فترة ما قبل الاستعمار
مقدمة
سيتناول هذا الفصل فترة ما قبل الاستعمار، وعلى الأخص القرن الثامن عشر، حين جرى التأكيد على أهمية التراث من خلال استحضار سلطته وقيمه من أجل الحفاظ على القوة الاجتماعية للمسلمين وتضامنهم واستقرارهم. وفي هذا الصدد سنعرض بإيجازٍ الأفكار الأساسية لمفكرين مثل شاه ولي الله (١٧٠٢–١٧٦٢) في الهند والحركة الوهابية في نجد. والهدف من هذا الاختيار المحدود هو المقارنة بين خلفيتَين ثقافيتَين، أنتجتا صيغتَين مختلفتَين لإحياء الإسلام.
(١) التنوع الثقافي
رغم تبايُن الاختلافات الثقافية بدرجةٍ كبيرة، فإننا نرى بعض أوجه التشابه في الطرق التي أُثيرت بها قضيَّتا «الانحلال الاجتماعي» و«التدهور السياسي» في أجزاءٍ مختلفة من العالم الإسلامي. قبل الاستعمار والسجال الجدلي بين الحداثة والمسلمين في القرن التاسع عشر، كانت هناك درجة من الوعي بتدهور العالم الإسلامي، وهو ما استدعى استجابةً «إحيائية». وكان الوضع الراهن للإسلام — أي الإسلام بصفته دينًا معنيًّا بالشريعة — هو الموجِّه للحركات الإحيائية عمومًا. وقد خالطَت هذا التوجه نزعةٌ صوفية، ليخرج في شكل طرقٍ صوفية متعددة، خصوصًا في الهند ومصر.
(٢) نموذج الشريعة
قبل إعطاء نظرةٍ موجزة على هذه العملية، لا بد أن أبدأ بتوضيح المبادئ الإبستمولوجية للإسلام الكلاسيكي، بالشكل الذي وصل به للعصر الحديث. في البداية، لا بد أن أوضح أن المصادر الأربعة التي ستُذكر هنا تمثل وجهًا واحدًا فقط من الأوجه المتعددة للثقافة الإسلامية، ألا وهو الشريعة. تمثل هذه المصادر المبادئ الإبستمولوجية أو أصول الفقه التي يُستنبط منها الفقه. والشريعة بدورها، كما يعلم علماء الإسلام، هي أحد الوجوه المتعددة للتقاليد والثقافات الإسلامية المختلفة عن غيرها، على غرار الفلسفة وعلم الكلام والصوفية … إلخ.
من أسباب اختزال الإسلام في نموذج الشريعة هو التهميش التدريجي للفلسفة الإسلامية وعلم الكلام الإسلامي منذ القرن الخامس الهجري؛ أي، القرن الثاني عشر الميلادي. فقد كان الفلاسفة وعلماء الكلام المخالفون للمنهج المتبع يتعرضون للاضطهاد أو الهجوم من جانب الفقهاء والسلطات السياسية. من العلامات على هذا الطريق «المحنة» التي تلت مرسوم الخليفة المأمون عام ٨٣٣ الذي فرض مذهب «خلق القرآن» لدى المعتزلة واضطهد المعارضين لهذا الاتجاه. وقد استمر هذه الأمر ١٥ عامًا تقريبًا (هايندز ١٩٩٣: ٢ وما بعدها). وفي القرن الثاني عشر في الأندلس، حين التمس الخليفة الدعم في حروبه ضد الملوك الكاثوليك، أقدم على نفي عالم الكلام المرموق ابن رشد وحرق كتبه. وكان من الأنصار الآخرين الكُثر الذين أُعدموا، الصوفيان الجليلان الحلاج (الذي أُعدم عام ٩١٠) والسهروردي (شهاب الدين يحيى، الذي أُعدم عام ١١٩١) (أرنالدز د.ت.: ٩٠٩ وما بعدها).
