الفصل الثامن عشر

ضغط

كانت إنديرا في أمس الحاجة إلى بيت يئُويها هي وأسرتها. كانت قد عاشت في شارع سافدار جانج رود ثلاثة عشر عامًا منذ تنصيب شاستري لها وزيرة للإعلام والإذاعة عام ١٩٦٤. لكنها اضطرت لدى خروجها من السلطة إلى إخلاء مسكنها الحكومي. وترك نهرو لإنديرا منزل العائلة؛ منزل آناند بهافان الكائن في الله آباد. لكنها وهبت منزل آناند بهافان للأمة في عام ١٩٧٠، فصار شأنه شأن منزل تين مورتي متحفًا. لكن حتى لو ظل ذلك المنزل ملكًا لها، لم تكن لتستطيع تحمل تكاليف الإنفاق عليه وإدارة شئونه.

كانت لا تزال تملك الأرض التي اشتراها فيروز عام ١٩٥٩ في مهروال. بدأ راجيف بما ادخره من مال في بناء منزل للعائلة هناك، لكن أمواله نفدت في مسعاه إلى ذلك، وظل المنزل نصف مبنٍ. لكن إنديرا لم ترِد اعتزال الحياة بالذهاب إلى الريف. وقبل وفاة والدها بوقت قصير كانت تتمنى مغادرة الهند، واعتزال الحياة السياسية، وشراء شقة في لندن للإقامة خارج البلاد. وفي عام ١٩٧٧، بعد هزيمتها الانتخابية المخزية، لم تفكر في الانسحاب من الحياة العامة وإن فكرت في الذهاب في إجازة إلى كشمير. كانت لا تنتوي فحسب الإقامة في الهند، وإنما في نيودلهي، العاصمة التي تصنع فيها القرارات.

ولكن أين كانت ستسكن هي وعائلتها؟ أنقذها محمد يونس صديق عائلتها القديم؛ فأخلى لها منزله في العقار رقم ١٢ بشارع ويلينجدون كريسينت. تزوج سانجاي بمانيكا قبل ثلاثة أعوام. ولما كان ذلك المنزل أصغر من منزل شارع سافدار جانج رود (الذي جرى توسيعه ليسع راجيف وسانجاي وعائلتيهما). أجبرت ممتلكات ثلاثة عشر عامًا وأغراض خمسة أشخاص بالغين، وطفلين صغيرين وخمسة كلاب وصناديق وكتب وأوراق على التزاحم في مساحته الضيقة.

بالإضافة إلى منزلها الحكومي، فقدت إنديرا مع خروجها من السلطة موظفيها، وسكرتيريها، ومساعديها، وخدم بيتها. فمساعدتها يوشا بهاجات التي خدمتها طويلًا كانت تشعر بعدم الارتياح حيال العمل لديها منذ أن فرضت حالة الطوارئ. لذا تركته آنذاك بلا عناء، أما آر كيه دهاوان سكرتيرها الشخصي، فلم يتزعزع ولاؤه لها، وظل يعمل لديها بلا أي أجر.1 وتولت سونيا غاندي الطهو والتسوق وأغلب أعمال إدارة المنزل، وشاركتها بالطبع إنديرا. لم تقُم مانيكا بشيء على الإطلاق.2

في ٢٣ مارس عام ١٩٧٧، أدى مورارجي ديساي قسم اليمين كرئيس الوزراء الرابع للهند، والأول لها من حزب غير المؤتمر. وكان مورارجي قد انتظر ثلاثة عشر عامًا لبلوغ السلطة بعدما اقترب منها عامي ١٩٦٤ و١٩٦٧. فلما أدركها أخيرًا في الواحدة والثمانين من العمر، عقد العزم على إذلال إنديرا واغتصاب عرشها. فأصر على الانتقال إلى منزلها، مع أنه لم يكن المقر الرسمي لرئيس الوزراء، بل منزل حكومي عادي من تلك التي تمنح لكبار المسئولين الحكوميين وأعضاء البرلمان. واحتله مع أسرته في عجلة لا تتناسب مع ما يقتضيه الذوق، ولم يغير فيه شيئًا سوى أن تخلص من حمامه الذي أقيم على النمط الغربي، وأبدله بحمام هندي، ومنطقة للاستحمام بالدلاء.

لكن لم يتوقف إذلال ديساي لإنديرا عند حد الاستيلاء على منزلها. فمع أنه كان يحق لإنديرا التمتع بالحراسة الأمنية المتواصلة، باعتبارها رئيسة وزراء سابقة، صمم ديساي على خفض تلك الحراسة إلى أدنى درجاتها. انتظر دهار استبدال ديساي له ليقدم استقالته. وفي تلك الأثناء، استدعاه الأخير وشكا له من أن إنديرا لديها الكثير من رجال الأمن. وسأله: «ممَّ تخاف؟» مضيفًا: «لا يصح أن يكون رجال الشرطة المحيطين بها بهذه الكثرة.» فلما جعل دهار يوضح له أن الحراسة الأمنية الموكلة لإنديرا «شُددت بناءً على مناخ المعاداة القائم ضدها هي وسانجاي» قاطعه قائلًا: «لا، إنما غرورها هو السبب.» ومضى في الحديث عن النساء في السلطة بصفة عامة، بداية من كليوباترا إلى كاثرين الكبرى حتى الحاضر. وأوضح كيف أنهن — في رأيه — لم يتسمن جميعًا بالغرور وحسب، وإنما أيضًا أدَّين إلى الكوارث في حكمهن.3
كان وضع إنديرا على الصعيد المادي والسياسي والعاطفي حرجًا. فلم يكن لديها مصدر دخل، ولم تملك آنذاك سوى القليل من الموارد المالية. ومع أن محمد يونس قد وفر لها سكنًا، فقد ظل عليها أن تطعم أسرتها وتنفق عليها. وسانجاي لم يقدم لها أي مبلغ من المال. فهو لم يصارحها قط بأحواله المادية، وحينئذٍ لم يعرض عليها المساعدة. كانت تعلم أنه جنى بعض المكاسب إبان حالة الطوارئ. لكنها لم تطلب منه المساعدة.4
الأموال التي اعتمدت عليها إنديرا في العيش جاءت بصورة غير ثابتة وغير منتظمة من عدة مصادر. فمع أن عدد أصدقائها من الأثرياء وذوي النفوذ انخفض سريعًا عقب خسارتها في انتخابات عام ١٩٧٧، فإن الكثير من رجال الصناعة في دلهي وخارجها لم يتخلوا عنها. وكان أحد هؤلاء شابًّا وصديقًا مقربًا لسانجاي يملك شركة للمشروبات غير الكحولية في دلهي. وعلى مدى السنوات الثلاث التالية، تولى مع بعض من أصدقاء إنديرا من رجال الأعمال الإنفاق عليها على أساس أن إخلاصهم لها سيُكافأ إن عادت إلى السلطة.5 لكن لا يعني هذا أن أحدًا — وفي ذلك إنديرا نفسها — توقع ذلك. فعندما حاول أرونا أساف علي صديق عائلة نهرو القديم أن يجدد ثقتها في أن الشعب «سيعيدها بلا شك إلى السلطة»، قالت في يأس: «متى؟ بعدما أموت؟»6

•••

وعد حزب جاناتا بإصلاح الفساد الذي أصاب الأمة إبان حالة الطوارئ. والحق أن حكومته ألغت بالفعل بعضًا من التعديلات الدستورية والقرارات التي أُقرت خلال العامين الماضيين. إلا أنها كانت حكومة تضم العديد من الشيع، والكثير من الطامحين في الوصول إلى منصب رئيس الوزراء، وقد عكف هؤلاء على التنافس على الوصول إلى السلطة، وهذا منع من تأديتها لوظائفها على الوجه المناسب. فقد أبقى صراع الأيديولوجيات والطموح على انقسام حزب جاناتا.

