نحو ثلاثية
لكن عندما وصلت إنديرا إلى الساحل الشرقي من الولايات المتحدة كان التعب قد أعياها، فقد كتبت لنهرو تقول: «لا أقوى حتى على الوقوف»، إلا أنها استطاعت المضي إلى جامعة ييل في مدينة نيو هيفن بولاية كونيتيكت لإلقاء محاضرة هناك وإهداء الجامعة صورة لإليهو ييل المتبرع الأكبر للجامعة، الذي عمل لدى شركة الهند الشرقية البريطانية، وعُين حاكمًا على مدراس. أما في واشنطن فقد مكثت إنديرا بضعة أيام لدى ابن عمها بريج كومار نهرو، الذي كان وقتها سفيرًا للهند في الولايات المتحدة. وقد أخذت وزوجته فوري نهرو «تحاضر» إنديرا بشأن حالتها النفسية البائسة، لكن إنديرا تمكنت من السيطرة على حزنها قبل أن تستقل الطائرة متجهة إلى باريس لحضور مؤتمر لمنظمة اليونسكو قالت عنه فيما بعد لدوروثي إنه «ممل إلى درجة قاتلة».
بعدها عادت إلى الهند في يناير عام ١٩٦١، حيث بدا ظاهريًّا أن حياتها عادت إلى إيقاعها الطبيعي.
في نوفمبر قامت إنديرا ونهرو معًا بزيارتهما الرسمية الثانية إلى الولايات المتحدة لعقد قمة مع الرئيس الأمريكي جون إف كينيدي، بعد اثني عشر عامًا من رحلتهما الأولى إلى أمريكا. كان الكل — ربما عدا نهرو وإنديرا — يعلق آمالًا عريضة على هذه القمة استبشارًا بالحكومة الأمريكية الجديدة المنتمية للحزب الديمقراطي التي يرأسها رئيس شاب مفعم بالحيوية. التقى نهرو كينيدي من قبل في الهند عندما كان الأخير عضوًا شابًّا في مجلس النواب الأمريكي، لكن نهرو لم ينبهر بشخصيته، غير أن بريج كومار نهرو كان واثقًا من أن نهرو سيدرك جدارة كينيدي هذه المرة. كذا توقع جون كينيث جالبريث سفير الولايات المتحدة إلى الهند أن يقنع كينيدي نهرو بجدارته.
بعد واشنطن استقلت إنديرا ونهرو طائرة إلى لوس أنجليس، وهناك ارتفعت معنوياتهما شيئًا ما قبل أن يعودا إلى الهند بعدما زارا مدينة ديزني لاند، وأحد استوديوهات تصوير الأفلام، والتقيا بالممثل الأمريكي مارلون براندو، والكاتب ألدوس هوكسلي، والمؤرخ ويل ديورانت. في الواقع كانت النتيجة الوحيدة الملموسة لزيارة إنديرا ونهرو للولايات المتحدة عام ١٩٦١هي الزيارة الناجحة والشهيرة التي قامت بها جاكلين كينيدي إلى الهند في مارس ١٩٦٢ ردًّا على زيارتهما.
في أبريل، أثناء جولة إنديرا في الولايات المتحدة، مرض نهرو — الذي كان آنذاك في الثالثة والسبعين من العمر — مرضًا شديدًا إثر إصابته بالتهاب كلوي. ولأنه عانى حمى شديدة وألمًا مبرحًا فقد اضطر إلى ملازمة الفراش. فتملك القلق كريشنا هاثيسينج، عمة إنديرا التي مكثت في تين مورتي أثناء غياب الأخيرة. وقبل أن تصل إنديرا إلى تين مورتي كانت حالة نهرو الصحية قد بدأت تتحسن.
•••
إذا عدنا إلى الهند في خريف عام ١٩٦٢ نجد مشاكل خطيرة أوشكت على الاندلاع على حدود البلاد المشتركة مع الصين. فلقرون ظلت جبال الهيمالايا — التي يعني اسمها باللغة السنسكريتية (مقر الثلج) — بمنزلة حدود طبيعية تحمي شمال الهند من الغزو. ومع أنه كانت هناك علامات تنذر باحتمال شن الصين هجومًا على الهند من تلك الجبال البعيدة. فلم يتصور نهرو ذلك قط، فعام ١٩٥٤ — العام الذي زار فيه «تشو إن لاي» الهند، وزارت فيه إنديرا ونهرو الصين — بدأ التقارب بين الهند والصين تحت شعار «الهنود والصينيون إخوة»، ووُقعت في هذا العام معاهدة بين البلدين بنيت على المبادئ الخمس للتعايش السلمي وعدم الاعتداء، وصارت هذه المبادئ محل تركيز مؤتمر باندونج الذي عُقد عام ١٩٥٥.
لكن عام ١٩٥٦ بدأت الصين تشيد سرًّا طريقًا في منطقة «أكساي تشين» في ولاية لداخ بكشمير. وفي العام نفسه عززت سيطرتها على إقليم التبت. ففر الدالاي لاما القائد الروحي والسياسي لذلك الإقليم من الحكومة الصينية إلى الهند حيث منحه نهرو حق اللجوء السياسي، وهو ما أيدته إنديرا التي ساعدت في تأسيس لجنة إغاثة مركزية لآلاف اللاجئين التبتيين الذين تبعوا الدالاي ونفوا معه. من ثَم كانت النتيجة أن أدانت بكين الهند لإيوائها الدالاي لاما وأتباعه.
بعدئذٍ، في سبتمبر عام ١٩٦٢، أثناء زيارة إنديرا ونهرو لأوروبا، بدأت القوات الصينية تعبر خط مكماهون (الحدود الصينية-الهندية التي أسستها بريطانيا في الجبهة الشمالية الشرقية من البلاد وتعرف حاليًّا باسم ولاية أروناتشال براديش) حيث نقطة التقاء الهند وإقليم التبت وبوتان. واخترقت القوات أيضًا منطقة أكساي تشين في لداخ بكشمير التي تمتد لمسافة ١٦ ألف ميل مربع، حيث شيد الصينيون سرًّا طريقًا يمتد لمسافة ٧٥٠ ميلًا في عامي ١٩٥٦ و١٩٥٧. بعيدًا عن هذه الأحداث، في باريس، لم يلقِ نهرو بالًا لهذه الغارات ووصفها بأنها «بضع معارك تافهة نشأت بين خفر الحدود».
