الحكاية رقم «٢٨»
يزورنا كثيرًا.
أحبه لأنه يكاد أن يكون صورة مُتقَنة لأبي؛ من أحاديثه المكرَّرة في إلحاحٍ أبديٍّ أن يخاطب أبي قائلًا: أيُرضيك حالي هذا يا خالي؟
فيقول له أبي: يا محسن، اعتمد على الله وعلى نفسك.
– يؤلمني أنني غنيٌّ بما أملك من مالٍ في الأوقاف، ولكني عاجز عن صرف مليم واحد منه.
– هذا حال كثير من المستحقين.
ويُضطَّر إلى أن يعمل كاتبًا بثلاثة جنيهات شهريًّا في وكالة الأخشاب بحارتنا، وتحاصره ظروفه القاسية فيتزوج من سوسن بنت نعمات الدلَّالة العاطلة من الجمال والمال، ويتقدم به العمر دون أن ينجب، فيمضي حياته متحسِّرًا، وتضَّرِعُ زوجتُه إلى الله ألا يحلَّ عقدة الوقف، وتقول لأمي: لولا الفقر لفَجَر، لولا الفقر لطردني!
لا حديث له إلا الوقف، الوقف يا خالي، الوقف يا امرأة خالي، وأسمعُه يردِّد بحرارة: يا رب، نفسي في لقمة حلوة ومسكن نظيف وملبس لائق وأنثى، أنثى حقيقية لا تمثال خشبي في هيئة امرأة، يا رب نفسي في ولد أو حتى في بنت!
وتتقدَّم به السن أكثر، وتدمع عيناه أحيانًا وهو يرثي نفسه حتى ينال مني التأثُّر.
وتندفع الأحداث فتُغيِّر من إيقاع الزمن ورؤيته وتنحل عقدة الوقف!
ويرقص ابن عمتي من الفرح فأسأله: ما مقدار البدل الذي سيصرف لك؟
فيقول بزهو: أربعون ألفًا من الجنيهات!
يدور رأسي، أتفرَّس في وجهه بعجب، إنه يدنو من السبعين، أبيض الرأس، ضعيف البصر، هزيل الجسد، ليس فيه سنَّة ولا ضرس، أسأله: ماذا ستصنع بثروتك؟
فيقول متهلِّلًا: قلبي يحدثني بأنني سأمرح في نعمته عز وجل.
ثم يستطرد: سأشتري بيت عيُّوشة الحكيمة، وأركِّب طاقم أسنان، وأتزوَّج!
– تتزوج؟
– وسأنجب أيضًا، سوف ترى!
ويجدِّد نفسه بتصميمٍ كما يجدِّد الحياة من حوله، أبقى على سوسن، ولكنه يتزوج من توحيدة بنت بيَّاع الطرشي، وهي بنت جميلة دون العشرين.
ويخبرني ذات يوم قائلًا: وليُّ العهد يتكون بإذن الرحمن.
ويُفرط في الطعام بنهَم لا يناسب سِنَّه، ثم يلزم الفراش عقب ستة أشهر من الزواج.
وأعوده فيقول لي بصوت خافت: لستُ نادمًا، أبدًا، الحمد لله رب العالمين!
وكان قد بنى مقبرة جديدة وجميلة.