ذكر وزير الخارجية الهندي الجديد إيه بي فاجبايي أن حزب جاناتا «سيُودع إنديرا غاندي مزبلة التاريخ»، إلا أنه بدلًا من تناسيها بأي حال من الأحوال، جعلها القضية التي يجتمع عليها. فأعضاؤه على اختلافاتهم كديساي وجاجيفان رام وفاجبايي وتشاران سينج لم يتفقوا إلا على ضرورة الإيقاع بها، وتقديمها هي وابنها سانجاي إلى العدالة. وبدلًا من التباحث في أمر الهند، ركز الحزب على التباحث في أمر إنديرا.

عكف حزب جاناتا فور صعوده إلى السلطة على أجندة ضغط. فأخذ مكتب الاستخبارات المركزية يراقب جميع تحركات إنديرا وسانجاي وراجيف وسونيا ومانيكا، ويتنصت على مكالماتهم الهاتفية. وشن حملة مفاجئة بأجهزة الكشف عن المعادن على مزرعة إنديرا نصف المبنية بمهروالي في محاولة عبثية للعثور على ما دفنه سانجاي مما نهبه من أموال. كما حاول قسم ضريبة الدخل بلا طائل اتهام راجيف بالتهرب الضريبي.7 وحُجِز على جميع جوازات سفر العائلة لما يبدو أنه اعتقاد من حزب جاناتا بمحاولتها الهرب من البلاد. وأُلغيت رخصة الطيران الخاصة بسانجاي لمنعه من الهروب بإنديرا إلى مكان آمن في طائرتها السيسنا.
كتبت إنديرا إلى فوري نهرو تصف «النزعة الانتقامية» التي تتسم بها حكومة حزب جاناتا، وكيف أن «تابعيَّ انقلبوا عليَّ للنجاة بأنفسهم، ودارت قصص لا أساس لها من المنطق عن سانجاي … واتهمتني بالتسبب في موت الناس من جميع الفئات. وبسبب الرقابة يتردد الناس في زيارتي، وبسبب التنصت على مكالماتي الهاتفية لم يعد الهاتف ذي نفع تقريبًا … هل أبدو لك كثيرة الشكوى؟ أنا في غاية القلق، مع أنني أعلم أن تلك حرب نفسية عليَّ فيها أن أحتفظ برباطة جأشي.»8

انضمت الصحافة والإعلام إلى حزب جاناتا في الضغط على إنديرا. فبعد خسارتها في الانتخابات انتشرت صحافة شراء المعلومات. وصارت «فضائح إنديرا» موضوع الساعة حتى أضحت نيكسون الجديد، أو السياسي الذي يحب الجميع أن يكرهه. فحينئذٍ في مقابلات صحفية، عمدت الجرائد الوطنية إلى شراء الحقوق الحصرية لنشرها، المنشقون عن حزب المؤتمر «فضحوا كل شيء». وتنافست المجلات فيما بينها على نشر الفضائح الجديدة عن إنديرا وسانجاي. أما في الولايات المتحدة فقد عكف فيد ميهتا أشرس وأبرع نقاد إنديرا على نشر مقالات طويلة تشجبها في مجلة «نيو يوركر».

كما جرى على عجل طباعة سيل من الكتب المعادية لإنديرا. الكثير منها كتبه نفس من نشروا سابقًا أعمالًا تتناولها بالمديح. فالهجوم على إنديرا لم يعد حينئذٍ مأمونًا وحسب، وإنما صار كذلك الموضة الفكرية السائدة. وقد تراوحت تلك الكتب في أنواعها بين كتابات التعريض والنميمة التي تقرب في مستواها حد التفاهة والكتابات النقدية الفكرية الرفيعة. ومن أكثرها إثارة للجدل كتابا جاناردان ثاكور «أتباع رئيسة الوزراء»، و«إنديرا غاندي ولعبة السلطة»، وكتاب كولديب نايار «الحساب»، وكتاب «الوجهان المختلفان لإنديرا غاندي» لأوما فاسوديف، وأيضًا كتاب نايانترا ساهجال «إنديرا غاندي: طريق وصولها إلى السلطة». وظل الشاعر والكاتب دوم مورايس الذي عكف على كتابة سيرة إنديرا على ولائه لها، إلا أنه كان صوت الدفاع الوحيد عنها، فخوشوانت سينج على سبيل المثال انتظر آنذاك أن يصبح التيار السياسي حليفها من جديد قبل أن يصدر عام ١٩٧٩ كتابه في مديحها؛ كتاب «إنديرا غاندي تعود». من ناحية أخرى، آنذاك، في الثلاثة الأعوام التي أعقبت هزيمة إنديرا، في لندن، عكف روائي مغمور باسم سلمان رشدي على كتابة الأثر الوحيد الذي بقي في الأذهان من وحي حقبة حالة الطوارئ. إنها رواية «أطفال منتصف الليل»، تلك الرواية التي تفنن فيها سلمان رشدي في تصويره لإنديرا كشيطان، كأرملة متوحشة مفترسة. حتى إن الرواية فازت بجائزة بوكر عام ١٩٨٠.

مع أن إنديرا زعمت دائمًا أنها لا تقرأ أبدًا المقالات والكتب التي تُكتب عنها، فقد كانت إلى حد مذهل على دراية بمضمونها العام ومحتواها. هذا على أن الصحافة والإعلام لم يكونا أكثر ما يقلقها. إنما كان ما يخيفها هو ديساي وحكومته. ففي ٢٣ مارس، وقف تشاران سينج وزير داخلية حكومة حزب جاناتا في البرلمان يزعم أن إنديرا «خططت أو نوت قتل جميع قادة المعارضة في السجن إبان حالة الطوارئ».9 وبعد خمسة أيام، نُدبت لجنة رأسها جي سي شاه رئيس محكمة العدل العليا السابق للتحقيق فيما ارتكب إبان حالة الطوارئ من «محاولات للقضاء على السياسات القانونية والأساليب والإجراءات والممارسات الإدارية الراسخة، وإساءة استغلال السلطة، والتجاوزات والأعمال المحظورة».10 ودخل سانجاي أيضًا في إطار تحقيقات تلك اللجنة. وتألفت لجنة خانا للتحقيق بوجه خاص في شركة ماروتي ذات المسئولية المحدودة، بينما تشكَّلت لجنة ريدي للتحقيق في أنشطة بانسي لال. لكن إنديرا ظلت الهدف الأول لحزب جاناتا، وكانت لجنة شاه اللجنة الوحيدة التي استحوذت على انتباه عامة الشعب. وتقرر بدء جلسات التحقيق في خريف عام ١٩٧٧.