عادت إنديرا ونهرو إلى دلهي في أوائل أكتوبر. ثم ذهبا في ١٢ أكتوبر في زيارة رسمية إلى سيلان بعدما وافق نهرو على إرسال فرقتين إلى الشمال الشرقي قبل مغادرته بوقت قصير، وفي ٢٠ أكتوبر بعدما عاد نهرو مع إنديرا من زيارتهما شن الصينيون أول غزو شامل على الأراضي الهندية، استُخدمت فيه قذائف الهاون، والمدافع الجبلية، بل الدبابات في بعض المناطق. وعليه في ٢٢ من أكتوبر أعلنت الهند حالة الطوارئ وأرسلت إلى الولايات المتحدة وبريطانيا طلبًا عاجلًا بإمدادها بالمعدات الحربية.
إلى عشية غزو الصين للهند في أكتوبر عام ١٩٦٢ ظل وزير دفاع الهند كريشنا مينون يرفض النظر بجدية إلى تهديدات الصين، فكانت النتيجة أن الهند وجيشها كانا غير مستعدين على الإطلاق لغزو الصين. لذا لما وقع الغزو علت الأصوات في وقت واحد مطالبة برأسه. ففيما أخذ الصينيون يحشدون قواتهم ويشيدون طريق أكساي تشين عكف قطاع الدفاع في الهند بتكليف من مينون على إنتاج أواني الطهي بالضغط وأباريق القهوة.
وحتى قبل هذا الغزو لم يحظَ مينون بأي شعبية في الهند. ففي الأربعينيات عندما شغل منصب المندوب السامي للهند في لندن تورط في صفقة مشبوهة لشراء الآلاف من سيارات الجيب للهند ولم يتسلم منها سوى جزء ضئيل. وفي الخمسينيات عندما رأس الوفد الهندي في منظمة الأمم المتحدة خسر ود الأمريكيين بأكثر من طريقة، منها تسامحه مع غزو الاتحاد السوفييتي للمجر. أما للهنود فلم يحسن كريشنا القيام بشيء أثناء رئاسته للوفد الهندي في منظمة الأمم المتحدة إلا عندما ألقى خطبة تقريعية عنيفة لمدة تسع ساعات في مجلس أمن الأمم المتحدة التي دافع فيها عن سياسة الهند في كشمير. في عام ١٩٥٦ طلب نهرو من مينون أن يعود إلى الهند، وفي البداية نصبه وزيرًا بلا وزارة، ثم وزيرًا للدفاع الهند. وقتها كان مينون قد أمضى الجزء الأكبر من اثنين وثلاثين عامًا من حياته خارج الهند مسقط رأسه، فلما عاد إليها عاد غريبًا عنها، لا يستطيع التحدث بأي لغة من لغاتها سوى الإنجليزية (فقد نسي لغته الأم لغة المالايالام، ولم يتعلم اللغة الهندية قط)؛ وحتى جهازه الهضمي صار غير قادر على احتمال الأطعمة الهندية كثيرة التوابل، وتعود جسده الطويل النحيف ارتداء سترات مصنوعة من قماش التويد الصوفي الخشن، والسراويل المصنوعة من قماش الفلانيل الصوفي الخفيف بدلًا من لباس الدهوتي والأنجافاسترام اللذين يرتديهما الناس في الهند.
في ١٩ من نوفمبر، في عيد مولد إنديرا الخامس والأربعين. عندما حضرت عمة إنديرا كريشنا هاثيسينج — التي أقامت آنذاك في تين مورتي — الإفطار، وجدت المناخ فيه فاترًا للغاية. كانت أنباء قد وصلت للتو بأن الصينيين نجحوا في اجتياز «ممر سيلا باس» الذي اعتُقد أنه منيع. وبعد هذا الممر تقع ولاية آسام وسائر الهند. في الواقع لقد تدفق الصينيون «في سيل بشري» على جبال الهيمالايا في شمال شرق الهند، وحاصروا القوات الهندية التي تقل عن قواتهم عددًا وعتادًا.
أضحت أهم مدن ولاية آسام — مدينة تيزبور التي تبعد بثلاثين ميلًا فقط عن الحدود الصينية — مهددة، فقررت إنديرا قبل أن ينتصف نهار يوم ١٩ نوفمبر أن تذهب إلى هناك. فسافرت على متن طائرة محملة بإمدادات طبية من منظمة الصليب الأحمر إلى المدينة. كان الصينيون بحلول هذا الوقت قد احتلوا نحو ٥٠ ألف ميل مربع من الأراضي التابعة للهند. عادت إنديرا إلى دلهي وقضت بها ثماني ساعات بالضبط، وهي «تشع ثقة لأن سكان تيزبور القبليين رفضوا الرحيل عنها». ثم أعلنت رسالة قصيرة عبر الراديو، وأمرت بتعبئة الطائرة التي سبق أن أقلتها إلى تيزبور بالإمدادات الطبية من جديد، وعادت إلى ولاية آسام لتمكث فيها لأربع وعشرين ساعة أخرى.
وقع غزو الصين للهند عام ١٩٦٢ فجأة وانتهى أيضًا فجأة. ففي ٢١ نوفمبر أعلن الصينيون فجأة وقف إطلاق النار من جانبهم، وانسحبوا في القطاع الشرقي إلى موقع يبعد خمسة عشر ميلًا عن خط مكماهون، إلى حيث يقع «خط السيطرة الفعلية» في القطاعات الأخرى. وبذا انتهت الحرب. تعرضت الهند للإذلال التام. وتحطم نهرو.
