الحكاية رقم «٦٤»
عُرف الخفير سلامة بالضمير الحي .. كان من القلة النادرة التي تقدِّس القانون في حارتنا التي لم تتعوَّد بعدُ على احترام القانون لحداثة تحرُّرها من الفتونة وتقاليدها المتحدية الاستفزازية، ولاستقامته أثار دهشة أهل الحارة واستحقَّ عن جدارة احترام المأمور والضباط. وتزوَّج سلامة أرملة تكبره في السن ذات ابن يافع اشتُهر بالفساد فوجد نفسه في محنة لم تخطر له على بال، وأكَّد الشاب — ويُدعى برهومة — المحنة بسطوه ليلًا على أحد الحوانيت، وضبطه متلبِّسًا الخفيرُ الساهر اليقظ سلامة، وأعادَ الخفير المسروقات وغطَّى على الخبر مكتفيًا بضرب ابن زوجته ضربًا مبرحًا، وأفاق بعد حين قليل فأدرك أنه خسر جوهره الذي ميَّزه بين الناس، وشعر بالخزي وخامرَهُ حزن عميق، وتمادى برهومة في فساده فثار غضب سلامة وجعل ينهال عليه بالضرب حتى ضاق به الشاب، وقال له مرة: لا تضربني .. إني أحذِّرُك!
فانقض عليه ليؤدبه ولكنه تراجع إلى ركن وصاح به: سأعترف، سأذهب إلى القسم وأعترف بكل شيء، وأعترف أيضًا بتستُّرك عليَّ! إن ضربتني مرة أخرى فسأعترف!
وذهل سلامة، وسأله وهو يكتم فيضان غضبه: أنت تهدِّدني بعد كل ما فعلتُ من أجلك؟
– لا تضربني وإلا اعترفتُ.
فصاح به: إذن أقلِع عن فسادك.
فهتف وهو يفِرُّ من وجهه: أنا حر!
وقال سلامة لنفسه محسورًا: إني أفقد كلَّ يوم شيئًا ثمينًا لا يُعَوَّض.
ولاحظ كثيرون أن الخفير سلامة قد تغيَّر، وأن شائبة قد شابت استقامة قامته، وهو من ناحيته شعر أن الناس يتغيرون أيضًا، ينظرون إليه باستهانة ما، يجاملونه ولكن نظراتهم لا تخلو من سخرية، لقد أوشكوا يومًا مع إعجابهم به أن يحقدوا عليه لصلابة أخلاقه، أما اليوم فهم يعطفون ويسخرون.
•••
وأنهى سلامة عذابه بأن ذهب إلى المأمور واعترف.
وتأثَّر المأمور، أمر بالقبض على برهومة، وقال لسلامة: قدِّم استقالتك كيلا تُرفَت، إني أعطيك هذه الفرصة إكرامًا لتاريخك.
•••
ولم يُهمَل سلامة بلا عمل طويلًا، فاستخدمه صاحب مخزن الغِلال خفيرًا عنده.
وعُدَّ سلوكه مثالًا طيبًا عند أناس، كما اعتُبر نوعًا من البَلَهِ عند أناس آخَرين.