•••

في أواخر مايو عُثِر على جثة والد مانيكا غاندي الكولونيل تي سي أناند ممدة في حقل مفتوح. كان إلى جانبه مسدس ورسالة كتب فيها: «سانجاي قلق لا يُحتمَل.» لم يكن موت أناند صدمة هائلة لعائلته وأصدقائه. فقد كان له تاريخ من الإصابة بالاضطرابات العقلية، وقد حاول سابقًا الانتحار بتناول جرعة زائدة من عقار ما.11 ومع ذلك انتشرت سريعًا شائعات بأن موته كان في واقعه جريمة قتل دُبرت بحيث تبدو انتحارًا. بل دارت شائعات بأن أناند خطط لأن «يفضح كل شيء» عن صهره سانجاي غاندي إن استدعته لجنة شاه، لذا وجب التخلص منه. لكن تلك القضية نُسيت بمجرد أن خفت حدة التركيز الإعلامي عليها.

طوال صيف عام ١٩٧٧ تحاشت إنديرا جذب الانتباه في دلهي، فقد عكفت يوميًّا على الالتقاء بمحاميها استعدادًا للجنة شاه. لكن بعدئذٍ في يوليو، في قرية نائية ببيهار تدعى بيلتشي، ذبح الأرستقراطيون من ملاك الأراضي عددًا كبيرًا من الهاريجانيين. ولما لم يكن ببيلتشي وسائل اتصال، استغرقت أنباء ذلك العمل الوحشي عدة أيام في الوصول إلى دلهي. على أنها لما وصلت، فشلت حكومة حزب جاناتا في اتخاذ إجراء لمواجهتها، أما إنديرا فقد سافرت على الفور إلى بيلتشي مع مجموعة من أعضاء حزب المؤتمر المخلصين. وكانت تلك بمنزلة مغامرة نظرًا إلى أن ولاية بيهار تشتهر بطواف عصابات اللصوص المسلحة فيها، التي تسرق وفي بعض الأحيان تقتل المسافرين، وإنديرا لم يكن لديها حينذاك حرس شخصيون لحمايتها كما في السابق.

بدأت إنديرا رحلتها إلى بيلتشي في سيارة جيب، لكن عندما بدأ المطر يهطل، واستحال عبور الطريق، عمدت إلى استخدام جرار زراعي. ثم اضطرت في المرحلة الأخيرة من رحلتها إلى عبور منطقة غمرها الفيضان على ظهر فيل إلى أن بلغت آخر الأمر بيلتشي بعد حلول الظلام. دنا منها أهل القرية الذين ساورهم الخوف مذعورين حاملين مشاعل للرؤية. فلما تعرفوها رحبوا بها، وكأنها مخلصتهم وألقوا بأنفسهم عند قدميها. جاءت إنديرا إلى بيلتشي وهي على يقين تام بأنها ستكون فرصة لتحسين علاقاتها مع الشعب، والتحقق من احتمالات نجاحها إذا ما عادت إلى مسرح السياسة. غير أنها فور وصولها إلى هناك تأثرت بشدة بمشهد أهل القرية المعدمين الذين فُجعوا بفقد أحبائهم، والرماد الذي تجمع على المحرقة الجماعية حيث أحرقوا جثث قتلاهم من الأقارب والجيران.

صباح اليوم التالي، قصدت إنديرا باتنا عاصمة بيهار حيث لجأ عدوها القديم جي بي نارايان وأخذ الموت يزحف إليه ببطء. لما كانت إنديرا قد هُزمت وذلت سامحها الأخير. فبعد محادثة دارت بين الاثنين على انفراد لخمسين دقيقة وقفا معًا لالتقاط الصور. وقد كان التصالح مع نارايان خطوة سياسية بارعة، إلا أنه كان أيضًا لقاءً مفعمًا بالمشاعر لكليهما، أعاد أيام حياة نهرو والوقت الذي كانت فيه زوجة نارايان وكامالا نهرو صديقتين حميمتين.

بعد الاستقبال الذي لاقته إنديرا في بيلتشي والمصالحة التي عقدتها مع نارايان في باتنا ارتفعت روحها المعنوية، وقررت لدى عودتها إلى دلهي أن تزور دائرتها الانتخابية القديمة دائرة راي باريلي. وكانت قد انقطعت عن الذهاب إلى هناك بعدما رفض ناخبو تلك الدائرة إعطاءها أصواتهم رفضًا قاطعًا. فقد كان ذلك مجازفة، غير أن استقبالها في راي باريلي كان أكثر حماسًا منه في بيلتشي. لقد احتشد الآلاف تحت الشمس الحارقة لرؤيتها. وفي كل قرية زارتها من القرى المحيطة براي باريلي، تجمعت حشود كبيرة مرة بعد المرة لسماع اعتذارها عن فرض حالة الطوارئ، والهجوم الذي تشنه إثر ذلك على حزب جاناتا. ومع ذلك ظلت إنديرا بحيويتها إلى نهاية اليوم، ولم يضنِها الحر، وإن كان التراب قد كساها والعرق قد غمرها. نقلت صحف دلهي كذبًا أن دائرة إنديرا الانتخابية السابقة استقبلتها بالأعلام السوداء. ومن جديد احتضنت زوجة ابنها فيروز غاندي (أول ممثل لها في البرلمان)، و«أم» أبنائها كما أسمت إنديرا نفسها قبل أعوام عديدة في خطبة حملتها الانتخابية لعام ١٩٦٧. فوفقًا لما نقلته صحيفة «الجارديان» بإنجلترا: «ناخبو إنديرا القدامى سامحوها في عشر دقائق بالضبط.»12

بعد زيارة إنديرا الناجحة إلى بيلتشي وراي باريلي، شعر حزب جاناتا بالخطر. فقد كان القصد من تأليف لجنة شاه التي أوشكت آنذاك على الخضوع لتحقيقاتها هو إدانة إنديرا، لكن الحشود حينئذٍ أخذت تمجد إنديرا من جديد. لذا كان لا بد من اتخاذ إجراء ما. وعليه في ١٥ أغسطس عام ١٩٧٧، في عيد الاستقلال الهندي اعتُقل آر كيه دهاوان مساعد إنديرا المخلص. كما اعتُقل أيضًا مدير حملتها الانتخابية السابق ياشبال كابور، وأمين صندوق حزب المؤتمر بي سي سيثي، ووزير الدفاع السابق؛ وبطانة السوء لسانجاي بانسي لال. واعتقل كذلك إتش آر جوكهالي وزير القانون السابق، ووزيران آخران من مجلس الوزراء السابق قبل نهاية الشهر، فضاق الخناق على إنديرا.

