الخروج من كشمير
ترتبط سريناجار — عاصمة ولاية جامو وكشمير — مع دلهي برحلات جوية يومية تستغرق الواحدة منها تسعين دقيقة. ومع ذلك فإن الخطاب الذي أرسلته لفاروق عبد الله رئيس الوزراء الكشميري لم يصل إليه إلا بعد ستة أسابيع من إرساله، ووفقًا للتاريخ المدون على الرد الذي كتبه «القائم بأعمال مساعد رئيس الوزراء» فإن خطاب رئيس الوزراء استغرق خمسة أسابيع أخرى ليصلني في دلهي. ترى هل كل هذا التأخير بسبب ترك هذين الخطابين في مكتب أحد الموظفين الرسميين، أم أنهما استقرا في إحدى حقائب البريد المنسية، أم ضاعا في مكتب البريد الذي يعج بالنشاط؟ ولم يكن الذهاب إلى كشمير بالأمر الهين. ومع ذلك فقد حمل رد رئيس الوزراء أخبارًا سعيدة؛ فقد عبر فاروق عبد الله عن سعادته بالحديث معي عن رئيسة الوزراء الراحلة إنديرا غاندي. وكان الاتفاق على المقابلة في دلهي أو في سريناجار حسبما يتأتى لي.
لا تعد سريناجار اليوم مكانًا سهل الزيارة مثلها مثل باقي كشمير. وكشمير كانت يومًا ما ساحة مرح جميلة أثناء الحكم البريطاني للهند، ثم أصبحت فيما بعد منتجعًا سياحيًّا للسياح والمرتحلين من الهنود والأوروبيين والأمريكيين والأستراليين، لكنها تحولت الآن إلى ساحة حرب؛ فهي أرض تتنازع عليها دولتان كانتا يومًا ما دولة واحدة ثم أصبحتا عدوين لدودين، وهما الهند وباكستان. ومن يزور كشمير هذه الأيام من الكُتاب ليسوا من كتاب السير، بل هم صحفيون يغطون الأخبار الخاصة بالنزاع الداخلي الذي يتأجج ويخبو منذ أمد طويل عامًا بعد آخر.
أما عن فنادق سريناجار فمعظمها اليوم مغلق ومهجور. أما الفنادق الباقية التي لا تزال تعمل، فسنجد أنها ليست سوى مأوًى لقوات الأمن. فنجد أحبال الغسيل في حدائقها وعليها صفوف الملابس العسكرية كاكية اللون. ويجوب الجنود شوارع المدينة بأحذيتهم السوداء الطويلة وخوذاتهم وملابسهم الواقية من الرصاص. ومعظم السيارات في الشوارع شاحنات وسيارات جيب عسكرية. وولى عصر الباعة الجائلين ومنظفي الأذن والحلاقين الذين كانوا يمارسون عملهم على أرصفة شوارعها. شكل من أشكال الحياة الطبيعية يُوجد هنا. لكن الجو في المحلات والأسواق غالبًا ما يكون متوترًا، والوجوه عابسة ومكتئبة.
وكشمير اليوم ليست كشمير التي عرفتها إنديرا غاندي. فهي اليوم تُمثل جرح الهند القذر والملوث — الهند الممزقة — الذي أنتجه الانقسام، ولم تستطع الأيادي مداواته ولم تستطع الأيام محو ما به من تلوث. فعام ١٩٤٧ — عندما نالت الهند استقلالها، وانقسمت الهند البريطانية إلى الدولتين المستقلتين الهند وباكستان — انضمت كشمير، الولاية الوحيدة في الهند التي غالبية سكانها من المسلمين، إلى الهند العلمانية وليس إلى باكستان الإسلامية. كان هذا قرار المهراجا الهندوسي — الذي كان يحكم كشمير وقتئذٍ — لسكان ولايته الذين كان معظمهم من المسلمين. لكن هذا القرار نُفِّذ بالإجبار، ولم يحظَ بقَبول أحد.
وقصتي — حياة إنديرا غاندي — تعود لما هو أبعد من ذلك. فهي تبدأ في مكان ناءٍ في جبال الهيمالايا حيث القمم المغطاة بالثلوج، والمروج التي تكسوها الزهور البرية الجبلية، والأنهار المتدفقة التي تصب في بحيرات بيضاوية الشكل كقطرات الماء، والوديان التي تحجب عنها ضوء الشمس غابات التنوب والصنوبر وأشجار التشينار العملاقة التي تكسوها الأزهار الحمراء النارية كل خريف إلى أن تأتي الثلوج وتختفي الألوان من المكان.
