الحكاية رقم «٤٩»
أمنية كلِّ صغير في حارتنا أن يطوف به في منامه زائر الليل.
إنه شخصية حقيقية بلا ريب، ولكن مملكتها المضيئة تستقرُّ في القلوب البريئة، في ليالي المواسم الأعياد يقولون لنا: استحم وادخل فراشك، فاقرأ الفاتحة، وتمنَّ ما تشاء، واستسلم للنوم فربما أسعدك الحظ بمجيء زائر الليل ليحقِّق لك أمانيك!
وتتابعَتْ تمنياتي خلال مراحل متلاحقة من العمر، ابتهالات يزفرها القلب بين يدَي زائر الليل.
– يا زائر الليل أغلِق الكُتَّاب وخذ سيدنا.
– يا زائر الليل افتح لي باب التكية واملأ حِجري بالتوت.
يا زائر الليل جدِّد مباني حارتنا القديمة.
يا زائر الليل نجِّنا من الفقر والجهل والموت.
•••
وفي صباي شهدتُ موكبًا فخمًا يشقُّ حارتنا، يتوسَّطُه رجل بالغ الروعة، اكتَّظَت الحارة بالرجال وسُدَّت النوافذ بالنساء، جلجلت الزغاريد والهتافات، صدحت المزامير والطبول.
زار الدكاكينَ دكانًا دكانًا، والوكالة والسرجة والفرن والحمَّام والكُتَّاب والمدرسة والسبيل الأثريَّ والقبو والزاوية والساحات، حتى البوظة والغرزة والقرافة طاف بها.
بهرني منظره فانبعثت في قلبي فرحة لا حدود لها، وانتفض وجداني عن عقيدة راسخة «إن هذا الرجل الرائع هو زائر الليل» وأنه جاء أخيرًا استجابةً لابتهالاتي في هدأة الليل.
وهتفتُ بصوتي الرفيع الذي لم يناهز البلوغ: ليحيا زائر الليل!
وحدثَ ما لم أتوقَّعه أبدًا، فقد وجم الناس، وتقلَّصت وجوههم، كأنما اندلق في أفواههم عصير الليمون المالح، وقرص إمام الزاوية أذني وصاح بي: يا لك من ولد قليل الأدب!
وأمر صاحب الوكالة أحد خفراءه قائلًا: أبعِد هذا الولد الشقي!
ودفعتني الأيدي إلى بيتي وأنا من القهر والمهانة في نهاية.
وجلستُ واجمًا محزونًا دامع العينَين حتى قال لي أبي: إنك أحمق، أنسيت أن زائر الليل لا يجيء إلا في المنام؟!