الفصل السادس عشر

خطوة طارئة جريئة

في ١٢ يونيو عام ١٩٧٥ على الصعيد السياسي ضربت الصواعق السياسية إنديرا ثلاث مرات. فيما كانت لا تزال عاكفة على تناول إفطارها على صينية في غرفتها دق آر كيه دهاوان الباب ليبلغها بأن مستشارها وصديقها دي بي دهار توفي في المستشفى الذي أُودعه ذلك اليوم لإجراء عملية زراعة منظم ضربات قلب. لقد توفي بنوبة قلبية قبل أن تسنح الفرصة لإجراء العملية له. كان ذلك الأخير واحدًا من أعضاء «مافيا إنديرا الكشميرية» دائرة الخبراء والمساعدين البارعين الذين تضاءل عددهم بتقاعد هاكسار ورحيل — أو إقصاء — غيره من الأعضاء. وكان أيضًا واحدًا من أعضاء المجلس الوزاري وسفيرًا إلى الاتحاد السوفييتي وقت وفاته. قصدت إنديرا فورًا المستشفى الذي توفي فيه دهار لتلقى أسرته التي فُجعت بفقده وتساعد في الترتيب لجنازته.

فلما عادت إلى مقر إقامتها قرابة الظهيرة كانت نتائج انتخابات مجلس ولاية جوجارات التشريعي التي عقدت في اليوم السابق قد وصلت. هَزمت جبهة جاناتا — وهي عبارة عن ائتلاف من خمسة أحزاب ضم أتباع جي بي نارايان وموراجي ديساي — حزب المؤتمر.

المرة الثالثة التي ضربت فيها العواصف السياسية إنديرا كانت الأعتى. في الثالثة ظهرًا من ماكينة التلغراف في مقر إقامة إنديرا تلقى إن كيه سيشان أحد سكرتيري إنديرا أنباءً تفيد بأن محكمة الله آباد للعدل حكمت بإدانة إنديرا بممارسة أعمال محظورة في حملتها الانتخابية إبان انتخابات عام ١٩٧١ العامة. أُبلغ سيشان راجيف بذلك، فذهب الأخير إلى مكتب إنديرا وأطلعها على انفراد بالأنباء. هذا فضلًا على أن ذلك الحكم قد أبطل عضوية إنديرا بالبرلمان، كان من شأنه أن يحرمها من تولي أي منصب منتخب ست سنوات.

كانت الاتهامات التي أُدينت بها إنديرا تافهة إلى حد ما، ولكنها تظل مخالفة للقانون. لقد حُظر على جميع المرشحين استخدام «الموظفين الحكوميين لتعزيز فرص الفوز في الانتخابات». لكن وفقًا لما كشفت عنه المحكمة فإن سكرتير إنديرا السابق ياشبال كابور قدم أوراق استقالته من العمل الحكومي في ١٣ يناير، لكنه بدأ العمل كمساعد لإنديرا في ٧ يناير. وتلك الأوراق نفسها لم تمر على بي إن هاكسار — الذي لم يكن ياشبال كابور على وفاق معه — لينظر فيها رسميًّا أو يوقع عليها إلا في ٢٥ يناير. فضلًا على ذلك كانت إنديرا قد استخدمت موظفين حكوميين من ولاية أوتار براديش لنصب المنصات الخطابية وتركيب المكبرات الصوتية في اجتماعاتها بناخبيها. لقد خسر راج ناراين أمام إنديرا في انتخابات عام ١٩٧١ بفارق يزيد على ١٠٠ ألف صوت. بالطبع لم تكن مساعي كابور الانتخابية أو المنصات ومكبرات الصوت من أسباب خسارته. ومع ذلك قضت المحكمة بعزل رئيسة الوزراء ومنحت حزب المؤتمر عشرين يومًا لوضع «خطط بديلة» لإدارة حكومة البلاد. كان الأمر على حد وصف جريدة «تايمز» في لندن له «كعزل رئيس الوزراء لارتكابه مخالفة مرورية». لقد شغلت إنديرا غاندي منصب رئيسة الوزراء لقرابة عقد، واضطلعت بدور فعال في السياسة الهندية طوال حياتها. لكنها حينذاك لم تعد قادرة على المشاركة فيها.

انتقمت السلطة القضائية التي حاولت حكومة إنديرا باستمرار أن تقوض سلطاتها. أو هذا ما بدا. لكن إنديرا كأي مواطن آخر تمتعت بحق الاستئناف. لكن الاستئناف كان سيستغرق شهورًا، من كان سيرأس حكومة البلاد في تلك الفترة؟ كما عبر شعار حزب المؤتمر آنذاك: كانت «إنديرا هي الهند، والهند هي إنديرا». لقد جسدت السياسة الهندية لدرجة يستحيل معها تقريبًا تصور عضو آخر في حزب المؤتمر — سواء أكان ذلك جاجيفان رام أو سواران سينج أو واي بي تشافان الذين كانوا جميعًا من أعضاء المجلس الوزاري — قائدًا للبلاد.

ليوم على الأقل ظل الجميع عاجزين عن تصور الإجراء الذي ستتخذه إنديرا. وربما لم يكن لديها هي نفسها فكرة. عندما التقت بصديقها القديم سيدهارثا شانكار راي رئيس حكومة ولاية بنغال الغربية في عصر ١٢ يونيو قالت له إن عليها الاستقالة. لكن هذا الأخير خالفها الرأي ونصحها بألا تتعجل في اتخاذ القرار. أعقبت ذلك سلسلة من المناقشات جرت على قدم وساق. هل على إنديرا التنحي؟ لم يحثها أي من المرشحين البارزين لخلافتها في رئاسة الوزراء على ذلك. بل لقد رجاها زملاؤها ومؤيدوها في صوت واحد بأن تظل في منصبها وتحارب قرار عزلها. فاستمعت إلى الأسباب التي ساقوها لدعم آرائهم وأسرت في نفسها رأيها. ثم ناقشت الوضع مع ابنها سانجاي، لكن ليس مع أفراد عائلتها الآخرين. في نهاية الأمر استقر الرأي على أن يطلب محامي إنديرا فرانك أنتوني من المحكمة العليا أن تظل في منصبها بدون شرط، على الرغم من قرار محكمة الله آباد، إلى أن يتم التوصل إلى قرار بشأن طلبها بالطعن في الحكم الصادر بشأنها. وهذا ما سيمكنها من البقاء في منصبها كرئيسة الوزراء.

في الأيام التي تلت قرار محكمة الله آباد العليا نظم سانجاي وآر كيه دهاوان سلسلة من المظاهرات والمسيرات تأييدًا لإنديرا. أُمر الموظفون الحكوميون بالمشاركة فيها وإلا احتسب ذلك تخلفًا عن العمل وانتقصت أجورهم. كما طلب حزب المؤتمر بين ١٢ و٢٥ من يونيو تخصيص ١٧٦١ حافلة تابعة لمؤسسة دلهي للنقل لنقل مؤيدي إنديرا إلى الحشود التأييدية التي تقام لها. حتى إنه في يوم ١٣ يونيو توقف أسطول الحافلات المحلية الذي ذرع طرق دلهي جيئة وذهابًا بصورة منتظمة وتحول إلى قبلة واحدة هي بيت رئيسة الوزراء. كما نُقلت أعداد كبيرة من الناس إلى دلهي من ولاية هارايانا والبنجاب وراجستان وأوتار براديش على متن حافلات استولت عليها السلطات الحاكمة لتلك الولايات.1 وأيضًا أُرسلت قطارات مزدحمة بمؤيدي إنديرا من ولاية فاراناسي ولكناو وكانبور إلى هناك. تلك الحشود كانت تُنقل إلى احتشادات تقام في مواعيد محددة في ساحة دلهي للاستعراضات العسكرية أو إلى المظاهرات التي تنشأ «عفويًّا» أمام بيت إنديرا. كانوا يمنحون في التجمعات السياسية التي تعقد على مدار الساعة لبنًا ووجبات ساخنة. وكانت إنديرا تخرج مرة على الأقل من بيتها لخطابهم وسط هتافات تردد: تعيش إنديرا!