أما إنديرا فالفترة التي أعقبت الحرب مع الصين كانت فترة اضطراب لها على المستوى الشخصي. صار نهرو عندئذٍ يواجه ضغوطًا سياسية، وشاخ جسديًّا، وتحطم نفسيًّا. فصار أكثر اعتمادًا على ابنته أكثر من أي وقت مضى. ولأول مرة بدأت إنديرا تستاء من اعتماده عليها. فشعرت برغبة طاغية في تحطيم قيود الواجب والمسئولية التي طالما قيدتها. وخططت سرًّا لترك أبيها والهند وصنع حياة جديدة ومستقلة لنفسها بالخارج.
في ١٣ أكتوبر عام ١٩٦٣ كتبت إلى دوروثي نورمان تقول: «حاجتي إلى الخصوصية والابتعاد عن الشهرة أخذت تتزايد بانتظام على مدى الثلاثة الأعوام الأخيرة حتى صرت أشعر أنني لا أقدر على تجاهلها بدون أن أعرض نفسي لنوع من القتل. لكن تمتعي بالخصوصية لسوء الحظ مستحيل، حتى وأنا في أقصى أطراف شبه القارة الهندية. لقد وجدت الناس يقدمون لي بطاقات تعريفهم ويعرضون عليَّ مشاكلهم، حتى وأنا على سفح جبل كولاهوي الجليدي (الذي يصل ارتفاعه إلى ١٦ ألف قدم)! ليس ما يسوءُني هو أنني ألتقي بالناس، وإنما هو أنهم يأتونني فقط لمجرد الحصول مني على شيء أو طلب أمر ما. فلا يُترك لي ولو حتى بضع دقائق للتدبر أو الاسترخاء أو التصرف على سجيتي وحسب.»
أخبرت إنديرا دوروثي أنها أغرمت ببيت صغير رأته معروضًا للبيع في لندن ربيع العام الماضي. كانت تملك القليل جدًّا من المال، ولم يكن لديها أي عملة أجنبية، لكنها مع ذلك أمضت «الكثير من الوقت في التفكير في طرق ووسائل» لشراء البيت. فقد كانت تأمل في جمع مال يؤهلها للحصول على قرض عقاري، ثم شراء المنزل، ثم السكن في جزء صغير منه وعرض بقية غرفه للإيجار. وكانت متأكدة أن بمقدورها أن تعيش وحدها عيشة مقتصدة في لندن، ولم ترَ أن الانتقال من العيش كابنة رئيس الوزراء إلى العيش كصاحبة نزل أمر لا يليق بها. لكنها بعدئذٍ سمعت أن المنزل اشتراه شخص آخر فشعرت «كما لو أن أحدًا صفق بابًا في وجهي». رغبت إنديرا في العيش خارج الهند إلى حد ما لتكون على مقربة من راجيف وأيضًا من سانجاي الذي اعتزم أيضًا السفر عما قريب إلى إنجلترا. لكنها، فوق كل شيء، أرادت من أن تكون وحدها. أرادت أن تكون «حرة لأعمل أو أستريح. لا يبدو هذا مطلبًا يصعب أن تجود به الحياة، ومع هذا فهو يبدو بعيدًا عن متناولي.»
في السادسة والأربعين من العمر مرت إنديرا بأزمة، لكن هذه الأزمة في حقيقة الأمر كانت أقرب إلى أزمة مرحلة المراهقة منها إلى أزمة منتصف العمر. آنذاك كانت تتساءل عن نوع الحياة الذي عليها أن تختار، وهل لها أن تختار؟ وماذا عن شعور الحرية؟ لم تتسنَّ لها فرصة حقيقية لسؤال تلك الأسئلة من قبل. فبادئ ذي بدء كانت ابنة لجواهرلال نهرو، ثم صارت زوجة لفيروز غاندي وبعد ذلك أمًّا لراجيف وسانجاي غاندي. فلم تبدأ التفكير والسعي لاكتشاف ما بإمكانها أن تكونه إلا بعدما مات فيروز، وصار ابناها مراهقين، وأصبح والدها رجلًا مسنًّا.
المفارقة في أحلام إنديرا السرية وخططها في خريف عام ١٩٦٣، أحلام الهروب، لا من السياسة فقط وإنما أيضًا من الهند، وقبل هذا وذلك أحلام «العثور على الذات»، هي أنها أذكتها في الوقت الذي ظن فيه الكثيرون أنها تناور لتتولى السلطة بعد والدها. ففي صيف عام ١٩٦٣ خسر حزب المؤتمر ثلاثة انتخابات فرعية في غاية الأهمية. وبعد غزو الصين المخزي العام السابق تضاءل نفوذ نهرو ومكانته. وصارت أيامه في منصبه معدودة. وبدأت التساؤلات بشأن من سيخلفه تخرج إلى ساحة العلن بعد أن ظلت لوقت طويل في طي الكتمان.
لكن الإعلان عن مبادرة جديدة لحزب المؤتمر تدعى خطة كاماراج سرعان ما غطى على الجدل الذي أثاره هانجن. في ظاهر الأمر وضع هذه الخطة كوماراسامي كاماراج رئيس حكومة مدراس من أجل تطهير الحكومة، وإعادة الحياة إلى حزب المؤتمر المحتضَر. ناقش كاماراج أولًا الخطة مع نهرو في أوائل أغسطس عام ١٩٦٣، قامت الخطة على استقالة المسئولين رفيعي المستوى بالحزب — سواء من أعضاء المجلس الوزاري أو رؤساء الحكومات المحلية — من مناصبهم ليتفرغوا للاضطلاع بأعمال تنظيمية للحزب. وكان كل أصحاب المناصب الحكومية عرضة لأن تنطبق عليهم خطة كاماراج (أي عرضة لأن يسرحوا من مناصبهم) عدا رئيس الوزراء. ومع أن الدافع من وراء هذه الخطة كان إعادة النشاط إلى الحزب فإن تأثيرها المباشر هو أنها تسببت في إحداث عملية تصفية على مستوى أعلى قيادات الحزب في الفترة التي تسبق انتخابات خلافة نهرو في منصب رئيس الوزراء. فتخلصت بحنكة من بعض المرشحين «غير المرغوب فيهم» مثل ديساي، العضو ذي الاتجاهات اليمينية، وفي الوقت نفسه أخفت تلك الممارسات بإبعاد المرشحين الأكثر جاذبية ولفتًا للانتباه مثل شاستري عن دائرة الضوء.
