خطوة طارئة جريئة
في ١٢ يونيو عام ١٩٧٥ على الصعيد السياسي ضربت الصواعق السياسية إنديرا ثلاث مرات. فيما كانت لا تزال عاكفة على تناول إفطارها على صينية في غرفتها دق آر كيه دهاوان الباب ليبلغها بأن مستشارها وصديقها دي بي دهار توفي في المستشفى الذي أُودعه ذلك اليوم لإجراء عملية زراعة منظم ضربات قلب. لقد توفي بنوبة قلبية قبل أن تسنح الفرصة لإجراء العملية له. كان ذلك الأخير واحدًا من أعضاء «مافيا إنديرا الكشميرية» دائرة الخبراء والمساعدين البارعين الذين تضاءل عددهم بتقاعد هاكسار ورحيل — أو إقصاء — غيره من الأعضاء. وكان أيضًا واحدًا من أعضاء المجلس الوزاري وسفيرًا إلى الاتحاد السوفييتي وقت وفاته. قصدت إنديرا فورًا المستشفى الذي توفي فيه دهار لتلقى أسرته التي فُجعت بفقده وتساعد في الترتيب لجنازته.
فلما عادت إلى مقر إقامتها قرابة الظهيرة كانت نتائج انتخابات مجلس ولاية جوجارات التشريعي التي عقدت في اليوم السابق قد وصلت. هَزمت جبهة جاناتا — وهي عبارة عن ائتلاف من خمسة أحزاب ضم أتباع جي بي نارايان وموراجي ديساي — حزب المؤتمر.
المرة الثالثة التي ضربت فيها العواصف السياسية إنديرا كانت الأعتى. في الثالثة ظهرًا من ماكينة التلغراف في مقر إقامة إنديرا تلقى إن كيه سيشان أحد سكرتيري إنديرا أنباءً تفيد بأن محكمة الله آباد للعدل حكمت بإدانة إنديرا بممارسة أعمال محظورة في حملتها الانتخابية إبان انتخابات عام ١٩٧١ العامة. أُبلغ سيشان راجيف بذلك، فذهب الأخير إلى مكتب إنديرا وأطلعها على انفراد بالأنباء. هذا فضلًا على أن ذلك الحكم قد أبطل عضوية إنديرا بالبرلمان، كان من شأنه أن يحرمها من تولي أي منصب منتخب ست سنوات.
كانت الاتهامات التي أُدينت بها إنديرا تافهة إلى حد ما، ولكنها تظل مخالفة للقانون. لقد حُظر على جميع المرشحين استخدام «الموظفين الحكوميين لتعزيز فرص الفوز في الانتخابات». لكن وفقًا لما كشفت عنه المحكمة فإن سكرتير إنديرا السابق ياشبال كابور قدم أوراق استقالته من العمل الحكومي في ١٣ يناير، لكنه بدأ العمل كمساعد لإنديرا في ٧ يناير. وتلك الأوراق نفسها لم تمر على بي إن هاكسار — الذي لم يكن ياشبال كابور على وفاق معه — لينظر فيها رسميًّا أو يوقع عليها إلا في ٢٥ يناير. فضلًا على ذلك كانت إنديرا قد استخدمت موظفين حكوميين من ولاية أوتار براديش لنصب المنصات الخطابية وتركيب المكبرات الصوتية في اجتماعاتها بناخبيها. لقد خسر راج ناراين أمام إنديرا في انتخابات عام ١٩٧١ بفارق يزيد على ١٠٠ ألف صوت. بالطبع لم تكن مساعي كابور الانتخابية أو المنصات ومكبرات الصوت من أسباب خسارته. ومع ذلك قضت المحكمة بعزل رئيسة الوزراء ومنحت حزب المؤتمر عشرين يومًا لوضع «خطط بديلة» لإدارة حكومة البلاد. كان الأمر على حد وصف جريدة «تايمز» في لندن له «كعزل رئيس الوزراء لارتكابه مخالفة مرورية». لقد شغلت إنديرا غاندي منصب رئيسة الوزراء لقرابة عقد، واضطلعت بدور فعال في السياسة الهندية طوال حياتها. لكنها حينذاك لم تعد قادرة على المشاركة فيها.
انتقمت السلطة القضائية التي حاولت حكومة إنديرا باستمرار أن تقوض سلطاتها. أو هذا ما بدا. لكن إنديرا كأي مواطن آخر تمتعت بحق الاستئناف. لكن الاستئناف كان سيستغرق شهورًا، من كان سيرأس حكومة البلاد في تلك الفترة؟ كما عبر شعار حزب المؤتمر آنذاك: كانت «إنديرا هي الهند، والهند هي إنديرا». لقد جسدت السياسة الهندية لدرجة يستحيل معها تقريبًا تصور عضو آخر في حزب المؤتمر — سواء أكان ذلك جاجيفان رام أو سواران سينج أو واي بي تشافان الذين كانوا جميعًا من أعضاء المجلس الوزاري — قائدًا للبلاد.