في ٢٠ يونيو خاطبت إنديرا حشدًا تأييديًّا لها يضم قرابة ٥٠٠٠٠ شخص في منطقة بوت كلاب بنيو دلهي على منصة الخطاب. كان سانجاي وراجيف وسونيا يقفون إلى جانبها. قالت إنديرا للحشد الضخم إن خدمة الشعب هي تقليد لعائلة نهرو وفيروز غاندي، وتعهدت بأن تظل في خدمة الشعب حتى «الرمق الأخير». حصد ذلك الاحتشاد نجاحًا كبيرًا، ولا يُعزى ذلك بالكلية إلى أسلوب «الحشود المأجورة» الذي اتبعه سانجاي. ذلك لأن إنديرا كانت لا تزال تتمتع بتأييد شعبي هائل.

بعد أربعة أيام في ٢٤ يونيو أعلن قاضي المحكمة العليا كريشنا إيار في دلهي أن بإمكان إنديرا أن تظل بمنصبها، لكن بشرط حرمانها من التصويت في البرلمان لحين التوصل إلى قرار بشأن طلبها بالطعن في الحكم الصادر بحقها، الأمر الذي قد يستغرق عدة شهور. ويمكن أن ينزل بها ذلك إلى مرتبة أضعف رؤساء الوزراء. لكن لم يرضَ أحد بتسوية الأمر بالإبقاء على إنديرا بشروط كما عرض إيار، وقوت تلك التسوية من عزم المعارضة على الإطاحة بإنديرا. فقد دعا جي بي نارايان إلى تنظيم احتشاد كبير اليوم التالي في ساحات رامليلا الشاسعة بنيودلهي، تعقبه تظاهرات يومية مناوئة للحكومة في كل أنحاء البلاد.

حذر مستشارو إنديرا بالأجهزة المخابراتية من أن نارايان ينوي دعوة شرطة دلهي وجيشها في ٢٥ يونيو إلى شن تمرد. وفوق ذلك — حسبما أخبر مواجي ديساي الصحفية أوريانا فالاسي — اعتزم معارضو إنديرا عشية الاحتشاد تطويق وحصار شارع سافدارجانج بحيث تصبح إنديرا سجينة في بيتها، ويُمنع أي شخص آخر من دخول البيت. قال ديساي في زهو: «سنخيم هناك ليلًا ونهارًا.» وأضاف: «فنحن نعتزم الإطاحة بها وإجبارها على الاستقالة. إلى الأبد. لن تتمكن السيدة الفاضلة من الصمود أمام حركتنا.»2

غير أن نارايان وديساي في غفلة منهما نصبا لنفسيهما فخًّا. فبتهديدهما بزعزعة استقرار الحكم وشن انقلاب غير عسكري منحا إنديرا المبرر الذي تحتاجه لوقف جلسات البرلمان وفرض حالة الطوارئ. ببساطة لم تكن أساليب حركة تحرير الهند لعام ١٩٤٢ تصلح لعام ١٩٧٥. لم يكن العصيان المدني لينجح إلا في الأنظمة التي لا يملك الشعب فيها حق التصويت أو التعبير عن الرأي. وكانت الهند مع كل التعديلات الدستورية والقرارات التي وضعتها إنديرا لا تزال دولة ديمقراطية. رأت إنديرا أنه لو لم تكن الحكومة جيدة بما يكفي فبمقدور الشعب أن يصوت على إخراجها من السلطة في الانتخابات التالية في مارس عام ١٩٧٦.

•••

في صباح ٢٥ من يونيو عندما رن هاتف سيدهارثا شانكار راي رئيس حكومة بنغال الغربية — الذي تصادف وجوده في نيودلهي لا في موطنه ولاية كلكتا — كان في الفراش. كان المتصل هو سكرتير إنديرا آر كيه دهاوان؛ يتصل ليدعو راي للقدوم إلى مقر رئيسة الوزراء. فأسرع الأخير بالذهاب إلى هناك حيث وجد إنديرا في غرفة مكتبها تجلس خلف مكتب كُدست عليه تقارير أجهزة المخابرات. وخاض الاثنان بمفردهما في نقاش بشأن الأوضاع للساعتين التاليتين. وصفت إنديرا لراي الفوضى التي شعرت أنها توشك على ابتلاع البلاد. ثم قالت له: «نحن في مشكلة خطيرة. ثمة حاجة إلى إجراء صارم. لقد حُل المجلس التشريعي في جوجارات. كما حل في بهار أيضًا. لن يكون هناك نهاية لذلك. سيتوقف سير الديمقراطية فجأة.» وبعدها كررت تقول ما لم يبدُ مطلقًا أنه وليد اللحظة وهي تضغط على كل حرف من كلماتها: «ثمة حاجة إلى إجراء صارم وعاجل.» دهش راي من استخدامها للفظة «عاجل» وإبهامهما للفاعل بدلًا من ذكره في تلك الجملة الأخيرة، لقد قالت ثمة حاجة لإجراء، وليس أنهم بحاجة لاتخاذ إجراء.3

بعدئذٍ قرأت إنديرا على راي تقارير أجهزة المخابرات الموجودة على مكتبها. وصفت تلك التقارير بصورة عامة الاحتشاد الذي تقرر أن يشهده مساء ذلك اليوم الذي أزمع نارايان فيه دعوة رجال الشرطة والجيش إلى التمرد. وأخبرت إنديرا راي بأن المخابرات الهندية تشير إلى أن مكتب المخابرات المركزية الأمريكي يقف وراء الاحتشاد. لقد فطنت إلى أنها تأتي في مقدمة أعداء ريتشارد نيكسون، لذا كانت متخوفة فعليًّا من الإطاحة بها وتدميرها بالطريقة التي شن بها الجنرال التشيلي أوغستو بينوشي — الذي دعمه مكتب المخابرات المركزية الأمريكي — انقلابًا على سلفادور أليندي عام ١٩٧٣.

شعرت أن التهديد موجه لشخصها هي، بل آمنت أنه إن نجح نارايان في عزلها فسيكون ذلك وبالًا على الهند. لقد اعتقدت أن الهند ستدمر نفسها بنفسها إن تخلت عن السلطة. من ثَم قالت لراي: «لا نستطيع الاستمرار على هذه الشاكلة. عندما لا يُظهر الوليد استجابة عليك أن تهزه لتدب فيه الحياة. والهند تحتاج إلى هزة.»4 كما قالت فيما بعد في مقابلة صحفية، تحتاج الهند إلى «علاج بالصدمات». لا بد لإنعاشها من صدمة عنيفة تردها إلى الحياة.

استمر اللقاء بين إنديرا وراي بعض الوقت على هذا المنوال. لقد استدعت الأخيرة راي لأنه خبير في الشئون القانونية التي تتصل بالدستور، إلا أنها لم تتشاور ذلك اليوم مع وزير القانون الخاص بها إتش آر غوخالي. فهي لم تكن بحاجة إلى المشورة، وإنما كانت بحاجة إلى الحصول على موافقة رسمية على سلسلة من الإجراءات أخذ سانجاي غاندي وأوم ميهتا نائب وزير الداخلية وبانسي لال ممول مشروع سانجاي ورئيس حكومة ولاية هارايانا في تنفيذها فعليًّا اليوم السابق على ذاك. في الواقع قبل أن يُهاتَف دهاوان سيدهارثا شانكار راي صباح ٢٥ يونيو عكف هؤلاء الثلاثة — بعلم إنديرا — في مكتب دهاوان على وضع قائمة أولية بالشخصيات التي يزمع القبض عليها واعتقالها. وقد جاء على رأس تلك القائمة نارايان وديساي.

كان راي رجلًا نزيهًا وضليعًا في شئون القانون، إلا أنه كان أيضًا ذا ميول فاشيستية. وبعكس الكثيرين من أتباع إنديرا لم يثِر إلى ذلك الوقت عداوة سانجاي له. وقد نصح إنديرا بألا تستقيل قبل اثني عشر يومًا عندما صدر حكم محكمة الله آباد العليا. لذا كان من المستبعد أن يتراجع عن نصيحته حينذاك.