وكشمير — التي تمتعت بالجمال والسمو — كانت حجر الأساس لحياة إنديرا غاندي، وهي أيضًا المكان الذي تمسكت به تمسكًا شديدًا، وحاولت مرارًا وتكرارًا أن تستعيده طوال عمرها المديد. كانت كشمير الأرض التي أطعمتها عند جوعها، وواستها عند كربها. وقد كتب والدها جواهرلال نهرو في الصفحة الأولى من سيرته الذاتية هذه العبارة «لقد كنا كشميريين». وآمنت إنديرا بهذه المقولة وحولتها للزمن المضارع حينما قالت: «أنا كشميرية.» وظلت كشمير هي الملاذ الذي تلجأ إليه إنديرا والمكان الذي يهفو إليه قلبها طوال حياتها غير المستقرة والمضطربة التي لم تحظَ فيها بحياة عائلية مستقرة، ولم تمتلك فيها أي منزل خاص بها.
وقصة إنديرا غاندي تبدأ وتنتهي في كشمير …
•••
تحديدًا ذلك الجد الذي يُشير إليه نهرو هو عالم هندوسي — وأحد أعضاء صفوة الطبقة البرهمية في كشمير — يدعى راج كول، كان هذا الرجل عالمًا في اللغتين السنسكريتية والفارسية، ورحل عن كشمير نحو عام ١٧١٦ متوجهًا إلى دلهي. وهناك أصبح عضوًا في بلاط الإمبراطور المغولي «فرخ سير» الذي منح راج كول منزلًا يطل على نهر في المدينة. وباتت أسماء أحفاد راج كول تنتهي بكول نهرو (ويستعمل اللفظ العربي «النهر» في اللغة الهندية بالمعنى نفسه)، وبمرور الوقت سقط لفظ كول (وهم اسم العائلة الحقيقي) وأصبحت أسماؤهم تنتهي اختصارًا باسم نهرو فحسب (ومعناه صاحب النهر).
منذ البداية تحالفت عائلة نهرو مع القوة. في أول الأمر كانت هذه القوة ممثلة في إمبراطور المغول، وعندما انهارت إمبراطوريته أصبحت هذه القوة ممثلة في البريطانيين. وقد كان رجل من ذرية راج كول، واسمه لاكشمي ناريان، بين أوائل المحامين الهنود لشركة الهند الشرقية في دلهي، وعمل ابنه، جانجا دار، ضابط شرطة في المدينة عندما وقعت ثورة الهند عام ١٨٥٧. وفي خضم ثورة ١٨٥٧ هرب جانجا مع عائلته إلى أجرا، ومات بعد ذلك بأربعة أعوام، وبعد موته بثلاثة أشهر وضعت زوجته طفلًا أُطلق عليه اسم موتيلال.
تربى موتيلال — جد إنديرا غاندي — في كنف أخيه الأكبر ناندلال، وتدرب موتيلال مثل أخيه الأكبر على العمل محاميًا. وشأنه شأن أخيه الأكبر أيضًا تزوج موتيلال وهو لا يزال في سن المراهقة وأنجب طفلًا، لكن زوجته وطفله ماتا أثناء الولادة وهو لم يتم العشرين من العمر بعد. وبحلول عام ١٨٨٧، العام الذي تُوفي فيه ناندلال وانتقلت مسئولية الأسرة إلى موتيلال لأنه الابن الأكبر، كان موتيلال قد تزوج مرة ثانية من امرأة جميلة صغيرة السن، من أصل كشميري هي الأخرى، تدعى سواروب راني. انتقل الزوجان الصغيران إلى مدينة الله آباد في الأقاليم المتحدة (كما أطلق عليها فيما بعد) التي تبعد نحو ٥٠٠ ميل من دلهي حيث واصل موتيلال عمله محاميًا، وسرعان ما أصبحت له حياته المهنية المرموقة في مجال المحاماة.
منذ قرون مضت كانت مدينة الله آباد تُعرف باسم مدينة «براياج القديمة». وبراياج هي مدينة وصفت في ملحمة رامايانا ولا تزال مقصدًا يحج إليه الهندوس؛ حيث إنها منطقة التقاء الأنهار الثلاثة المقدسة في الهند، وهي الجانج ويامونا ونهر ساراسواتي المفقود الذي يجري تحت الأرض. ومدينة الله آباد اليوم ليست سوى مدينة إقليمية شديدة الهدوء يغطي أجواءها الغبار، لكنها كانت في نهاية القرن التاسع عشر مقرًّا للمحكمة العليا، ومركزًا لواحدة من أكثر الجامعات تميزًا في الهند.