ليوم على الأقل ظل الجميع عاجزين عن تصور الإجراء الذي ستتخذه إنديرا. وربما لم يكن لديها هي نفسها فكرة. عندما التقت بصديقها القديم سيدهارثا شانكار راي رئيس حكومة ولاية بنغال الغربية في عصر ١٢ يونيو قالت له إن عليها الاستقالة. لكن هذا الأخير خالفها الرأي ونصحها بألا تتعجل في اتخاذ القرار. أعقبت ذلك سلسلة من المناقشات جرت على قدم وساق. هل على إنديرا التنحي؟ لم يحثها أي من المرشحين البارزين لخلافتها في رئاسة الوزراء على ذلك. بل لقد رجاها زملاؤها ومؤيدوها في صوت واحد بأن تظل في منصبها وتحارب قرار عزلها. فاستمعت إلى الأسباب التي ساقوها لدعم آرائهم وأسرت في نفسها رأيها. ثم ناقشت الوضع مع ابنها سانجاي، لكن ليس مع أفراد عائلتها الآخرين. في نهاية الأمر استقر الرأي على أن يطلب محامي إنديرا فرانك أنتوني من المحكمة العليا أن تظل في منصبها بدون شرط، على الرغم من قرار محكمة الله آباد، إلى أن يتم التوصل إلى قرار بشأن طلبها بالطعن في الحكم الصادر بشأنها. وهذا ما سيمكنها من البقاء في منصبها كرئيسة الوزراء.
في ٢٠ يونيو خاطبت إنديرا حشدًا تأييديًّا لها يضم قرابة ٥٠٠٠٠ شخص في منطقة بوت كلاب بنيو دلهي على منصة الخطاب. كان سانجاي وراجيف وسونيا يقفون إلى جانبها. قالت إنديرا للحشد الضخم إن خدمة الشعب هي تقليد لعائلة نهرو وفيروز غاندي، وتعهدت بأن تظل في خدمة الشعب حتى «الرمق الأخير». حصد ذلك الاحتشاد نجاحًا كبيرًا، ولا يُعزى ذلك بالكلية إلى أسلوب «الحشود المأجورة» الذي اتبعه سانجاي. ذلك لأن إنديرا كانت لا تزال تتمتع بتأييد شعبي هائل.
بعد أربعة أيام في ٢٤ يونيو أعلن قاضي المحكمة العليا كريشنا إيار في دلهي أن بإمكان إنديرا أن تظل بمنصبها، لكن بشرط حرمانها من التصويت في البرلمان لحين التوصل إلى قرار بشأن طلبها بالطعن في الحكم الصادر بحقها، الأمر الذي قد يستغرق عدة شهور. ويمكن أن ينزل بها ذلك إلى مرتبة أضعف رؤساء الوزراء. لكن لم يرضَ أحد بتسوية الأمر بالإبقاء على إنديرا بشروط كما عرض إيار، وقوت تلك التسوية من عزم المعارضة على الإطاحة بإنديرا. فقد دعا جي بي نارايان إلى تنظيم احتشاد كبير اليوم التالي في ساحات رامليلا الشاسعة بنيودلهي، تعقبه تظاهرات يومية مناوئة للحكومة في كل أنحاء البلاد.
غير أن نارايان وديساي في غفلة منهما نصبا لنفسيهما فخًّا. فبتهديدهما بزعزعة استقرار الحكم وشن انقلاب غير عسكري منحا إنديرا المبرر الذي تحتاجه لوقف جلسات البرلمان وفرض حالة الطوارئ. ببساطة لم تكن أساليب حركة تحرير الهند لعام ١٩٤٢ تصلح لعام ١٩٧٥. لم يكن العصيان المدني لينجح إلا في الأنظمة التي لا يملك الشعب فيها حق التصويت أو التعبير عن الرأي. وكانت الهند مع كل التعديلات الدستورية والقرارات التي وضعتها إنديرا لا تزال دولة ديمقراطية. رأت إنديرا أنه لو لم تكن الحكومة جيدة بما يكفي فبمقدور الشعب أن يصوت على إخراجها من السلطة في الانتخابات التالية في مارس عام ١٩٧٦.
•••
بعدئذٍ قرأت إنديرا على راي تقارير أجهزة المخابرات الموجودة على مكتبها. وصفت تلك التقارير بصورة عامة الاحتشاد الذي تقرر أن يشهده مساء ذلك اليوم الذي أزمع نارايان فيه دعوة رجال الشرطة والجيش إلى التمرد. وأخبرت إنديرا راي بأن المخابرات الهندية تشير إلى أن مكتب المخابرات المركزية الأمريكي يقف وراء الاحتشاد. لقد فطنت إلى أنها تأتي في مقدمة أعداء ريتشارد نيكسون، لذا كانت متخوفة فعليًّا من الإطاحة بها وتدميرها بالطريقة التي شن بها الجنرال التشيلي أوغستو بينوشي — الذي دعمه مكتب المخابرات المركزية الأمريكي — انقلابًا على سلفادور أليندي عام ١٩٧٣.
