الحكاية رقم «٥٤»
الويل لنا عندما يشتد النزاع بين الحارات، عندما تتصارع التحديات بين الفتوات.
نتوقع في الليل أن تجتاحنا هجمة غادرة، نتعرض في تجوالنا في الحي لتحرُّشات مباغتة، تنقلب أفراحنا إلى معارك دامية، يسوَدُّ وجه الحياة ويكفهرُّ.
ويغدو الانطلاق إلى الميدان محفوفًا بالمخاطر، أما التسلُّل عن طريق القرافة فيتهدَّده الشياطين وقُطَّاع الطرق، فننحصر في حارتنا كالفئران في المصيدة.
ذاك ما رواه الرواة عن فترةٍ من حياة حارتنا الماضية.
•••
ويقترح بعض أهل الحكمة هدم جزء من السور الشرقي، يقولون: لا بأس من هدمه لنتسلَّل منه إلى صحراء الجبل، ومنها إلى أطراف الأحياء البعيدة التي نتعامل معها ونحن في مأمن من الأخطار المحدقة بنا.
والسور العتيق يكوِّن الجناح الشرقي للحارة، ويقع على مبعدة يسيرة من سفح المقطم، وتطيب الفكرة لنا فنعهد إلى أحد المقاولين من أبناء حارتنا بتنفيذ الفكرة، ويتساءل أناس: ألا يمكن أن يهتدي العدو إليها فيباغتنا منها؟
فيجيب أصحاب الفكرة: الوصول إليها عسير، فبينها وبين العمران صحراء لا تدوسها قدمٌ، فضلًا عن أنه من اليسير حراستها!
ويشرع العاملون في العمل، ويتهيأ لنا ممر إلى الصحراء نطلق عليه «ممر السبيل»، حيث إنه يبدأ من نقطة تقع وراء السبيل الأثري مباشرةً، هكذا نخلق ممرًّا سريًّا للعالم الخارجي متجنِّبين طريقَي الميدان والقرافة اللذين يحدان حارتنا من طرفَيها.
ويتحدث مدرِّس الجغرافيا ذات مساء في المقهى فيقول: نحن نتوهَّم أننا حقَّقنا الأمان لأنفسنا وأنه لم يعُدْ ثمة ما نخافه!
فيتعجَّب السامعون لقوله، فيقول: كأن معاركنا مع الحارات المجاورة هي جملة ما يهدِّد سلامتنا!
فيزداد تعجُّب الناس من قوله وادعائه، أما هو فيمضي قائلًا: هنالك خطر هائل لا يفطن له أحد ولكنه كفيل بالقضاء على حارتنا كلها بضربة واحدة.
ولما يسألونه عن الخطر المزعوم يُجيب: الممَرُّ الذي شُقَّ في السور الشرقي.
– ممَرُّ السبيل؟
– لو ينهمر من السماء سَيْل فيكتسح السفح وينقضُّ على الممَرِّ فيُغرق الحارة!
وتتجمَّع في أعينهم أمارات الذهول والسخرية، ويقولون: إنها لا تمطر في العام إلا مطرة واحدة وهي مطرة خفيفة كالدعابة.
ولكنه يستطرد غير مبالٍ باعتراضهم: الجبل فوقنا ونحن نربض عند قدمَيه، وحارتنا منخفضة في الوسط.
ويضحك الجماعة ويقولون ساخرين: يريد منا أن نستهين بخطر داهم عاجل لاتقاء خطر وهمي لا يقع إلا في خياله.
•••
وتمضي أعوام والحارة منهمكة في صراعها اليومي، المدرس يكرِّر تحذيره بين آونة وأخرى، فلا يلقى إلا هازئًا حتى أُطلق عليه «الأستاذ مسيلمة».
•••
وتربد السماء ذات شتاء فتتراكم السحب وتسوَدُّ وتهبط فوق المآذن، وتهب عاصفة تدك العلالي فوق الأسطح وتلعب بأشجار التوت في التكية.
وينهل المطر كأنه أنهار تتدفَّق من علٍ.
ويتواصل انهلاله ثلاثة أيام كاملة.
حدثٌ كوني لم نعرفه من قبل، غضبة فلكية كاسرة، وينصبُّ من الجبل طوفان، فيندفع نحو الممر بسرعة قطار صاخب، ويزمجر في هدير شامل تحت التماعات البرق الخاطفة وهزيم الرعد المجعجع.
وتختفي أرض الحارة تحت طبقات من المياه المركَّزة المحصورة، وتأخذ المياه في الارتفاع فتغرق البدرومات وتكتسح الدكاكين والوكالات والأدوار السفلية، وباحة السبيل وفناء المدرسة، وتجعل من القبو خزَّانًا، ومن الساحة بحيرة، ومن الممَرِّ الضيق بين التكية والسور نهرًا زاخرًا، ثم تجتاح المياه المقابر فتجرفها وتقذف بالعظام والجثث في أخاديد لا حصر لها، تغطيها الأكفان والخرق البالية.
وتنهدم بيوت وتنقلب الأسقف مصافي وثقوبًا، فيهجر الحارة أهلها مذعورين وينتشرون في الصحراء لاجئين مشرَّدين، والخراب يحيط بهم وارثًا الأرض وما عليها.
محنة لا تُنسى.
وذكرى مُبلَّلة بالدموع.