سهاد، وأليف غرام يؤججه العباد، وقتيل شجون، لم تكن ولا تكون، وسمير أشواق، أحرقت فؤاده أيَّ إحراق، وأسير وُلُوع، أضر بالضلوع، ونديم هوى، ما ضل فيه وما غوى، ومع ذلك:
نعم يحق لصاحبك أن يعتب، ويسترسل في ذلك ويسهب، لما حصل من التقصير، الذي لم يكن مقصودًا في الضمير، إلا أن الأيام تُلهي بما يَدهى، وتَشغل بما يُنكِّل، وتعوق عما يشوق، والودُّ باقٍ لا تغيره الأغيار، صافٍ صفاء العقار، وقد أبى الله إلا أن يكون له الفضل الكثير، وألَّا يقابل النظير بالنظير، فتدارك ذلك القصور بإحسانه المشهور.
فسر أيها الكتاب مستعطفًا، وتمثَّل بين يديه متلطفًا، واستمنحه عفوًا لصاحب ودِّه القديم، فإن سمح فبها وإلا فسلام على إبراهيم.
صديقي الأغلى
مهلًا أيها اليراع المقصِّر، ورويدًا أيها الفكر المدبِّر، ولا تبادر باللوم أخا ودك المعلوم، لعل له عذرًا وأنت تلوم، بعد أن عرفت من حذاقته، ما أوجب تأكيد صداقته، ومن نزاهته ما أبعد الملام عن وطيء ساحته، ومن خلاله ما جعلك تقر بكماله، ومن وفائه ما حتَّم مداومة إخائه، ومن جوده وإنعامه ما أطمعك في نفثات أقلامه، فهل هذا الذي اتصف بهاته الصفات، وانطوت تحت غلائله مع الشهرة تلك الكمالات، يضن بمنشآته، ويرخي للمطال عنان عناته، فلا يوافي جريدة صديقه بما تخطه يراعته مما تمليه براعته، ليحلي به جيدها العاطل، ويزهق ببرهانه الحق نفس الباطل.
كلا فإنها الأشغال، تعيق في بعض الأحوال، وإنه العالم المعهود، والمنشئ البليغ المعدود، الذي رفع علم الإنشاء كالعلم، وأظهر للسيف فضائل القلم، وجلَّى مخدَّرات المعاني لمخيلات الحفاظ، متحلية بدقيق الإشارات وفصيح الألفاظ، فاقتبس منها كل شاعر، وجعلها لمذهب كلامه كالمشاعر، وأنار بها سليقته، وعرف منها مجاز التعبير وحقيقته، وكرر عباراتها كل نِحْرير؛ ليتمكن خاطره من التحرير، فنبغ أدباء أفاضل، وشعراء أماثل، ملئوا الأودية سحرا، والأندية عطرا، والسطور ظُرفا، والطُّروس صرفا. فلله دره من كاتب مجيد، قد جدد عهد ابن المقفع وعبد الحميد، ولا شك أنه سيوافي رصيفه، ويوالي حليفه، بما ترتشفه العقول سُلافا، وتهتز له الهامات استلطافا، فهو صديقه الحميم، وخليله إبراهيم.
كتابي إليك وأنا منك بين معتذر وعاتب، ومغلوب وغالب، حيث سألتني — أعزك الله — عن فتور المراسلة، وما كنت لتعهدها من صديق حميم وولي كريم، فقمت مقام المعترف الذليل، العائذ بمقام الخليل، لعل الله يغسل الذنب بماء الرحمة، ويعفو عن هذه الوصمة، ثم عذرتني بعناء الأعمال في هذا الإهمال، ولا والله ما ذممتك في الأولى، ولقد شكرتك في الثانية، والله يشهد أني إذ ذاك بين عزم فاتر، وليل ساهر، وأمور منزلية، وأعمال مدرسية، لا يكاد يَغِبُّني الفراغ إلا ريثما يحين العمل، حتى هجمت أيام البطالة التي يَجِمُّ فيها العقل، وتنمو القوى، ويستدُّ الساعد وتُقيَّد الأوابد، ويُلْتقط الكلام من أفواه الأقلام، فمرحبًا بك وبجريدتك، التي برهنتَ بها على فضل مصر في هذا العصر، وضربتَ بها كل طود فانبجس عنه ماء العلم، حتى قلنا إن العصا قرعت لذي الحلم، فحيَّاك الله وبيَّاك كلما عتبت فاعتذرنا، وأمرت فأطعنا، والسلام.
علماء العصر الحاضر
قد نسينا — وجلَّ من لا ينسى — أن نذكر علماء العصر الحاضر بعد العلماء السابقين، ولكن ذلك لا يمنعنا من إثباتهم الآن.
فمنهم حضرة الأستاذ الكامل والعالم العامل الشيخ محمد الروبي من دفنو، وهو الآن من كبار مدرسي الجامع الأزهر المعمور.
ومنهم الأستاذ الفاضل الشيخ أحمد الرفاعي من معصرة عرفة، وهو شيخ رواق الفِيَمة بالجامع الأزهر الآن، ومن كبار مدرسيه.