صارت خطة كاماراج موضع التنفيذ في ٢٤ أغسطس عام ١٩٦٣ ولاقت استحسانًا كبيرًا. اختار نهرو للاستقالة ستة من أعضاء المجلس الوزاري (من بينهم ديساي وشاستري، وكلاهما كان مرشحًا بارزًا لخلافة نهرو في منصب رئيس الوزراء)، وستة من رؤساء حكومات الولايات (من بينهم كاماراج نفسه الذي صار بعدها بوقت قصير رئيسًا لحزب المؤتمر). نال كاماراج الثناء على اقتراحه الخطة، لكنه تحالف مع جمعية سرية صغيرة من المتآمرين من قادة حزب المؤتمر، عُرفت هذه العصبة باسم «السينديكيت». ضمت تلك العصبة، بالإضافة إلى كاماراج نفسه، أتوليا غوش من غرب البنغال، وإس كيه باتيل من بومباي، وسانجيفا ريدي من ولاية أندرا براديش، وإس نيجالينجابا رئيس حكومة ولاية كارناتاكا. والتقى هؤلاء في أكتوبر عام ١٩٦٣ في معبد تيروباتي في جنوب الهند وقرروا أن تخلف نهرو قيادة جماعية يتزعمها لال بهادور شاستري في منصب رئيس الوزراء وأن موراجي ديساي اليميني المتشدد المستبد بآرائه لا بد من أن يمنع من ذلك المنصب.
•••
في نوفمبر عام ١٩٦٣ أخبرت ماري سيتون — وهي ناقدة سينمائية بريطانية وكاتبة بدأت معرفتها بنهرو وإنديرا عن طريق كريشنا مينون — نهرو أنها تريد أن تؤلف كتابًا عنه، لكنها قالت إنها ستمتنع عن ذلك إن كانت لديه اعتراضات. فأخبرها بأن تتناقش في أمر الكتاب مع إنديرا، قائلًا لها: «عليك أنت وإندو أن تتفاهما في هذه المسألة.» فوعدته ماري بأن تقوم بذلك، غير أنها طلبت منه أن يخبر إنديرا بعدم اعتراضه على تأليف الكتاب.
كانت تلك إصابة خطيرة، يصعب التكهن بما إن كان الشفاء منها ممكنًا. لقد عانى نهرو شللًا جزئيًّا في الجانب الأيسر من جسمه، وأصبح واهنًا جدًّا. ومع أنها لم تكن قط من أعضاء مجلس الوزراء ولم تشغل أيضًا أي منصب بالانتخاب في الحكومة فقد حثها قادة حزب المؤتمر أمثال بيجو باتنايك على أن تخلف أباها في منصبه فورًا كنائبة لرئيس الوزراء. لكن إنديرا قابلت هذا الطلب بالرفض.
في ١٢ يناير عادت إنديرا ونهرو إلى دلهي حيث واصل نهرو تماثله للشفاء. وانخفضت ساعات عمله اليومية من سبع عشرة ساعة إلى اثنتي عشرة ساعة، وأُرغم على أن يحصل على قسط قصير من النوم عصر كل يوم. ولم لم يُعلم الشعب الهندي بأن مرضه خطير، أو بأن حالته الصحية لا تزال حرجة جدًّا. بنهاية يناير كان نهرو قد تعافى بالدرجة التي تسمح له بالخروج علنًا في موكب عيد الجمهورية في ٢٦ يناير، وحضر افتتاح دورة البرلمان في فبراير، ولو أنه اضطر إلى إلقاء خطابه جالسًا.
رُوجت شائعات بأن إنديرا ستنضم قريبًا إلى مجلس الوزراء كوزيرة للشئون الخارجية، وعندما لم يتحقق منها شيء خمدت. غير أن دوائر النميمة في دلهي ظلت تردد أن إنديرا أصبحت تلعب دور المحرك الخفي من وراء الكواليس، كما فعلت زوجة الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون في أوائل القرن العشرين. لكن لما ذهب الصحفي إندر مالهوترا الذي كان صديقًا مقربًا لفيروز للقائها، أخبرته بأنه من «السخيف» مقارنتها بالسيدة ويلسون. من الواضح أنها كانت آنذاك تساعد والدها أكثر من أي وقت مضى، لكنها لم تكن مطلقًا المسيطرة على شئون الحكومة.
كان نهرو آنذاك في الرابعة والسبعين من العمر، وقد ظلت علامات الاستفهام الكبيرة التي طرحتها مسألة خلافته قائمة، مع أن الإشاعات نُفيت وأُعلن كذبًا أنه شفي تمامًا. وأظهر استطلاع أجرته إحدى معاهد استطلاع الرأي العام الهندية آنذاك حول مسألة «من يخلف نهرو؟» أن لال بهادور شاستري هو المرشح الأول لخلافته، والثاني هو كاماراج، والثالث هو إنديرا، والرابع هو موراجي ديساي.
•••
•••
سافرت إنديرا إلى نيويورك جوًّا عبر هونج كونج حيث أخبرت المراسلين الصحفيين في استراحة قصيرة من الرحلة أنها لا تنوي أن تخلف والدها، وأنها وقفت في وجه كل المناورات التي تسعى إلى ضمها إلى مجلس الوزراء كوزيرة خارجية. ولما وصلت إلى أمريكا ظهرت في برنامج «واجه الصحافة» حيث سُئلت السؤال: «هل تودين أن تكوني رئيسة وزراء الهند؟» أجابت بلا تردد: «لا أود.» لكن فريق المذيعين والمحللين بالبرنامج ظل يلح في استجوابها.
