الحكاية رقم «٦١»
ابن عيشة صعلوك من صعاليك حارتنا، يعيش بالتسوُّل وخفة اليد، تسلَّل ليلةً إلى بيت ست ماشاالله عندما ثبت له غيابها في فرح، ولسبب ما رجعَتْ ماشاالله مبكِّرة على غير توقُّع، فما يدري إلا وهي مُقبِلة نحو حجرة النوم، فانذعر واندسَّ تحت الفراش وهو يرتعد.
أشعلت المرأة المصباح، رأى ابن عيشة قدمَيها وأسفل ساقَيها وهي تذهب وتجيء، وسمعها وهي تترنَّم بحنان:
ترى متى يُتاح له الهرب بأمان؟!
وغابت ست ماشاالله دقائق، ثم رجعت بأربع أقدام! ثمة طرف جلباب مقلم ومركوب أخضر، فانقبض صدر ابن عيشة، وأيقن أن حبسه سيطول!
قالت المرأة: آنست ونوَّرت.
فقال صوت غليظ: لا يتصوَّر أحد إلا أننا في الفرح.
وتناهى إلى أذن ابن عيشة صوت مدغم بقبلات وهمسات مرحة.
قالت المرأة: لن يتخيَّل مهما تخيَّل أنني أفلتُّ من زحمة الفرح.
فقال الصوت الغليظ: سيقتلنا يومًا إن لم نقتله!
وطالت المطارحة الغرامية وهو قابع تحت الفراش، وبدأ تأثير المنزول ينمِّل حواسه ويزحف نحو جهازه التنفسي، وينتشر في روحه منذرًا بعواقبه المألوفة.
وسبح ابن عيشة في بحر لا شاطئ له، ثم مضى يطير في الفضاء بتؤدة وهيمان، حتى بلغ ذروة عالية نظر منها إلى حجرة ست ماشاالله فرآها بشيء من الوضوح على ضوء المصباح، رأى العاشقَين، وحتى الرجل المختفي تحت الفراش رآه، تبدت المرأة عارية متموجة في سحابة من دخان رمادي على حين مضى الرجل — كقرد — يثب بين غصون شجرة فارعة، وترامى اللعب بلا نهاية، غير أن عاصفة اجتاحت المكان المتواري، فتطاير الدخان وتلاطمت الأوراق، وأكثر من صوت نادى بالدم، وتتابعت أصوات الارتطام والدق، وتُبُودلت ضربات غاية في العنف والقسوة، وأقبلت قوات جديدة من قلب الظلام فلم يعُد للحب أثر.
وقرر ابن عيشة أن يواصل طيرانه في الفضاء مبتعدًا ما أمكن عن كوابيس الأرض، ولكنه ارتطم بشيء أو لعل شيئًا ارتطم به.
وبمشقة استطاع أن يتملص من قبضة وأمكنه أن يحرك عنقه، وأن يرى الضوء.
وجُرَّ جَرًّا من تحت الفراش.
وقف مترنحًا في الحجرة ينظر في الوجوه المحدِّقة به بذهول.
وقال شيخ الحارة لضابط النقطة: هذا ابن عيشة .. نشَّال يا فندم.
فقال الضابط: أخيرًا تعلَّم كيف يقتل.
وقبض عليه.
ولكن التحقيق لم يُسفر عن إدانته بتهمة قتل ست ماشاالله وعشيقها، ثم قبض على القاتل في أثناء التحقيق.
وكان ابن عيشة يحكي قصته مرة كلَّ ساعة، وقد أصابه لطف في آخِر أيامه، وكان يُقال إن الدروشة هبطت عليه تحت فراش ست ماشاالله.