بدأت جلسات تحقيقات لجنة شاه في دلهي في ٢٩ سبتمبر عام ١٩٧٧. كان الهدف الذي أعلنته اللجنة هو التحقيق في «التجاوزات والممارسات المحظورة والجرائم التي ارتكبها أصحاب السلطات السياسية والمسئولون الحكوميون وأصدقاؤهم أو أقاربهم إبان حالة الطوارئ، أو في الفترة التي تسبقها مباشرة … وبالأخص دعاوى سوء الاستغلال الصارخ للسلطة من دعاوى اعتقالات واحتجازات وإساءات وفظائع ارتُكبت في حق المعتقلين (كما ورد نصًّا) … والإكراه على تنفيذ برنامج تنظيم الأسرة واستخدام القوة في ذلك، بالإضافة إلى إزالة المنازل والشقق والمباني إزالة عشوائية وتعسفية … وتدمير الممتلكات باسم إزالة العشوائيات … مما أسفر عن تشريد الكثير من الناس».13

منذ البداية أدار القاضي شاه مسرح تحقيقاته الفردية وكأنه يدير محكمة من محاكم الشعب الصينية. ففي محكمة باتيالا حيث أقيمت جلسات التحقيق اتسم المناخ بالمعاداة الصارخة. وامتلأت المحكمة عن آخرها بحضور بلغ عددهم مائتي شخص، هتفوا عاليًا لتصريحات جانب الادعاء واتهاماته، وأطلقوا صيحات الاستهجان في كل محاولة لجانب الدفاع. وأذاعت مكبرات الصوت الشهادات والضجة التي جرت داخل قاعة المحكمة إلى خارجها. كما سُجلت وقائع التحقيقات على الشرائط.

مع أن إنديرا استُدعيت في آخر الأمر للمثول أمام القاضي شاه، إلا أنها تمكنت من تفادي حضور جلسات التحقيقات لعدة شهور. أما سانجاي فلم يستطع التهرب من الإدلاء بشهادته؛ وصار حضوره المتكرر لجلسات التحقيقات مشهدًا مسرحيًّا مثيرًا. فلدى دخوله محكمة باتيالا، قوبل بصيحات الاستهجان وغيرها من صور الإساءة اللفظية. وفي الكثير من الأحيان تبادل المعادون له من الحضور قذف المقاعد الحديدية عبر القاعة مع مؤيديه واشتبكوا في عراك جسدي بعضهم مع بعض.

استمرت جلسات التحقيقات طوال فصلي الربيع والخريف، وأدلى فيها المئات بشهاداتهم. وقدمت أطراف لعبت دورًا أساسيًّا إبان حالة الطوارئ كسيدهارثا شانكار راي شهادات مكتوبة. ومع أن الجلسات لم تبث تليفزيونيًّا كوقائع تحقيقات فضيحة ووترجيت التي وقعت قبل ثلاث سنوات، إلا أنها اتسمت بطابع مشوق جدًّا، وجذبت الانتباه العام.

أحد أول الشهود في جلسات التحقيقات كان جاجموهان المسئول عن أعمال الإزالة التي تمت عند بوابة تركمان وغيرها من مواقع عمليات الإزالة التي تمت إبان حالة الطوارئ. ولكون ذلك الأخير فطريًّا يميل إلى الاسترسال، قدَّم شهادة مملة ومزعجة للغاية عندما صعد إلى منصة الشهادة. فردًّا على استجواب القاضي شاه له عكف على الإدلاء ﺑ «آرائه المتواضعة» وتقديم الشروح الطويلة المملة في محاولة يائسة لنقل ما أسماه ﺑ «الصورة الصحيحة» لجميع الإنجازات التي تمت في دلهي إبان حالة الطوارئ. فاضطر القاضي شاه مرارًا إلى تحذيره من الإطالة.

أما نافين تشاولا فعلى العكس، كان أداؤه على منصة الشهادة يشبه أداء كبار نجوم المسرح، فقد تحدث بأسلوب لبق وفصيح ومؤثر، ولكن بمنطق لا يقبل التصديق على الإطلاق. فشأنه شأن الكثيرين ممن أدلوا بشهادتهم أمام القاضي شاه، تذرع بعدم علمه بأعمال الإزالة. وادعى أنه لم يكن شريكًا فيها، وزعم أن جاجموهان ومن تحته من العاملين لم يتصرفوا بناءً على أوامر رئيسه نائب حاكم دلهي كيشان تشاند. وأكد أيضًا أن علاقته الشخصية الطويلة بسانجاي لم تؤثر على عمله كسكرتير تشاند. فهنأه شاه بنبرة تملؤها السخرية على «قدرته على الفصل بين الأمور».

كما هو متوقع، شهادة تشاولا لم تشِر مطلقًا إلى ما قد يدينه. أما الشهادات الأخرى، فقد قدمت أدلة تظهر السلطات الهائلة والمخيفة التي تمتع بها إبان حالة الطوارئ. فذلك الأخير فضلًا على كونه تابع سانجاي الأمين الذي يضطلع بتنفيذ أوامره، استغل حالة الطوارئ لتصفية حساباته الشخصية. وما كان صادمًا بالأخص هو الصورة التي مارسها على حد تعبير تقرير لجنة شاه «سيطرة أكبر من المسموحة له على شئون السجون» وفي ذلك «كيفية معاملة السجناء» (كما جاء نصًّا). إذ لم يكن يحدد من يُعتقل ويُسجن وحسب، وإنما كان كذلك يحدد المعاملة التي يحظى السجناء بها. فمن بين ما أمر به: «بناء زنازين من نوع خاص، بأسقف من الحرير الصخري «لشواء» بعض السجناء.»14
أما مدير تشاولا نائب حاكم دلهي السابق كيشان تشاند، فلم يكن أداؤه على منصة الشهادة مثيرًا للإعجاب بأي حال من الأحوال. فشهادته لم تجرمه وحسب، بل كشفت كذلك عن أنه لعب دور الدمية الخنوع لسانجاي غاندي التي تتصرف في أغلب الأحوال على نحو أخرق، ويتحكم فيها الأخير عن بُعد باستخدام نافين تشاولا. اكتُشفت ملفات مزورة نافذة المفعول من قبل توقيع تشاند لها. وصدرت أوامر إزالة باسمه دون علمه. أما الأوامر التي أعطى بنفسه الإذن في تنفيذها. فقد قال إنه سمح بتنفيذها «تحت إجبار» من «بيت رئيسة الوزراء». ووفقًا للتقييم الذي ورد بتقرير لجنة شاه «يبدو أن تشاند في كل ما قام به وما لم يقُم به في الكثير من القضايا المهمة الحيوية تخلى عن المسئوليات المنوطة به قانونًا لخدمة مصلحة مجموعة من المسئولين، تسعى إلى تحقيق طموحات جامحة مثل … بهيندار، وباجوا، ونافين، وتشاولا، الأمر الذي أسفر عن عواقب كارثية لشعب دلهي. فلقد خان الأمانة التي عُهد بها إليه، وأحدث شرخًا جسيمًا في جدار الثقة بينه وبين مواطني دلهي، وفشل في إدارة شئون المدينة بنزاهة وعدل».15
في نهاية الأمر أصدر تشاند الحكم على نفسه. فبعد وقت قصير من إعلان تقرير لجنة شاه انتحر قفزًا في بئر على مقربة من بيته. بعدما ترك رسالة قصيرة تقول إن الموت أهون من «حياة المذلة». لكن مع أن تشاند أردى نفسه بنفسه بلا شك، اعتقد الناس أن سانجاي أمر ﺑ «التخلص منه».16

طوال جلسات تحقيقات لجنة شاه، حاول القاضي شاه جاهدًا أن يضع يده على الشخصية الأساسية التي تقف خلف تلك الوقائع الشديدة الدرامية، ألا وهي إنديرا غاندي. أراد أن يستجوبها في إحدى عشرة نقطة بالتحديد، من بينها تعيين بعض القضاة والمحافظين على البنك المركزي، والأحداث التي وقعت بين ١٢ و٢٢ من يونيو، والاعتقالات التي تمت في ليلة ٢٦ من يونيو عام ١٩٧٦.

