الحكاية رقم «١٠»
أم عبده أشهر امرأة في حارتنا.
في قوة بَغْل، وجرأة فتوَّة، حتى زوجها سواق الكارو يتراجع أمام عنفها.
ولها بنتان جميلتان، دَوْلَت وإحسان.
في أيِّ موقع من حارتنا تحظى بالتودُّد، من التاجر والعامل والبائع والصعلوك، كلُّ أسرة لها عمل وأجر، هي الوسيطة والشفيعة والخاطبة والدلَّالة والماشطة، وعند الخصومة فهي القوة التي تبطش بالخصم.
وتزور أمي أحيانًا فتحكي لها عن أحوالها، وقد يقتضي الأمر تمثيل ما وقع في آخِر مشاجرة شاركَتْ فيها، فيرتفع صوتها ويتهدَّج بالغضب والسبِّ والقذف، حتى يتوهَّم السامع أن التمثيل مشاجرة حقيقة!
وهي تُجاملنا في المواسم، فتجيئُنا بالكارو لتمضي بنا إلى زيارة المغاوري وأبي السعود طبيب الجِراح.
وأنا الرسول الذي يُوفَد إلى بيتها عند الحاجة، أذهب إليه بقلب طَروب يتوق إلى رؤية الحمار المربوط إلى وتد في الفناء، ويتوق للقرب من دَوْلَت وإحسان.
دَوْلَت فتاة طيبة، تفكُّ الخط، وتحفظ بعض سور القرآن، يحبها شاب مُتعلِّم من حارتنا فيتزوج منها متخطِّيًا الفوارق ومُجازِفًا بمصاهرة أم عبده.
إحسان صورة مصغرة من أمها في أخلاقها، ولكنها باهرة الجمال، مطبوعة على العنف والجرأة والبذاءة، تتحدَّى أمها نفسها، فتنشب بينهما المعارك المثيرة، ويطلب يدها فتيان كادحون، ولكنها ترفضهم تطلُّعًا لفرصة فريدة كما حدث لأختها دَوْلَت، وإني صديقها رغم فارق السن، غرائزي الكامنة تُرسِل إنذارات خفية تمتزج في عينيَّ بأشواق مُبهَمة، يُبهرني حجمها المترامي، وأعضاؤها الثرية المتراقصة، وتدعوني أحيانًا لأساعدها وهي تغسل في الفناء، أحمل إليها صفيحة الماء من عارضتها الخشبية، وأمضي كالمترنِّح من ثقلها، أجلس قبالتها لأتسلَّم منها الملابس بعد عصرها لأكومها في الطشت، في أثناء ذلك تتلصَّص عيناي، وهي ترامق تطلُّعاتي باسمةً.
وتقول لي ذات مرة: خُذ منديلي واذهب به إلى الشيخ لبيب.
وأذهبُ إلى الشيخ لبيب في مجلسه قبيل القبو، يتربع على فروة بجلبابه المزركش، وطاقيته البيضاء، مكحول العينَين، مزجَّج الحاجبَين، أعطيه المنديل وملِّيمًا وقطعة سُكَّر، فيشم المنديل ويتفكَّر مليًّا، ثم يقول: عمَّا قريب يمتلئ الكراز ويغني العصفور.
وأرجع إليها وأنا أردِّد ما سمعته لأحفظه، ويُسعدني دائمًا أن أؤدي لها خدمة من الخدمات.
ويطلب يدَها صاحبُ محل فراشة، غنيٌّ في الخمسين، ذو زوجة وأولاد، فتتزوج منه، تعاشره عامَين ثم تختفي من بيته ومن الحارة جميعًا، مخلِّفة وراءها ضجة وعارًا، وإصابة في كبرياء أم عبده.
•••
وفي ذات ليلة من ليالي الزمن الجاري الذي لا يتوقف، أجدني وجهًا لوجه مع إحسان، ترقص وتغني:
وتراني فيشع من عينَيها نور العرفان، أقف ذاهلًا ولكنها تتلقاني ببساطة وبابتسامة مشجِّعة. تُقْبل نحوي، فتأخذني من يدي إلى حجرتها، ثم تغلق الباب وتغرق في الضحك، وتقول لي بعد أن جلسنا: الدنيا واسعة ولكنها في النهاية كالحُقِّ.
وأتفرس في وجهها فتسألني عن أمها قائلةً: كيف حال أم عبده؟
– عال.
– ودَوْلَت أختي؟
– بِكْريها في المدرسة.
– ووالدتك وأخواتك؟
– بخير.
فتقول بمودة: زرني كثيرًا.
وأسألها بعد تردُّد: كيف جئت إلى هنا؟
فتضحك وتقول ساخرة: من نفس الطريق التي جئتَ منها أنت!