وهو الأمر الذي لم يقُم به. إلا أنه لم يكن جاهزًا عندما حان دوره. فعندما سألته إنديرا «ما الذي علينا فعله؟» أخبرها بأن عليه أن يذهب ليدرس الموقف من الناحية الدستورية. فوافقت ولكنها طلبت منه أن يعود «على جناح السرعة». فغادر وأمضى ساعات كثيرة في مراجعة نص الدستور، لا الهندي وحسب؛ وإنما الأمريكي كذلك. وبعدها في الثالثة والنصف عصرًا عاد بالرد إلى مقر إقامة إنديرا، أوضح راي لإنديرا أنه بموجب المادة رقم ٣٥٢ من الدستور الهندي بإمكان الحكومة فرض حالة الطوارئ في حال مواجهتها أو توقعها عدوانًا خارجيًّا أو اضطرابات داخلية. وبيَّن لها بدقة الفارق بين التهديد الخارجي والداخلي، فأكد أن حالة الطوارئ التي أُعلنت عام ١٩٧١ إبان حرب الهند مع باكستان بسبب بنجلاديش — التي كانت لا تزال دائرة — تعد «حالة طوارئ تفرض لمواجهة التهديدات الخارجية»، وهي ليست صالحة لأن تُفرض في الأزمة الحالية.

ونصت المادة رقم ٣٥٢ من الدستور الهندي على أن رئيس الهند يملك قانونًا حق إعلان حالة طوارئ قومية إن كانت الدولة تهددها حرب أو عدوان خارجي أو تمرد مسلح. الحرب هي بالطبع تهديد خارجي، أما التمرد المسلح ففسره راي على أنه تهديد داخلي للدولة. ومن هنا كانت دعوة نارايان الشرطة والجيش إلى عدم إطاعة الأوامر الموجهة إليهما مهمة لراي وإنديرا؛ إذ اعتبراها تحريضًا على شن «تمرد مسلح». أصغت إنديرا باهتمام لراي وهو يشرح لها الفارق بين فرض حالة الطوارئ للتهديدات الخارجية وفرضها للتهديدات الداخلية. وبعدها أخبرته بأنها لا تود مناقشة حالة الطوارئ في المجلس الوزاري إلا بعد فرضها. إذ إنها بعدما حسمت رأيها بأن تُفرَض لم ترِد أن تثار أي اعتراضات عليها. وكان راي قد تولى ذلك الجانب من المسألة بالدراسة بالفعل، فأخبر إنديرا أن بمقدورهما إخبار الرئيس فخر الدين علي أحمد أن ضيق الوقت لا يسمح بالدعوة إلى عقد اجتماع للمجلس الوزاري. وقد استند في ذلك إلى أنه ليس من الضروري شرعًا أن تصاغ جميع القرارات الرئاسية بعلم مجلس الوزراء. وقال لإنديرا إن بإمكان الرئيس فرض حالة الطوارئ لمواجهة تهديد داخلي، وبعدئذٍ يمكن لمجلس الوزراء أن يصدق عليها بأثر رجعي.

طلبت إنديرا من راي أن «يقصد الرئيس» في تلك المسألة. فاحتج بأنه رئيس حكومة بنغال الغربية وليس رئيس الوزراء، لكنه وافق على أن يصحبها إلى هناك.

وفي الخامسة والنصف مساءً قصد الاثنان راشتراباتي بهافان مقر إقامة الرئيس. كان الرئيس فخر الدين أحمد قد أثبت أنه تابع طيع كما عدته إنديرا أن يكون عندما طالبت بتوليته الرئاسة العام الماضي. ومع ذلك فقد تطلب إقناعه بضرورة فرض حالة الطوارئ بعض الوقت من إنديرا ومن راي؛ إذ أوضح الأخيران أن اعتماد حالة الطوارئ ضروري بناءً على ما تعيشه البلاد من وضع زعما أنه «شبه فوضوي»، وبعدئذٍ شرح راي لفخر الدين أحمد الموقف القانوني والمادة رقم ٣٥٢. سأل فخر الدين أحمد هل استشارت إنديرا المجلس الوزاري في ذلك؟ فأجابته الأخيرة بأن المسألة عاجلة للغاية، وأن بإمكان مجلس الوزراء المصادقة على فرض حالة الطوارئ بأثر رجعي. وبعد عدد من الاستفسارات الأخرى أخبر فخر الدين أحمد إنديرا ﺑ «أن ترسل قرار فرض حالة الطوارئ».

مع حلول المساء أقلت سيارة إنديرا وراي عائدة إلى مقر إقامة رئيسة الوزراء. ومرت في طريقها بمجموعة من الطالبات اللاتي حَيَّيْنَ إنديرا بحرارة ملوحات بأيديهن، فردت عليهن التحية ملوحة بيديها وهي تقول لراي: «لا يزال عليَّ أن أعنى بالناخبين من هؤلاء.» قالت ذلك بتأثر وكأن سلامة هؤلاء الأطفال تكمن بين يديها. في مقر إقامة إنديرا أطلع راي بي إن دهار باختصار على الوضع. فأملى دهار أحد كتَّاب الآلات الطابعة «قرار إعلان فرض حالة طوارئ» ليرسل إلى مكتب الرئيس ليوقعه. كما أملى رسالة من إنديرا للرئيس لإرفاقها بالقرار.

فور أن صارت تلك الوثائق جاهزة للإرسال عُهد بها إلى آر كيه دهاوان الذي انطلق بها إلى راشتراباتي بهافان. وأمرت إنديرا بمهاتفة جميع أعضاء المجلس الوزاري في الخامسة صباحًا وإبلاغهم بانعقاد اجتماع عاجل للمجلس بعد ساعة. في خطابها للرئيس ذكرت إنديرا أن الوضع الأمني «يتطلب اتخاذ إجراء فوري»، لذا يلزم فرض حالة الطوارئ فورًا. ثم جعلت تشرح الموقف قائلة: «كنت أود عرض تلك المسألة على المجلس الوزاري، لكن لسوء الحظ من المستحيل القيام بذلك هذا المساء … ستكون تلك المسألة أول ما أثيره في اجتماع المجلس صباح الغد.»5 فيما بعد اتخذت إنديرا من «الحفاظ على القانون والنظام» مبررًا لعدم استشارتها مجلس الوزراء. قالت إنه كان عليها التحرك بسرية لمنع تسرب أي معلومات عن حالة الطوارئ. فقد أرادت مباغتة المعارضين واعتقال قادتهم قبل مجيء الصباح.

عاد دهاوان من مقر إقامة الرئيس. وجاء منتصف الليل وولى، لكن سيدهارثا شانكار راي ظل في مقر إقامة إنديرا عدة ساعات يساعدها في صياغة الخطاب الذي تعتزم إذاعته على الأمة صباح اليوم التالي بعد اجتماع مجلس الوزراء. فيما عكفا على ذلك في غرفة مكتب إنديرا تردد سانجاي بين الفينة والفينة على الغرفة. ونادى كثيرًا على إنديرا، فكانت الأخيرة تغادر الغرفة بناءً على طلبه عشر أو خمس عشرة دقيقة.

عكف سانجاي وأوم ميهتا في مكتب آر كيه دهاوان على وضع اللمسات الأخيرة على قائمة المعارضين الذين يعتزم اعتقالهم، فكانا بحاجة إلى الحصول على موافقة إنديرا فيما يفعلانه. أما بانسي لال فكان بحلول ذلك الوقت قد عاد إلى ولاية هارايانا، لكنه ظل على اتصال بسانجاي عبر الهاتف يتناقش معه في أمر القائمة. كان من المرتقب أن تتم تلك الاعتقالات — التي كانت ستنفذ بموجب أحكام قانون الحفاظ على الأمن الداخلي — قبل أن يصبح فرض حالة الطوارئ موضع نقاش. وقد بدا أن سانجاي هو من أثار ذلك الاقتراح بعد وقت قصير من صدور حكم محكمة الله آباد العليا ضد إنديرا في ١٢ من يونيو عندما بدأ المعارضون يطالبون باعتزال الأخيرة. لقد كانت الاعتقالات الوقائية بالطبع استراتيجية تستخدم على نطاق واسع إبان الاستعمار البريطاني الذي ورث تلك الاستراتيجية للهند المستقلة. إلا أن صلاحية إجرائها اتسعت بصورة كبيرة على يد إنديرا؛ وذلك من خلال قانون الحفاظ على الأمن الداخلي وما يتصل به من تشريعات للدفاع عن الهند سنَّت إبان حرب ١٩٧١ مع باكستان.