لكن التقشف الذي ميز نهرو كان بطيئًا في تطوره، الأمر الذي لا يدعو للدهشة إذا ما نظرنا إلى البيئة التي تربى فيها. وعام ١٩٠٠ انتقل موتيلال بعائلته إلى منزل ضخم يحوي اثنين وأربعين حجرة في ١ تشرش رود في القسم المخصص لسكن المدنيين الإنجليز في مدينة الله آباد. أطلق موتيلال على قصره اسم آناند بهافان، التي تعني باللغة الهندية «بيت السعادة». كان هذا المنزل قصرًا ريفيًّا بُني على الطابع الإنجليزي؛ إذ أحيط بحدائق واسعة، وبستان من أشجار الفاكهة، وملعب تنس، وحلقة لركوب الخيل بالإضافة إلى وجود حمام سباحة بداخله. وفور الانتقال إلى هذا القصر رتب موتيلال لأن يضاء القصر بالكهرباء، وأن تجري المياه في صنابير بداخل القصر، ولم يكن لمدينة الله آباد عهد بهذا الضوء أو هذه الصنابير من قبل. وبعد رحلة قام بها إلى أوروبا عام ١٩٠٤ استورد سيارة من هناك؛ كانت هي الأولى أيضًا من نوعها في مدينة الله آباد. ومن المحتمل جدًّا أن تكون هي العربة الأولى في الأقاليم المتحدة الهندية بأكملها. وبالتأكيد كانت هي الوحيدة التي يقودها سائق إنجليزي.
حينما ذهب جواهرلال للدراسة في مدرسة حكومية بضاحية هارو بإنجلترا عام ١٩٠٥ كانت له أخت صغيرة تدعى ساروب كوماري ولدت عام ١٩٠٠. وولدت أخت أخرى له تدعى كريشنا عام ١٩٠٧. (ولد ابن آخر لموتيلال عام ١٩٠٥، لكن حياته لم تدُم سوى شهر واحد.) حظي كل أطفال نهرو بتربية متميزة ذات طابع بريطاني. وإلى أن أُرسل إلى مدرسة حكومية في إنجلترا، تعلم جواهرلال على يد معلم أيرلندي شاب يدعى فيرديناند بروكس. أما الشقيقتان فكانت لهما مربية إنجليزية تدعى ليليان هوبر وقد أطلقت ثلاثة أسماء تدليل إنجليزية على أولاد نهرو الثلاثة. في حالة الفتاتين عاش اسماهما معهما طوال حياتهما. كان اسم تدليل جواهرلال «جو»، واسم ساروب كوماري «نان»، أما اسم تدليل كريشنا فهو «بيتي.»
لم يكن قصر آناند بهافان مجرد تقليد محكم للقصور الريفية الإنجليزية على الرغم من ارتداء الخدم به بزات رسمية، واحتواء مائدة الطعام على أطباق من بورسلين السيفر الفرنسي وأكواب من الكريستال وأدوات مائدة من الفضة، ووجود بيانو ضخم في حجرة المعيشة ومكتبة كبيرة بها كتب مغلفة بالجلد. في حقيقة الأمر كان منزل عائلة نهرو مشتتًا بين الشرق والغرب، بين الهند وبريطانيا. كان موتيلال نهرو يرتدي البذل الثمينة التي تصممها المتاجر الشهيرة في شارع سافيل رو بلندن (غير أن ملابسه لم تكن تُرسل ثانية إلى أوروبا للغسيل كما كانت الشائعات تقول). ابتعد موتيلال عن الدين، وكان يشرب الويسكي الاسكتلندية ويأكل الطعام الغربي (بما في ذلك اللحم) الذي كان يعده طباخ مسيحي، ويصر على التحدث بالإنجليزية على مائدته. ووظَّف مدرسين بريطانيين ومربية أطفال بريطانية لتعليم أطفاله، وبعد مدرسة هارو ألحق ابنه بجامعة كامبريدج.
لكن سواروب راني زوجة موتيلال كانت امرأة كشميرية تقليدية متمسكة بتعاليم الهندوسية. فمع سماحها لبناتها بارتداء المعاطف الفرنسية لم ترتدِ قط غير الساري الكشميري. وكانت تستحم في نهر الجانج، وتؤدي الصلوات الهندوسية الخاصة بطقوس «البوجا»، وتتبع نظامًا غذائيًّا نباتيًّا صارمًا، وأبقت على طباخها الكشميري، وتأكل بأصابعها وتجلس على الأرض. وتفهم الإنجليزية ولا تتحدثها. وكان الحديث يدور باللغة الهندية بين النسوة في قصر آناند بهافان.