وفقًا للمذاهب الفقهية الرئيسية، تتخذ المصادر المعرفية الإسلامية الترتيب الهرمي التالي. أولها هو القرآن وتفسيره اللذان يمثلان الكنز الأساسي للمعرفة؛ أي، كلام الله الذي أوحى به، باللغة العربية، للنبي محمد في القرن السابع الميلادي. ورغم أنه يخاطب العرب أساسًا، فإن رسالته موجَّهة للبشرية جمعاء بغض النظر عن الزمان والمكان. إنه الهداية والضوء والخطة الإلهية النهائية للخلاص في هذا العالم والحياة الآخرة. يلي القرآن مباشرةً أقوال وأعمال النبي محمد، التي تشمل أيضًا إقراره لأقوال أو أعمال صحابته أو رفضه لها. هذه هي السنة النبوية. وقد جرى اعتبارها مقدَّسةً مثل القرآن؛ لأنها هي الأخرى وحي من الله. وقد شُرح الفرق بينهما من باب التفرقة بين «المضمون» والتعبير اللغوي أو «الشكل». فبما أن القرآن هو كلام الله، فإن مضمونه وتعبيره اللغوي (شكله) كلاهما مقدس. أما السنة من جهة أخرى، فرغم أن مضمونها موحًى به ولذلك مقدَّس، فهي بشرية من ناحية الشكل؛ أي، إن محمدًا هو الذي عبَّر عنها بالكلمات. وعلى ذلك فإنها ليست أدنى من القرآن؛ إنها مساوية له وإن كانت تأتي في المرتبة الثانية. حتى إن الفقهاء المسلمين قد أكدوا أن القرآن يحتاج السنة أكثر مما تحتاج السنة القرآن. فالسنة لا تشرح ما هو صريح في القرآن فحسب، وإنما تشرح أيضًا الضمني فيه، مثل طريقة الصلاة والصيام، وشروط الطهارة، والأموال الواجب إخراجها للزكاة. فمن دون السنة يكون القرآن أقل وضوحًا. إن السنة في الواقع هي المصدر الوحيد للمعلومات الضرورية لفهم سياق آيات وسور القرآن، والأحداث التاريخية التي أحاطت بالوحي، وهي العملية التي استمرت أكثر من ٢٠ عامًا.
المصدر الإبستمولوجي الثالث للمعلومات هو «إجماع» العلماء. بما أنه لم يكن هناك إجماع بين العلماء على القيمة الإبستمولوجية لمبدأ «الإجماع»، فلا يمكن كذلك أن يكون هناك اتفاق على تعريفه. وقد حدت صيغته النهائية من مجاله وتطبيقه. فقد اختُزل مجاله للإشارة فقط للمسائل التي اتفق عليها بالإجماع الجيل الأول من المسلمين، صحابة النبي، بناءً على افتراض أن ذلك الإجماع لا بد أن قام على سنةٍ نبوية معيَّنة لم تنتقل إلى الجيل التالي. وبالتالي فقد اقتصر مجاله على المسائل التي لم تُذكر صراحةً أو ضمنًا في المصدرَين المذكورَين سابقًا (برنارد د.ت.: ١٠٢٣ وما بعدها).
المصدر الرابع والأخير لاكتساب المعرفة هو القياس؛ أي، استنباط قاعدة لحالةٍ معيَّنة لم تُذكر في المصادر المذكورة أعلاه، من خلال المضاهاة بينها وبين قاعدةٍ راسخة تشبهها. لا بد أن يقوم القياس على تشابه، مثل شرب الخمر وتدخين الحشيش، أو على الأساس المنطقي للقاعدة المذكورة. يستلزم النوع الثاني من القياس الالتزام بمبدأ المتكلمين القائل بوجود «منطق عقلاني» وراء أحكام الله، وهو اعتقاد لا تشترك مذاهب الفقه كلها في قبوله. وعلى عكس «الإجماع»، لم يُطبِّق الفقهاء كلهم القياس، لكنه اكتسب دعمًا أكبر بين الأغلبية (برنارد د.ت.: ٢٣٨).
(٣) الإحياء
رغم ذلك فإننا مرةً أخرى نرى اختلافاتٍ معيَّنة داخل الحركة الإحيائية المعنية بالشريعة في القرن الثامن عشر. في الهند مثلًا، يُعد شاه ولي الله (١٧٠٢–١٧٦٢) الأب الروحي للإسلام «الإحيائي». وكان مذهبه الإحيائي مزيجًا بين «الصوفية» والفكر الموجه للشريعة. وهو يختلف اختلافًا ملحوظًا عن الحركة الوهابية في شبه الجزيرة العربية التي بدأها محمد بن عبد الوهاب (١٧٠٣–١٧٩٢) واستهدافها إصلاحًا تقليديًّا بشدة. يمكن ردُّ هذا للخلفية التاريخية والثقافية المتباينة للإسلام في هاتَين البيئتَين الاجتماعيتَين. فبينما أُعيد تشكيل الإسلام في الهند بتفاعله مع التراث الهندي السابق للإسلام، على غرار الهندوسية والبوذية، فقد تأثر الإسلام في شبه الجزيرة العربية بدرجةٍ كبيرة بعاداتها وتقاليدها البدوية.