عكفت عصبة المتآمرين التي اجتمعت في مكتب دهاوان كذلك على وضع خطط لفرض رقابة مشددة على وسائل الإعلام تبدأ بقطع الكهرباء عن صحف دلهي لئلا تصدر صباح اليوم التالي. لقد صدقت إنديرا على فرض الرقابة، إلا أنها تركت لسانجاي ودهاوان تدبير الطريقة التي تفرض بها.

لما انتهت إنديرا وراي من صياغة الخطبة خلدت الأولى للنوم. كانت الساعة الثالثة صباحًا آنذاك، مع ذلك مكث راي وغيره ممن لعب دورًا أساسيًّا في الخطة يتحاورون بالمنزل، ضم هؤلاء وزير الداخلية براهماناندا ريدي ونائب رئيس حكومة ولاية دلهي كيشان تشاند. ولما كان راي قد أخبر إنديرا من قبل بأن عليها أن تطلع رئيس حزب المؤتمر ديف كانتا بارواه أيضًا على المسألة أبلغ آر كيه دهاوان الأخير هاتفيًّا. لم يثِر أحد شكوكًا في ذلك الإجراء الذي وضع بحلول ذلك الوقت موضع التنفيذ، وإن كان ريدي قد قال في لحظة من اللحظات: «لكننا في حالة طوارئ بالفعل». فأوضح راي أن حالة الطوارئ الخارجية حقيقة لا تكفي لمواجهة الموقف الحالي والحاجة لاحتوائه.

بعد مناقشة الوضع مع ريدي نهض راي أخيرًا ليغادر، لكن في طريقه إلى المغادرة صادف أوم ميهتا الذي أخبره بأن الكهرباء ستُقطَع عن صحف دلهي وستُغلَق جميع المحاكم. فاحتج راي على ذلك قائلًا: «هذا سخف! لم يكن هذا ما اتفقنا عليه. لن يحدث هذا.» ودار على عقبيه وعاد إلى المنزل، وأخبر دهاوان أنه يرغب في مقابلة إنديرا. فأجابه بأن إنديرا أخلدت إلى النوم. لكن راي أخذ يلح في طلب مقابلتها قائلًا: «أريد مقابلة السيدة إنديرا. لا بد أن أقابلها.»

فغادر دهاوان على مضض. وعاد بعدها بوقت قصير مع إنديرا. وفقًا لراي، صدمت إنديرا مما قاله لها عن خطط قطع الكهرباء وإغلاق المحاكم. أمرت إنديرا راي بالانتظار وأسرعت بالخروج من الغرفة. وغابت خمس عشرة دقيقة. في تلك الأثناء في مكتب دهاوان هاتف سانجاي بانسي لال في هارايانا وأخبره بأن راي يثير المشاكل بشأن قطع الكهرباء. فأجابه لال: «تخلص منه؛ إنه يفسد الخطة … إنه يحسب نفسه محاميًا عظيمًا مع أنه يكاد لا يفقه شيئًا.»6
في الوقت الذي انتظر فيه راي عودة إنديرا أوضح أوم ميهتا له أنه مع أن إنديرا أيدت فرض الرقابة إلا أنها لم تكن على علم بأن هناك أوامر بقطع الكهرباء أو إغلاق المحاكم. فتلك الأوامر صدرت عن سانجاي. بعد تأخير عادت إنديرا محمرة العينين والبكاء بادٍ عليها. وقالت: «لا بأس يا سيدهارثا، ستكون هناك كهرباء، ولن تغلق أية محاكم.» فصدقها راي وغادر أخيرًا إلى بيته مطمئنًا إلى وعد كاذب.7

•••

قبل أن تخلد إنديرا أخيرًا إلى النوم في الساعات الأولى من صباح ٢٦ يونيو كان رجال الشرطة في دلهي وغيرها من الأماكن في الهند قد خرجوا بالفعل بأعداد هائلة يوقظون الناس ويزجون بهم في عربات الشرطة لحملهم إلى السجون. جاء على رأس قائمة الآلاف الذين اعتُقلوا نارايان وديساي. وكان معهما راج ناراين رأس مشكلات إنديرا. في الوقت نفسه فيما كانت الصحف المعتمدة في دلهي على وشك طباعتها انقطعت الكهرباء فجأة. ولم يصدر من الصحف اليومية التي يبلغ عددها اثنتي عشرة صحيفة تقريبًا سوى صحيفتي «ذا ستيتسمان» و«هندوستاني تايمز» — التي كان مجلس بلدية نيودلهي لا دلهي هو الذي يوفر لها الكهرباء — اللتان كانتا معروضتين للبيع في العاصمة اليوم التالي ليعلنا عن فرض حالة الطوارئ والاعتقالات التي تمت باسمها.

•••

لم تنل إنديرا إلا قسطًا قليلًا من النوم تلك الليلة، إن كانت قد نامت على الإطلاق، ومع ذلك في صباح اليوم التالي عندما اجتمعت بمجلسها الوزاري في السادسة لم يبدُ عليها التعب أو الإجهاد. عُقد ذلك الاجتماع في مكتبها في العقار رقم ١ في شارع أكبر رود إلى جانب بيتها لا في مكتبها في ساوث بانك؛ لأنه عقد في وقت مبكر جدًّا على غير العادة. حضر الاجتماع ثمانية وزراء — لأن التسعة الآخرين لم يكونوا بدلهي — وخمسة وزراء دولة. دخل الوزراء الغرفة صفًّا وأُعطي كل منهم نسخة من إعلان قرار فرض حالة الطوارئ وقائمة بالمعارضين البارزين الذين اعتُقِلوا. ثم جلسوا كالعادة حسب الترتيب الأبجدي لأسمائهم حول مائدة المجلس المستديرة. فجلس كاران سينج وزير الصحة وتنظيم الأسرة في مواجهة إنديرا مباشرة. وجلس بي إن دهار سكرتيرها الرئيسي إلى جانبها. أما سانجاي فبعكس الإشاعات التي دارت فيما بعد لم يكن حاضرًا في هذا الاجتماع أو في أي اجتماع وزاري آخر.