في معظم الوقت كان العالمان المختلفان في آناند بهافان — الغربي والهندي — يقسمان سكان القصر، فالعالم الغربي هو عالم الرجال، والهندي هو عالم النساء. لكن الأمر لم يكن هكذا دائمًا. فمع التحذير الهندوسي ضد السفر للخارج (وعقوبة مخالفة هذا التحذير هي الإبعاد عن الطائفة)، صاحبت سواروب راني زوجها وأبناءها إلى بريطانيا وأوروبا عندما سافر جواهرلال إلى مدرسته لأول مرة عام ١٩٠٥. وموتيلال نهرو — مع طريقة تفكيره البريطانية وقيمه وعاداته وسلوكياته — تصرف بطريقة هندية تقليدية عندما تعلق الأمر باختياره لزوجة ابنه ومهنته.
ولم يمنع هذا من أن يتأثر نهرو بهذه المعرفة النظرية وتلك الاتجاهات الغربية تجاه الحب الرومانسي والزواج الذي يتبعه، في البداية لم يعترض نهرو كثيرًا على العروس التي اختارها له والده، فهو يؤمن بأن موتيلال هو من يجب أن يختار العروس له. كان الاختيار قد تم قبل عودة جواهرلال إلى الهند عام ١٩١٢. فقبل وقت وجيز من حصوله على رخصة العمل بالمحاماة في لندن، تلقى جواهرلال خطابًا من والده يخبره فيه موتيلال أنه اختار زوجته المستقبلية، وهي فتاة عمرها اثنا عشر عامًا تدعى كامالا كول. وصفها موتيلال في خطابه بأن «جمالها ليس أخاذًا [و] … تتمتع بصحة جيدة للغاية»، وهذه الفتاة تنتمي لأسرة كشميرية متحفظة كانت تعيش في دلهي. أُبرم العقد بين الأسرتين، وجرى الاتفاق على المهر، وأبلغ موتيلال ابنه. وما على جواهرلال إلا إعلان موافقته فحسب.
وعام ١٩١٥ عندما بلغت كامالا السادسة عشرة من عمرها انتقلت للعيش في مدينة الله آباد للزواج من جواهرلال. ونتيجة للعيش في أسرة كشميرية تقليدية كانت كامالا تجهل الأساليب والعادات الأوروبية. وتولت السيدة هوبر، مربية طفلتي نهرو، مهمة تعليم كامالا طريقة استخدام أدوات المائدة وكيفية التحدث بالإنجليزية. ولم تكن مهمة التعليم سهلة. كانت كامالا فتاة جادة وقوية وسريعة الغضب، وذات جمال بارع وبشرة نضرة وشعر أسود وعينين بنيتين واسعتين مشعتين. لكن جمالها يخلو من الدفء أو الابتهاج، بل كانت خجولة ومنعزلة وعلى وجهها دائمًا نظرة الغزال الجريح.
ولم تكن كامالا فتاة سهلة الانقياد أو ضعيفة الشخصية كما كان يبدو عليها. صحيح أنها وافقت على أن تتغير لتصبح عروسًا مقبولة لجواهرلال لأنها لم تملك خيارًا آخر. لكن شخصيتها الداخلية ظلت قوية كما هي، مع أن الأمر قد يستغرق من آخرين سنوات عديدة — وفيهم زوجها — ليكتشف كم هي قوية وعنيدة ومتمسكة بمبادئها. وموتيلال نهرو نفسه ظن أنه كسب فتاة عديمة الشخصية لتكون زوجة لابنه، وقد تعاملت زوجته وبناته والعديد من أعضاء المنزل الآخرين مع كامالا من هذا المنطلق.
اختار عرافو العائلة ميعاد الزواج ليكون في ٨ فبراير عام ١٩١٦، وهو الموافق لعيد «فاسانت بانتشمي» وهو عيد يحتفل فيه الهنود بقدوم الربيع. وقبل أسابيع من حلول هذا التاريخ ظل الخياطون والخياطات ومصممو الجواهر في مدينة الله آباد يعملون في تحضير جهاز العروس، وتم هذا غالبًا تحت إشراف موتيلال الشخصي. وهطلت الهدايا من جميع أنحاء الهند على قصر آناند بهافان. وتقرر أن يقام حفل الزفاف في دلهي وحجز موتيلال قطارًا خاصًّا لنقل ٣٠٠ ضيف — من عائلة الزوج ومعارفه وأصدقائه — إلى دلهي، حيث أُقيم سرادق ضخم، وأمام هذا السرادق وضعت لافتة مصنوعة من الورود مكتوب عليها «معسكر زفاف نهرو».
