الحكاية رقم «٢٥»
فتحية، الأخت الصغرى لسنية، تماثلني في العمر.
مثال للهدوء العذب والرصانة والعمق.
نظراتنا تتسلل في استحياء فيستحوذ عليَّ أملٌ خلَّاب، أمد يدي فأقبض على راحتها فتسحبها بلطف، وبرِقَّة تقول لي: لا أحب العبث.
وأضيق بجديتها فأقول: إنك لا تعرفين الحب.
فتقول بأسى: أنت الذي لا تعرفه.
وتقول معاتبة: أثبِتْ لي أنك تعرفه مثلما أعرفه.
ليست قطرات الندى مثل ذوب الشمع المحترق، ويصرفني اليأس، فأتعزَّى بالزهد، أمضي مُصمِّمًا على النسيان، ولكن تُرجعني الأشواق أو رسالة عتاب، أو لقاء غير متوقَّع، فأجد نفسي مرةً أخرى حيال قلب محب وعاطفة طاهرة وإرادة لا تلين.
وطريقي شاقة وطويلة، وفتاتي محبوبة كثيرة الخُطَّاب، يقول لها أبوها: معنى الرفض أن تنتظري عشرة أعوام.
ثم يقول بحزم: القلوب تتغير بعد عشرة أعوام.
ويصر على تزويجها من رجل مناسب، فتُزَفُّ إليه كسيرة القلب، وتنجب أطفالًا، وترعى بيتًا يُعَد مثالًا للحياة الزوجية الموفَّقة.
وتغيب عن عيني وخيالي دهرًا طويلًا.
وألتقي بها في مأتم وهي في الستين من عمرها، أرملة منذ عشرة أعوام، فنتصافح وتطالعني بنظرة صافية، تتألق فيها بسمة ذكريات قديمة، يتحرك في أعماقي شيء غامض، تجتاحني موجة من التذكُّر والأسى، وشعور فادح بطول الزمن المطروح ورائي.
وأعلم بأنها تعيش وحيدة بعد زواج بناتها مع خادم عجوز، وأجدني أحادثها رغم كلِّ شيء بجرأة مستمدة من ضآلة ما يتبقى من العمر، وأعزم على زيارتها، وأتخيل، وأسباب الابتسامة والمرارة تتجاذبني، ثم أبتهل في خشوع إلى أشجان الوداع.