افتتحت إنديرا الاجتماع بإعلان فرض حالة الطوارئ بلا مقدمات، ثم جعلت تبين ظروف الدولة التي جعلت ذلك الإجراء «الصارم» ضروريًّا. لم تكن أنباء فرض حالة الطوارئ قد تسربت بعد، لذا بهت أغلب الحاضرين منها ومن لائحة أسماء المعتقلين العريضة معًا. وساد الاجتماع مناخ من التوتر، كانت إنديرا فيه مشدودة الأعصاب ومتحفظة. لم تعد اجتماعات مجلس الوزراء منتدًى لوضع السياسات أو مقامًا للسجال، لكن الاجتماع الذي عُقد عقب فجر ٢٦ يونيو كان بالأخص اجتماعًا مشحونًا بالتوتر. السؤال الوحيد الذي أثير في الاجتماع جاء على لسان وزير الدفاع سواران سينغ الذي قال: «تحت أي قانون جرت تلك الاعتقالات؟»8 فأجابته إنديرا باقتضاب بصوت يكاد لا يسمع.
وبالرغم من أن اجتماع مجلس الوزراء عُقد ظاهريًّا لإقرار فرض حالة الطوارئ، فلم يكن هناك أي تصويت فيه. لكن ذلك لم يكن بالشيء الجديد. فالأصوات لم تكن تحصى في اجتماعات مجلس الوزراء؛ لأن من شأن ذلك أن يسمح بتغليب سلطة الوزراء على سلطة رئيسة الوزراء. لذا جرى بدلًا من ذلك التوصل إلى اتفاق على «الإجماع» وأُقر فرض حالة الطوارئ. لم يسبق ذلك الإقرار أي تباحث شكلي أو روتيني. فعلى حد قول بي إن دهار فيما بعد فضلًا على أن «أحدًا لم يقل لا» لفرض حالة الطوارئ، لم تكن هناك أي مناقشة حقيقية للأسباب التي دفعت إلى تبني ذلك الإجراء الصارم في منتصف الليل. لقد انتهى اجتماع مجلس الوزراء الذي كان من المعتزم أن يصادق على فرض حالة الطوارئ في أقل من نصف الساعة.9
بعدما انفض مجلس الوزراء بوقت قصير في غرفة الاستقبال خارج مكتب إنديرا دنا سانجاي من وزير الإعلام والإذاعة آي كيه جوجرال وبدأه الحديث بوقاحة. وقال له بلهجة آمرة إنه من الآن فصاعدا سيدلي إليه بجميع النشرات الإخبارية قبل نشرها، فأجابه جوجرال: «مستحيل.» كانت إنديرا تقف على مدخل الغرفة آنذاك، وقد استمعت إلى تلك المحادثة القصيرة التي جرت بين سانجاي وجوجرال إلا أنها لم تقُل شيئًا. في صباح اليوم التالي في غياب إنديرا اتهم سانجاي جوجرال في وجهه بأنه لا يدير وزارته كما ينبغي. فقابل جوجرال اتهام سانجاي … بالاستياء. في الواقع قال جوجرال لسانجاي إنه إن كان لديه ما يريد قوله له فيحسن له أن يتوخى «الرسمية والأدب»، وأضاف أن ارتباطه «برئيسة الوزراء والمؤتمر بدأ قبل أن يولد (سانجاي)» … وأنه «لا شأن له بأعمال وزارتي».10
في اليوم التالي هاتف صديق إنديرا القديم محمد يونس جوجرال من مكتب إنديرا في شارع أكبر رود وأمره بأن يغلق مكتب إذاعة بي بي سي في دلهي نهائيًّا، وأن يعتقل المراسل الصحفي مارك تولي لأنه أذاع أنباءً بأن جاجيفان رام وسواران سينج قد وُضعا تحت الإقامة الجبرية. وفوق ذلك أمر يونس جوجرال ﺑ «إحضار مارك تولي ونزع بنطاله عنه وضربه قليلًا بالسياط، ثم إرساله إلى السجن». فأخبره جوجرال أن اعتقال المراسلين الأجانب ليس «وظيفة وزارة الإعلام والإذاعة». وبعد إنهائه تلك المكالمة أرسل جوجرال في طلب التقرير الرقابي عن إذاعة بي بي سي، ومنه علم أن الإذاعة في الواقع لم تبث أخبارًا بأن جاجيفان رام وسواران سينج قد وضعا تحت الإقامة الجبرية. فأبلغ إنديرا بما تنامى إلى علمه، لكنها مع ذلك أرسلت في طلبه وأخبرته بأنها تعفيه من وزارته لأن وزارة الإعلام والإذاعة تحتاج إلى إدارة «مختلفة وأكثر صرامة في ظل الظروف الحالية».11
في صباح ٢٦ يونيو أذاعت إنديرا من إذاعة راديو «أُول إنديا» خطابها على الأمة. وابتدأته بقولها: «أعلن الرئيس فرض حالة الطوارئ. لكن ليس هناك ما يدعو للخوف.» ثم جعلت تتكلم عن «المؤامرة المُحكمة التي نُسجت خيوطها على نطاق واسع» ثم «أخذت تزداد منذ أن بدأت إدخال بعض السياسات التقدمية من أجل المصلحة العامة لرجال ونساء الهند». كان قانون الطوارئ ضروريًّا لإعادة الاستقرار والأمن والنظام وحماية الديمقراطية والوحدة الوطنية. لذا — كما أوضحت إنديرا — أجريت بعض «الاعتقالات الوقائية»، ولكنها أسرعت بالتأكيد لسامعيها على أن المعتقلين يحظون بكل الاحترام والرعاية. للأسف كان لا بد من وضع قيود على الصحافة لأنها مسئولة عن إصدار كتابات «لا تتمتع بحس من المسئولية» في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من اضطرابات خطيرة. أخبرت إنديرا مواطنيها قائلة: «إن هدف فرض الرقابة هو إعادة أجواء الثقة.»12
بدلًا من أن تجري إنديرا التعديلات كعادتها في الخطابات التي تولى كاتب خطاباتها شارادا براساد كتابتها لها صاغت إنديرا خطاب إعلان حالة الطوارئ بنفسها — لكن بمساعدة سيدهارثا شانكار راي — مساء اليوم السابق. إلا أن براساد وبي إن دهار اضطلعا بمراجعته قبل أن تذيعه. وأهم ما أضافاه إلى الخطاب هو عبارته الختامية التي جاء فيها: «أنا واثقة من أن الأوضاع الداخلية ستتحسن سريعًا ليسنح لنا التخلي عن ذلك القرار — قرار فرض حالة الطوارئ — في أسرع وقت ممكن.»13
مرارًا وتكرارًا أصرت إنديرا في الخطاب الذي أذاعته في الراديو وفي المؤتمرات والمقابلات الصحفية والمناقشات المطولة التي عُقدت في البرلمان على أن الحكومة تتعرض للهجوم والتهديد، وعلى أنه لم يكن أمامها خيار سوى إعلان حالة الطوارئ. وفي مساء ٢٧ يونيو بعد يومين من فرض حالة الطوارئ أذاعت إنديرا من الراديو مجددًا بيانًا تشرح فيه كيف أنه:
«كان يتولد مناخ من العنف والكراهية … أحزاب المعارضة وضعت برنامج تطويق وحصار واضطرابات وتشويش وتحريض للعمال والشرطة وقوات الدفاع على مستوى البلاد في محاولة لشل الحكومة المركزية كليًّا. أحد المعارضين — جي بي نارايان — بلغ به الحد أن يأمر القوات المسلحة بعدم تنفيذ الأوامر … كان مقررًا أن يبدأ هذا البرنامج في ٢٩ من هذا الشهر. لم يكن لدينا شك في أن هذا البرنامج كان سينتهي إلى خلق تهديد خطير للأمن العام وتدمير الاقتصاد تدميرًا تامًّا. كان لا بد من منع هذا.»14

زعمت إنديرا أنها كانت محاصرة من كل جانب. كان اليمين واليسار والهندوس المتطرفون وإرهابيو الناكساليين والآلاف من «العناصر» لديهم تصميم على الإطاحة بقانون البلاد. أتى الأعداء من شُعب مختلفة، لكنهم كانوا تحت قيادة حركة جي بي نارايان الفاشية التي تدعمها — كما أكدت إنديرا — «جهات أجنبية». لقد زعمت إنديرا مناقضة نفسها أن الطريقة الوحيدة لحماية الديمقراطية الهندية هي إيقاف النظم والسياسات والأساليب الديمقراطية بفرض حالة الطوارئ عليها. كان فرض حالة الطوارئ علاجًا صارمًا، أو بعبارة أخرى جرعة من الاستبدادية لحماية الدولة من فيروس خطير يكره الديمقراطية.

ما لم تقره إنديرا علنًا هو أنه كان لديها أعداء من «بين صفوفها»، بعبارة أخرى منشقون عن حزبها الخاص. لقد انشق ما لا يقل عن خمسين عضوًا من يساريي حزب المؤتمر وانضموا إلى نارايان وحركته، وفي اليمين استنكر نحو ستين أو سبعين عضوًا آخرين في الحزب مواقفها الاشتراكية وأرادوا إبدالها بجاجيفان رام وهو هاريجاني يشغل منصب وزير الري والزراعة. في الواقع كانت سيطرة إنديرا على الحزب في أضعف حالاتها منذ اليوم الذي تسببت فيه في انقسامه في عام ١٩٦٩.

أغلب الأصوات التي كان من الممكن أن تحتج على فرض حالة الطوارئ أُخمدت. وقادة أحزاب المعارضة وأعداء إنديرا زج بهم في السجن أو وضعوا تحت الإقامة الجبرية. أما الرجال الذين تمتعوا بالنزاهة أمثال آي كيه جوجرال فلم يعترضوا علنًا على فرض حالة الطوارئ ربما لأنهم أدركوا عدم جدوى ذلك. لكن — على الأقل — ظن المنشقون سرًّا عن حزبها أن بإمكانهم المناورة ضد حالة الطوارئ من داخل الصفوف. وفي تلك الأثناء خضعت الصحف للرقابة. وحُظِر ستة وعشرون تنظيمًا سياسيًّا معاديًا لحزب المؤتمر، أو بالأحرى لإنديرا؛ منهم في اليمين حزب آر إس إس الهندوسي المتطرف، وفي اليسار الحزب الشيوعي الماركسي والشعبة السرية الناكساليتية الماركسية اللينينية من الحزب الشيوعي. (الحزب الشيوعي الماركسي الذي كانت تربطه روابط قوية مع موسكو أيد فرض حالة الطوارئ بحماس).