- س: هل سترفضين الترشح لرئاسة الوزراء إن رُشحت وانتُخبت لذلك، هل سترفضين الاضطلاع بهذا المنصب؟
- ج: في الواقع أنا لست عضوًا في البرلمان الهندي، وفي الهند لا يمكنك أن تشغل منصبًا في الحكومة إن لم تكن عضوًا في البرلمان.
- س: وإن كانت إرادة الشعب الهندي تتمنى ذلك للدرجة التي تجعلك الخيار الواضح لدى الأغلبية، هل ستضطلعين بمنصب رئيسة الوزراء؟
- ج: أجد صعوبة شديدة في تصديق أنه ستكون هناك مثل تلك المطالبة العارمة.
- س: لكنك لا تجزمين بأنك سترفضين الاضطلاع بذلك المنصب.
- ج: حسنًا، بإمكاني أن أجزم بنسبة ٩٠٪ بأنني سأرفض ذلك.34
بعدئذٍ سلمت إنديرا في واشنطن الرئيس جونسون خطابًا من نهرو حول مسألة كشمير وأبلغته بأن نهرو ينوي عقد محادثات في دلهي مع الشيخ عبد الله (الذي أُطلق سراحه في الثامن من أبريل في عام ١٩٦٣بعد فترة سجن طويلة) ورئيس باكستان أيوب خان.
في اليوم التالي، في ٢٣ مايو، سافرت إنديرا ووالدها على متن طائرة هليكوبتر إلى ديهرا دون في عطلة لمدة ثلاثة أيام، ثم عادا إلى تين مورتي في عصر ٢٦ من ذلك الشهر. وخلد نهرو للنوم مبكرًا مساء ذلك اليوم. لكنه استيقظ ليلًا عدة مرات، فأعطاه خادمه ناثو رام، الذي نام على كرسي إلى جانب سريره، عقارًا مهدئًا.
بعدئذٍ، قبل فجر ٢٧ مايو، استيقظ نهرو ثانية متوجعًا. لكنه ظل كذلك لساعتين دون أن يوقظ ناثو رام. في السادسة والنصف صباحًا أرسل الخادم أحد رجال الأمن ليرسل في طلب إنديرا وطبيب نهرو الدكتور بيدي، الذي أقام في البيت منذ إصابة نهرو بالسكتة الدماغية لأول مرة في يناير. فلما وصلت إنديرا والطبيب بيدي إلى غرفة نهرو بدا نهرو غير مدرك لما حوله، وسأل: «ما الأمر؟» وبعدها بلحظات أغشي عليه من جديد. فقام الطبيب بيدي بمعاينته، وتبين أن شريانه الأورطي قد انفجر. كانت فصيلة دم إنديرا هي نفس فصيلة والدها، فقام الدكتور بيدي على الفور بسحب عينة من دمها ليجري لنهرو نقل دم، لكن لم يجد ذلك شيئًا، وراح نهرو في غيبوبة.
ظل نهرو غائبًا عن الوعي طوال الصباح، وفيما هو كذلك بعثت إنديرا ببرقية إلى إنجلترا لراجيف، وبرسائل إلى كشمير لسانجاي الذي كان يقضي عطلة هناك. ثم هاتفت عمتيها اللتين كانتا في بومباي. ولم تهاتف أحدًا آخر سوى كريشنا مينون الذي قدم على الفور من بيته في الشارع المقابل لتين مورتي.
لكنهما لم يظلا وحدهما لوقت طويل. فبعد دقائق من وفاة نهرو امتلأت أروقة وغرف ودرجات سلم تين مورتي بالناس. أولًا وصل تي تي كيه، وجافيجان رام وهما يبكيان. ثم تبعهما غيرهما من الوزراء، وانعقدت لجنة طارئة لمجلس الوزراء في غرفة بطابق سفلي في المنزل من الساعة الثانية إلى الثالثة بعد الظهر، وقررت اللجنة ترشيح وزير الداخلية جولزاري لال ناندا الذي شغل المنصب الثاني بعد نهرو في مجلس الوزراء لتولي منصب رئيس الوزراء مؤقتًا. كان الكل يتيه في أرجاء المنزل مصدومًا، فيما عدا اثنين بدوَا كما لو أنهما يراقبان الوضع أكثر مما يتحسران عليه، وهما كاماراج وموارجي ديساي، اللذان وقفا متجاورين. لكن لم يقفا معًا على الإطلاق، فكلاهما وقف على مدخل غرفة نهرو لساعات، فيما جال المعزون حولهما. وكان ديساي في الواقع يبدي ترحابه لمن يصعدون الدرج لوداع نهرو كما لو أنه «مضيف في حفل استقبال دبلوماسي.»
بعدما خيم الليل وضع جثمان نهرو في نعش في بهو تين مورتي، وبجواره زهور السوسن والأدريون والورود ومغطى بالعلم الهندي، حتى يتسنى للناس إلقاء النظرة الأخيرة عليه طوال الليل. كان الجو لا يزال حارًّا جدًّا وقد تسبب معجبو نهرو الملتاعون في تساقط قطع الثلج الكبيرة التي وضعت لمنع جسده من التحلل إذ أخذت سيول المعزين التي لا حصر لها تصطف مرورًا بها. أما إنديرا فظلت على مقربة من النعش مع عمتها فيجايا لاكشيمي بانديت التي قدمت من بومباي مع أختها كريشنا هاثيسينج، وبادماجا نايدو التي أتت من كلكتا. ولم ينَم أحد، وظلت أبواب تين مورتي مفتوحة للزائرين طوال الليل فيما عدا ساعة واحدة، بين الثالثة والنصف والرابعة والنصف صباحًا.
حُمل جثمان نهرو على عربة مدفع غادرت تين مورتي عند الظهيرة، وشقت طريقها رويدًا رويدًا في جو حار عبر الشوارع المتربة التي اصطفت فيها الحشود في نيو دلهي ومدينة دلهي القديمة إلى أن وصلت إلى نهر يامونا. وتبعتها إنديرا وسانجاي (راجيف لم يكن قد وصل بعد من إنجلترا) في سيارة مكشوفة وكلاهما يرتدي ثوبًا من الخادي الأبيض، ويتصبب عرقًا بغزارة تحت الشمس الحارقة. استغرقت المسافة إلى النهر — التي يبلغ طولها خمسة أميال — أكثر من ثلاث ساعات، واصطف على طولها ما بين مليونين وثلاثة ملايين شخص، يقفون في صفوف يتراوح طولها بين عشرة أشخاص وعشرين شخصًا. وعند النهر كان هناك المزيد من الجموع، ضمت ملوكًا ورؤساء دول وشخصيات رفيعة المقام من جميع أنحاء العالم احتشدت عند الموقع الذي سيشهد حرق جثمان نهرو، واندفعت أمامًا لإلقاء نظرة أخيرة على زعيمها. وأشرف على حفظ النظام أكثر من ثمانية آلاف جندي من القوات الخاصة، وستة آلاف جندي من القوات المسلحة.
مع أن نهرو نهى بوضوح عن إقامة مراسم دينية له في وصيته، فإن جنازته أقيمت وفقًا لمراسم حرق الموتى الهندوسية. كان ذلك هو القرار الذي توصلت إليه إنديرا، وقد سبَّب لها ألمًا عظيمًا، (وانتقادات هائلة) لأنها كانت تعلم أنها تخالف رغبة أبيها، ودافعها من ذلك القرار غامض، إلا أنها تعرضت لضغط هائل من زعماء الدين وبعض الساسة فور وفاة أبيها، ومن المحتمل أن هؤلاء أقنعوها بأن الشعب الهندي لن يقبل بجنازة علمانية. وُضع جثمان نهرو على محرقة من خشب الصندل، ورتل رجال الدين الصلوات الفيدية، وأطلق حرس الشرف ثلاث طلقات ثم عُزفت موسيقى جنائزية. وأشعل سانجاي الذي كان آنذاك في السابعة عشرة من العمر نيران المحرقة.
وبعد مراسم حرق جثمان نهرو بثلاثة عشر يومًا، قطعت إنديرا مسافة خمسمائة ميل سفرًا بالقطار إلى الله آباد وهي تحمل جرة مملوءة برماد أبيها. اصطف على طول خط القطار الذي توقف في كل بلدة وقرية جموع كبيرة من الناس، فاستغرقت الرحلة خمسًا وعشرين ساعة والتي تستغرق عادة عشر ساعات. في الله آباد أُلقي جزء صغير من رماد نهرو في نهر سانجام، مع بعض من رماد كامالا الذي جلبه الأخير معه من سويسرا قبل ثلاثة عقود واحتفظ به إلى جانب سريره على مر الأعوام إلى ذلك الوقت (سواء في الزنزانات التي سُجن بها، أو في آناند بهافان، أو في منزله في يورك رود، أو في تين مورتي.) ذكر نهرو تحديدًا في وصيته أنه يرغب في أن ينثر رماده في الهواء في جميع ولايات الهند. لكن إنديرا احتفظت لنفسها برماده المخصص لكشمير. فذهبت إلى سارينجار، واستقلت طائرة صغيرة ونثرت رماد أبيها على الأرض التي نبت منها وعشقها.
بعدما مات نهرو غاصت إنديرا في اكتئاب شديد — اكتئاب أقل في حدته عن ذلك الذي عانته لدى وفاة فيروز — إلا أن السيطرة عليه وفهمه كان أصعب. فمع السن التي توفي فيها أبوها، بدت لها فكرة رحيله إلى حد ما صعبة التصديق. غير أن ما شعرت به آنذاك كان شعورًا أعقد بكثير من الحزن. مشاعرها تجاه أبيها كانت قوية، لكن متناقضة، فقد مرت علاقتهما بلحظات اغتراب وتقارب. في الحقيقة كان أحدهما أقرب إلى الآخر في السنوات الأولى من علاقتهما عندما عاشا مفترقين؛ وقتما كانت إنديرا في المدرسة ونهرو في السجن أو عندما أقامت في أوروبا وعاش نهرو في الهند. فمع ابتعادهما أمكن لهما التواصل بتبادل الرسائل الطويلة التي تفضي بمكنوناتهما.
أما في خمسينيات القرن العشرين فقد تغير كل ذلك. ازدحمت حياتهما جدًّا، وصارت منهكة للغاية. ولما اجتمعا في تين مورتي صعب عليهما التحاور معًا بحرية وصراحة حتى لو تسنى الوقت لذلك — وتلك لم تكن الحال — وحتى لو أصبحا وحدهما (الأمر الذي لم يتحقق إلا نادرًا). لهذا، في الأوقات الحاسمة، كالوقت الذي شعرت فيه إنديرا بأن على والدها التمسك بقراره بالاستقالة، أو الوقت الذي قررت فيه ألا تترشح لرئاسة حزب المؤتمر من جديد، عادت إلى ما تعودته قديمًا من الكتابة إليه، مع أنهما كانا تحت سقف واحد آنذاك.
في السنوات الأخيرة من حياة نهرو كرست إنديرا حياتها له. لكن لم تربطها به علاقة عاطفية وثيقة، وفي الشهور الأخيرة من حياته خططت حقيقة لتركه هو والهند. فكانت النتيجة أن اختلط حزنها بشعور بالذنب والغضب، وفوق ذلك شعور بالألم. وربما شعرت بعد وفاته بأنها خذلته تمامًا. لقد كان بالقطع فخورًا بها على مر السنين التي عاشتها معه في تين مورتي. ومما لا شك فيه اعتمد عليها اعتمادًا كبيرًا. لكن، لا مجال لإنكار أنها لم تكن على قدر التوقعات التي تخيلها لها وأفضى بها إليها قبل زمن بعيد، على فرض أنها «وليدة عالم من المصاعب والمشكلات»، وابنة ثورة جديدة.
مات شيء ما في علاقتهما عندما أصرت على قرارها بالزواج من فيروز غاندي، ذلك القرار الذي سبب لها ولوالدها الآلام. فسر نهرو زواجها على أنه هروب من التحديات والمسئوليات الكبرى التي تنتظرها. وفي أواخر الأربعينيات بدا أنه بدأ ينظر إلى ابنته بمزيد من الواقعية وتوصل إلى أنها تفتقر إلى الذكاء والبصيرة اللازمين للاضطلاع بدور مهم في مستقبل الهند. ولا شك أنها فطنت إلى رأي والدها فيها. وبعد تأخير — بعدما مات والدها — بدأت تتمرد عليه.
عللت إنديرا رفضها منصب وزيرة الخارجية بأن الحزن سيطر عليها، وبأنها أرادت أن تكرس نفسها لإعداد نصب تذكاري لأبيها. إذ احتل هذا قطعًا أهمية لها، فقد أشار شاستري بالفعل إلى أنه لا يرغب في الانتقال للعيش في بيت تين مورتي، من ثَم تقرر أن يتحول ذلك البيت الذي كان سابقًا بيتًا للقائد الأعلى البريطاني إلى مكتبة ومتحف تذكاريين لنهرو. وتقرر أن تشرف إنديرا على كل نواحي إنشائهما، وتلك كانت مهمة جسيمة، لذا رفضت إنديرا — حسبما زعمت — أن تضطلع بمنصب وزيرة الخارجية الشاق (هذا إن كان قد عُرض عليها) وآثرت أن تضطلع بمنصب وزيرة الإعلام الذي يتطلب جهدًا أقل. غير أن المهم في الأمر هو أنها وافقت فعليًّا على الانضمام إلى حكومة شاستري.
ترى لماذا؟ قبل أقل من شهرين كتبت إلى دوروثي نورمان تصف كيف أنها صارت في أمس الحاجة للهروب من الهند والسياسة، وتمحورت رسائلها في العامين الماضيين فعليًّا حول هذا الموضوع. لماذا إذن قبلت عرض شاستري؟ مما لا شك فيه، نبع هذا إلى حد بعيد من إحساسها بأن واجبها هو استكمال عمل أبيها، من دافع إبداء العزم على مواصلة مسيرته. لكن ثمة حقيقة واضحة وراء ذلك، وهي أنها احتاجت إلى وظيفة. فعندما توفي نهرو لم يترك لها بخلاف منزل آناند بهافان — الذي استنزف في حد ذاته أموالًا كثيرة — إلا القليل من الأملاك. ولم يتخذ أي تدابير مالية احتياطية من أجل مستقبل ابنته. فإنديرا لم ترث منه باستثناء ممتلكاته ومنزل الأسرة إلا عائدات بيع مؤلفاته، التي لم تكن ثابتة، ولم تدر مالًا كثيرًا. فوق ذلك لم يعد لديها بيت في دلهي. ففي الواقع قبل قبل هذا الوقت تسلمت في وقت قصير رأت أنه ينم عن افتقار إلى الذوق إنذارًا بإخلاء بيت تين مورتي. لقد كان تولي منصب في مجلس شاستري الوزاري ليوفر لها راتبًا ويؤمن لها سكنًا في منزل حكومي من طابق واحد. وقد خُصص لها منزل حكومي تقليدي كائن في ١ شارع سافدارجونج رود حيث ستسكن فيه طوال العشرين عامًا القادمة من حياتها فيما عدا ثلاثة أعوام في أواخر سبعينيات القرن العشرين.
بالطبع كان على إنديرا أن تصبح أولًا عضوًا في البرلمان كي تصير عضوًا في مجلس الوزراء. كانت الخطوة الطبيعية لذلك هي الترشح في الانتخابات الفرعية القادمة عن دائرة والدها الانتخابية، دائرة فالبور، غير أن أخت نهرو السيدة فيجايا لاكشيمي بانديت طمعت في ذلك المنصب، ولو أنها أوضحت لإنديرا أنها ستتنحى عنه إن رغبت في ذلك. لكن إنديرا شعرت بأنها عاجزة عن مواجهة انتخابات فرعية لعضوية المجلس الأدنى للبرلمان، واختارت بدلًا من ذلك أن تصبح عضوًا في المجلس الأعلى له بتعيين من رئيس الهند.
كانت فترة تولي إنديرا لمنصب وزيرة الإعلام مثمرة إلى حد ما، إلا أنها كانت بالكاد فترة مثيرة للإعجاب. لقد اعتبرت الإذاعة والتليفزيون وسائل تعليمية. وأطلقت إذاعة باللغة الأردية، وإذاعة موجهة للدول الأجنبية، وأطالت ساعات البث، وشجعت على إذاعة المزيد من الأمور المثيرة للجدل على الهواء. إلا أن تأثيرها كعضو في الحكومة الهندية كان أكبر في المجالات التي تقع خارج حيز اختصاص وزارتها.
كذا لعبت إنديرا دورًا محوريًّا في أزمة أخرى في كشمير في أغسطس عام ١٩٦٥. ففي ٨ أغسطس تظاهرت بالذهاب إلى سارينجار لقضاء إجازة، غير أنها فطنت إلى أن الوضع هناك مشتعل. وقد علمت فور ما حطت طائرتها هناك تقريبًا بأن القوات الباكستانية متخفية في زي متطوعين مدنيين تأهبت للاستيلاء على سارينجار، وإثارة انتفاضة مؤيدة لباكستان في كشمير. فنُصِحَت باستقلال أول رحلة جوية عائدة إلى دلهي، لكنها رفضت. ولم تمكث هناك وحسب بل اتجهت بطائرتها إلى جبهة القتال أثناء نشوب المعارك. فامتدحتها الصحافة بأنها «الرجل الوحيد في مجلس وزراء من نساء عجائز». وبعدئذٍ عادت إلى دلهي، ثم عادت مجددًا إلى كشمير لما بلغت الاعتداءات ذروتها في سبتمبر. وقالت لجمع كبير في سارينجار: «لن نفرط في شبر من أرضنا للمعتدين». وتفقدت المناطق الواقعة على حدود ولاية البنجاب، التي تضررت ضررًا بالغًا من القنابل، وزارت المستشفيات العسكرية في فيروزبور، ثم واصلت جولتها إلى أبوهار وفازيلكا وأمبالا وأمريتسار وجورداسبور، ووفقًا لتقارير المراسلين الصحفيين، «أينما ذهبت السيدة غاندي استقبلتها الحشود المتحمسة».
إلا أن ذلك التفسير لا يفي بالحقيقة. لقد عاشت إنديرا في دائرة الضوء طوال حياتها تقريبًا، وفي قلب السلطة السياسية لعشرين عامًا. لقد تمنت من وقت لآخر أن تحظى بحياة عادية خاصة بها، إلا أن هذا كان وهمًا نوعًا ما. لم تكن حينذاك أقرب إلى التمتع بحياة عادية خاصة بها، ولكنها ألقيت بعيدًا عن كرسي السلطة. وفوق ذلك رأت أن سياسات والدها وخططه أهملت. غير أن ما استحثها بقدر ذلك في صراعها مع شاستري هو كبرياؤها الذي جرح. فهي لم تكن لترضى بأن تقبع في الظل، في المرتبة الرابعة في مجلس الوزراء.
•••
في ٣ يناير عام ١٩٦٦ سافر شاستري جوًّا إلى طشقند في آسيا الوسطى السوفييتية لعقد محادثات سلام مع رئيس باكستان أيوب خان توسط فيها أليكساي كوسيجين. وفي ١٠ يناير اتفق هؤلاء أخيرًا على عقد تسوية. وفي أولى ساعات ١١ يناير أصيب شاستري بأزمة قلبية توفي على أثرها. وكان آنذاك في الواحدة والستين من العمر، ولم يكن قد أمضى في منصب رئيس الوزراء سوى تسعة عشر شهرًا.
في اليوم نفسه في الواحدة والنصف صباحًا كانت إنديرا في منزلها عندما دق جرس الهاتف. كان المتصل هو سكرتيرها إن كيه سيشان، يتصل ليخبرها بأن شاستري مات في طشقند قبل نصف ساعة. أخبر سيشان إنديرا أيضًا بأن وزير الداخلية جولزاري لال ناندا اتجه مباشرة إلى بيت الرئيس بعدما أُبلغ بوفاة شاستري. فطلبت إنديرا سيارة وقصدت راشتراباتي بهافان مقر الرئيس. وهناك في الثالثة والربع صباحًا في حضورها هي ووزير المالية فقط، قَلَّد الرئيس الهندي ناندا منصبَ القائم بأعمال رئيس الوزراء محلفًا إياه اليمين.
لما عادت إنديرا من منزل الرئيس في الرابعة صباحًا هاتفت روميش ثابار، وطلبت منه القدوم في الحال. وجد ثابار إنديرا متوترة وهي تصف مراسم تقليد ناندا في راشتراباتي بهافان؛ حيث وقف الرئيس مرتديًا لباس الدهوتي في مواجهة ناندا مرتديًا الزي نفسه وحولهما الخدم وهم يرتدون بزات مزركشة باللون الذهبي والأحمر. وبعدما فرغت إنديرا من وصف المشهد تطرقت إلى «السؤال الأساسي» الذي أرادت أن تسأله لثابار. آنذاك كانت على اتصال ببعض من مستشاريها، وهؤلاء حثوها على «السعي لتولي السلطة». وقد أرادت من ثابار أن يدلي لها بدلوه في ذلك.
سألها ثابار: «ما الذي تودين القيام به؟»
أجابت: «لا شيء.»
غير أن استدعاءها لثابار إلى بيتها في منتصف الليل لمناقشة تلك المسألة قد عنى بلا شك أن إجابتها تلك — على أحسن تقدير — فاترة. كانت تحاول أن تتعرف على موقف ثابار، وهو رجل توليه ثقتها. أرادت منه أن يقنعها أو يثنيها عن ذلك المستقبل الذي صار يناديها. ولاح لها فجأة؛ لأن الضلع الثالث من مثلث القوة الذي وقف في طريقها — فيروز غاندي وجواهرلال نهرو ولال بهادر شاستري — مات فجأة. فهي لم تكن لتصعد إلى قمة السلطة أبدًا لو لم يختفِ هؤلاء الرجال من المشهد السياسي. لم تكن لتصعد بدلًا من فيروز لأنها كانت تولي زواجها وزوجها أهمية أكبر من مستقبلها السياسي، ولا بدلًا من نهرو لأنها ابنة بارة بأبيها، ولا بدلًا من شاستري لأن صناع القرار السياسيين والمؤثرين في الحكم في حزب المؤتمر آثروه.
في عصر ١١ يناير لما هبطت الطائرة التي تحمل جثمان شاستري وسط سحب الشتاء الكثيفة التي غطت دلهي استقبلها سيل من المعزين الذين ملئوا مطار بالام ومدرجاته. كان من بين المعزين الذين ينتظرون وصول رفات رئيس الوزراء منجم معروف يرتدي — مع برودة الجو الشديدة — ثوبًا من الخادي الأبيض وخف شابالس. كان رجل دين يستشار كثيرًا في الدوائر السياسية، فلما لمحه أحد كبار قادة حزب المؤتمر من بعيد هرع إليه وسأله: «ما الذي تنبأت به النجوم؟» أجاب: «ثلاثية.»
كان كل من نهرو وشاستري من الله آباد. والآن أنبأ المنجم أن رئيس وزراء الهند القادم سيكون كذلك من الله آباد.