بناءً على مشورة محاميها فرانك أنتوني أرجأت إنديرا في بادئ الأمر حضور تحقيقات لجنة شاه. وعللت لذلك بأن اللجنة لا تتبع الإجراءات الدستورية والقانونية، وأوضحت أنها تحرمها فرصة استجواب من شهدوا ضدها. وبعدئذٍ، أصدرت بيانًا علنيًّا تذكر فيه أنها لن تمثل أمام لجنة شاه إلا «بما يتفق مع القانون» وفقط في حال إعطائها حرية إبراز دلائل براءتها والاستعانة بمحاميها واستجواب من أطلقوا الادعاءات عليها. فاستطاعت أن تفلت من قبضة شاه لبعض الوقت.

غير أنها لم تستطع الإفلات من قبضة حزب جاناتا، ففي غضون أيام من بدء جلسات تحقيقات لجنة شاه، في وقت متأخر من عصر ٣ أكتوبر الأول عام ١٩٧٧، وصلت سيارة بلا لوحات معدنية إلى منزل إنديرا. كان سانجاي ومانيكا يلعبان تنس الريشة في الحديقة الأمامية للمنزل. وخرج منها ضابطان من مكتب المخابرات المركزية أخبرا إنديرا لدى قدومها إلى الباب أنها رهن الاعتقال. كانت هي تتوقع هذا شأنها شأن سائر البلاد حقيقةً. أخبرت الضابطين أنها بحاجة إلى بعض الوقت لحزم أغراضها وتركتهما واقفين على عتبة المنزل. حتى برزت منه مجددًا في الثامنة مساءً مرتديةً ساريًا ناصع البياض تزينه حواشٍ خضراء. وأثناء الساعتين اللتين انتظر الضابطان فيهما، أُجريت اتصالات بصحفيين ومؤيدين وأصدقاء لها تدفقوا جميعًا على بيتها. ووفقًا لما تناقلته الشائعات فيما بعد، في الوقت الذي عكفت فيه على «حزم أغراضها»، استخدمت آلة تقطيع عجين المكرونة الخاصة بسونيا غاندي كآلة لتدمير بعض الوثائق،17 وأصرت إنديرا قبل الموافقة على مصاحبة ضابطي مكتب المخابرات المركزية على وضع الأصفاد في يديها. لكن الضابطين رفضا القيام بذلك، فاستقلت السيارة بدون قيود والمصورون يلتقطون الصور لها.

وبعدما سُنح للمصورين التقاط الصور، مضت سيارة مكتب الاستخبارات المركزية بإنديرا وفي إثرها موكب صغير من السيارات التي تحمل ابني الأخيرة، وزوجتيهما ومحامييها والعديد من المؤيدين والصحفيين. وواصلت السير في اتجاه ولاية هارايانا المجاورة لدلهي، إلا أنها عندما وصلت إلى إحدى نقاط عبور خطوط السكك الحديدية في ضواحي دلهي اعترض طريقها قطاران طويلان لنقل البريد، الأمر الذي اضطرها إلى التوقف ما لا يقل عن ثلاثين دقيقة. فسمح الضابطان لإنديرا بمغادرة السيارة والبقاء خارجها أثناء توقفها. فجلست على الأرض ينصحها محاموها بأن ترفض مغادرة حدود دلهي ومن حولها حشد من الناس. وبعدها اندلع شجار صاخب بين ضابطي مكتب الاستخبارات المركزية ومحامي إنديرا ومؤيديها جلست فيه الأخيرة أرضًا في صمت فيما أخذ مصورو الصحف يلتقطون المزيد من الصور لها. فلما انتهى قطارا البريد من العبور أخيرًا حُملت السيارة إنديرا إلى الحاجز الأمني لدلهي، حيث حياها رجال الشرطة بكياسة ثم أودعوها السجن. وهناك رفضت إنديرا تناول الطعام الذي قُدم لها، وعكفت على قراءة رواية جلبتها معها ساعة أو نحو ذلك ثم نامت طوال الليل نومًا عميقًا.

في اليوم التالي اقتيدت إنديرا إلى قاضي محكمة الجنح والمخالفات حيث اتُّهمت ببيع الجيش الهندي سيارات جيب مُتَبرع بها إلى المؤتمر إبان حملة مارس عام ١٩٧٧ الانتخابية، وبتعاقد حكومتها مع شركة نفط فرنسية عرضت عطاءً بسعر أعلى من شركة أخرى أمريكية بملايين الدولارات. غير أن القاضي الذي مثلت إنديرا أمامه حكم بإطلاق سراحها إطلاقًا غير مشروط قائلًا إنه: «ليس هناك (كما ورد نصًّا) ما يدعو للاعتقاد أن أيًّا من الاتهامين … قائم على أساس صحيح.» وبذلك فشل حزب جاناتا. هذا فضلًا على أنه باعتقاله إنديرا واحتجازه لها أكسبها التعاطف ومهد لعودتها السياسية. وكان ذلك سيناريو — على حد قول راجيف لأحد المراسلين الأجانب — لم تكن إنديرا «لتجد أفضل منه».18
بعد الإخفاق التام الذي آلت إليه محاولة القبض على إنديرا، ارتفعت شعبيتها. فقامت بزيارة ناجحة إلى ولاية جوجارات لاقت فيها في كل مكان استقبالًا حارًّا خاصةً في المناطق القبلية. وبعد عودتها إلى دلهي، امتلأت حديقة منزلها كل صباح بالمؤيدين الذين مثل الفقراء أغلبهم. وفي ذلك يُذكر أن زائرًا أمريكيًّا لإنديرا قال لها إن هذا الولاء يعني أنه من المؤكد أنها قدمت لهؤلاء شيئًا إبان توليها السلطة. لكن إنديرا خالفته الرأي قائلة: «لا، من قُدم لهم شيء لن تجدهم هنا.»19

هؤلاء الذين لم يكونوا هناك ضموا نسبة كبيرة من قيادات حزب المؤتمر. فبعد هزيمة إنديرا تخلَّى عنها ممتدحها القديم، مبتكر شعار (إنديرا هي الهند والهند هي إنديرا) ديف كانتا بارواه. من ناحية أخرى تجنبها رئيس حزب المؤتمر الجديد براهماناندا ريدي. وبخلافه رأى آخرون أن العهد القادم لن يكون عهدها. وعليه في يوم رأس السنة عام ١٩٧٨ شهد حزب المؤتمر انقسامًا للمرة الثانية. وذلك الانقسام — شأنه شأن الذي شهده عام ١٩٦٩ — دفعت إليه إنديرا. فألفت مع أتباعها حزب مؤتمر (آي) (حرف الآي يرمز على إنديرا نفسها). وفتح هذا الباب لنبذ حزبها رسميًّا، فاختار سبعون عضوًا من حزب المؤتمر أن ينضموا إليها، مخلفين بذلك ستة وسبعين عضوًا برلمانيًّا فيما تبقى من حزب المؤتمر القديم الذي تولى زعامته سواران سينج، وصار يعرف بمؤتمر (إس). كان من بين من تخلوا عن إنديرا حينذاك وزير الصحة السابق في حكومتها كاران سينج، وسوبهادرا جوشي التي عملت إلى جانبها في مخيمات اللاجئين إبان تقسيم الهند. آنذاك تنازع حزب إنديرا وحزب مؤتمر (إس) أيهما يحتفظ برمز الحزب (وهو عبارة عن بقرة وصغيرها). فخسر حزب إنديرا النزاع، إلا أن تلك الخسارة — كما يتضح بالرجوع إلى الماضي، والنظر إلى تشبيه النقاد لها وابنها برمز الحزب — كانت من صروف الحظ السعيد. ففيما احتفظ مؤتمر (إس) برمز البقرة وصغيرها تبنت هي رمزًا أفضل عبارة عن كف مفتوح.

لم تُضطر إنديرا إلى حضور جلسات لجنة شاه في محكمة باتيالا بدلهي والالتقاء وجهًا لوجه بمحققها الصارم جي سي شاه إلا عندما صدرت مذكرة استدعاء لها في ٩ يناير عام ١٩٨٧؛ أي بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على بدء جلسات تحقيقات اللجنة. غير أنها وإن كانت قد مثلت أمام المحكمة، رفضت أن تنبس ببنت شفة فيها. فقد نهض محاميها فرانك أنتوني يحتج بأنها حضرت لتتعرض للهجوم لا لإلقاء شهادتها، وأنها ترفض استجوابها أو تقديم أي تصريح مكتوب. فأمر شاه إنديرا بالمثول أمام المحكمة اليوم التالي.

فعادت إنديرا ومحاميها إلى المحكمة كما طُلب منهما اليوم التالي. ومن جديد تولى أنتوني الحديث نيابةً عن موكلته، وعرض على شاه النقاط التالية:
  • (١)

    إن لجنة شاه باطلة.

  • (٢)

    إن الصحف نشرت سردًا محرفًا لوقائع الجلسات.

  • (٣)

    إن صلاحيات واختصاصات اللجنة غير واضحة.

  • (٤)

    إن اللجنة عجزت عن التحري عن الظروف التي سبقت إعلان حالة الطوارئ والصورة التي نُصح بها الرئيس بإعلانها.

  • (٥)

    إن السيدة غاندي حُرمت من الاطلاع على سلوك الشهود ومدى شرعية الإجراءات التي تتَّبعها جلسات التحقيق.

  • (٦)

    إنه من المفترض أن يتواجد محققون لاستجواب الشهود.

فرفض شاه جميع هذه النقاط، وأمر فرانك أنتوني وموكلته بالمثول أمام المحكمة مجددًا اليوم التالي.

في ١١ يناير، تمسكت إنديرا برفض التعاون مع التحقيق، وأخذ فرانك أنتوني يكرر النقاط التي عرضها اليوم السابق. حتى ضاق شاه ذرعًا في آخر الأمر، وخاطب إنديرا مباشرةً:

شاه: «سيدة غاندي، هلا أتيت إلى هنا من فضلك؟»

فسارت إنديرا إلى مذياع يقف أمامه أنتوني. وقال شاه: «أريد أن أعرف هل تنوين الإدلاء بإفادة؟»

فأجابته إنديرا: «قلت لتوي إنني غير ملزمة قانونًا بذلك.»

فازدادت نبرة شاه حدة وهو يقول: «هل أنت راغبة في ذلك؟»

فقالت بهدوء: «أنا أرفض.»

وبعدما صمتت لبرهة، أضافت: «أنا ملزمة بقسم السرية ألا أدلي بأي معلومات.» ثم عادت إلى مقعدها، وقالت قبل أن تجلس: «كما أنني غير ملزمة دستوريًّا.»

فعلَت نبرة شاه. قال: «قولي هذا لقاضي محكمة الجنح.» وأخذ يملي أمرًا برفع شكوى رسمية لدى أحد قضاة محكمة الجنح تطالب بإقامة دعوى ضد إنديرا.

عند تلك المرحلة، أثارت إنديرا قضية بدت أنها ليست ذات صلة. فقالت لشاه إنها عندما أثارت قضية تأميم البنوك عام ١٩٦٩، وُسم ذلك الإجراء في بعض الأنحاء بأنه غير دستوري، وصدر طلب بدفع تعويضات سخية لأصحاب البنوك والمساهمين فيها. وهو ما ولد — كما قالت إنديرا تذكر شاه — غضبًا عارمًا، وأدى إلى صياغة عريضة تدعي أن بعض أعضاء النظام القضائي الذين سيعانون في حال تأميم البنوك كانوا وراء حملة مناوءة التأميم. وتلك العريضة طالبت بإجراء تحقيق رفضت إنديرا السماح به.

قالت إنديرا لشاه: «كرئيسة وزراء، منعتُها (العريضة) للدفاع عن كرامة النظام القضائي. لقد أرسل مائتا عضو برلماني من بينهم وزراء الآن من حزب جاناتا مذكرة تطالب بتوجيه اتهام للقضاة، من جديد أنا منعتها.»

كان القليل فقط من الحضور بداخل قاعة التحقيق المزدحمة سيصل إلى ما ترمي إليه إنديرا لولا أن شاه قاطعها قائلًا: «لم أكن قط صاحب أسهم في أي بنك … البعض ادعى ذلك. لكنه ادعاء كاذب.»

فردت إنديرا عليه بهدوء: «أنا لا أشير إليك على الإطلاق.»

لكن شاه — الرئيس على جلسات لجنة التحقيق — ظل بحماقة يدافع عن نفسه أمام «المتهمة». فجعل يقول: «بعض من إخواني القضاة امتلكوا أسهمًا. وقد قلت لهم إنني لا أملك أي أسهم. لقد امتلكت حسابًا في أحد البنوك … (لكنني) شخصيًّا لم أمتلك أي أسهم في أي من البنوك الأربعة عشر، وقتما استُحوذ عليها.»20

بعد هذا النصر عندما مثلت إنديرا للمرة الأخيرة أمام القاضي شاه في ١٩ من يناير، فقد الأمر إثارته. فمن جديد رفضت إنديرا الذهاب إلى مقصورة الشهود، وأصرت على أنها غير ملزمة قانونيًّا أو دستوريًّا بذلك. وانتهت جلسات تحقيق لجنة شاه في آخر الأمر بعد شهر في ٢٠ فبراير عام ١٩٧٨.

•••

بعدما حضرت إنديرا جلسات لجنة شاه أخذت تسعى إلى الترويج لنفسها ولحزبها الجديد المؤتمر (آي). فقصدت الزاهد فينوبا بهافي — أحد آخر من تبقوا من تلاميذ غاندي — لزيارته في أشرمه في واردها بماهاراشترا. كان الأخير قد أيد جي بي نارايان وثورته الشاملة قبل حالة الطوارئ وأُغير على منزله إبانها. دل استقباله الحار لها بقوة على اتساع دائرة قبولها من جديد.

