الحكاية رقم «٤٤»
هذه حكاية تُروى عن عهد قديم لم أشهده.
كانت الزاوية حديثة البناء وكان إمامها وقتذاك الشيخ أمل المهدي، صعد الشيخ إلى شرفة المئذنة ليؤذن الفجر، فانتبه إلى صوت يصدر عن البيت المواجه للزاوية، مدَّ بصره نحوه فرأى امرأة تفتح النافذة، ورجلًا يطبق يده على فيها ليمنعها من الاستغاثة، ثم يجذبها إلى الداخل تحت المصباح الغازي المضيء، ثم ينهال عليها ضربًا بشيء في يده حتى تهاوَت ساقطة. عرف المرأة كما عرف الرجل، أما المرأة فهي ست سكينة، أرملة صاحب مقلى، وأما الرجل فهو المعلم محمد الزمر صاحب وكالة خشب. تسمَّرَ الشيخ أمل المهدي في مكانه متدثِّرًا بالظلام، مرتعد الفرائص من الرعب حتى أغلق المعلم النافذة، وراح يتمتم: لقد قضى على المرأة.
وخانه صوته فلم يستطع أن يؤدي الأذان.
جريمة قتل، ماذا أوجد المعلم في هذه الساعة ببيت الست؟ توجد أكثر من جريمة، ارحمنا يا رب السماوات والأرض!
وهبط السلم الحلزوني بمشقة، ثم جلس على الأرض راكنًا إلى المنبر ظهره، وجاء أوائل المصلين فهالهم منظره وسأله بعضهم: لِمَ لَمْ نسمع صوتك يا شيخ أمل؟
فأجاب لاهثًا: بي مرض والله أعلم.
وكان المعلم محمد الزمر هو مَن تبرَّع ببناء الزاوية، وهو الذي اختار الشيخَ إمامًا لها، ورتَّب له أجره، تذكَّر الشيخ ذلك فقال يخاطب نفسه: يا له من امتحان عسير من رب العالمين!
ورقد الشيخ في بيته ثلاثة أيام ولم يفتح فمه.
وانتشرت أنباء الجريمة في الحارة فعرف كلُّ مَن هبَّ ودبَّ أن الست سكينة وُجدَت قتيلة في حجرة نومها وهي بجلباب النوم، وبدأ التحقيق، واستُدعي فيمَن استُدعوا الشيخ أمل المهدي.
سأله المحقِّق: ألم تسمع صرخةً أو صوتًا ملفتًا للسمع وأنت تؤذن؟
فأجاب: كنت مريضًا فلمْ أؤذِّن تلك الليلة.
– أنت جارٌ للقتيل، ألا تعرف شيئًا عن علاقتها بأحد؟
– كانت سيدة فاضلة ولا علم لي بشيء.
وغادرَ الشيخ حجرة المحقِّق وهو يقول لنفسه: «إني لمِن الهالكين.»
وجعل يبكي بشدة من الحزن والعجز.
واكتشف في أثناء التحقيق سرقة بعض قِطَع من الحُليِّ فحامت الشبهات حول صبي كوَّاء كان يتردَّد على البيت، وفُتِّش مسكنه فعُثر على الحُليِّ، وبذلك وُجِّهَت إلى الشاب تهمة القتل.
وبدا ذلك كله منطقيًّا إلا عند الشيخ أمل، تابع الشيخ أنباء الجريمة باهتمام جنوني، مضى يحترق في صميم أعماقه، وينهار عصبًا بعد عصب، كان ورِعًا تقيًّا، ولكن شجاعته كانت دون ورعه وتقواه.
ومن شدة القلق والحزن تهدَّم ودبَّ الضعف في أعصابه.
والتقى ذات يوم بالمعلم محمد الزمر أمام السبيل القديم، فشدَّ على يده كالعادة، وعند ذاك انتفض كأنما مسَّ ثعبانًا، وحدَّق فيه بقوة غريبة حتى تساءل المعلم: ما لك يا شيخ أمل؟
فوجد نفسه يقول: لقد رآك الله!
فدهش الرجل وسأله: ماذا تعني؟ .. أنت مريض؟
فهتف به: اعترف بجريمتك يا قاتل!
ثم هرول إلى الزاوية فأغلقها على نفسه بالمفتاح والمزلاج، لبث في سجنه يومَين كاملين لا يستجيب لأهله ولا لأحد من الناس.
وعند مغرب اليوم الثالث فاجأ أهل الحارة بظهوره في شرفة المئذنة، ولكن أي ظهور كان؟ تطلعت إليه الأبصار بذهول وراحوا يقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله!
– الرجل الطيب عارٍ تمامًا.
– يا شيخ أمل وحِّد الله!
ومضى يدور في الشرفة متبخترًا ويُغنِّي بصوت متحشرج: