توقف الصعود
إبان أشهر صيف عام ١٩٧٢ الحارة الطويلة عانت الهند جفافًا. فيبست الحقول، وذبلت المحاصيل. فيما اختنقت دلهي في سحابة من الأتربة، وبعد ستة شهور من الأمطار الموسمية الغزيرة انقطع المطر. فكانت النتيجة حصادًا شحيحًا وندرة في الغذاء — خاصة في الحبوب الأساسية من الأرز والقمح — وغلاء في الأسعار في جميع أنحاء البلاد. واندلعت أعمال الشغب مطالبة بالغذاء في ناجبور وبومباي وميسور وكيرالا. ولما لاح شبح المجاعات بقُرى الهند برز شعار إنديرا «تخلصوا من الفقر» من جديد ليطاردها. أخبرت إنديرا صفوف نقادها التي أخذت تطول أن الفقر لا يمكن محوه بين عشية وضحاها، فكان ردهم أنها لا تتخلص من الفقر، وإنما من الفقراء.
فوق ذلك زاد معدل التضخم بنسبة ٢٠٪، وارتفعت أسعار النفط. في مواجهة ذلك قلصت الحكومة الهندية النفقات بصورة حادة، وفرضت برامج ادخارية إجبارية على الدخول والرواتب. غير أن تلك الإجراءات الاقتصادية عجزت عن إخماد القلاقل التي شبت في قطاع الصناعة وأخذت في الانتشار إلى جميع أرجاء البلاد. ففي الهند كافة أُغلقت المصانع وشاعت الإضرابات. في بومباي وحدها، بلغ عدد الإضرابات إبان عامي ١٩٧٢ و١٩٧٣ أكثر من ١٢٠٠٠ إضراب.
لم تملك إنديرا السيطرة على المناخ أو الأمطار الموسمية، لكن كان بمقدورها القيام بشيء حيال الاضطرابات الاجتماعية المتزايدة. كانت تميل بطبيعتها إلى فرض النظام والإمساك بزمام الأمور بدون الاكتراث للوسيلة التي تتبعها في ذلك. فمثلًا أضحت سياسة انتقاء رؤساء حكومات الولايات التي وضعتها للتحكم في تلك الحكومات قاعدة. فتخلصت من رؤساء الحكومات «المعادين» باللجوء إلى «الحكم المركزي» الذي بمقتضاه تخضع الولايات مباشرة لحكم دلهي. وأخذت تعلق عمل الهيئات التشريعية في الولايات بدلًا من حلها كي تشل حركة المعارضة لحزب المؤتمر هناك.
أما في موقعها في مركز الحكم فقد أحاطت نفسها بوزراء لا يتزعزع ولاؤهم لها. وعليه تحولت اجتماعات مجلس الوزراء إلى اجتماعات للتصديق على السياسات لا لوضعها. هذا بالإضافة إلى أنه بحلول ذلك الوقت انهار الكيان التنظيمي لحزب المؤتمر. فصارت انتخابات الحزب شيئًا من الماضي، وتولت إنديرا بنفسها تعيين رئيس حزب المؤتمر وأعضاء لجنة عمله.
استشرى الفساد. غير أنه لم يكن بالطبع شيئًا جديدًا. فقد لوث حكومتي نهرو وشاستري. إلا أنه لم يسد في جميع مستويات النظام الحكومي إلا في عهد إنديرا.
لم تكن فضيحة ناجاروالا إلا مؤشرًا واحدًا على تلك الظاهرة التي تفشت في كل مكان. فمثلًا توزعت مراكز القوى على «صفوة إنديرا»، من ثَم اكتسب هؤلاء قدرة هائلة على توزيع حظوتهم. والمفارقة هي أن آليات العمل الحكومية التي وضعت لتنظيم الأنشطة الاقتصادية والتحكم فيها وفاءً لبرنامج العشر نقاط الاشتراكي الاقتصادي لعام ١٩٦٧ كانت آنذاك تساعد على استشراء الفساد. فمع إقرار قانون «ممارسات الاحتكار والمنافسات غير العادلة» لعام ١٩٧٠، وقانون تنظيم صرف العملات الأجنبية لعام ١٩٧٣ صار تأسيس أي مشروع جديد أو تحسين أو توسيع المشاريع القائمة أو استيراد المعدات وقطع الغيار يتطلب تراخيص وتصاريح وأذونات. وصار الصرف الأجنبي بدوره صار خاضعًا للسيطرة. هذا منح المسئولين الحكوميين والساسة مجالًا كبيرًا لخدمة مصالحهم.
وتسرب الفساد إلى عملية تمويل حزب المؤتمر التي صارت تحت سيطرة مكتب إنديرا مباشرة. كانت التبرعات التي تقدم للحزب تجمع في شكل تحويلات نقدية سائلة لا يمكن معرفة مصدرها، تسلم إلى مكتب إنديرا. وبعدما بدأ سانجاي تجربة عالم السياسة صارت تحول إلى بيت إنديرا مباشرة في سافدارجانج رود. وامتدت تلك الممارسات إلى ولايات أخرى بخلاف العاصمة؛ إذ عندما طُلب من رؤساء حكومات الولايات حصص للمساهمة في تبرعات الحزب، تنافسوا فيما بينهم ليروا من يتفوق على الآخرين في جمع التبرعات لإبهار أصحاب المراتب العليا.
ونتيجة لسياسة مركزة السلطة التي اتبعتها إنديرا صار جمع التمويل لحزب المؤتمر ضرورة مزمنة. فلأن إنديرا دمرت تنظيم الحزب وحطمت نظامه الهرمي، لم يعد بمقدورها الاعتماد على فرق الموظفين الحزبيين المخلصين من أهالي المناطق والمدن الصغيرة لالتماس وكسب الأصوات لها. بدلًا من ذلك صارت تتواصل مع الناخبين مباشرة. لذا أُنفق جزء كبير من أموال الحزب على تنظيم ونقل الجموع إلى التجمعات التي يتقرر أن تخطب فيها إنديرا في الولايات. أما موظفو الحزب أنفسهم فلم يعد منهم من تحركه المبادئ السياسية إلا القليل؛ فالكثير منهم لم يخض عالم السياسة إلا ليتحول إلى الثراء ويكسب النفوذ. ومع أن ساسة حزب المؤتمر ظلوا يرتدون ثوب الخادي الأبيض المغزول منزليًّا وخف التشابال كما فعل من قبلهم الأبوان المؤسسان للحزب غاندي ونهرو، فإن مظاهر الفساد الذي أصاب الحزب صارت تتبدى في ثياب بناتهم وزوجاتهم اللاتي أصبحن يرتدين الساري المصنوع من الحرير المستورد، ويتزينَّ بالألماس، وينتعلن الأحذية الجلدية الإيطالية.
أما إنديرا فقد ظلت تؤثر الحياة المقتصدة أو بالأحرى المتقشفة. فلم تملك إلا القليل من المجوهرات، وثياب الساري التي اعتزت بها أشد الاعتزاز كانت لا تزال من تلك التي غزلها لها نهرو من الخيوط القطنية في سجنه. لكن مع أنها لم تكن مادية أو مسرفة امتلكت حسًّا جماليًّا رفيعًا. ولم تسرف حقيقة إلا في جمع الخرائط. غير أن سانجاي وراجيف بعكسها لم يكونا من الزاهدين، وهي لم تكن تميل إلى حرمانهما — وبالأخص سانجاي — من شيء.
كانت إنديرا على دراية تامة بسطوة المال على المحيطين بها. فبحلول أوائل السبعينيات كان يحيطها مناخ من التملق الصريح نشأ برغبتها وسخرته لمصلحتها. وقد وعت فساد المقربين منها وعيًا تامًّا، ولكنها تركت الأمر لشخصيات معينة كسكرتيريها الشخصيين ياشبال كابور وآر كيه داوان، فيما أوكلت عقد الصفقات التي تتطلب أسلوبًا ملتويًا لآخرين. كان جامع التبرعات الرئيسي لإنديرا عضوًا برلمانيًّا من دهار يدعى لاليت نارايان ميشرا، وهو صديق قديم لفيروز من فترة الخمسينيات عُرف عنه سابقًا البراعة في عقد صفقات الاحتيال والمساومات السرية. وقد احتل بعد انقسام حزب المؤتمر عام ١٩٦٩ مركزًا رفيعًا في الحكومة الهندية، فتولى على فترات مختلفة وزارات الدفاع والإنتاج والتجارة، وآنذاك تولى وزارة السكك الحديدية. أما إبان توليه لوزارة التجارة فقد أنشأ ترخيص الراج المشين الذي كان رجال الأعمال والصناعات يمنحون بموجبه عقودًا حكومية وتراخيص استيراد وتصدير في مقابل وهب حزب المؤتمر مبالغ طائلة. وقد بدا ميشرا بجسده القصير السمين وذقنه المتهدل ملائمًا للدور الذي لعبه؛ دور السياسي الفاسد بصورته التقليدية.
وكذا بدا ولي نعمة سانجاي غاندي الذي كان رجلًا جاتيًّا بدينًا يرتدي نظارة يدعى بانسي لال. لال كان يعمل رئيسًا لحكومة ولاية هارايانا التي انفصلت عن ولاية البنجاب المجاورة لدلهي رغبة في الفوز بحظوة إنديرا. بعد عامين من تعاقد الحكومة مع سانجاي غاندي في مشروع ماروتي، لم تكن شركته قد نجحت في إنتاج سيارة واحدة. وأراد بانسي لال أن يتودد إلى رئيس الوزراء فباع أكثر من ٤٠٠ فدان من أفضل أراضي هارايانا الزراعية في ضواحي دلهي، حيث رُحِّل ما يزيد عن ألف مزارع على عجل لإنشاء مصنع السيارات الماروتي. ولم يكن السعر وحده الذي بيعت به تلك الأراضي هو المثير للريبة؛ كان موقع مصنع سانجاي بجانب مستودع ذخيرة الجيش يخالف القواعد الحكومية التي تقضي بألا تُبنى منشآت صناعية على مسافة تقل عن ألف متر من المنشآت الدفاعية.
بخلاف لال، صرخ الكثير من الساسة مطالبين بتقديم يد المساعدة لشركة سانجاي المتعثرة. فاستثمر رجال أعمال بارزون من بينهم كيه كيه بيرلا — عميد أسرة بيرلا التي توفي في منزلها المهاتما غاندي — أموالًا طائلة في شركة ماروتي. وكان بيرلا أيضًا مالك جريدة «هندوستان تايمز»، ويُذكر أنه فصل محرر الجريدة بي جي فيرغيزي عام ١٩٧٣ بعدما نُشرت في الجريدة بعض من المقالات التي تنتقد شركة سانجاي.
لكن مع المساعدات التي قدمها بيرلا وبانسي ولال وغيرهم لم تتحرك عجلة مشروع سانجاي. فجميع نماذج السيارة الماروتي ظهر بها عيوب تتضمن أعطابًا في التوجيه والكابح ومشاكل فرط ارتفاع حرارة المحرك. عام ١٩٧٢ في «معرض آسيا التجاري» عرض سانجاي نموذجًا للسيارة، لكن اتضح أنه هيكل لا يحوي محركًا. وفي العام التالي قررت الصحفية أوما فاسوديف — التي كانت قد أصدرت قبل وقت قصير ترجمة لحياة إنديرا — أن تجري مقابلة صحفية مع سانجاي حول السيارة الماروتي لمجلتها مجلة «سيرج». فوافق سانجاي على إجراء المقابلة، وعليه التقيا في مصنع السيارة في هارايانا في ٥ مايو عام ١٩٧٣ الذي شهد إصدار نموذج آخر للسيارة الماروتي.
سعى سانجاي بلا كلل لجمع التمويل لمشروع السيارة الماروتي. فعام ١٩٧٣ اختار خمسة وسبعين وكيلًا لشراء سياراته وجمع تأمينًا قيمته ٥٠٠٠٠٠ روبية من كل منهم نظير وعد بتسليمهم سيارات في غضون ستة شهور ليتولوا بيعها (وهو وعد لم يفِ به). وبعدئذٍ لجأ إلى البنوك. فمنحه البنك المركزي الهندي وبنك البنجاب الوطني اللذان كانا قد تأمما حديثًا قروضًا بلا ضمان تصل قيمتها إلى ٧,٥ مليون روبية. بل افتتح البنك المركزي فرعًا يرأسه مدير طيع في موقع مصنع الماروتي. لكن مع كل ذلك لم تترجم السيارة ماروتي إلى واقع.
لما كان ذلك ترقى بي إن دهار ليخلف هاكسار في منصب السكرتير الشخصي الأول لإنديرا. وقد ظل في ذلك المنصب يعمل جنبًا إلى جنب مع إنديرا للأربعة الأعوام التالية ولو أن علاقتهما تخللها بعض الشك. كان دهار مثل هاكسار كشميريًّا واقتصاديًّا بارعًا ومستشارًا فطنًا، إلا أنه — على حد قول هاكسار — قد يستحيل إلى رجل خنوع إن وجد نفسه على وشك التصادم مع إنديرا. لقد كان هاكسار آخر من أبدى استعدادًا لمساءلة إنديرا ومواجهتها بين أفراد دائرتها. فمنذ تلك اللحظة لم يضطلع بذلك سوى سانجاي غاندي نفسه.
•••
في ربيع عام ١٩٧٣ انصرف الانتباه لوقت قصير عن الجدل الذي أثارته مسألة السيارة الماروتي إلى القرار الذي أصدرته المحكمة العليا بشأن التعديلات الدستورية التي أجرتها الحكومة الهندية عام ١٩٧١. أقرت المحكمة العليا حق البرلمان في إدخال التعديلات الدستورية شريطة ألا تغير تلك التعديلات من «سمات الدستور الأساسية» التي تعني ديمقراطية الهند وجمهوريتها وفيدراليتها. أما تحديد ما يدخل في «السمات الأساسية» للدستور فهو من اختصاص المحاكم. بعبارة أخرى: تظل التشريعات التي تمس البنية الأساسية للدستور خاضعة للمراجعة القضائية. اعتبرت إنديرا ومؤيدوها قرار المحكمة العليا ذلك هزيمة لأنه لا يعترف بالبرلمان والسلطة التنفيذية التي لا يقف أمامها شيء.
في ٢٥ أبريل في اليوم التالي على إعلان المحكمة العليا قرارها، تقاعد رئيس قضاة المحكمة العليا إس إم سيكري. كان المفترض وفقًا للإجراءات المعتادة أن يخلف سيكري ثاني كبار قضاة المحكمة الذي كان ليصير في تلك الحالة جيه إم شيلات. غير أن الأخير كان من بين الستة القضاة الذين صوتوا على وضع قيود على حق البرلمان في إدخال الإصلاحات الدستورية. وكذا كان القاضيان اللذان تلياه في ترتيب كبار القضاة كيه إس هغد وإيه إن جروفر. لذا أمرت إنديرا الرئيس بتعيين إيه إن راي الذي اختارته رئيسًا لقضاة المحكمة العليا بدلًا من هؤلاء القضاة الثلاثة. فاستقال الثلاثة القضاة الذين استُبعدوا فورًا.
بعد أربعة أسابيع في ٣١ مايو عام ١٩٧٣ توفي كومارامانجالام في حادث طائرة. وأدت وفاته إلى تعزيز انتقال السلطة من مجلس الوزراء إلى سكرتارية رئيس الوزراء في شارع أكبر رود. فيما بعد سينتقل مركز السلطة من جديد، لكن إلى مقر إقامة إنديرا الذي صار الكثيرون يشيرون إليه باسم «القصر»، حيث أخذت سيطرة سانجاي على البلاط الذي تحكمه والدته تتزايد.
•••
لكن ما هي طبيعة النظام الحياتي — سواء من الناحية الشخصية أو السياسية — الذي شعرت إنديرا أنه يقيدها؟ في مقابلاتها الصحفية أكدت دائمًا أنها لا تفصل بين حياتها العامة والشخصية، الأمر الذي أظهرته بسماحها لحفيديها اللذين لم يتعودا المشي بعد بالتجوال في أنحاء حديقة منزلها أثناء عقدها المؤتمرات الصحفية خارج المنزل. لكن بحلول ذلك الوقت كانت الأنشطة السياسية قد طغت على حياة إنديرا، فلم يتسنَّ لها إلا القليل من الوقت للعائلة أو الأصدقاء أو القراءة أو أي أنشطة أخرى خلا تلك التي تدخل في يوم عملها الذي يبلغ ست عشرة ساعة أو أكثر.
كانت تنهض من النوم في السادسة صباحًا وتمارس تمارين اليوجا عشرين دقيقة، وبعدها تستحم وترتدي ملابسها سريعًا ولو في خمس دقائق، الأمر الذي لا يقدر عليه — حسبما رأت — سوى «القليلين»، وبعد ذلك تتصفح الجرائد أثناء تناول الإفطار على صينية في غرفة نومها، ثم تلتقي قبل الثامنة صباحًا بسكرتيرها الشخصي لمراجعة جدول مواعيدها لليوم سريعًا ومناقشة أية أمور أخرى. في البداية كان ذلك السكرتير رجلًا يدعى ياشبال كابور، لكن استُبدل به في أوائل السبعينيات ابن خال له يصغره سنًّا ويدعى آر كيه دهاوان ينحدر بدوره من البنجاب. لم يكن هذان الرجلان مسئولين حكوميين. وإنما انتميا إلى مرتبة وظيفية أدنى ومختلفة كلية، وتعريف وظيفتيهما كان أقل تحديدًا من وظيفة بي إن هاكسار وبي إن دهار. ولم يكونا القائمين على تلبية احتياجات إنديرا، فقد اضطلع بذلك يوشا بهاجات وسونيا غاندي.
كذلك لعب كابور دور وكيل و«مصحح الأوضاع» لإنديرا على أرض دائرتها الانتخابية دائرة راي باريلي قبل الانتخابات العامة لعام ١٩٦٦ و١٩٧١، الأمر الذي كان من شأنه إطلاق سلسلة من الأحداث تنتهي بسقوط إنديرا من السلطة بعد أربعة أعوام. أما آنذاك فكان وضع كابور المالي مزدهرًا، وقد أصبح عضوًا في المجلس الأعلى من البرلمان بحكم موقعه القوي إلى جانب رئيسة الوزراء.
بعدما تلتقي إنديرا بسكرتيرها الشخصي كانت دائمًا ما تعقد مجلس الدارشان — مجلس استقبال الزوار — الصباحي ساعة في حديقتها في ١ شارع أكبر رود. وقد أمكن لأي شخص الذهاب إلى ذلك المجلس؛ فالإجراءات الأمنية المنوطة بحماية رئيس الوزراء لم تكن صارمة في السبعينيات، وقد ضمت أفواج زائريه اليومية موظفي حزب المؤتمر وناشطي الحركة العمالية وعمال المصانع والفلاحين والطلاب والمتزوجين حديثًا والأمهات اللاتي تحملن صغارهن والسياح الأجانب. بعد مجلس الدارشان وقبل تمام الساعة العاشرة صباحًا تكون إنديرا خلف طاولة مكتبها في العقار رقم ١ في شارع أكبر رود، وهو أحد المكاتب الثلاثة التابعة لها في ما يدعى بمنطقة ساوث بلوك التي تقع في المجمع البرلماني. بعد ذلك تعود إنديرا في الواحدة ظهرًا لمنزلها لتناول الغداء، ثم تعود إلى مكتبها للعمل، وتظل هناك إلى الساعة السابعة أو الثامنة مساءً. أما وقت عشائها فكان دائمًا اجتماعًا لشمل الأسرة، يشمل أحيانًا أصدقاء العائلة ولا تناقش فيه الأمور السياسية إطلاقًا. وبعده كانت إنديرا تواصل العمل على بعض الملفات أو الالتقاء ببعض موظفيها حتى منتصف الليل أو ما بعده. أما أيام الآحاد فكانت تحاول أن تتفرغ فيها لأحفادها وأصدقائها — تلك هي الوتيرة التي سارت عليها حياتها في أيام العمل «العادية». غير أنه كان عليها أيضًا لقاء واستضافة الزوار — سواء من الساسة أو العامة — الذين لا تنقطع زياراتهم. وهي نفسها كانت تمضي الكثير من الوقت في السفر داخل الهند أو خارجها في زيارات رسمية.
سيَّر حياتها العمل، فلم يكن بها مجال للتأمل أو الخوض في المحادثات الشخصية أو اللغو أو الاسترخاء. كذلك لم يكن ضيق الوقت يسمح بالمكاتبة. فآنذاك تحولت رسائلها المطولة التي تحمل طابع الاعتراف لدوروثي — خلا القليل منها — إلى رسائل قصيرة كُتبت أو أُمليت وطُبعت على عجل. وبذا خاضت إنديرا الحياة التي خاضها نهرو. إلا أنها كانت أفضل استثمارًا للوقت منه. فلم تعمد إلى التحيات المطولة المتكلفة، وإنما كانت تسوق زائريها إلى الدخول في صلب مختلف الموضوعات في ثوانٍ، وتحسن الإصغاء، وتحسم أمرها سريعًا.
مع أن الشائعات ظلت تدور آنذاك حول خوض إنديرا العلاقات الغرامية، فهي — حتى إن كانت على استعداد لذلك — عانت من ضيق الوقت وافتقرت إلى الخصوصية. لقد ظل دهيريندرا براهماشاري معلم اليوجا الخاص بها ورجل الدين الجذاب الوسيم زائرًا منتظمًا لها في بيتها إلى ذلك الوقت. وجمعت بينه وبين سانجاي في السبعينيات علاقة وثيقة، فصار مع الوقت فعليًّا أحد آل البيت. ولما كان الرجل الوحيد الذي أمكن له أن يرى إنديرا وحدها في غرفة نومها أثناء تدريسها اليوجا أصبح الرجل الوحيد الذي يمكن أن تجمع بينه وبين إنديرا علاقة غرامية.
غير أن إنديرا كانت آنذاك في منتصف الخمسينيات أرملة وجدة، يخط الشيب شعرها بوضوح. وفي المجتمعات المحافظة على التقاليد تعتبر الأرامل والجدات — بل جميع النساء اللاتي جاوزن سن اليأس — خاملات جنسيًّا. لم تكن إنديرا — بعكس الغالبية العظمى من بنات جلدتها — من الهنديات اللاتي يتبعن التقاليد. إلا أنها كذلك اتسمت بفطرتها بالحذر، لذا يبدو مناقضًا لطبيعتها أن تشق عن التقاليد وتجازف بصورتها من أجل إشباع لحظيٍّ لرغبة.
لكن عام ١٩٧٣ لما لوث الفسادُ من أحاطوا بها ونما بينهم اشتد قلقها على صورتها. في الواقع كانت هي نفسها قد أضحت مهددة. ففي قرابة الوقت الذي دار فيه الجدل حول مسألة تعيينها إيه إن راي رئيسًا لقضاة المحكمة العليا قدم خصمها في انتخابات عام ١٩٧١ العامة راج ناراين عريضة لمحكمة الله آباد العليا يتهمها فيها بانتهاك قواعد انتخابية، إلا أن هذا الاتهام لم يحظَ إلا بتغطية إعلامية بسيطة. فناراين — الذي أشار له الكثيرون ﺑ «أمير خَرقاء الهند» — كان رجلًا مضحكًا يرتدي منديل رقبة ويتصرف كالمهرج. لذا ظن من انتبه إلى تقديمه للعريضة أنه يقدم حركة بهلوانية أخرى لجذب الأنظار إليه. وقد كانت العريضة التي قدمها تافهة بالفعل. فعلى سبيل المثال كان من بين ممارسات الفساد التي اتهم إنديرا بها أنها استخدمت كابور ليكون ظهيرًا لها في الانتخابات إبان عمله لديها سكرتيرًا شخصيًّا بتعيين حكومي. كما اتهمها بأنها استخدمت بصورة غير قانونية الموظفين الحكوميين كالعمال لنصب المنصات الخطابية وتركيب المكبرات الصوتية إبان فترة الاستعداد لانتخابات عام ١٩٧١.
•••
عام ١٩٧٤ لم تهطل الأمطار الموسمية للعام الثالث على التوالي، تواصل الجفاف والعجز عن توفير الغذاء. وارتفع معدل التضخم. وبهذا اضطرت إنديرا إلى التماس العون من البنك العالمي وصندوق النقد الدولي. فمنحها صندوق النقد الدولي قرضًا، إلا أنه أتبع معروفه بشروط قاسية تقضي بأن تعدل تمامًا عن سياساتها الاقتصادية الاشتراكية وفيها سياسة خفض النفقات الحكومية. لكن معدل البطالة تزايد. ولم تعد حتى معونات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي قادرة على الحد من موجة الاضطرابات المتزايدة التي شهدتها الهند في القطاع الصناعي وعلى الصعيد الاجتماعي. فقد تعطلت أحوال البلاد جراء اندلاع المزيد من الإضرابات والمسيرات التي قادت في أغلب الوقت إلى أعمال العنف وتدخل الشرطة. وفي يناير عام ١٩٧٤ اعترض الطلاب في ولاية جوجارات على غلاء أسعار السلع الأساسية. وسرى سخطهم سريعًا إلى سائر الولاية، فشارفت على الوقوع في الفوضى. فنهبت المحال والمنازل وأحرقت الحافلات والسيارات ودمرت الممتلكات الحكومية. ولم تتمكن الشرطة — التي استهدفتها الهجمات في أغلب الوقت — من احتواء الموقف، وقُتل في غضون شهر ١٠٣ أشخاص وأصيب ٣٠٠ واعتقل ٨٠٠٠. شأنها شأن الاحتجاجات في سائر البلاد، ركزت احتجاجات جوجارات على غلاء الأسعار والفساد السياسي، غير أنها ذهبت إلى أبعد من ذلك وطالبت بالتجديد السياسي. لقد طالب المحتجون باستقالة رئيس حكومة ولايتهم الفاسد تشيمانبهاي باتيل وحل المجلس التشريعي وعقد انتخابات الولاية من جديد. كان باتيل واحدًا ممن تبقى من رؤساء حكومات الولايات الذين لم تخترهم إنديرا، لذا لم تمانع في تركه منصبه عندما أُجبر على الاستقالة في أوائل فبراير. أما بالنسبة للمجلس التشريعي فقد عارضت حله في بادئ الأمر؛ لأن حزب المؤتمر امتلك النصيب الأكبر من المقاعد فيه بنسبة الثلثين إلى الثلث. إلا أنها في آخر الأمر أذعنت لحله وأخضعت جوجارات للحكم المركزي في ٩ فبراير عام ١٩٧٤. وفي ذلك يذكر أنها أشارت بمرارة إلى أنه كانت هناك مؤامرة خلف تلك الاضطرابات رأت — هنا وفي مرات أخرى عديدة — أنها مؤازرة من عناصر أجنبية هي بعبارة أخرى الاستخبارات المركزية الأمريكية.
تلك هي الخلفيات والظروف التي أدت لبروز المدافع عن الحرية، صديق عائلة نهرو القديم جايابراكاش نارايان، مصدر القوة الماحقة للحركة التي تزعمها ونظمها. كان نارايان — أو جي بي كما عُرف لدى الكثيرين — واحدًا من أوائل تلاميذ غاندي، وقد أصبح بطلًا من أبطال حركة تحرير الهند السرية عندما خرب خطوط السكك الحديدية والمواقع العسكرية الخاصة بالبريطانيين. وبعد استقلال الهند انشق عن حزب المؤتمر وانضم إلى الحزب الاشتراكي، ثم انصرف عن جميع التيارات السياسية السائدة. وعاش لسنوات عيشة متقشفة يؤثر فيها على نفسه ويكرس وقته بالكامل لتحسين الأحوال الاجتماعية وتقديم العون لقطاعات الشعب الهندي التي يقع عليها أقصى الظلم.
بدأت حركة جي بي نارايان في أوائل عام ١٩٧٤ بولاية بيهار مسقط رأس نارايان، وشأنها شأن حركة ولاية جوجارات، كان هدفها المباشر هو عزل رئيس حكومة الولاية وحل المجلس التشريعي وإجراء انتخابات جديدة. غير أن من الفوارق الجوهرية بين الحركتين أنه فيما اضطلع الطلاب اليساريون في جوجارات بحمل لواء حركتها، في بيهار حاول نارايان أن يحمل الفلاحين والعمال الذين لا يملكون أراضي وغيرهم من قطاعات المجتمع الهندي الفقيرة على الاشتراك في الحركة. ونادى في بيهار بشن الإضرابات العامة لأسبوع وفرض حصار على برلمان الولاية الذي رفضت إنديرا حله. وهذا الحصار أو التطويق كان استراتيجية جديدة للتعبير عن المعارضة أجدى من استراتيجية ترك العمل السلبية التي تمارس في الإضرابات.
نتيجة للشلل الذي أصاب حركة السكك الحديدية وصلت مشكلة نقص الغذاء إلى درجة خطيرة انتقلت معها المجاعات إلى أجزاء من البلاد. فعزمت إنديرا على وضع نهاية للإضرابات بأي ثمن. هذا الأمر دفعها إلى استخدام قانون الحفاظ على الأمن الداخلي الذي أجاز الاعتقالات «الوقائية». وقد كان الثمن فادحًا. ففي الأيام الأولى من تطبيق الحكومة الهندية للقانون اعتُقل وسُجن ما يزيد عن ٢٠٠٠٠ عامل من عمال السكك الحديدية. ارتفع عددهم فيما بعد ليصل إلى ما بين ثلاثين ألف عامل وأربعين ألفًا. شُردت أسرهم من منازلهم الحكومية وأضحت معدمة. كما كان العنف كثيرًا ما يمارس في الاعتقالات فيصاب المضربون بإصابات أدت في بعض الأحيان إلى الوفاة. لقد تمكنت إنديرا من القضاء على الإضراب بعد عشرين يومًا من اندلاعه. ومع الإدانة الواسعة التي تعرضت لها أساليب الحكومة الوحشية فإن كثيرًا من الهنود — وخاصة من الطبقة الوسطى والعليا — امتدحوا الإجراءات التي اتخذتها. لقد أراد هؤلاء — شأنهم شأن البريطانيين من قبلهم — أن تنتظم القطارات في مواعيدها.
لعل إنديرا قد ربحت هذه الجولة، لكن الأسلوب الوحشي الذي تبنته في قمع إضراب عمال السكك الحديدية ظل يوحد ويلهب المعارضة.
•••
في قرابة الوقت الذي انتهت فيه التجربة النووية انقضت فترة رئاسة في في جيري. ومع أن الأخير كان خيار إنديرا عام ١٩٦٩ وكان تأييدها وتفضيلها له على مرشح حزب السينديكيت هو الذي عجل بانقسام حزب المؤتمر، فقد اضطربت علاقتهما في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال في العام السابق عارض جيري إقصاءها لقضاة المحكمة العليا. لذا بدلًا من أن تشجعه على تجديد فترة رئاسته رشحت فخر الدين علي محمد — وهو رجل مسلم في السبعين من عمره — ليخلفه في رئاسة الهند. أيقنت بأن الأخير سيكون وفيًّا ومطيعًا لها. وفي عام ١٩٧٤ سيطرت بنفسها على حزب المؤتمر — بما فيه رئيسه ديف كانتا بارواه — وأغلب رؤساء حكومات الولايات، وقطعًا المجلس الوزاري الخاص بها. ومع رئاسة فخر الدين علي أحمد للهند كان منصبها سيصبح محصنًا. الأمر الذي يوجزه بدقة الشعار الكاشف الذي ابتكره بارواه رئيس حزب المؤتمر: «إنديرا هي الهند، والهند هي إنديرا.»
في الوقت الذي أخذ صيف عام ١٩٧٤ الحار الحافل بالاضطرابات يمر فيه بتثاقل شديد، انصرف انتباه إنديرا لوقت قصير إلى خطط زواج ابنها الأصغر سانجاي. ففي ٢٩ سبتمبر عام ١٩٧٤ تزوج وهو في قرابة الثامنة والعشرين من عمره مانيكا أناند — وهي فتاة سيخية في السابعة عشرة من عمرها — بمراسم زواج مدنية في بيت صديق عائلة نهرو القديم محمد يونس. وهذا البيت شهد أيضًا أول لقاء بين سانجاي ومانيكا في ديسمبر من العام السابق في حفل زواج آخر. كانت مانيكا ابنة ضابط جيش سيخي يدعى الكولونيل تي إس أناند، وامرأة عدوانية شديدة التكلف والاعتداد بنفسها تدعى أمتيشوار. بالإضافة إلى أن مانيكا كانت تصغر سانجاي بعشرة أعوام، كانت امرأة جميلة مفعمة بالحيوية وتتسم بالحزم، وتشبه والدتها في بعض جوانب شخصيتها. عندما التقى بها سانجاي للمرة الأولى كانت قد انسحبت لتوها من مقرر في العلوم السياسية في جامعة سري رام كوليدج في دلهي وصارت تتطلع إلى العمل كصحفية.
أذهل زواج سانجاي ومانيكا الجميع عدا المقربين لهما وعائلتيهما. صار سانجاي منذ تأسيسه مشروع الماروتي مدمنًا على العمل، لا يملك إلا القليل من الوقت للنساء. كان يذهب باكرًا صباح كل يوم إلى مصنع الماروتي ويعود إلى المنزل في السابعة أو الثامنة مساءً. ولما انصب كل تركيزه على مشروع الماروتي وصار في السابعة والعشرين من العمر وبدأ الصلع يغزو رأسه، لم يعد شابًّا ثريًّا مستهترًا كما عُرف عنه في إنجلترا. فمنذ عودته من هناك لم يخض في علاقات مع النساء سوى علاقتين جادتين؛ إحداهما كانت مع امرأة مسلمة، والثانية مع امرأة أوروبية. كما صار شابًّا جادًّا وطموحًا، لا يملك الوقت أو يجد في نفسه هوى للأنشطة الاجتماعية. أما مانيكا من ناحية أخرى فكانت تواقة للخروج والظهور، كما كانت ثرثارة ومستهترة. ومع أن التعاليم السيخية آنذاك حرمت تدخين السجائر فقد كانت تدخنها، الأمر الذي كرهه سانجاي للغاية. كذلك كانت طباعهما مختلفة تمام الاختلاف، فلم تجمع بينهما قواسم أو صداقات مشتركة. هذا فضلًا على أن مانيكا كانت شديدة التأثر بوالدتها المتسلطة أمتيشوار التي رأت منذ البداية أن بالإمكان التمتع بالكثير من المزايا بمصاهرة عائلة غاندي. بعبارة أخرى: جمع زواج سانجاي ومانيكا كل عناصر الفشل.
ولم تكن إنديرا نفسها راضية عن خيار سانجاي، لكنها حاولت ألا تتدخل، فلما تمت خطبته إلى مانيكا في يوليو عام ١٩٧٤ منحتها إنديرا خاتم خطبة والدتها كامالا الذي صممه موتيلال نهرو قبل أعوام عديدة، وفوق ذلك عندما تم الزواج أظهرت إنديرا لزوجة ابنها الجديدة كرمًا بالغًا، فأهدتها واحدًا وعشرين ساريًا جميلًا ومجموعتين من الحلي الذهبية وما يعز عن كل ذلك بالنسبة لها، ثوبًا من قماش القادي الصوفي نسجه نهرو وقتما كان في السجن.
•••
عام ١٩٧٤ تدهورت العلاقات بين الهند ومملكة سيكيم الصغيرة المجاورة لها. تكمن أهمية تلك المملكة — التي تحتل مساحة لا تتجاوز ٢٨٠٠ ميل مربع وتقع في منطقة هادئة بين جبال يغطيها الثلج دائمًا، ويبلغ عدد سكانها ٢٠٠٠٠٠ نسمة فقط — في موقعها الاستراتيجي؛ إذ كانت تحصرها دولة نيبال غربًا ومنطقة التبت التي يحتلها الصينيون شمالًا ودولة بوتان شرقًا والبنغال الغربية جنوبًا. لهذا خدمت إبان الاستعمار البريطاني كمخفر أمامي نَاءٍ لجيش الهند البريطانية. ومع أنها قانونًا نالت الحكم الذاتي إلا أن حاكمها — كما في الإمارات الهندية — كان مفوضًا بريطانيًّا مقيمًا. لكن بعكس الإمارات الهندية لم يكن على ملك سيكيم أو ما يدعى بالتشوغيال (القائد الروحي) أن يقسم بالولاء للتاج البريطاني. وقد صارت سيكيم بعد الاستقلال خاضعة لحماية الهند لا واحدة من الولايات المكونة لها. ويعني الخضوع للحماية هنا أن تحتفظ سيكيم بالسيطرة على شئونها الداخلية فيما تتولى الهند الدفاع عنها وعن وحدة أراضيها.
إلا أن التشوغيال وجد التأييد بين أعداء الهند. ففي باكستان اتهم ذو الفقار علي بوتو الهند بالسعي إلى ضم سيكيم. ثارت في نيبال احتجاجات على سياسات الهند «الاستعمارية والإمبريالية»، أما الصين فقد شبهت نوايا الهند في سيكيم بنوايا الاتحاد السوفييتي في غزوه لتشيكوسلوفاكيا عام ١٩٦٨. فشنت إنديرا غاندي هجومًا قاسيًا على الصين تذكرها فيه بغزوها للتبت.
بعد ذلك في ١٤ أبريل عُقد على عجل استفتاء لتحديد مصير التشوغيال وسيكيم. ونتيجة له ألغيت قاعدة حكم التشوغيال وأسرته الحاكمة التي يعود تاريخها ﻟ ٣٣٣ عامًا، وأدمجت مملكة سيكيم في الاتحاد الهندي بصفتها الولاية الثانية والعشرين له. في بعض الأنحاء أدين «الاستيلاء» على سيكيم قسرًا ووصف بأنه «عملية اقتحام وسرقة». لكن في دلهي اعتبرت وجهة النظر الرسمية «إدماج» سيكيم في الهند انتصارًا آخر للديمقراطية.
•••
كانت تسوية الأوضاع في سيكيم أسهل بكثير من حل المشكلات المتواصلة التي ظهرت في كشمير. في اتفاقية مؤتمر سيملا لعام ١٩٧٢ نصت إحدى فقرات الاتفاقية على أن يلتقي ممثلو الهند وباكستان مجددًا «في وقت مناسب لكلا الطرفين» للتباحث في وضع «تسوية نهائية لمسألة جامو وكشمير»، لكن لم يجرِ تفعيل تلك الفقرة إلى أن مرت ثلاث سنوات. ففي مايو عام ١٩٧٣ شهدت مدينة أنانتناج بجنوب سريناجار واقعة غريبة أعادت إثارة القلاقل في كشمير. في جامعة أنانتناج عثر طالب على رسم للنبي محمد وهو يأخذ القرآن عن جبريل كبير الملائكة في نسخة ألفها آرثر مي بموسوعة «كتاب المعرفة» الموسوعة البريطانية الكلاسيكية الضخمة للأطفال. كانت تلك السلسلة من الكتب ملكًا لمدرسة «ميشان سكول» بأنانتناج، ثم انتقلت ملكيتها إلى جامعة أنانتناج عندما أغلقت المدرسة قبل ما يقرب من ثلاثين عامًا. لكن ذلك الرسم لفت الانتباه بين زعماء المسلمين واتُّهم بأنه ينم عن عدم احترام للمقدسات الإسلامية لأن الإسلام يحرم تمثيل النبي محمد تحريمًا باتًّا. فأضرب طلاب جامعة أنانتناج. وبعدها بيومين خرجت مسيرات احتجاجية كبيرة في سريناجار لوح فيها المتظاهرون بأعلام كتب عليها «اشنقوا المؤلف»، الأمر الذي لم يكن ليجدي شيئًا لأن المؤلف مات في إنجلترا عام ١٩٤٣.
انتشرت القلاقل وتصاعدت حدتها؛ فأغلقت المحال وتعطلت حركة النقل في وسائل النقل العامة حتى توقفت تمامًا، وفتحت الشرطة النيران على المتظاهرين فقُتل ما لا يقل عن أربعة أشخاص في سريناجار. واعتُقل المئات. وحظرت الحكومة الهندية بيع أو امتلاك موسوعة مي.
كان «كتاب المعرفة» بالطبع مجرد شرارة وليس السبب الذي ولَّد المشكلات التي ابتلعت ولاية كشمير من جديد. ففي باكستان استغل بوتو سوء الأوضاع في كشمير لينتقد الهند على عدم سماحها بإجراء استفتاء عام في الولاية. ودعا شعب كشمير إلى تنظيم إضراب ليومين والتعبير عن رغبتهم في تقرير مصيرهم. كانت تلك فرصة مناسبة للقائد الكشميري الشيخ عبد الله (الذي انتهت فترة نفيه السياسي في ربيع عام ١٩٧٢) ليدخل عالم السياسة من جديد. فأدان تدخل بوتو في شئون كشمير الداخلية. وعندها أدركت إنديرا أنها تملك الفرصة لضمه إلى حلفائها، وعليه في أوائل عام ١٩٧٤ بدأت عقد سلسلة مطولة من المفاوضات معه.
في الوقت الذي عقدت فيه إنديرا المحادثات مع الشيخ عبد الله في دلهي أجرى مستشارها الأساسي لشئون كشمير — وهو مفاوض بارع يدعى جي بارثاساراثي، كان مندوبًا ساميًا إلى باكستان — مباحثات مطولة مع نظيره الباكستاني ميرزا أفضل بيج. حاول الشيخ عبد الله إقناع إنديرا بحل مجلس كشمير التشريعي وعقد انتخابات جديدة فرفضت، لكنها — كما صار ديدنها — عرضت عليه أن يكون رئيسًا لحكومة كشمير. وفي نهاية الأمر خرج بارثاساري وبيج وإنديرا والشيخ عبد الله بشق الأنفس بأسس اتفاق صُدِّق عليها في اتفاق كشمير.
•••
لكن بدا لوقت قصير أن مسألة كشمير سُوِّيت. والحقيقة الأكثر إيلامًا هي أن حركة جي بي التي يقودها جايابراكاش نارايان سرت من بيهار إلى جميع أنحاء الهند وتطورت إلى حملة شرسة ضد إنديرا وحكومتها. لقد نادى نارايان بعزل إنديرا «وقيام ثورة شاملة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتعليمي والأخلاقي والثقافي» وتأسيس «ديمقراطية غير حزبية». وسافر إلى جميع أنحاء الهند ينقل رسالته حيث استقبلته حشود ضخمة على أنه مخلصها.
من ثَم صار نارايان وحركته يمثلان خطرًا حقيقيًّا. ورأت إنديرا أن تشجيعه الشعب الهندي على وضع دستور لا يتدخل فيه الوزراء المنتخبون وفيهم رئيس الوزراء نفسه يعد في حد ذاته تهديدًا للديمقراطية. وقد كان موعد الانتخابات العامة بعد عام ونصف فقط من تلك اللحظة. لكن نارايان لم يكن على استعداد لانتظار الانتخابات؛ إذ رأى أنها ستتعرض للتزوير.
لم يعد بمقدور إنديرا تجاهل نارايان أكثر من ذلك. ووافقت على مضض على مقابلته في نوفمبر عام ١٩٧٤. لكن اللقاء انتهى إلى مواجهة حادة لا تصالح من أي نوع. فمن ناحية اتهمت إنديرا نارايان بأنه مدعوم وممول من الولايات المتحدة عن طريق مكتب الاستخبارات المركزية الأمريكي. ومن ناحية أخرى اتهمها نارايان بأنها تريد تأسيس دكتاتورية يدعمها الاتحاد السوفييتي في الهند. وبعد تبادل الاتهامات اللاذعة طلب نارايان من إنديرا أن ينفرد بها (كان اثنان من الوزراء وبعض المساعدين حاضرين في ذلك النقاش). فلما غادر الكل الغرفة عداهما أعطاها ملفًا يحوي رسائل صفراء كتبتها كامالا نهرو إلى زوجته برابها ديفي قبل أربعين أو خمسين عامًا إبان عهد الصراع من أجل الاستقلال. آنذاك كانت كامالا وبرابها صديقتين مقربتين، لكن نارايان لم يقع على مكاتبات كامالا لزوجته إلا في وقت قريب من ذلك عام ١٩٧٣ بعدما توفيت زوجته. وصفت الرسائل بالتفصيل تعاسة كامالا الشديدة في بيت آل نهرو ومضايقة نساء آل نهرو الأخريات لها. وأشعرت حزمة الأوراق الصفراء تلك إنديرا بالتأثر الشديد، بل شعرت بالامتنان لنارايان على أنه أعطاها إياها.
إلا أن تلك اللفتة الشخصية الكريمة لم تغيِّر العداء السياسي الذي جمع بين إنديرا ونارايان. فلم يثمر اجتماعهما شيئًا، وأقسم نارايان على تصعيد حملته ضد إنديرا. ولما كان من تلاميذ غاندي ومن المدافعين عن الحرية كان يعرف الأسلوب الذي يمكن استخدامه في حال عدم خضوعها، ألا وهو العصيان المدني. وعليه تفشت الإضرابات العامة وحركات التطويق والحصار وانتقلت من الولايات إلى دلهي.
•••
بعد ذلك في ٦ مارس قاد نارايان مسيرة لخمسة أميال عبر دلهي إلى البرلمان، حيث سلم المتحدث الرسمي لمجلس اللوك سابها وثيقة مطالب. وبعدها طالب علنًا في اجتماع شعبي حاشد باعتزال إنديرا. يذكر أن الحشد الضخم الذي تبع نارايان في شوارع دلهي القديمة والجديدة قد شكَّل أكبر مظاهرة عرفتها دلهي. حتى إن ركْب نارايان شُبه في الصحف بمسيرة الملح الشهيرة التي قادها غاندي عام ١٩٣٠.
•••
بعد وفاة بادماجا حل الصيف على دلهي. وتوهجت شمسه الحارقة في سماء بلا غمام. ازدادت الأيام طولًا وحرًّا وغبارًا. وتحول لون حدائق لودي من الأخضر اليانع إلى الذبول. وصارت جميع شوارع المدينة قفارًا. لكن مع ذلك الحر المقعد لم يبدأ التكاسل المعتاد الذي يصحب الفترة التي تسبق موسم الأمطار. بل على العكس خاضت إنديرا وحكومتها أيام شهر مايو الطويلة وهي في حالة من الترقب والقلق.
أشياء كثيرة كانت على المحك. ففي جوجارات كان الناس على وشك الإدلاء بأصواتهم والنطق بحكمهم على حزب إنديرا. ذلك بدا التهديدَ الأساسي. لكن إنديرا كانت تعلم أن الخطر الأكبر يكمن في واقع الأمر في سياق آخر. كان القلق يساورها بشأن أمر غفل عنه الشعب الهندي كله تقريبًا. في مارس قصدت إنديرا الله آباد كشاهدة رئيسية، وأدلت بشهادتها لخمس ساعات في المحكمة العليا حول القضية التي اتهمها فيها راج ناراين بالإقدام على أعمال محظورة في انتخابات عام ١٩٧١ العامة. وتقرر أن تتوصل المحكمة إلى حكمها في وقت ما من شهر يونيو.