فيما تلا من أيام بدا للناس في ظل حالة الطوارئ أن الحياة اليومية صارت أكثر نظامًا وأقل إرهاقًا. فجأة لم تعد هناك مسيرات تظاهر أو مناوشات بالشوارع مع الشرطة. وانخفضت الأسعار، وتناقص العجز في السلع الأساسية. واختفى زحام المتسولين من شوارع دلهي. واختفى كذلك أغلب الأبقار الضالة، ولم يبدُ أن أحدًا يعبأ بالمكان الذي ذهب إليه المتسولون والأبقار. كان المسئولون والموظفون الحكوميون يصلون للعمل في الموعد. ويظلون هناك إلى موعد الانتهاء منه، وسيارات الأجرة والعربات تسير على الجانب الصحيح من الشارع. والناس يصطفون لركوب الحافلات. والقطارات تسير في الموعد.

في الأشهر الأولى على الأقل لاقى فرض حالة الطوارئ استحسانًا كبيرًا؛ فقد أعادت إنديرا الأمن والنظام إلى البلاد. لذا — من جديد — ظهرت اللافتات الضخمة بأعداد كبيرة تحمل صورتها في الممرات الدائرية للمدينة وقد كتب عليها شعارات مثل: «القائدة على حق، المستقبل مشرق»، و«هي الفارق بين الفوضى والنظام». وكثرت اللوحات الإعلانية المزدانة بكلمات إنديرا الملهمة ومواعظها مثل: «النظام هو الحل في هذه الساعة»، وعباراتها التحذيرية مثل «لا تنقادوا للشائعات ومن لا يتحرى الصحة (كما جاء في نص خطابها)». فيما زُيِّنت نوافذ الحافلات والمحال بعباراتها المبتذلة. ومن أمثلة هذه العبارات «التعويذة الوحيدة التي تنفع للخلاص من الفقر هي العمل الجاد والرؤية الواضحة والإرادة الحديدية والانضباط التام.»

مع أن المفكرين في الهند وخارجها أدانوا فرض حالة الطوارئ، إلا أنه بدا ظاهريًّا أنها تثمر نجاحًا. فقد وصف تقرير إخباري مطول في الصفحة الأولى لجريدة نيويورك تايمز بعنوان «تأييد واسع للاستبدادية في الهند» كيف أن البلاد باتت «تعيش في سلام شبه تام». وامتدح الفنان إم إف حسين إحلال إنديرا للنظام من جديد بأن رسم على لوح ثلاثي ضخم صورة لها في هيئة الإلهة دورجا وهي تمتطي مزهوة بالنصر نمرًا بعد هزيمتها لأعدائها.

الكثير ممن يتمتعون بقدرة على الحكم السليم على الأمور ولا تضمر أنفسهم الشر — كابن عم إنديرا بي كيه نهرو (الذي كان حينذاك المندوب السامي للهند في لندن) ومايكل فوت وزير التوظيف في حكومة حزب العمال البريطاني برئاسة كالاهان وزميله في ذلك الحزب جيني لي — أيدوا فرض حالة الطوارئ بحماس. غير أن بي كيه نهرو فيما بعد صرح أنه كان من «واجبه» أن يدافع عنه. إلا أنه لم يرَ أن ذلك واجب مثقل لأنه كان «يؤيده صدقًا». في الواقع، لقد حث بي كيه نهرو إنديرا على استغلال «مساحة الحرية» التي توفرها حالة الطوارئ في تغيير الدستور كي يصبح شكلًا من أشكال الديمقراطية الرئاسية لا البرلمانية فتتركز المزيد من السلطات في يد القوى التنفيذية. وقد شاع آنذاك أن هذا كان بالتحديد غرض إنديرا من فرض حالة الطوارئ. لكن بي كيه نهرو يقول في ذلك إنها في الواقع عارضت ذلك الاقتراح قائلة إنها «غير موافقة … على ذلك بدون أن تعطيني حقيقة سببًا وجيهًا على عدم موافقتها». غير أنه تحمس لذلك آخرون ممن تحدث إليهم بي كيه نهرو منهم جاجيفان رام وسواران سينج وواي بي تشافان. أما بانسي لال فقد زاد على هؤلاء بأن قال لبي كيه نهرو: «نهرو يا صاحبي، لنتخلص من كل هراء الانتخابات هذا. أنا عن نفسي أرى أن علينا أن نجعل أختنا رئيسة لمدى الحياة وحسب، ولا حاجة لعمل المزيد.»15
حرصت إنديرا على الحصول على التأييد الدولي لفرض حالة الطوارئ، لذا دعت بعضًا من الساسة الأجانب والصحفيين للقدوم إلى الهند لتفقد الأوضاع في ظلها. لكن البعض رفض دعوتها،16 منهم الصحفي البريطاني جون جريج. أما مارجريت ثاتشر قائدة حزب المحافظين البريطاني فقد قبلتها وقامت برحلتها الأولى إلى الهند في سبتمبر عام ١٩٧٦. فكان ذلك أول لقاء بين إنديرا غاندي ومارجريت ثاتشر، تلكما المرأتان اللتان اشتهرتا بأنهما «صعبتا المراس» انسجمتا إحداهما مع الأخرى من اللحظة الأولى. فعلى حد تعبير كاتب سيرة مارجريت ثاتشر هوجو يونج كانت إنديرا «واحدة من النساء القلائل اللاتي سمحت (السيدة مارجريت ثاتشر) لنفسها بالانبهار بهن في حياتها بأكملها». فهما «منذ البداية سارت العلاقة بينهما بسلاسة لا تتأتى إلا نادرًا، ولم يكن ذلك بناءً على اتفاقهما فكريًّا» وإن لم تُبد السيدة ثاتشر ما يدل على أنها ترى خطأً في فرض حالة الطوارئ «بقدر ما كان بناءً على تجربتهما المشتركة كقائدتين من كوكب النساء». كانت إنديرا ومارجريت استثناءين في عالم السياسة الذي يحكمه الرجال. فمع أن كلتيهما تنصلتا من الحركات النسوية، فإن وحدتهما في ذلك العالم جمعت بينهما في علاقة قوية ستصمد إلى يوم وفاة إنديرا.17

كذلك كان من بين أبرز من زاروا الهند إبان فرض حالة الطوارئ مايكل فوت الذي قدِّر له أن يصبح خصمًا لمارجريت ثاتشر باعتباره قائدًا لحزب العمال. ذلك الأخير لم يدع النقد جانبًا كما فعلت السيدة ثاتشر. فقد كان مهتمًّا بمحنة القائد الاشتراكي جورج فرناندز (الذي اعتقلته إنديرا قبل وقت قريب)، حتى إنه سأل إنديرا: «متى ستعود الديمقراطية؟» فأكدت له أنها تنوي إجراء الانتخابات فور استقرار الأوضاع في البلاد، وصرحت له — كما أفضت سابقًا لسيدهارثا شانكار راي — بأنها لا «تريد أن تلقى مصير (سلفادور) أليندي.»

ما انطبع في ذهن فوت آنذاك أن إنديرا بدت إلى حد مثير للدهشة غير مبالية بتدابير حمايتها في الوقت الذي كانت فيه مخاوف شديدة من وقوع انقلاب أو محاولة اغتيال. فمما أزعج حراسها الشخصيين أنها تعودت الاندفاع بين الحشود. لقد صممت على أن تظل وثيقة العلاقة بعامة الشعب، ولم «تكن لتسمح لأي شيء بإنهاء تلك العلاقة». بعد عودة فوت إلى إنجلترا دافع علنًا — وإن كانت قد ساورته بعض الشكوك — عن إنديرا وفرض حالة الطوارئ. كما كتب عن زيارته تقريرًا وزعه على أعضاء المجلس الوزاري يدعو فيه الحكومة البريطانية إلى تفهم فرض حالة الطوارئ «بناءً على تصور لما أُنجز إبانها والأسباب التي جعلت تلك الإنجازات تحظى بتأييد شعبي واسع (في الهند).»18
القليل ممن كان على معرفة بإنديرا عارض أو انتقد فرض حالة الطوارئ في وجهها. ومن هؤلاء فوري نهرو — التي لم تشارك زوجها بي كيه نهرو الرأي في تلك المسألة — وصديقة إنديرا بوبول جاياكار. صديقتها هذه علمت بفرض حالة الطوارئ عندما كانت في نيويورك مع صديقة إنديرا الأمريكية دوروثي نورمان، وإزاء خبره صدمت كلتا المرأتين. في الواقع دوروثي نورمان من ناحية اشتركت مع الكاتب المقيم في نيويورك فيد ميهتا في تقديم عريضة لاستنكار فرض حالة الطوارئ وقعها ما يزيد عن ثمانين أمريكيًّا بارزًا؛ منهم نعوم تشومسكي وآرثر آش وألن جينسبرج ولويس مومفورد ولينوس بولينج وبنجامين سبوك وجون أبدايك. ثم جرى نشرها في الصحف وأذاعتها وسائل الإعلام. بل شعرت دوروثي أيضًا بأن عليها مكاتبة إنديرا مباشرة في الأمر، لكن جواب الأخيرة عليها لم يكن سوى هدية مصحوبة برسالة قصيرة تقول: «إن لم يكن في قبول هدية من «الديكتاتورة الكبرى» إزعاج لك فهذه … هدية لك … من بوتان».19 ومن هنا مرت أربع سنين قبل أن تتواصل إنديرا ودوروثي نورمان من جديد.