متأثرًا بشدة بانهيار حكم المغول وما ترتَّب عليه من ضياع سلطة المسلمين، سعى شاه ولي الله للحث على إحياء سلطةٍ مركزية قوية بتقديم مبدأ أن تكون هناك سلطتان أو خلافتان متكاملتان؛ إحداهما سياسية، والأخرى شرعية. كانت السلطتان في رأيه مسئولتَين عن الحفاظ على الإسلام. واستخدم للسلطة السياسية مصطلح «الظاهر»؛ أي، الخارجي، وأسند إليها مسئولية الحفاظ على النظام الإداري والسياسي وتطبيق الشريعة. واستخدم للخلافة الشرعية مصطلح «الباطن»؛ أي، الداخلي، وكانت مهمتها توجيه القادة الدينيين في المجتمع، وهو الدور الذي اضطلع به شاه ولي الله بنفسه (براون ١٩٩٦: ٢٢–٢٣). التشابه واضح بين منهجه ومنهج ابن عبد الوهاب؛ فكلاهما جمع بين السلطة السياسية وسلطة الفقيه، للعمل نحو إخراج الإسلام من حالة الاضمحلال التي كان عليها. لكن يبقى الفرق بين المنهجَين في هذه المسحة الصوفية التي اتسم بها الإسلام الهندي.
وبهذه المسحة الصوفية، نجح شاه ولي الله في انتقاد البناء الكلاسيكي للشريعة. فقد استطاع أن يرفض «التقليد»، وهو التقيد دون تمحيصٍ بآراء علماء المذاهب الكلاسيكية للفقه، وأن يُحيي الرغبة في استخدام الجهد الشخصي في حسم المسائل الشرعية، أو ما يُطلق عليه الاجتهاد. وقد مكَّنه إحياء مبدأ الفهم الشخصي هذا من تجاوز الركود الذي استمر طويلًا في علوم الشريعة. وقد شدَّد على أهمية روح الشريعة وقابلية تطبيقها في كل زمان ومكان، لا شكلها، الذي يتشكَّل ويُصاغ حسب ظروف الزمان والمكان. وهو لم يكتفِ بأن أحيا مبدأ «المصلحة» (شاه ولي الله ١٩٩٦: ١١) من المذهب المالكي، وإنما اعتمد على نحوٍ أساسي على التفرقة الصوفية المعروفة بين الشريعة والحقيقة، حيث تُعد الأولى تاريخية ومحدودة في الزمان والمكان، أما الثانية فيكون بلوغها بالتمرُّن الروحاني الذي يؤدي لرؤية الواقع.
«وستجدني إذا غلب عليَّ شقشقة البيان، وأمعنتُ في تمهيد القواعد غاية الإمعان، ربما أوجب المقام أن أقول بما لم يقل به جمهور المناظرين من أهل الكلام. كتجلي الله تعالى في مواطن المعاد بالصور والأشكال. وكإثبات عالم ليس عنصريًّا يكون فيه تجسُّد المعاني والأعمال بأشباحٍ مناسبة لها في الصفة، وتُخلق فيه الحوادث قبل أن تُخلق في الأرض، وارتباط الأعمال بهيئاتٍ نفسانية، وكون تلك الهيئات في الحقيقة سببًا للمجازاة في الحياة الدنيا وبعد الممات، والقول بالقدَر الملزم، ونحو ذلك.
فاعلم أني لم أجترئ عليه إلا بعد أن رأيتُ الآيات والأحاديث وآثار الصحابة والتابعين متظاهرةً فيه؛ ورأيتُ جماعات من خواص أهل السنة، المتميزين منهم بالعلم اللدني يقولون به ويبنون قواعدَهم عليه» (شاه ولي الله ١٩٩٦: ٢٤–٢٥).
