الحكاية رقم «٣٢»
سنان شلبي يعمل في مطحن الغِلال فيما يلي السبيل القديم، تلوح منه نظرة نحو النافذة في البيت القائم أمام المطحن، فيلمح وجهًا أسَرَّ فؤاده وسيطر على أقداره، يأسر فؤاده ويستحوذ على إرادته بقوة لم يكن يتصوَّر وجودها بحال، وقال لنفسه: «لقد جننت يا سنان وما كان كان.»
والجميلة لا تغادر البيت فيما يعلم، ولكن أم سعد هي التي تتصدى للمعاملة والتسوُّق، وهي امرأة معروفة في الحارة، والعلاقة بين أم سعد والجميلة غامضة، عرضة لشتى الاحتمالات، فالأسرة لا تزور ولا تُزار، فمَن يكون سعد؟ أين هو؟ والمرأة أهي أمُّ الجميلة؟ قريبتها؟ خادمتها؟ ثم تنتشر أقوال تسيء ولا تسُرُّ.
يقول سنان شلبي: أريدها، إني مجنون بها، بالحلال أو بالحرام أريدها، ولو دفعتُ حياتي الغالية ثمنًا لها!
ويوثِّق سنان علاقته بأم سعد في تردُّدها الدوريِّ على المطحن، ويُلمِّح لها عن رغباته الخيالية، ولكنها تتجاهله وتشجعه في آنٍ، فينفحها بالهدايا الصغيرة التي يطيقها من اللبان والحنتيت والسكر، وعند ذاك تقول له: الجوهرة غالية، وأنت رجل على قد حالك!
فيقبض الفقر قلبه ولكن الجنون يبسطه فيقول: ربنا يقدرنا.
ويدرك لتوه أن الجميلة تحترف الحب ولكن ذلك لا يثنيه عن سَعْيه؛ فإن جنون العشق يتسلَّط على إرادته بعنف ويأسره، فلا يترك له اختيارًا أو مجالًا للتردُّد.
وتقول له أم سعد: الأمر ليس يسيرًا، يوجد حرَّاس لا تراهم، وغاية ما أستطيعه أن أدلُّك على الطريق!
وتمدُّ له يدها بحركة ذات مغزى فيضع لها فيها قطعة فضية من ذات الخمسة القروش، ولكنها تردُّها بإباء ولا تقبل بأقل من عشرة قروش، أو عُشر أجرِ سنان في شهر كامل! وتقول له: أتعرف المعلم حلمبوحة؟ قل له إنك حاضر من طرفي، إنه راعيها ووليُّ أمرها، وهو الذي جاء بها إلى حارتنا من المجهول!
فيقول سنان بضيق: ظننتُكِ ستوصلينني بغير وسيط!
– لا أملك إلا أن أدلُّكَ على الطريق!
ويذهب سنان إلى حلمبوحة في دكانه الصغير الذي يبيع فيه الدخان والمنزول، يجده كما يعهده عجوزًا أعمش جافَّ الخلق، فيُحيِّيه ويقول له همسًا: إني قادم من طرف أم سعد.
فيرمقه بازدراء ويقول باقتضاب حاسم: جنيه مصري!
فيقول سنان بارتياع: إنه مبلغ جسيم يا معلم!
فيُعرِض عنه قائلًا: وفَّر نقودك واذهب لحالك.
لا شيء يمكن أن يثني سنان عن مطمحه، إنه يبيع خاتمه الفضي الموروث عن أبيه بجنيه، ويهبه لحلمبوحة مُسلِّمًا أمره للمقادر. يتفحَّص الرجل الجنيه، يدسُّه في جيبه، ثم يقول لسنان: لم يبقَ إلا هريدي الحملاوي، تعرفه؟
يغوص قلب سنان في صدره ويسأله: ما شأنه؟
– إنه خطيب البنت، ولا يرضى بأقل من جنيهَين.
فيتأوَّه سنان قائلًا: إنها ثروة، ثم إنها سلسلة بلا نهاية!
– هريدي ختام السلسلة.
– ولكن من أين لي بالجنيهَين؟
– خذ نقودك واذهب!
ويرد إليه الجنيه بحدة، يتناول سنان الجنيه بقلب طافح باليأس، ثم يمضي بلا هدف، وتقوده قدماه إلى البوظة، فيسكر حتى يقول لنفسه: سأبلغ مناي ولو طِرتُ إليه فوق سحابة!
ويذهب من توِّه إلى أم عليش بيَّاعة البيض بحجرتها الخشبية فوق سطح أم علي الداية، فتقول له مستاءة: إني لا أتعامل مع الزبائن في حجرتي!
فيرمي بثقله فوقها فجأة ويكتم أنفاسها ولا يتخلى عنها إلا وهي جثة هامدة.
•••
إنه يعي تمامًا ضرورة أن يهرب في الحال قبل أن تُكشف الجريمة، لا يشك أن كثيرين رأوه وهو يتخبَّط في الحارة، ثم وهو يتسلَّل إلى بيت أم علي الداية. إنه يعي تمامًا ضرورة الهرب، ولكنه لا يفكر إلا في الحب.
ويذهب إلى المعلم حلمبوحة فينقده الجنيه ثم يمضي إلى هريدي الحملاوي بالجنيهَين، فيصحبه الحملاوي إلى بيت أم سعد.
•••
يقول الرواة إن سنان دخل حجرة محبوبته كمن يدخل الملكوت، وفي نشوة الخمر ارتمى على قدمَيها في هيام، وما يدري إلا وهو يبكي من الوجد، واجتاحته لحظة ثراء، فأشرق وجدانه بالصراحة والصدق فقال: لقد قتلتُ!
ولم تفهم المحبوبة كلمة، ولم يُقدِم هو على الفعل.
وانطرح الزمن خارج وعيه حتى هلَّ أول شعاع للضياء.
وارتفعت من الطريق جلبة، ودقَّتِ الأرضَ أقدامٌ ثقيلة، فتلقى سنان أول إشارة خفية، واستسلم بأريحية للمقادر.