أما بالنسبة لبوبول جاياكار فعلى العكس من دوروثي، ظلت وطيدة العلاقة بإنديرا إبان فرض حالة الطوارئ.

إلا أنها لما عادت من الولايات المتحدة في يوليو عام ١٩٧٥ واجهتها بالأمر؛ فقالت لها مسائلة: «كيف أمكن لكِ ذلك؟ ابنة جواهرلال نهرو تسمح بهذا؟» وكان ذلك «مفاجئًا بحق» وصادمًا لإنديرا. لم يجرؤ أحد من قبل على مساءلتها علانية. فكشفت وهي تدافع عن نفسها أمام جاياكار اللثام عن شكوكها التي أصبحت بحلول ذلك الوقت أقرب إلى جنون الارتياب. قالت إنديرا لجاياكار: «أنت لا تدركين خطورة ما يحدث. أنت لا تعلمين المكائد التي تنصب لي. لطالما كرهني جايابراكاش والسيد موراجي. لقد عزما على تحطيمي … كانت زوجة جايابراكاش برابها مقربة جدًّا لوالدتي، لكن العلاقات تبدلت بموتها. لطالما كره جايابراكاش وجودي في مقعد رئيس الوزراء … ولم يكشف عن دوره الحقيقي قط. هل يريد أن يكون قديسًا أو شهيدًا؟ لماذا لا يقر بأنه لم يتوقف يومًا عن ممارسة السياسة وبأنه يريد منصب رئيس الوزراء؟»20
في ذلك النقاش المفعم بالتوتر لاحظت جاياكار للمرة الأولى أن عين إنديرا اليمنى صارت تضطرب لا إراديًّا بصورة واضحة، وتلك عادة لازمتها من تلك اللحظة، وأصبحت تظهر بدرجة أكبر لدى تعرضها للضغط. كذلك أدركت جاياكار أنه لا جدوى من محاولة إقناع إنديرا بأنها مخطئة. فقررت أن تفعل كل ما بوسعها في الوقت الحالي، وهو الاستماع إليها كي تتاح لها حرية التحدث إليها «بدون الحيطة التي تعودت أن ترد بها.»21

•••

بعد أقل من شهر على فرض حالة الطوارئ اجتمع البرلمان. وفي ٢١ من يوليو صدق المجلسان الأعلى والأدنى على فرض حالة الطوارئ بأغلبية كبيرة بلغت في المجلس الأدنى ٣٣٦ صوتًا مقابل ٣٩ صوتًا، وفي المجلس الأعلى ١٣٦ صوتًا مقابل ٣٣ صوتًا. وحيل دون وقوع الخلافات في البرلمان بقرار يقضي بوقف جلسة الاستجواب اليومية. وصارت «القضايا الحكومية العاجلة المهمة» وحدها هي التي تناقش على أرض البرلمان.

جاء على رأس «القضايا الحكومية العاجلة المهمة» سلسلة من المسودات القانونية طرحت لإدخال تعديلات على الدستور. كان الهدف الأساسي من تلك التعديلات منع السلطة القضائية من المساس بإنديرا وحالة الطوارئ. ففي أول أغسطس أُقر التعديل الثامن والثلاثون للدستور الذي كفل الحماية لقرار فرض حالة الطوارئ الداخلية والحكم المركزي على الولايات والقرارات التي تعلنها الهيئات الحاكمة لتصبح بذلك خارج نطاق سلطة المحاكم. كما دعمت إنديرا نظام حكمها الجديد بالتخلص من معارضيها المتبقين بالولايات. فاستخدمت الحكم المركزي لعزل حكومة ولاية جوجارات التي لا يمثلها حزب المؤتمر والتي صعدت لتوها للسلطة، وقامت بالمثل في ولاية تاميل نادو التي حكمها حزب درافيدا مونترا كاجاغام المحلي.

أعقب ذلك في وقت قصير التعديل الدستوري التاسع والثلاثون الذي أبطل الحكم الذي أصدرته محكمة الله آباد العليا ضد إنديرا، وألغى — بأثر رجعي — الجزء الخاص «بالممارسات المحظورة» من قانون الانتخابات الذي اتُّهمت إنديرا بانتهاكه. ثم صدرت تعديلات دستورية أخرى تمنع الهيئات القضائية من مراجعة نتائج الانتخابات التي تدخلت فيها رئيسة الوزراء، وتمنح الأخيرة الحصانة ضد الدعاوى القضائية الجنائية والمدنية حول الجرائم التي ارتُكبَت قبل أو إبان فترة توليها منصبها. وأُقرت جميع تلك التعديلات سريعًا في البرلمان، حيث ظل المؤتمر يحتل الأغلبية بنسبة ثلثي مقاعد البرلمان.

غير أن أهم التعديلات كان التعديل الجسيم رقم ٤٢ الذي تكون من ٥٢ فقرة وأُقر في نوفمبر عام ١٩٧٦. وأهم خصائص ذلك التعديل هو أنه منح البرلمان سلطة إجراء التعديلات على الهيكل الأساسي للدستور الذي كان من قبل غير قابل للتغيير، فقوض على حد تعبير أحد المحللين السياسيين «الأساس الذي قام عليه النظام السياسي إبان الاستقلال».22 مما منح البرلمان صلاحية تغيير جميع ملامح الحكومة. وقد جَعل الأحكام الخاصة بالحقوق الأساسية للأفراد في الدستور خاضعة لمبادئ الدولة التوجيهية. فوق ذلك عززت فقرات أخرى من التعديل قدرات السلطة التنفيذية العليا. فصار بإمكانها منع أو حظر أي أنشطة «مخالفة لمصلحة الأمة» حتى لو كان في ذلك انتهاك للحقوق الأساسية للأفراد والحريات السياسية وحق المساواة أمام القانون. كما مد التعديل فترة عمل المجلس الأدنى من البرلمان والمجالس التشريعية من خمس إلى ست سنوات، وأَلزَم الرئيس بعدم التصرف إلا بناءً على نصيحة المجلس الوزاري ومنح الحكومة المركزية سلطة إرسال القوات المسلحة بدون استشارة حكومات الولايات في حالة اختلال النظام العام.
قيل في تبرير التعديل رقم ٤٢ إنه يكفل «تحقيق خير الناس» وإطلاق ثورة اجتماعية جديدة. غير أن سلم التعديلات ذلك لم يخدم إلا في تعزيز قدرة الحكومة المركزية على استخدام القوة وخلق «ذريعة قانونية لحرمان المعارضين من حقوقهم السياسية».23

بعدما أُقرت تلك التعديلات ترسخت حالة الطوارئ أكثر بمزيد من القرارات و«القوانين العجيبة». وقد صدرت باسم الرئيس وصدق عليها البرلمان في إطار زمني قصير. فمع وجود أغلب المعارضين في السجون إبان حالة الطوارئ، زاد لجوء إنديرا إلى إصدار القرارات اختصارًا للوقت الذي يستغرقه البرلمان. وكانت تنتظر توقف جلسات البرلمان ثم تأمر الرئيس بالتحرك. في العام السابق على فرض حالة الطوارئ أصدر الرئيس أربعة عشر قرارًا. في الستة الشهور التي تلت فرض حالة الطوارئ في يونيو عام ١٩٧٥، أعلن الرئيس ما لا يقل عن خمسة وعشرين قرارًا. كان من بينها قرارات تتعلق بفرض إجراءات رقابية صارمة، أحدها ألغى قانون عام ١٩٥٦ الذي اقترحه فيروز غاندي لمنح الصحفيين الذين يغطون وقائع مناقشات البرلمان الحصانة القضائية.