بما أن هذه المفاهيم يمكن نسبها بسهولة ﻟ «عالم الخيال» الخاص بالصوفي والفيلسوف الأندلسي ابن عربي (١١٦٥–١٢٤٠)، فحسبنا هنا أن نُبيِّن كيف أن مفهوم السنة، المنفصلة عن علم الكلام، كان مرتبطًا ارتباطًا عميقًا بالثيوصوفيا الصوفية (أبو زيد ١٩٩٨أ: ٥١–٩٥). هذا الارتباط بين السنة والثيوصوفيا الصوفية سمةٌ مميزة للإسلام الهندي؛ حيث حدث الانسجام أخيرًا بين اثنَين من الخصوم الأشد اختلافًا وهما ابن عربي، ممثل الثيوصوفيا الصوفية، وابن تيمية (١٢٦٨–١٣٢٨)، ممثل المذهب الحنبلي الشديد المحافظة (هنويك د.ت.: ٣٢١).
في سياق الضغط الأمريكي من أجل إعادة تشكيل العالم العربي سياسيًّا وفكريًّا، يجري حاليًّا عددٌ هائل من الاجتماعات والمؤتمرات وما شابه، التي صُممَت أساسًا لتقديم الوهابية باعتبارها نظامًا ليبراليًّا ومتفتحًا وديمقراطيًّا، في محاولة لتجميل نفس الوجه القديم. وخلال مؤتمر أُقيم مؤخرًا بشأن «حقوق المرأة»، ظهر بجلاءٍ شديدٍ في الكثير من البيانات الغطرسة الذكورية المتجلية في الاعتراضات على مشاركة النساء، حتى إن الأمير عبد الله دعا المشاركين لاجتماعٍ منفصل في القصر الملكي لتخفيف التوتر. ويبدو التقرير النهائي للمؤتمر مؤيدًا لتحرر المرأة ومشاركتها في المجال الاجتماعي العام، لكن دائمًا مع شريطة الامتثال لقواعد الشريعة («الحياة» ٢٠٠٤: ٤).
(٤) الخلاصة
صار من الواضح الآن أنه لا صحة في التعميمات التي صاغَتْها القوى الاستعمارية عن الإسلام والعالم الإسلامي خلال القرن التاسع عشر. وكما سنرى، فإن واقع أن الإحياء كان أساسًا موجهًا لدعم التضامن والحفاظ على النظام الاجتماعي في مواجهة التدهور — ومن ثَم أكد على مسألة الشريعة — قد ترك بصمته على أغلب قضايا الإصلاح، حتى استعاد موقعه المحوري في الحركات الإسلامية السياسية.
هوامش
الفترة الثانية، من عام ١٦٥٠ حتى ١٨٦٨، هي فترة الإمبريالية الهولندية والعزلة، التي أدت لظهور الإسلام الإندونيسي، أو «الإسلام الأبانجاني». كذلك برز في هذه الفترة دور الشركة الهولندية البحرية التجارية كيه بي إم. «بحلول القرن الثامن عشر، بدأ المزيد من العلماء العرب الأصوليين من حضرموت يجعلون آراءهم عن الإسلام محسوسة، وبدأَت التأثيرات الخارجية على الإسلام الإندونيسي تتحول من مركزها السابق في شبه الجزيرة الهندية إلى الشرق الأوسط.»
الفترة الثالثة، من عام ١٨٦٨ حتى ١٩٠٠، تبدأ بافتتاح قناة السويس التي سهَّلَت على العلماء التقليديين رحلات الحج، مما أعاد التواصل بين الإسلام الإندونيسي ومركز التعلم في مكة.
وأخيرًا، شهدَت فترة القرن العشرين تأثير حركة الإصلاح المصرية التي قادها محمد عبده (المتوفى عام ١٩٠٥) ومحمد رشيد رضا (المتوفى عام ١٩٣٥) التي روَّج لها إصدار مجلة «المنار» (١٨٩٨–١٩٣٥). خلال هذه الفترة (١٩٠٠–١٩٣٩) صارت مؤسسة الأزهر في القاهرة مركز التعليم لدى المسلمين الإندونيسيين، خاصةً بعد سيطرة القوات الوهابية على مكة. خلال منتصف عشرينيات القرن العشرين، كان هناك ما يقرب من مائتَي طالب من جنوب شرق آسيا، أغلبهم إندونيسيون، يدرسون في القاهرة. كانت السلطات الهولندية قد أقامت نظام تعليم غربيًّا للأطفال الهولنديين، لكنه جذب أعدادًا كبيرة من الإندونيسيين، خاصة من العاملين في الخدمة المدنية. وقد أدى هذا إلى تقليص مؤسسات التعليم التقليدية، خصوصًا في المدن الكبرى (ميدين ١٩٩٥: ١٩٧).