الحكاية رقم «٥٣»
ومن فتوات حارتنا حمودة الحلواني، ويُحكى أنه الوحيد بينهم الذي عمَّر حتى بلغ التسعين من عمره، كما أنه الوحيد الذي اعتزل الفتونة بحكم العجز والكبر.
وقد تاب وحج ولزم المسجد في آخِر أيامه.
ومما يُؤثر من سيرته أنه جلس مع الإمام ذات مساء يتسامران عقب درس العصر، فقال للإمام: كثيرون يسيئون الظن بالفتوَّات ولكن أولاد الحلال بينهم كثيرون!
فابتسم الإمام وقال متهكِّمًا: إنك على رأس أولاد الحلال.
فقال حمودة بإيمان: حصتي من الخير لا يُستهان بها.
– عظيم، أعطِني مثلًا يا معلم حمودة؟
– أتذكرُ رجُلَ الفُل الذي اشتُهر بمغازلة الزوجات المصونات؟ أنا الذي دبَّرْت مصرعه!
– ولكنها جريمة يا معلم.
– أبدًا، وأنا الذي قتلت سُمْعة الدنش الذي قتل ابن زوجته.
– ولكن ذلك لم يثبت وقد برَّأته المحكمة!
– طظ في المحكمة، كان قلبي دليلي وهو أصدق الحاكمين!
ثم بعد استراحة قصيرة؛ إذ كان الكلام يرهقه في أواخِر عمره: ومن حسناتي أنني قتلتُ فهيمة الآلاتية القوَّادة المعروفة!
فقال الإمام بازدراء لم تره عينا العجوز الضعيفتان: قيل وقتها لأسباب لا علاقة لها بحرفتها!
– لا تصدِّق كثيرًا مما يُقال!
فضحك الإمام وقال: زدني علمًا بحسناتك!
– وقتلتُ أيضًا يمني الخيشي.
– وماذا كان ذنبه؟
– العجرفة، كان يسير في الحارة كأنه خالقها.
– تعني أن نفسه سوَّلَت له أن يقلِّد فتوَّته!
– إنك عنيد ولا تريد أن تعترف لي بفضل.
– لا تغضب وزدني علمًا بحسناتك!
فضحك حمودة عن فمْ لم يبقَ فيه ناب واحد ولا ضرس ثم قال: حوادث القتل الباقية لا تُعَدُّ من الحسنات وقد تاب الله عليَّ والحمد لله.
فقال الإمام بعد تردُّد: ولكن أعجب ما سمعت من حوادث القتل ما ذاع عن مقتل قرقوش العبد؟!
فضحك حمودة واستغفرَ الله، فقال الإمام بإلحاح: حدِّثني بخبَرِه يا معلم حمودة.
فقال الرجل الذي لم يبدُ قط أن ذكريات جرائمه تؤرِّقه: كنت جالسًا في داخل المقهى عندما جاء قرقوش العبد ليدخِّن البوري، لم يكن بيني وبينه شيء على الإطلاق، فدخَّن البوري وشرب قهوته، ثم قام لينصرف وهو يقول لصاحب المقهى «غدًا سأكون عندك في مثل هذا الوقت بالدقيقة والثانية كما اتفقنا فلا تنسَ»، وما أدري إلا والغضب يجتاحني فقررتُ في الحال قتله، ولم يطلع عليه الصبح!
– أذلك كلُّ ما كان؟
– بلا زيادة ولا نقصان!
– ولكن ما الذي أغضبك؟
– لا أدري، حتى اليوم لا أدري.
– ولكن لا بد من سبب!
– ربما أحنقَتْني ثقته البالغة في نفسه وفي غده، كان يتكلَّم بثقة وطمأنينة!
– ولكن لا بد من سبب غير ذلك؟
– قُل إنه قتل بلا سبب!
فتعجَّبَ الإمام ورمق الرجل بغرابة وذهول، وكان الكبر قد أهزله فلم يبقَ منه إلا هيكل عظمي.