في أبريل عام ١٩٧٨، في مواجهة عنيفة بإحدى الكليات الزراعية ببانتناجار بأوتار براديش، فتحت الشرطة النيران على تظاهرة للمطالبة برفع أجور العاملين. وتسببت في مقتل واحد وثمانين شخصًا. فسافرت إنديرا ومعها الكاتب والصحفي البريطاني بروس تشاتوين والمصورة إيف آرنولد إلى هناك. دُعُوا لدى وصولهم إلى تفقد بركة من الدماء المتخثرة وفتات المخ، حرص على تركها لحين معاينة إنديرا للموقع. ففزعت إنديرا بطبيعة الحال، والتقت بعدها بأرامل القتلى وواستهن. ثم جابت — وفقًا لدوم مورايس الذي أتى بدوره — «المكان على عجل كعادتها مرتدية صندلًا، وكأنها تضع أجنحة هرمز على خفيها»، ولم تتوقف إلا لمخاطبة طلبة المعهد الزراعي والعاملين.21
في ذلك يُذكَر أنها قد أفضت إلى تشاتوين بأن سر نجاحها هو «قدرتها على التحمل». فقد ذكرت أنها من الناحية الجسمانية «قادرة على أن تسبق أي سياسي هندي آخر.»22
كذا صحب تشاتوين وإيف أرنولد إنديرا في جولة إلى جنوب الهند. ألقت في كوتشين بكيرالا خطابًا من إحدى الشرفات، ثم جلست على كرسي نُصب أعلى منضدة. وعندما جن الليل «وضعت بين ركبتيها مصباحًا وجهته لأعلى لتسلط الضوء على وجهها وذراعيها … وأدارته» وهي تقول لتشاتوين: «ليس لديك أدنى فكرة كم هو مرهق أن تكون إلهًا.» لقد أخذت السماء وقتها تمطر، لكن حتى «هطول المطر لم يقف حائلًا أمام ربع مليون شخص ابتلوا تمامًا بمياه الأمطار، ومع ذلك ساروا أمامها صفوفًا يعربون عن احترامهم».23

عندما وصل تشاتوين وآرنولد إلى كاليكوت، مر كلاهما «بمراحل تقلبا فيها» بين «محبة إنديرا وكراهيتها». لقد توقعا لدى مجيئهما إلى الهند ألا يجدا سوى ما يثير كراهيتهما لها، لكنها أذهلتهما. فعندما أصيب تشاتوين في أنفه جراء زجاجة ألقاها شخص عدائي على موكب إنديرا. سألته الأخيرة تطمئن عليه لما انتبهت إلى إصابته (التي لم تلحظْها إلا لدى وصولهم إلى احتشاد كان من المقرر أن تخطب فيه؛ لأنها ركبت في سيارة أخرى في الموكب). قالت: «سيد تشاتوين! ماذا أصابك بحق السماء؟» فلما شرح لها تشاتوين الأمر، أجابته: «هذا ما يحدث لمن يتبعني.»

وبعدما عاد تشاتوين وإيف إلى فندقهما في وقت لاحق من ذلك اليوم، بحثت إنديرا عن الأول تطمئن على حالته وجعلت تسأله: «هل أنت متأكد أنك على ما يرام؟ هل أخرجوا كل الزجاج؟ حسنًا، حمدًا لله على ذلك! أتود الاستلقاء؟» لم يرغب تشاتوين في الاستلقاء، أما إيف آرنولد التي «أضناها الحر»، فقد أرادت ذلك. كانت غرفة إنديرا بالفندق مكيفة. قادت — على حد وصف تشاتوين — «بعد التفكير في المسألة إيف إلى غرفة نومها حيث كانت حقيبة الأوراق خاصتها مفتوحة وأوراقها متناثرة. ثم جعلت إيف تستلقي على السرير وتركتها تنام ساعتين. عادت بعدهما بكوب من الشاي بدا أنها لن تفرغ من احتسائه أبدًا، ثم قالت إنها تحتاج إلى الغرفة لتغيير ملابسها.»24
في ٦ أغسطس عام ١٩٧٨، بعد ستة شهور من انتهاء جلسات تحقيقات لجنة شاه، نشرت وزارة الإعلام والإذاعة المجلد الثالث من تقرير لجنة شاه وهو بعنوان «التقرير النهائي». كان قد صدر قبل ذلك تقريران في مارس وأبريل. صرح جي سي شاه فيهما وفي «التقرير النهائي» أن إعلان حالة الطوارئ كان إعلانًا غير دستوري يهدف إلى التضليل؛ إذ «لم تتواجد أي أدلة على انتهاك القانون والنظام في أي من أنحاء البلاد، أو ما ينذر بذلك»، لقد رأى شاه أن إنديرا لجأت إلى السلطات التي تتيحها حالة الطوارئ «في محاولة يائسة لإنقاذ نفسها من إلزام شرعي يقره حكم قضائي صادر ضدها». ومن بين الشرور التي ذكر شاه أن إنديرا وحكومتها ارتكبتها بين عام ١٩٧٥ وأوائل عام ١٩٧٧: اعتقال الآلاف من الأبرياء، وتبني «سلسلة من الإجراءات تخرج تمامًا عن إطار القانونية والمشروعية؛ نجمت عنها معاناة ومآسٍ لا آخر لهما».25
لقد شمل تقرير لجنة شاه كل ما من شأنه أن يدين إنديرا أو ابنها الأصغر أو حالة الطوارئ. ولم يعتبر أي مسألة أكبر أو أصغر من أن يبحث فيها. فعلى سبيل المثال، بالإضافة إلى اتهامه لنظام إنديرا باعتقال أكثر من ألف شخص بصورة غير قانونية، وقتل ما لا يقل عن ستة أشخاص عند بوابة تركمان، وسلب القدرة على الإنجاب قسرًا من الآلاف، اتهم نظامها أيضًا «بإساءة استغلال السلطة وإساءة تطبيق أحكام العدالة في واقعة إنقاذ مسئولي مكتب الاستخبارات المركزية موظف السكك الحديدية شراي سودارشان كومار فيرما من المعاقبة القانونية»، وﺑ «إساءة استعمال السلطة وتجاوزها في واقعة سماح شراي تي آر تولي رئيس مجلس بنك بنجاب الوطني لشركة «أسوشيتد جورنالز المحدودة المسئولية» بإجراء سحب بنكي على المكشوف بدون ضمان». على أن شاه في حالات نادرة خالف المرجو منه. فمثلًا في قضية «المزايا التي منحها بنك بنجاب الوطني لشركة ماروتي المحدودة المسئولية» يذكر تقريره: «أن اللجنة ترى بالنظر إلى الدلائل التي قدمت والحجج التي أدلى بها أنه لم يكن هناك أي انتهاك للقواعد الإدارية أو إساءة استغلال للسلطة والنفوذ فيما يتعلق بتلك المسألة».26

كان تقرير لجنة شاه رغم الضجة التي صاحبت صدوره مخيبًا للآمال. فلم يتناول إلا جزءًا صغيرًا من مجموع الوقائع التي جرت في جلسات لجنة شاه، ولم يصل مجموع صفحات مجلداته الثلاث إلا إلى خمسمائة صفحة من عمودين. هذا فضلًا على أنه نتيجة لنظم تراكيبه اللغوية بعشوائية، وصياغته بلغة القانون الإنجليزية التي تتسم بالتطويل، حفل بالأخطاء النحوية والعبارات الاصطلاحية الغريبة. إلا أنه مع ذلك يظل السجل الرسمي الوحيد لحالة الطوارئ نظرًا لاختفاء الشرائط التي سجلت الوقائع الكاملة لجلسات لجنة شاه التحقيقية.

