الحكاية رقم «٤١»
إبراهيم القرد أضخم بناء إنساني تشهده عيناي، لا أتصوَّر أن يُوجَد بين البشر مَن هو أطول أو أعرض منه، مئذنة، يتحسَّس طريقه بنَبُّوت رهيب، تحمله قدماه حافيتان كأنهما سلحفاتان، يقول أهل حارتنا إنه من لُطف الله أن يخلق إبراهيم القرد ضريرًا.
وهو الشحاذ الوحيد في حارتنا، فمنذ احترف التسوُّل لم يتجرأ شحَّاذ آخَر على ترديد «لله يا محسنين!»
يقعد الساعات متربِّعًا عند مدخل القبو، معتمدًا على نَبُّوته، يصمت طويلًا، ينفجر بصوت كالرعد «يا أكرم من سُئِلَ»، يجيئه الطعام في أوقاته، تتراكم الملاليم في جيبه، يتبادل التحيات مع السابلة.
وبسبب من حدة التناقض بين قوته الخارقة وبين حرفته المستضعَفة، فإنه مثار للابتسام، ولكن بلا حنق أو حقد، فحسبه أنه ابن حارتنا، وحسبه أنه لا يستثمر قوَّته في العدوان.
ويشاء الحظ أن أشهد معركته الكبرى.
ففي أحد المواسم يهبط حارتنا زلومة — شحَّاذ ضرير أيضًا — من القبو راجعًا من القرافة مثقلًا بالفطير والتمر، فيختار مجلسًا غير بعيد من القرد ليستريح من عناء يوم مظفر.
ها هما الشحاذان الضريران يجلسان على جانبي مدخل القبو كأنهما حارسان، ويتلقى القرد بأذنَيه الحادتَين رسائل خفية من حركات شفتَي زلومة، كما يتلقى أنفُه رسائل مغرية من جراب الأغذية، يتجه رأسه نحو الرجل باهتمام وتساؤل وتحفُّز.
ويهتف زلومة في غبطة: يا حسين يا حبيب النبي يا سيد الشهداء .. مدد.
فيقطب إبراهيم القرد ويتساءل بغلظة: مَن؟
فيُجيبه زلومة ببراءة: سائل على وجه الكريم!
– وماذا جاء بك إلى هنا يا بن الزانية؟
فيسأل زلومة بحدة: أملكتَ أرض الله؟
– ألا تراني؟
– إني أرى بنور القلب.
فيتمتم إبراهيم القرد: عظيم.
يتمطَّى بنيانه قائمًا ويمضي نحو زلومة وكأنما يراه، يقبض على منكبه، لا أدري ماذا يفعل به ولكني أرى الرجل وهو يصرخ ويتلوَّى ويستغيث.
ويتجمهر أناس كثيرون، يُخلِّصون بينهما بعناء شديد، يبدر من البعض كلمات غاضبة: افتراء وظلم.
– أنت وحش.
– أنت لا تخاف الله!
ويصيح إبراهيم القرد: عليكم اللعنات.
ويغضب أحدهم فيرميه بسلة مُحطَّمة ملقاة.
ويثور القرد، أجل يثور ثورة أكبر من ثورة مظاهرة زاخرة، كأنما هرستَ له دملًا، يُجَن جنونه، يهدر بأقذع الشتائم، يشهر نَبُّوته ويدور به ويضرب به كلَّ مكان فيرتطم بالجدران والأشياء، ينشر الفزع في دائرة آخذة في الاتساع، يتفرَّق الرجال، يركضون، يتلاطمون، يعثرون فيسقطون، يصيحون، يستغيثون، القرد ينقلب قوة عمياء مدمِّرة تجتاح الحارة، يلوذ الناس بالأزقة الجانبية، تُغلق الدكاكين، تتحطَّم الكراسي والسلع وتنقلب السلال والمقاطف.
وتتدفَّق قوات الشرطة على الحارة، يذهل الضابط عندما يدرك أن المعتدي ما هو إلا شحَّاذ ضرير، ثم يأمر جنوده بإلقاء القبض عليه.
وتتجدَّد المعركة بين القرد والجنود، يخوضها الجنود، عُزَّلًا من السلاح بأمرٍ من الضابط ولكنهم لا يلبثون أن يتطايروا في الهواء كاللعب، إنه قوة لا تُغلَب.
ويتجمَّع الغلمان في الأطراف ويشجعون القرد بهتاف صاخب، الحق أنني لم أرَ رجال الداخلية من قبلُ على حالٍ من التعاسة كما أراهم الآن، ويصيح الضابط من داخل بدلته البيضاء ذات الشريط الأحمر: يا قرد، ستُضرَب بالرصاص إن لم تسلِّم نفسك في الحال.
ولكن القرد يتمادى في التحدِّي منتشيًا بثورة القوة والنصر، ويرحمه الضابط فلا يأمر باستعمال هراوة أو بندقية، ولكنه يستدعي بعض رجال المطافئ.
ويتدفق الماء من الخرطوم كالشلال، فينصَبُّ بقوته التي لا مفَرَّ منها على القرد، يرتبك القرد ويتعثر ويدور حول نفسه مترنِّحًا منهزِمًا حانقًا قاذِفًا بسيل من السباب المقذع، ثم يتهاوى فوق أديم الأرض بلا حول، فينقضُّ عليه الجنود بالأغلال.
ويغيب القرد عن حارتنا فترة من الزمن، ولكنه يرجع ذات يوم ببنيانه الضخم وهامته المرفوعة فيلقى استقبالًا حميمًا وتحيات حارة .. فيواصل حياته السابقة متعملقًا عند مدخل القبو مثل أسطورة.