استمر اللقاء بين إنديرا وراي بعض الوقت على هذا المنوال. لقد استدعت الأخيرة راي لأنه خبير في الشئون القانونية التي تتصل بالدستور، إلا أنها لم تتشاور ذلك اليوم مع وزير القانون الخاص بها إتش آر غوخالي. فهي لم تكن بحاجة إلى المشورة، وإنما كانت بحاجة إلى الحصول على موافقة رسمية على سلسلة من الإجراءات أخذ سانجاي غاندي وأوم ميهتا نائب وزير الداخلية وبانسي لال ممول مشروع سانجاي ورئيس حكومة ولاية هارايانا في تنفيذها فعليًّا اليوم السابق على ذاك. في الواقع قبل أن يُهاتَف دهاوان سيدهارثا شانكار راي صباح ٢٥ يونيو عكف هؤلاء الثلاثة — بعلم إنديرا — في مكتب دهاوان على وضع قائمة أولية بالشخصيات التي يزمع القبض عليها واعتقالها. وقد جاء على رأس تلك القائمة نارايان وديساي.
كان راي رجلًا نزيهًا وضليعًا في شئون القانون، إلا أنه كان أيضًا ذا ميول فاشيستية. وبعكس الكثيرين من أتباع إنديرا لم يثِر إلى ذلك الوقت عداوة سانجاي له. وقد نصح إنديرا بألا تستقيل قبل اثني عشر يومًا عندما صدر حكم محكمة الله آباد العليا. لذا كان من المستبعد أن يتراجع عن نصيحته حينذاك.
وهو الأمر الذي لم يقُم به. إلا أنه لم يكن جاهزًا عندما حان دوره. فعندما سألته إنديرا «ما الذي علينا فعله؟» أخبرها بأن عليه أن يذهب ليدرس الموقف من الناحية الدستورية. فوافقت ولكنها طلبت منه أن يعود «على جناح السرعة». فغادر وأمضى ساعات كثيرة في مراجعة نص الدستور، لا الهندي وحسب؛ وإنما الأمريكي كذلك. وبعدها في الثالثة والنصف عصرًا عاد بالرد إلى مقر إقامة إنديرا، أوضح راي لإنديرا أنه بموجب المادة رقم ٣٥٢ من الدستور الهندي بإمكان الحكومة فرض حالة الطوارئ في حال مواجهتها أو توقعها عدوانًا خارجيًّا أو اضطرابات داخلية. وبيَّن لها بدقة الفارق بين التهديد الخارجي والداخلي، فأكد أن حالة الطوارئ التي أُعلنت عام ١٩٧١ إبان حرب الهند مع باكستان بسبب بنجلاديش — التي كانت لا تزال دائرة — تعد «حالة طوارئ تفرض لمواجهة التهديدات الخارجية»، وهي ليست صالحة لأن تُفرض في الأزمة الحالية.
ونصت المادة رقم ٣٥٢ من الدستور الهندي على أن رئيس الهند يملك قانونًا حق إعلان حالة طوارئ قومية إن كانت الدولة تهددها حرب أو عدوان خارجي أو تمرد مسلح. الحرب هي بالطبع تهديد خارجي، أما التمرد المسلح ففسره راي على أنه تهديد داخلي للدولة. ومن هنا كانت دعوة نارايان الشرطة والجيش إلى عدم إطاعة الأوامر الموجهة إليهما مهمة لراي وإنديرا؛ إذ اعتبراها تحريضًا على شن «تمرد مسلح». أصغت إنديرا باهتمام لراي وهو يشرح لها الفارق بين فرض حالة الطوارئ للتهديدات الخارجية وفرضها للتهديدات الداخلية. وبعدها أخبرته بأنها لا تود مناقشة حالة الطوارئ في المجلس الوزاري إلا بعد فرضها. إذ إنها بعدما حسمت رأيها بأن تُفرَض لم ترِد أن تثار أي اعتراضات عليها. وكان راي قد تولى ذلك الجانب من المسألة بالدراسة بالفعل، فأخبر إنديرا أن بمقدورهما إخبار الرئيس فخر الدين علي أحمد أن ضيق الوقت لا يسمح بالدعوة إلى عقد اجتماع للمجلس الوزاري. وقد استند في ذلك إلى أنه ليس من الضروري شرعًا أن تصاغ جميع القرارات الرئاسية بعلم مجلس الوزراء. وقال لإنديرا إن بإمكان الرئيس فرض حالة الطوارئ لمواجهة تهديد داخلي، وبعدئذٍ يمكن لمجلس الوزراء أن يصدق عليها بأثر رجعي.
طلبت إنديرا من راي أن «يقصد الرئيس» في تلك المسألة. فاحتج بأنه رئيس حكومة بنغال الغربية وليس رئيس الوزراء، لكنه وافق على أن يصحبها إلى هناك.
وفي الخامسة والنصف مساءً قصد الاثنان راشتراباتي بهافان مقر إقامة الرئيس. كان الرئيس فخر الدين أحمد قد أثبت أنه تابع طيع كما عدته إنديرا أن يكون عندما طالبت بتوليته الرئاسة العام الماضي. ومع ذلك فقد تطلب إقناعه بضرورة فرض حالة الطوارئ بعض الوقت من إنديرا ومن راي؛ إذ أوضح الأخيران أن اعتماد حالة الطوارئ ضروري بناءً على ما تعيشه البلاد من وضع زعما أنه «شبه فوضوي»، وبعدئذٍ شرح راي لفخر الدين أحمد الموقف القانوني والمادة رقم ٣٥٢. سأل فخر الدين أحمد هل استشارت إنديرا المجلس الوزاري في ذلك؟ فأجابته الأخيرة بأن المسألة عاجلة للغاية، وأن بإمكان مجلس الوزراء المصادقة على فرض حالة الطوارئ بأثر رجعي. وبعد عدد من الاستفسارات الأخرى أخبر فخر الدين أحمد إنديرا ﺑ «أن ترسل قرار فرض حالة الطوارئ».
مع حلول المساء أقلت سيارة إنديرا وراي عائدة إلى مقر إقامة رئيسة الوزراء. ومرت في طريقها بمجموعة من الطالبات اللاتي حَيَّيْنَ إنديرا بحرارة ملوحات بأيديهن، فردت عليهن التحية ملوحة بيديها وهي تقول لراي: «لا يزال عليَّ أن أعنى بالناخبين من هؤلاء.» قالت ذلك بتأثر وكأن سلامة هؤلاء الأطفال تكمن بين يديها. في مقر إقامة إنديرا أطلع راي بي إن دهار باختصار على الوضع. فأملى دهار أحد كتَّاب الآلات الطابعة «قرار إعلان فرض حالة طوارئ» ليرسل إلى مكتب الرئيس ليوقعه. كما أملى رسالة من إنديرا للرئيس لإرفاقها بالقرار.
عاد دهاوان من مقر إقامة الرئيس. وجاء منتصف الليل وولى، لكن سيدهارثا شانكار راي ظل في مقر إقامة إنديرا عدة ساعات يساعدها في صياغة الخطاب الذي تعتزم إذاعته على الأمة صباح اليوم التالي بعد اجتماع مجلس الوزراء. فيما عكفا على ذلك في غرفة مكتب إنديرا تردد سانجاي بين الفينة والفينة على الغرفة. ونادى كثيرًا على إنديرا، فكانت الأخيرة تغادر الغرفة بناءً على طلبه عشر أو خمس عشرة دقيقة.
عكف سانجاي وأوم ميهتا في مكتب آر كيه دهاوان على وضع اللمسات الأخيرة على قائمة المعارضين الذين يعتزم اعتقالهم، فكانا بحاجة إلى الحصول على موافقة إنديرا فيما يفعلانه. أما بانسي لال فكان بحلول ذلك الوقت قد عاد إلى ولاية هارايانا، لكنه ظل على اتصال بسانجاي عبر الهاتف يتناقش معه في أمر القائمة. كان من المرتقب أن تتم تلك الاعتقالات — التي كانت ستنفذ بموجب أحكام قانون الحفاظ على الأمن الداخلي — قبل أن يصبح فرض حالة الطوارئ موضع نقاش. وقد بدا أن سانجاي هو من أثار ذلك الاقتراح بعد وقت قصير من صدور حكم محكمة الله آباد العليا ضد إنديرا في ١٢ من يونيو عندما بدأ المعارضون يطالبون باعتزال الأخيرة. لقد كانت الاعتقالات الوقائية بالطبع استراتيجية تستخدم على نطاق واسع إبان الاستعمار البريطاني الذي ورث تلك الاستراتيجية للهند المستقلة. إلا أن صلاحية إجرائها اتسعت بصورة كبيرة على يد إنديرا؛ وذلك من خلال قانون الحفاظ على الأمن الداخلي وما يتصل به من تشريعات للدفاع عن الهند سنَّت إبان حرب ١٩٧١ مع باكستان.
عكفت عصبة المتآمرين التي اجتمعت في مكتب دهاوان كذلك على وضع خطط لفرض رقابة مشددة على وسائل الإعلام تبدأ بقطع الكهرباء عن صحف دلهي لئلا تصدر صباح اليوم التالي. لقد صدقت إنديرا على فرض الرقابة، إلا أنها تركت لسانجاي ودهاوان تدبير الطريقة التي تفرض بها.
لما انتهت إنديرا وراي من صياغة الخطبة خلدت الأولى للنوم. كانت الساعة الثالثة صباحًا آنذاك، مع ذلك مكث راي وغيره ممن لعب دورًا أساسيًّا في الخطة يتحاورون بالمنزل، ضم هؤلاء وزير الداخلية براهماناندا ريدي ونائب رئيس حكومة ولاية دلهي كيشان تشاند. ولما كان راي قد أخبر إنديرا من قبل بأن عليها أن تطلع رئيس حزب المؤتمر ديف كانتا بارواه أيضًا على المسألة أبلغ آر كيه دهاوان الأخير هاتفيًّا. لم يثِر أحد شكوكًا في ذلك الإجراء الذي وضع بحلول ذلك الوقت موضع التنفيذ، وإن كان ريدي قد قال في لحظة من اللحظات: «لكننا في حالة طوارئ بالفعل». فأوضح راي أن حالة الطوارئ الخارجية حقيقة لا تكفي لمواجهة الموقف الحالي والحاجة لاحتوائه.
بعد مناقشة الوضع مع ريدي نهض راي أخيرًا ليغادر، لكن في طريقه إلى المغادرة صادف أوم ميهتا الذي أخبره بأن الكهرباء ستُقطَع عن صحف دلهي وستُغلَق جميع المحاكم. فاحتج راي على ذلك قائلًا: «هذا سخف! لم يكن هذا ما اتفقنا عليه. لن يحدث هذا.» ودار على عقبيه وعاد إلى المنزل، وأخبر دهاوان أنه يرغب في مقابلة إنديرا. فأجابه بأن إنديرا أخلدت إلى النوم. لكن راي أخذ يلح في طلب مقابلتها قائلًا: «أريد مقابلة السيدة إنديرا. لا بد أن أقابلها.»
•••
قبل أن تخلد إنديرا أخيرًا إلى النوم في الساعات الأولى من صباح ٢٦ يونيو كان رجال الشرطة في دلهي وغيرها من الأماكن في الهند قد خرجوا بالفعل بأعداد هائلة يوقظون الناس ويزجون بهم في عربات الشرطة لحملهم إلى السجون. جاء على رأس قائمة الآلاف الذين اعتُقلوا نارايان وديساي. وكان معهما راج ناراين رأس مشكلات إنديرا. في الوقت نفسه فيما كانت الصحف المعتمدة في دلهي على وشك طباعتها انقطعت الكهرباء فجأة. ولم يصدر من الصحف اليومية التي يبلغ عددها اثنتي عشرة صحيفة تقريبًا سوى صحيفتي «ذا ستيتسمان» و«هندوستاني تايمز» — التي كان مجلس بلدية نيودلهي لا دلهي هو الذي يوفر لها الكهرباء — اللتان كانتا معروضتين للبيع في العاصمة اليوم التالي ليعلنا عن فرض حالة الطوارئ والاعتقالات التي تمت باسمها.
•••
لم تنل إنديرا إلا قسطًا قليلًا من النوم تلك الليلة، إن كانت قد نامت على الإطلاق، ومع ذلك في صباح اليوم التالي عندما اجتمعت بمجلسها الوزاري في السادسة لم يبدُ عليها التعب أو الإجهاد. عُقد ذلك الاجتماع في مكتبها في العقار رقم ١ في شارع أكبر رود إلى جانب بيتها لا في مكتبها في ساوث بانك؛ لأنه عقد في وقت مبكر جدًّا على غير العادة. حضر الاجتماع ثمانية وزراء — لأن التسعة الآخرين لم يكونوا بدلهي — وخمسة وزراء دولة. دخل الوزراء الغرفة صفًّا وأُعطي كل منهم نسخة من إعلان قرار فرض حالة الطوارئ وقائمة بالمعارضين البارزين الذين اعتُقِلوا. ثم جلسوا كالعادة حسب الترتيب الأبجدي لأسمائهم حول مائدة المجلس المستديرة. فجلس كاران سينج وزير الصحة وتنظيم الأسرة في مواجهة إنديرا مباشرة. وجلس بي إن دهار سكرتيرها الرئيسي إلى جانبها. أما سانجاي فبعكس الإشاعات التي دارت فيما بعد لم يكن حاضرًا في هذا الاجتماع أو في أي اجتماع وزاري آخر.
زعمت إنديرا أنها كانت محاصرة من كل جانب. كان اليمين واليسار والهندوس المتطرفون وإرهابيو الناكساليين والآلاف من «العناصر» لديهم تصميم على الإطاحة بقانون البلاد. أتى الأعداء من شُعب مختلفة، لكنهم كانوا تحت قيادة حركة جي بي نارايان الفاشية التي تدعمها — كما أكدت إنديرا — «جهات أجنبية». لقد زعمت إنديرا مناقضة نفسها أن الطريقة الوحيدة لحماية الديمقراطية الهندية هي إيقاف النظم والسياسات والأساليب الديمقراطية بفرض حالة الطوارئ عليها. كان فرض حالة الطوارئ علاجًا صارمًا، أو بعبارة أخرى جرعة من الاستبدادية لحماية الدولة من فيروس خطير يكره الديمقراطية.
ما لم تقره إنديرا علنًا هو أنه كان لديها أعداء من «بين صفوفها»، بعبارة أخرى منشقون عن حزبها الخاص. لقد انشق ما لا يقل عن خمسين عضوًا من يساريي حزب المؤتمر وانضموا إلى نارايان وحركته، وفي اليمين استنكر نحو ستين أو سبعين عضوًا آخرين في الحزب مواقفها الاشتراكية وأرادوا إبدالها بجاجيفان رام وهو هاريجاني يشغل منصب وزير الري والزراعة. في الواقع كانت سيطرة إنديرا على الحزب في أضعف حالاتها منذ اليوم الذي تسببت فيه في انقسامه في عام ١٩٦٩.
أغلب الأصوات التي كان من الممكن أن تحتج على فرض حالة الطوارئ أُخمدت. وقادة أحزاب المعارضة وأعداء إنديرا زج بهم في السجن أو وضعوا تحت الإقامة الجبرية. أما الرجال الذين تمتعوا بالنزاهة أمثال آي كيه جوجرال فلم يعترضوا علنًا على فرض حالة الطوارئ ربما لأنهم أدركوا عدم جدوى ذلك. لكن — على الأقل — ظن المنشقون سرًّا عن حزبها أن بإمكانهم المناورة ضد حالة الطوارئ من داخل الصفوف. وفي تلك الأثناء خضعت الصحف للرقابة. وحُظِر ستة وعشرون تنظيمًا سياسيًّا معاديًا لحزب المؤتمر، أو بالأحرى لإنديرا؛ منهم في اليمين حزب آر إس إس الهندوسي المتطرف، وفي اليسار الحزب الشيوعي الماركسي والشعبة السرية الناكساليتية الماركسية اللينينية من الحزب الشيوعي. (الحزب الشيوعي الماركسي الذي كانت تربطه روابط قوية مع موسكو أيد فرض حالة الطوارئ بحماس).
فيما تلا من أيام بدا للناس في ظل حالة الطوارئ أن الحياة اليومية صارت أكثر نظامًا وأقل إرهاقًا. فجأة لم تعد هناك مسيرات تظاهر أو مناوشات بالشوارع مع الشرطة. وانخفضت الأسعار، وتناقص العجز في السلع الأساسية. واختفى زحام المتسولين من شوارع دلهي. واختفى كذلك أغلب الأبقار الضالة، ولم يبدُ أن أحدًا يعبأ بالمكان الذي ذهب إليه المتسولون والأبقار. كان المسئولون والموظفون الحكوميون يصلون للعمل في الموعد. ويظلون هناك إلى موعد الانتهاء منه، وسيارات الأجرة والعربات تسير على الجانب الصحيح من الشارع. والناس يصطفون لركوب الحافلات. والقطارات تسير في الموعد.
في الأشهر الأولى على الأقل لاقى فرض حالة الطوارئ استحسانًا كبيرًا؛ فقد أعادت إنديرا الأمن والنظام إلى البلاد. لذا — من جديد — ظهرت اللافتات الضخمة بأعداد كبيرة تحمل صورتها في الممرات الدائرية للمدينة وقد كتب عليها شعارات مثل: «القائدة على حق، المستقبل مشرق»، و«هي الفارق بين الفوضى والنظام». وكثرت اللوحات الإعلانية المزدانة بكلمات إنديرا الملهمة ومواعظها مثل: «النظام هو الحل في هذه الساعة»، وعباراتها التحذيرية مثل «لا تنقادوا للشائعات ومن لا يتحرى الصحة (كما جاء في نص خطابها)». فيما زُيِّنت نوافذ الحافلات والمحال بعباراتها المبتذلة. ومن أمثلة هذه العبارات «التعويذة الوحيدة التي تنفع للخلاص من الفقر هي العمل الجاد والرؤية الواضحة والإرادة الحديدية والانضباط التام.»
مع أن المفكرين في الهند وخارجها أدانوا فرض حالة الطوارئ، إلا أنه بدا ظاهريًّا أنها تثمر نجاحًا. فقد وصف تقرير إخباري مطول في الصفحة الأولى لجريدة نيويورك تايمز بعنوان «تأييد واسع للاستبدادية في الهند» كيف أن البلاد باتت «تعيش في سلام شبه تام». وامتدح الفنان إم إف حسين إحلال إنديرا للنظام من جديد بأن رسم على لوح ثلاثي ضخم صورة لها في هيئة الإلهة دورجا وهي تمتطي مزهوة بالنصر نمرًا بعد هزيمتها لأعدائها.
كذلك كان من بين أبرز من زاروا الهند إبان فرض حالة الطوارئ مايكل فوت الذي قدِّر له أن يصبح خصمًا لمارجريت ثاتشر باعتباره قائدًا لحزب العمال. ذلك الأخير لم يدع النقد جانبًا كما فعلت السيدة ثاتشر. فقد كان مهتمًّا بمحنة القائد الاشتراكي جورج فرناندز (الذي اعتقلته إنديرا قبل وقت قريب)، حتى إنه سأل إنديرا: «متى ستعود الديمقراطية؟» فأكدت له أنها تنوي إجراء الانتخابات فور استقرار الأوضاع في البلاد، وصرحت له — كما أفضت سابقًا لسيدهارثا شانكار راي — بأنها لا «تريد أن تلقى مصير (سلفادور) أليندي.»
أما بالنسبة لبوبول جاياكار فعلى العكس من دوروثي، ظلت وطيدة العلاقة بإنديرا إبان فرض حالة الطوارئ.
•••
بعد أقل من شهر على فرض حالة الطوارئ اجتمع البرلمان. وفي ٢١ من يوليو صدق المجلسان الأعلى والأدنى على فرض حالة الطوارئ بأغلبية كبيرة بلغت في المجلس الأدنى ٣٣٦ صوتًا مقابل ٣٩ صوتًا، وفي المجلس الأعلى ١٣٦ صوتًا مقابل ٣٣ صوتًا. وحيل دون وقوع الخلافات في البرلمان بقرار يقضي بوقف جلسة الاستجواب اليومية. وصارت «القضايا الحكومية العاجلة المهمة» وحدها هي التي تناقش على أرض البرلمان.
جاء على رأس «القضايا الحكومية العاجلة المهمة» سلسلة من المسودات القانونية طرحت لإدخال تعديلات على الدستور. كان الهدف الأساسي من تلك التعديلات منع السلطة القضائية من المساس بإنديرا وحالة الطوارئ. ففي أول أغسطس أُقر التعديل الثامن والثلاثون للدستور الذي كفل الحماية لقرار فرض حالة الطوارئ الداخلية والحكم المركزي على الولايات والقرارات التي تعلنها الهيئات الحاكمة لتصبح بذلك خارج نطاق سلطة المحاكم. كما دعمت إنديرا نظام حكمها الجديد بالتخلص من معارضيها المتبقين بالولايات. فاستخدمت الحكم المركزي لعزل حكومة ولاية جوجارات التي لا يمثلها حزب المؤتمر والتي صعدت لتوها للسلطة، وقامت بالمثل في ولاية تاميل نادو التي حكمها حزب درافيدا مونترا كاجاغام المحلي.
أعقب ذلك في وقت قصير التعديل الدستوري التاسع والثلاثون الذي أبطل الحكم الذي أصدرته محكمة الله آباد العليا ضد إنديرا، وألغى — بأثر رجعي — الجزء الخاص «بالممارسات المحظورة» من قانون الانتخابات الذي اتُّهمت إنديرا بانتهاكه. ثم صدرت تعديلات دستورية أخرى تمنع الهيئات القضائية من مراجعة نتائج الانتخابات التي تدخلت فيها رئيسة الوزراء، وتمنح الأخيرة الحصانة ضد الدعاوى القضائية الجنائية والمدنية حول الجرائم التي ارتُكبَت قبل أو إبان فترة توليها منصبها. وأُقرت جميع تلك التعديلات سريعًا في البرلمان، حيث ظل المؤتمر يحتل الأغلبية بنسبة ثلثي مقاعد البرلمان.
بعدما أُقرت تلك التعديلات ترسخت حالة الطوارئ أكثر بمزيد من القرارات و«القوانين العجيبة». وقد صدرت باسم الرئيس وصدق عليها البرلمان في إطار زمني قصير. فمع وجود أغلب المعارضين في السجون إبان حالة الطوارئ، زاد لجوء إنديرا إلى إصدار القرارات اختصارًا للوقت الذي يستغرقه البرلمان. وكانت تنتظر توقف جلسات البرلمان ثم تأمر الرئيس بالتحرك. في العام السابق على فرض حالة الطوارئ أصدر الرئيس أربعة عشر قرارًا. في الستة الشهور التي تلت فرض حالة الطوارئ في يونيو عام ١٩٧٥، أعلن الرئيس ما لا يقل عن خمسة وعشرين قرارًا. كان من بينها قرارات تتعلق بفرض إجراءات رقابية صارمة، أحدها ألغى قانون عام ١٩٥٦ الذي اقترحه فيروز غاندي لمنح الصحفيين الذين يغطون وقائع مناقشات البرلمان الحصانة القضائية.
في الواقع كانت الرقابة من أهم ملامح حالة الطوارئ، فآنذاك أُلغي مجلس الصحافة الذي كان كيانًا مستقلًّا. وحظرت الحكومة «نشر المواد المثيرة للاعتراضات». ووضعت للصحف قواعد صارمة تقضي بتسليط الضوء على المعلومات والأنباء «الإيجابية» فقط. فصار الإعلام تحت سيطرتها. ولما انتمى الكثير من أصحاب الصحف البارزة إلى رجال الصناعة الأثرياء واحتاج هؤلاء للتراخيص والتصاريح الحكومية لتشغيل مشروعاتهم أذعنوا سريعًا لمطالب الحكومة. كما أعادت الحكومة هيكلة الأربع وكالات الأنباء الوحيدة بالهند، ونظمتها في شركة واحدة تتبع القطاع العام سميت بشركة ساماتشار. وقد خدمت تلك الشركة كأداة للدعاية الحكومية تشبه وكالة أنباء تاس بالاتحاد السوفييتي. أما المجلات الإخبارية المستقلة كمجلة «نيخيل تشاكرافاتي ماين ستريم» ومجلة روميش ثابار الشهرية «سيمينار» فقد آثرت وقف إصداراتها على أن تخضع للرقابة. واعتقل إبان حالة الطوارئ ٢٥٣ صحفيًّا منهم كولديب نايار الذي كان واحدًا من أجرأ نقاد إنديرا.
علاوة على ذلك طُلب مما يزيد عن أربعين مراسلًا صحفيًّا أجنبيًّا مغادرة الهند، وأُلغيت أوراق اعتمادهم لأتفه الأسباب. ومن هؤلاء صحفيون بريطانيون وأمريكيون من جريدة «ذا جارديان» وجريدة «بالتيمور صن» و«واشنطن بوست»، وأيضًا مارك تولي من إذاعة بي بي سي الذي تولى تغطية أخبار الهند لسنوات.
في ظاهر الأمر بدا أن الكثيرين يشعرون أنهم أيسر حالًا وأن حياتهم تمضي على نحو أكثر سلاسة في ظل حالة الطوارئ. إلا أنهم حُرموا حقوقًا دستورية مهمة من بينها حرية التعبير والاجتماع وحضور محاكماتهم. وفوق ذلك دُعم قانونَا الحفاظ على الأمن الداخلي ومنع التهريب، فأجيز اعتقال الأفراد واحتجازهم عامين دون الرجوع للقضاء أو إطلاعهم على أسباب اعتقالهم. ولبعض الوقت اختفت تلك الإجراءات الرجعية خلف صور الدعاية الحكومية التي امتدحت المكاسب التدريجية التي تحققت في ظل حالة الطوارئ؛ فأُوقع بالمشتغلين بالسوق السوداء والمهربين والمتهربين من الضرائب، وحُجمت قدرات ملاك الأراضي ومقرضي الأموال بدرجة كبيرة، فتحرر الفلاحون من عبوديتهم لهم، ومُنح الفقراء وظائف في المشروعات العامة، وانخفضت نسبة التضخم من ٣٠٪ إلى ١٠٪ في أقل من عام.
لكن بعدئذٍ في أغسطس عام ١٩٧٥ في الوقت الذي بدا فيه الطريق خاليًا من العقبات أزيح قائد بنجلاديش الشيخ مجيب الرحمن عن الحكم في انقلاب وقع في دكا. كانت إنديرا لا شك هي صاحبة الفضل في قيام دولة بنجلاديش وإطلاق سراح الشيخ مجيب الرحمن من معتقله في باكستان ليكون أول رئيس وزراء لتلك الدولة. ولم تكن هي وذلك الأخير قائدين متحالفين وحسب، وإنما صديقين مقربين أيضًا.
لكن في الثلاثة أعوام ونصف التي مرت على ميلاد دولة بنجلاديش ظل مجيب يقوض المبادئ الأربعة التي أعلنها لحكمه: الوطنية، والعلمانية، والديمقراطية، والاشتراكية. ففي ديسمبر عام ١٩٧٤ سار على المثال الذي اتبعته إنديرا فيما بعد؛ فأكسب نفسه سلطات استثنائية بفرض حالة الطوارئ، وأوقف ممارسة الحريات المدنية. ثم جعل يجري التعديلات على الدستور البنجلاديشي ويؤسس نظامًا رئاسيًّا صار هو بموجبه رئيس بنجلاديش. وبعد ذلك في يونيو عام ١٩٧٥ في قرابة الوقت الذي جاء فيه دور إنديرا لتفرض حالة طوارئ صارمة حوَّل مجيب بنجلاديش إلى دولة من حزب واحد، الأمر الذي منحه السلطة المطلقة. ولم تأخذ الديمقراطية في بنجلاديش في التداعي وحسب، بل إن نظام مجيب كذلك كان يسوده الفساد ويشتهر بممارسة المحاباة، فقد كان هذا الأخير يولي أفراد عائلته الكبيرة المنتشرة في أرجاء البلاد مناصب النفوذ، ومنها كان هؤلاء يجنون مكاسب مالية ضخمة.
في ١٤ أغسطس في عشية ذكرى استقلال الهند وصلت دبابات تحوي في داخلها بعضًا من صغار ضباط الجيش إلى بيت مجيب وحاصرته. ثم سلم قائد الانقلاب — وهو رجل يدعى اللواء هودا — مجيبَ الرحمن وثيقةَ استقالة ليوقعها. فرفض هذا الأخير في غضب. وعندئذٍ دخل أحد أبنائه الغرفة حاملًا مسدسًا، وانفجر آخر بالصراخ مستغيثًا بحراس مجيب الشخصيين. فصوب اللواء هودا مدفعه الرشاش من طراز ستين نحو مجيب وابنيه وأطلق الرصاص على ثلاثتهم. وبعدها فتش الضباط البيت وقتلوا زوجة مجيب وطفله ذا العشرة الأعوام وزوجتي ابنيه وأخاه واثنين من الخدم واحدًا تلو الآخر.
حطمت أنباء اغتيال مجيب الرحمن وعائلته إنديرا. وهذه المرة كان اعتقادها في ضلوع مكتب الاستخبارات المركزية الأمريكي في الأمر على الأرجح في محله. لكنها لم تستوعب المنطق والأسباب التي أدت إلى نهاية مجيب. بل بدلًا من ذلك فسرت اغتياله على أنه نذير بما قد يقع لها ولعائلتها. لقد أخذت صورة مقتل زوجة مجيب وابنه بالأخص تلح على عقلها وتقلقها. ولعل تلك كانت المرة الأولى التي يخطر فيها ببال إنديرا أن منصبها كرئيسة الوزراء لا يجعلها وحدها مستهدفة. وإنما يجعل معها في ذلك ابنيها وزوجتيهما وحفيديها. لذا اتخذت غريزيًّا إجراءات لحماية نفسها وعائلتها، فكثفت من الجهود المخابراتية والاعتقالات التي تجري بدون محاكمة.
كذلك أثرت مخاوف إنديرا على النظام الذي سار عليه منزلها. فسانجاي ترك غرفة النوم التي تشاركها مع زوجته مانيكا وانتقل إلى غرفة أخرى في الممر المؤدي إلى غرفة إنديرا. لقد أبقيا بابي غرفتيهما مواربين ليلًا. وأسرت إنديرا بتلك التغييرات لآر إن كاو رئيس جناح البحث والاستخبارات، وهو رجل وثقت به، كان يطلعها أولًا بأول على المكائد التي تنصب ضدها. مع ذلك ظلت إنديرا تشعر أنها بمأمن تام على العلن وبين الحشود. أما في بيتها الخاضع لحراسة مشددة فقد شعرت بأنها في خطر. فاحتمت غريزيًّا بابنها في الوقت الذي كان الأخير فيه حقيقة يمثل الخطر الأكبر عليها من أكثر من جهة.