الحكاية رقم «٧٣»
مصطفى الدهشوري ابن سقَّاء، ولكنه من القِلة الراسخة في العلم في حارتنا، وهو أحد المدرِّسين بمدرستنا وصديق لأبي.
يسأل أبي وهو يجالسه ذات مساء في بيتنا: ما معنى الحياة؟
يبتسم، ولما يجده جادًّا في سؤاله ومصرًّا عليه يحدِّثه بما يعلم عن الأصل والهدف، والحياة والموت، والبعث والحساب، فيقول الدهشوري: إذن فأنت واثق من كل شيء، من الحياة والموت وما بعد الموت، أعندك فكرة عما يحدث في القبر؟
فيحدِّثه أبي عن التلقين وحساب الملكَين ومستقَر الروح وشفاعة النجاة في الآخِرة، وعند ذلك يقول الدهشوري: إليك قصة الجسد البشري ساعةً بساعة من الوفاة حتى يستحيل هيكلًا عظميًّا.
ويردِّد حديثًا مرعبًا ومقززًا كأنه كابوس طويل، فيهتف أبي محتجًّا: كفى، ماذا تريد؟
– أريد أن أصوِّر لك حقيقةً لا شك فيها.
فيسأله أبي ساخرًا: ألا تؤمن بالله؟
فيبتسم قائلًا: بلى، لا حيلة في ذلك.
ثم يواصل حديثه: ولكنه لا يتصل بي وأنا عاجز عن الاتصال به، بيننا صمت قاتل وأرى في الحالة شرًّا لا تفسير له، وأرى في الطبيعة عجزًا ونقصًا، ولا أفهم لذلك معنى، فلم أشُك في أنه — سبحانه — قرَّر أن يتركنا لأنفسنا، بلا اتصال وبلا عناية!
ويصارحه أبي بأنه يجدِّف تجديفًا خطيرًا، ولكن الدهشوري يستمر قائلًا: وإذن فالإيمان بالله يقتضي الإيمان بتجاهله لعالمنا، كما يقتضي منها الاعتماد الكلي على النفس وحدها.
وسأله أبي غاضبًا: أتتخيَّل حال الناس لو آمنوا بفكرتك؟
– لن يكونوا أسوأ مما هم بحال من الأحوال، وثمة أمل بأن يكونوا أحسن.
ثم يشرح فكرته قائلًا: لا تخشَ أن يأخذ الناس الحياة مأخذ العبث، إذ إنها أمانة ملقاة علينا، ولا مفَرَّ من حملها بكل جدية وإلا هلكنا، وإذا أمكن أن يوجد أحيانًا أمثال الخيَّام وأبي نواس، فإنما يُوجَدون لا بفضل فلسفتهم ولكن بفضل الجادين الكادحين الذين يقومون بحمل الأمانة عنهم، ولو اعتنق الجميع مذهب العبث، فمَن يصنع لهم الخبز والخمر والرياض؟ وإذن فلا تخشَ أن يأخذ الناس الحياة مأخذ اللهو إن وجدوا أنفسهم في عالم بلا إله، لا مفَرَّ من الجدية، ومن الإبداع، ومن الأخلاق، ومن القانون، ومن العقاب، وقد يستعينون أيضًا بالعقاقير الطبية لمقاومة الضعف في السلوك والتفكير كما يستعينون بها في مقاومة الأمراض، وسيفعلون ذلك بإصرار، ولن تهون عزيمتهم بسببِ أنهم يجدون أنفسهم في سفينة بلا مرشد في بحر بلا شطآن في زمن بلا بداية ولا نهاية، ولن تختفي البطولة ولا النبل ولا الاستشهاد.
ويتريَّث قليلًا متسامحًا مع غضب أبي وسخريته ثم يستطرد: وذات يوم سيُحقِّق الإنسان نوعًا من الكمال في نفسه ومجتمعه، وعند ذاك، وعند ذاك فقط، ستسمح له شخصيته الجديدة بإدراك معنى الألوهية وتتجلى له حقيقتها الأبدية.
ويتواصل النقاش حتى ينال منهما التعب، ثم يتساءل مصطفى الدهشوري باهتمام: كيف يمكن أن أنشر أفكاري في حارتنا؟
فيقول له أبي بحدة: أهل حارتنا غارقون في هموم الحياة اليومية، يطحنهم الفقر والجهل والبطش والعداوة.
– ولكنها مشكلات لا تُحل الحل الأمثل إلا بأفكاري؟
– أهل حارتنا لا يفهمون إلا لغة واحدة هي اللغة المشتقة من همومهم، الحاوية لعذاباتهم، المقدسة بأوراد الكائن المرجوِّ عند الشدة الذي تريد أن تنزعه من قلوبهم.
ورغم حرص مصطفى الدهشوري، تُنسب إليه أفكار خارقة تسيء إلى سمعته بين الناس، فيثير لغطًا يُفصَل بسببه من وظيفته وتتجهَّمه الحياة في حارتنا.