الحكاية رقم «٥٥»
ومما يُحكى أنه كان بحارتنا شاب صعلوك، يُدعى عباس الجحش، لم يكُن يُوفَّق أبدًا في إتقان حرفة ولا يمكث في دكان أكثر من أيام، ثم يُطرَد شرَّ طردة، وذات يوم رأى عباس عنباية المتولي بنت بياع الدندورمة، فأترع قلبه برحيق الحب المسكر، ولم يجِد سبيلًا مشروعًا إليها، فتفتَّق عقله عن حيلة، أن يتآمر مع صَحْبه من الصعاليك على أن يُمثِّلوا مع الفتاة دور المتحرِّشين، وعلى أن يمثِّل هو دور ابن البلد الشهم، وخرجت عنباية لتتسوَّق في ليلة عاشوراء فحاصرها الصعاليك متظاهرين بالعربدة، فوثبَ عباس الجحش من مجلسه على سلم السبيل، فانقضَّ عليهم كالوحش، صرَعَهم واحدًا في إثر واحد حتى طرحهم أرضًا، ثم تقدَّم من البنت وهو يلهثُ قائلًا: مصحوبة بالسلامة.
فشكرَتْه ومضت مُعجبة بقوته الخارقة، وجعلت من مغامرته حكاية تتناقلها النساء والرجال.
وصادف ذلك وقتًا خلَتْ فيه الحارة من فتوَّة — ولم تكن الفَتْوَنة قد زالت بعدُ — فتساءل أناس تُرى هل آنَ لحارتنا أن يكون لها فتوة؟
ورأى أحدهم عباس وهو يحوم حول بيت بيَّاع الدندورمة، فهتف به: أهلًا بالجحش فتوة حارتنا!
واهتزَ عباس بالهتاف، ولعبَتْ برأسه الأحلام، وتحت سطوة المخدرات قال لنفسه: فلنجرب هذه اللعبة!
وجمع أصحابه، ومضى على رأسهم نحو المقهى بعد أن فرشَ طريقه بالدعاية المناسبة، وكانت الحارة في حاجة مُلِحَّة إلى فتوَّة لتحفظ ذاتها وكرامتها بين الحواري المتصارعة، فاستقبلَتْ عباس الجحش وصحابه بزفَّة وبايعته فتوَّةً لها، وتحوَّل الصعاليك إلى عصابة، وانهالت عليهم الإتاوات، فتحسَّنت أحوالهم، وازدهتهم الخيلاء، فخطروا في الأرض كالجِمال، ورويدًا رويدًا صدَّقوا أوهامهم.
وطلب عباس الجحش يد عنباية المتولي فقال له أبوها بوجه طافح بالبِشر: بُشرى لنا يا معلم!
وعُقد القران.
أما الدخلة فلا تتم إلا بعد الزفة.
وتنبَّه عباس متأخرًا إلى أن زفة الفتوة يجب أن تطوف بالحي كله، وأنها الاختبار الرهيب للفتوَّة، تجابهه فيها تحديات الأعداء، فيرجع منها إلى شهر العسل وعرش الفَتْوَنة أو يمضي إلى القرافة.
لا بدَّ مما ليس منه بد، وماذا يمنع الحظ من أن يخدمه مرة أخرى؟
وسكِرَ وسكِرَ أصحابُه.
ومضت الزفة على أنغام المزامير وأضواء المشاعل، وسار فيها رجال الحارة.
وعند باب زويلة.
عند باب زويلة اعترض الطريق فتوَّة العطوف ورجاله.
رآه عباس فطارت الخمر من رأسه.
ولعب فتوة العطوف بنَبُّوته بخفة بهلوان، فسقط قلب الجحش حتى ركبتَيه.
وهتف أهل حارتنا في حماس وبراءة، فاضطُرَّ عباس إلى أن ليعب بنَبُّوته كذلك.
لا يمكن تأجيل القضاء إلى ما لا نهاية.
وتقدَّم خطوات في سكون ثقيل، فتقدَّم فتوَّة العطوف في غاية من الحذر.
واندفع عباس نحو خصمه حتى ذهل أصحابه.
وفجأةً.
وفجأةً وبسرعة البرق انحرف نحو عطفة الحنفي، ثم انطلق في ظلماتها مثل رصاصة، لائذًا بالفرار!
ووجم الجميع دقيقة لا ينطقون ولا يفهمون.
ثم هدر المكان بالضحك والقهقهات والصياح.
ولم يُرَ عباس بعد ذلك في حيِّنا كله، وظلَّ قرانه معقودًا حتى سقط بمضي المدة.