في الواقع كانت الرقابة من أهم ملامح حالة الطوارئ، فآنذاك أُلغي مجلس الصحافة الذي كان كيانًا مستقلًّا. وحظرت الحكومة «نشر المواد المثيرة للاعتراضات». ووضعت للصحف قواعد صارمة تقضي بتسليط الضوء على المعلومات والأنباء «الإيجابية» فقط. فصار الإعلام تحت سيطرتها. ولما انتمى الكثير من أصحاب الصحف البارزة إلى رجال الصناعة الأثرياء واحتاج هؤلاء للتراخيص والتصاريح الحكومية لتشغيل مشروعاتهم أذعنوا سريعًا لمطالب الحكومة. كما أعادت الحكومة هيكلة الأربع وكالات الأنباء الوحيدة بالهند، ونظمتها في شركة واحدة تتبع القطاع العام سميت بشركة ساماتشار. وقد خدمت تلك الشركة كأداة للدعاية الحكومية تشبه وكالة أنباء تاس بالاتحاد السوفييتي. أما المجلات الإخبارية المستقلة كمجلة «نيخيل تشاكرافاتي ماين ستريم» ومجلة روميش ثابار الشهرية «سيمينار» فقد آثرت وقف إصداراتها على أن تخضع للرقابة. واعتقل إبان حالة الطوارئ ٢٥٣ صحفيًّا منهم كولديب نايار الذي كان واحدًا من أجرأ نقاد إنديرا.

علاوة على ذلك طُلب مما يزيد عن أربعين مراسلًا صحفيًّا أجنبيًّا مغادرة الهند، وأُلغيت أوراق اعتمادهم لأتفه الأسباب. ومن هؤلاء صحفيون بريطانيون وأمريكيون من جريدة «ذا جارديان» وجريدة «بالتيمور صن» و«واشنطن بوست»، وأيضًا مارك تولي من إذاعة بي بي سي الذي تولى تغطية أخبار الهند لسنوات.

في ظاهر الأمر بدا أن الكثيرين يشعرون أنهم أيسر حالًا وأن حياتهم تمضي على نحو أكثر سلاسة في ظل حالة الطوارئ. إلا أنهم حُرموا حقوقًا دستورية مهمة من بينها حرية التعبير والاجتماع وحضور محاكماتهم. وفوق ذلك دُعم قانونَا الحفاظ على الأمن الداخلي ومنع التهريب، فأجيز اعتقال الأفراد واحتجازهم عامين دون الرجوع للقضاء أو إطلاعهم على أسباب اعتقالهم. ولبعض الوقت اختفت تلك الإجراءات الرجعية خلف صور الدعاية الحكومية التي امتدحت المكاسب التدريجية التي تحققت في ظل حالة الطوارئ؛ فأُوقع بالمشتغلين بالسوق السوداء والمهربين والمتهربين من الضرائب، وحُجمت قدرات ملاك الأراضي ومقرضي الأموال بدرجة كبيرة، فتحرر الفلاحون من عبوديتهم لهم، ومُنح الفقراء وظائف في المشروعات العامة، وانخفضت نسبة التضخم من ٣٠٪ إلى ١٠٪ في أقل من عام.

لكن بعدئذٍ في أغسطس عام ١٩٧٥ في الوقت الذي بدا فيه الطريق خاليًا من العقبات أزيح قائد بنجلاديش الشيخ مجيب الرحمن عن الحكم في انقلاب وقع في دكا. كانت إنديرا لا شك هي صاحبة الفضل في قيام دولة بنجلاديش وإطلاق سراح الشيخ مجيب الرحمن من معتقله في باكستان ليكون أول رئيس وزراء لتلك الدولة. ولم تكن هي وذلك الأخير قائدين متحالفين وحسب، وإنما صديقين مقربين أيضًا.

لكن في الثلاثة أعوام ونصف التي مرت على ميلاد دولة بنجلاديش ظل مجيب يقوض المبادئ الأربعة التي أعلنها لحكمه: الوطنية، والعلمانية، والديمقراطية، والاشتراكية. ففي ديسمبر عام ١٩٧٤ سار على المثال الذي اتبعته إنديرا فيما بعد؛ فأكسب نفسه سلطات استثنائية بفرض حالة الطوارئ، وأوقف ممارسة الحريات المدنية. ثم جعل يجري التعديلات على الدستور البنجلاديشي ويؤسس نظامًا رئاسيًّا صار هو بموجبه رئيس بنجلاديش. وبعد ذلك في يونيو عام ١٩٧٥ في قرابة الوقت الذي جاء فيه دور إنديرا لتفرض حالة طوارئ صارمة حوَّل مجيب بنجلاديش إلى دولة من حزب واحد، الأمر الذي منحه السلطة المطلقة. ولم تأخذ الديمقراطية في بنجلاديش في التداعي وحسب، بل إن نظام مجيب كذلك كان يسوده الفساد ويشتهر بممارسة المحاباة، فقد كان هذا الأخير يولي أفراد عائلته الكبيرة المنتشرة في أرجاء البلاد مناصب النفوذ، ومنها كان هؤلاء يجنون مكاسب مالية ضخمة.

في ١٤ أغسطس في عشية ذكرى استقلال الهند وصلت دبابات تحوي في داخلها بعضًا من صغار ضباط الجيش إلى بيت مجيب وحاصرته. ثم سلم قائد الانقلاب — وهو رجل يدعى اللواء هودا — مجيبَ الرحمن وثيقةَ استقالة ليوقعها. فرفض هذا الأخير في غضب. وعندئذٍ دخل أحد أبنائه الغرفة حاملًا مسدسًا، وانفجر آخر بالصراخ مستغيثًا بحراس مجيب الشخصيين. فصوب اللواء هودا مدفعه الرشاش من طراز ستين نحو مجيب وابنيه وأطلق الرصاص على ثلاثتهم. وبعدها فتش الضباط البيت وقتلوا زوجة مجيب وطفله ذا العشرة الأعوام وزوجتي ابنيه وأخاه واثنين من الخدم واحدًا تلو الآخر.

حطمت أنباء اغتيال مجيب الرحمن وعائلته إنديرا. وهذه المرة كان اعتقادها في ضلوع مكتب الاستخبارات المركزية الأمريكي في الأمر على الأرجح في محله. لكنها لم تستوعب المنطق والأسباب التي أدت إلى نهاية مجيب. بل بدلًا من ذلك فسرت اغتياله على أنه نذير بما قد يقع لها ولعائلتها. لقد أخذت صورة مقتل زوجة مجيب وابنه بالأخص تلح على عقلها وتقلقها. ولعل تلك كانت المرة الأولى التي يخطر فيها ببال إنديرا أن منصبها كرئيسة الوزراء لا يجعلها وحدها مستهدفة. وإنما يجعل معها في ذلك ابنيها وزوجتيهما وحفيديها. لذا اتخذت غريزيًّا إجراءات لحماية نفسها وعائلتها، فكثفت من الجهود المخابراتية والاعتقالات التي تجري بدون محاكمة.

كذلك أثرت مخاوف إنديرا على النظام الذي سار عليه منزلها. فسانجاي ترك غرفة النوم التي تشاركها مع زوجته مانيكا وانتقل إلى غرفة أخرى في الممر المؤدي إلى غرفة إنديرا. لقد أبقيا بابي غرفتيهما مواربين ليلًا. وأسرت إنديرا بتلك التغييرات لآر إن كاو رئيس جناح البحث والاستخبارات، وهو رجل وثقت به، كان يطلعها أولًا بأول على المكائد التي تنصب ضدها. مع ذلك ظلت إنديرا تشعر أنها بمأمن تام على العلن وبين الحشود. أما في بيتها الخاضع لحراسة مشددة فقد شعرت بأنها في خطر. فاحتمت غريزيًّا بابنها في الوقت الذي كان الأخير فيه حقيقة يمثل الخطر الأكبر عليها من أكثر من جهة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