تكشف إحدى الصور المتبقية حتى الآن لزواج كامالا وجواهرلال نهرو عن المحنة التي مر بها كل منهما يوم زواجهما. فهما واقفان بحرص ومرتديان ملابس منمقة؛ جواهرلال يرتدي الشيرفاني المطرز (معطف رسمي طويل) وعمامة، وكامالا ترتدي ساري مطرزًا باللؤلؤ استغرق صنعه شهورًا من العمل الجاد من فريق من الحائكين. لكن حالة العروسين وتعبيراتهما مناقضة لملابسهما المزخرفة وللمناسبة. كانت أذرعهما متشابكة — فقد صارا رغم كل شيء زوجًا وزوجة — لكنهما لا يقفان مقتربين والحزن بادٍ على وجهيهما. يحدق جواهرلال في عدسة كاميرا التصوير بتردد، وتظهر هالات سوداء تحت عينيه. وكامالا تنظر بعيدًا ناحية اليسار، بعيدًا عن زوجها. وشبح ابتسامة يرتسم على شفتَيها، ويملأ عينيها السوداوين الواسعتين شيء أقرب إلى الخوف.
•••
ذهب الزوجان لقضاء شهر العسل في كشمير، بالضبط مثلما سيحدث بعد ستة وعشرين عامًا عندما ستذهب ابنتهما مع زوجها إلى كشمير. كانت هذه هي المرة الأولى لجواهرلال وكامالا التي يذهبان فيها إلى كشمير؛ أول مرأى لموطنيهما. لا نعرف ما فعلت هذه الزيارة إلى كشمير بكامالا. لكنها كانت لنهرو زيارة لا تُنسى، بل نقطة مصيرية في حياته تقريبًا.
وفي مكان يدعى ماتيان قيل لهما إن كهفًا شهيرًا، وهو كهف آمارناث، يبعد ثمانية أميال فقط عنهما، عزما على المضي إلى هناك على الرغم من وجود «جبل ضخم» في طريقهما. انطلق الاثنان في الرابعة صباحًا بصحبة راعٍ من المنطقة، مرشد لهما في الرحلة، ورجال يحملون حقائبهما، عبر الجميع سريعًا أنهارًا جليدية عديد. وكلما تسلقوا إلى أعلى أصبح التقاط الأنفاس أكثر مشقة، ثم توقفوا لربط الحبال الموصلة حول خصورهم، وبدأ عدد من حاملي الحقائب الثقيلة يبصقون الدماء من أفواههم. بدأت الثلوج تتساقط وأصبحت الأنهار الجليدية «زلقة بصورة رهيبة». كانت المجموعة كلها «منهكة، وكل خطوة» تحولت إلى عناء ومشقة، ومع ذلك واصلوا شق طريقهم.
فجأة سقط جواهرلال في واحد من هذه المواقع، داخل هوة شاسعة تغطيها طبقة رقيقة من الثلج الذي أخفى ذلك «الشق الهائل». لكن الحبل المربوط حول خصره الذي كان يربطه برفيقه منعه من السقوط في الهوة. لم يسقط في الهوة السحيقة التي كانت ستمثل تهديدًا بالغًا له. تشبث نهرو بحافة الشق وجذبه الآخرون خارجها.
غيَّر هذا الحادث الذي نجا فيه نهرو من الموت بشق الأنفس من مسار التاريخ الهندي ومن مسار حياة الكثيرين، وفي ذلك حياتي بعد أكثر من ثمانين عامًا.
حددت بعض الأمور السياسية والتاريخية المهمة مصير جواهرلال نهرو وابنته إنديرا غاندي وتشكيلها. لقد «قيدتهما أغلال التاريخ». وكان الموت وحده هو القادر على فك هذا القيد. لم يهابا الموت، ولكنه أبدًا لم يكن بعيدًا عن أذهانهما؛ فقد رأياه في موت من يحبان وفي أحلامهما وفي أنفسهما. وهكذا كانت المرتفعات الكشميرية الشامخة لا تبالي بحياة البشر أو موتهم. كانت لا تتأثر بالأحزان الإنسانية، ومحصنة ضد الأفراح البشرية، وكان جمالها وصمودها يفوق الأمور التي تشغل الإنسان في كفاحه وكدحه.