الحكاية رقم «٤٥»
بحارتنا عامل بالسرجة يُدعى عاشور الدنف، متزوج، أب لعشرة، في الأربعين من عمره، يتميَّز بقوة شديدة وملامح خشنة وفقر مدقع، يتواصل عمله من الضحى حتى منتصف الليل، لا يعرف الراحة كما لا يعرف الشبع، يحتقن بالحسرات إذا رأى الناعمين في المقهى أو تطايرت إلى أنفه رائحة التقلية، وهو يغبط حمار الطاحونة في السرجة كما يغبط العطَّار أو صاحب وكالة الخشب.
ويقول ذات يوم لسيدنا إمام الجامع: الله يخلق الرزق ولكنه ينسى أبنائي.
فيغضب الإمام ويصيح به: لقد بات سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بعض لياليه رابطًا على بطنه حجرًا ليسكِّن به جوعه، اذهب عليك اللعنة.
•••
ويرجع عاشور الدنف عند منتصف ليلة من السرجة يشق الظلماء فيتهادى إليه صوت هامس ناعم يقول: يا عم عاشور!
يتوقف متلفِّتًا أمام نافذة مغلقة في دور أرضي ببيت الست فضيلة الأرملة المستحقة في وقف الشنانيري، ويتساءل: مَن ينادي؟
فيجيبه الصوت: أريد منك خدمة فادخل.
المكان مظلم، حتى شبح التمساح المحنَّط فوق الباب لا يُرى، يمرق من الباب ويمضي نحو المنظرة مهتديًا بضوء يلوح في شرَّاعة بابها، يرى السيدة فضيلة متربعة على كنبة تُركية، فيقف بين يدَيها ناشرًا في المكان رائحة عرقه الفظَّة النافذة.
– أريد زيتًا وكسبة.
تقولها ببلاهة، بلاهة تفضح مكرًا ساذجًا، وتنضح بشرتها باعتراف قرمزي، ويلمح في جفنَيها المسبلَين معجزة الرِّضى والاستسلام، ولكنه ليس الاستسلام الذي تبادر إلى خياله، فما تزال حصينة وعاقلة ومدبِّرة، ويغادرها بعد أن يوقن بأنها تريده في الحلال!
•••
ويلبث دهرًا لا يصدق، يتوهم أنه يتعامل مع حلم من الأحلام، ولكنه يتزوج من الأرملة الغنية، ويجري ذكره في الحارة نادرةً من النوادر، ومثالًا من الأمثلة، لا يُبالي طبعًا أن يترك لها العصمة في يدها، ويترك عمله بالسرجة كما شرطت عليه، ثم يطالع الناس في زي جديد وجلد جديد وهالة جديدة أضفاها عليه النعيم، وبمشيئة ست فضيلة لا يطلق زوجته القديمة، وترتِّب لها ولأولادها ما يكفيهم، فيباركون الزواج من أعماق قلوبهم، هكذا يعيش عاشور أحلامه القديمة، فيشبع ويسعد.
•••
وست فضيلة سيدة جميلة وكاملة، تحبه وتسهر على راحته وتعيد خلقه من جديد.
وهي لا تفرِّط في شيء منه، ناعمة مهذَّبة وفية ولكنها لا تفرِّط في قيراط منه، ومنذ اللحظة الأولى يشعر عاشور بأنها حريصة على ملكيته ملكية كاملة، ظاهره وباطنه، أصله وظله، حتى فكره وأحلامه، فهو يعيش بين يدَيها، في الحديقة أو المنظرة، وحتى الساعة التي يقضيها في المقهى يرى شبحها وراء خصاص النافذة يُطل عليه، ولكنه ينعَم رغم كل شيء بالحب والراحة والشبع.
•••
وعندما يعتاد عاشور الطيبات، عندما تطوي العادة معجزات الهناء، يتسلَّل إلى روحه التثاؤب. يتوق إلى ساعة يخلو فيها إلى نفسه، يهيم على وجهه، يمازح صديقًا، يرتكب حماقة بريئة، ولكنه يشعر دومًا بأنه مراقب، خاضع، مطارد.
الحق أنه لا ينقصه شيء ولكنه سجين، ثمة أغلال من حرير تحزُّ عنقه مكان الأغلال الحديدية القديمة، ويتدفَّق في روحه التثاؤب.
ويجد الزمن طويلًا، ويجد الزمن ثقيلًا، ويجد الزمن عدوًّا.
ويقول لها ذات يوم: افتحي لي دكانًا.
فتقول له: لديك ما تشتهيه النفس، ماذا ينقصك؟
فيقول متشكِّيًا: كلُّ رجل يعمل حتى الشحاذون.
ويوقن بأنها تخاف أن يستغني عنها بالعمل أو يستقل عنها بالنجاح، وهو لا يريد من العمل إلا أن يُهيِّئ له قَدْرًا من الحرية، بعيدًا عن نظرتها المستقرة.
•••
ويرتدُّ عاشور الدنف إلى التجهُّم والاحتجاج.
ويردِّد لسانه ألفاظ التذمُّر والظلم ونوادرهما.
ويغلي غضبه ويفور، فيقرِّر أن يفعل ما يشاء، فتجتاح رياح الشقاق هدوء البيت السعيد.
ويتمادى في غضبه فيلطمها على خدها الأسيل، فتطرده من الجنة فيذهب متحدِّيًا.
•••
ويتعرض في تشرده لمتاعب كثيرة، يلتقط رزقه بعناء، يتورَّط في أعمال مريبة، يُجلَد مرة في القسم.
وتحنُّ الست إليه فتعرض عليه الصلح بشروطها، ولكنه يرفض، يصرُّ على الرفض، يمضي في سبيله المحفوف بالمتاعب والمخاطر.
يستحق عند ذاك أن يكون نادرة من نوع جديد في حارتنا.