إن نشر تقرير شاه على ثلاثة أجزاء كان من شأنه حتمًا أن يولد آمالًا كاذبة. فعندما فشل المجلد الأول من التقرير في إحداث ضجة، انتظر الكل أن يفجر المجلد الثاني «قنبلة». لكن لما فشل ذلك بدوره في ذلك، تعلقت الآمال بالمجلد الثالث الذي كان الأطول بين ثلاثة المجلدات، ولكنه ممل كسابقيه بالضبط، فلما كانت الشائعات و«الفضائح» أكثر إثارة بكثير من واقع حالة الطوارئ الذي يبدو في كثير من الأحيان موضوعًا غير مشوق. ضاعفت وسائل الإعلام ومجالس النميمة السياسية في دلهي الأرقام التي توصلت إليها التحقيقات لكل جريمة، أو انتهاك أو اعتقال أو فرض رقابي أو عنف أو قتل أبلغ عنه ثلاث مرات أو أكثر.

لم يكن تقرير لجنة شاه في واقعه أكثر من ملخص مقبض للصدر، خالٍ من المفاجآت، يوجز أحكامًا سبق إليها جي سي شاه دون تفكير ركونًا إلى الأدلة التي قُدمت له أثناء جلسات التحقيقات، ثم حشاها بمقتطفات مختارة من أقوال الشهود، ليجعل التقرير يبدو طويلًا. لقد بدا واضحًا أنه عبارة عن شرح غير موضوعي إلى حد كبير للأدلة التي قدمت. وتحامل كاتبه وغرضه بيِّنان. فهو يصرح حقيقة أن جلسات التحقيقات لم يكن القصد منها قط أن تكون تحقيقات حقيقية أو موضوعية يُتحرى فيها عن المساوئ والأعمال المحظورة والجرائم التي ارتكبت إبان حالة الطوارئ. لقد كان شاه تابعًا لحزب جاناتا، ولجنته وتقريره كانا بالدرجة الأولى للدعاية لذلك الحزب. فالأبطال الوحيدون في تقرير لجنة شاه هم جيش من الأشرار والحمقى. كان الشرير الرئيسي فيهم — وهو إنديرا غاندي — يراوغ بعناد بين صفحات التقرير فيما يطارده شاه.

مع مواطن ضعفه الخطيرة، يظل تقرير لجنة شاه كنزًا يزخر بالدلائل على السلطات غير المشروعة التي تمتع بها سانجاي في الفترة السابقة على حالة الطوارئ وإبانها، وعلى تزلف وجبن العديد من مسئولي القطاع العام والمسئولين الحكوميين في الفترة نفسها. فلا عجب أن إنديرا أمرت بسحب جميع نسخ ذلك التقرير لما استعادت السلطة عام ١٩٨٠.27
لكن اتضح في آخر الأمر أن تأليف لجنة شاه كان إلى حد بعيد إجراءً لا جدوى منه. فمع جلسات التحقيقات المطولة المسرحية التي أجرتها اللجنة، لم تكن إلا لجنة لتقصي الحقائق. لقد نص تقريرها نفسه بوضوح على أن «وقائع جلساتها» «لم تحمل صفة القضايا المدنية … أو المحاكمات الجنائية».28
بعبارة أخرى كانت — على حد اعتراف شاه فيما بعد في مقابلة صحفية — «استقصائية لا غير».29 ومع أن تقرير ذلك الأخير ولد عاصفة من الجدل، إلا أنه لم يكن ذا أي اعتبار قانوني. فليس بمقدوره أن يدين أي شخص. وجميع الأعمال غير القانونية والمحظورة التي عددها يجب أن تثبت في إحدى محاكم القانون. وهذا قد يستغرق أعوامًا.

•••

أُحبط ديساي عندما ارتد عليه اعتقال إنديرا. ولما لم يكن برغم النتائج التي أعلنتها لجنة شاه على استعداد للمخاطرة بسجنها من جديد. عنى هذا أنها لبعض الوقت — إلى أن يتخذ حزب جاناتا التدابير القانونية لإدانتها — في مأمن من الناحية القانونية. غير أنها مع تجوالها في أنحاء البلاد ومرور الوقت ازدادت شعبية بين العامة، فتجاهلت الصحافة والشعب جهود حزب جاناتا للضغط.

بعكس إنديرا، لم يكن سانجاي في مأمن من الناحية القانونية. ففي ربيع عام ١٩٧٨ حوكم بعدة تهم من بينها ترهيب ورشوة بعض شهود الادعاء الذين أدلوا بشهادتهم أمام لجنة شاه. وفي ٥ مايو قضت المحكمة العليا بحبسه شهرًا، أودع فيه سجن طهار الشهير بدلهي، حيث احتجز الكثير جدًّا من سجناء حالة الطوارئ. بلغ إنديرا نبأ اعتقاله في كارناتاكا حيث كانت تمضي عطلة رائعة تزور فيها المعابد والأديرة. استقلت أول طائرة عائدة إلى دلهي، ثم اتجهت مباشرة من المطار إلى سجن طهار حيث احتضنت ابنها أمام طاقم مصوري التليفزيون والصحفيين وقالت له: «تشجَّع. ستكون تلك عودتك السياسية.»30

مع إطلاق سراح سانجاي من السجن في أواخر يونيو حسمت إنديرا أمرها بالترشح لعضوية البرلمان من جديد. وقد كانت قبل ذلك سافرت إلى الكثير من أنحاء الهند ولاقت في زياراتها — باستثناء بعض الحالات — استقبالًا حارًّا، خاصة بين فقراء أهل القرى (الذين يمثلون الغالبية العظمى من ناخبي الهند). وقطعت شوطًا كبيرًا في مسعاها إلى العودة سياسيًّا إلى قلوب عامة الناس، مع أن الصحفيين والمثقفين وحزب جاناتا ظلوا عازمين على تدميرها. هذا لأن الذكريات الطويلة التي يختزنها العامة عنها وعن أبيها كانت حية في النفوس تذكر فضلهما، فيما أن الأحداث الأخيرة التي وقعت إبان الواحد والعشرين شهرًا التي امتدت فيها حالة الطوارئ بدت آنذاك وكأنها زلات.

فعلى العشاء في مساء يوم كان الصحفي إندر مالهوترا ضيفًا فيه لدى أحد أصدقائه، عندما أخذ ضيوف العشاء في انتقاد إنديرا، قاطع الخادم الذي تولى تقديم الطعام الحديث قائلًا: «ارتكبت السيدة إنديرا بعض الأشياء السيئة (إبان حالة الطوارئ، لكنها) … قامت بأشياء جيدة في الماضي.» أما طاهي أوما فاسوديف، فقد أخبرها بأنه سيصوت بحماس «للسيدة إنديرا» بما أنها ستخوض الانتخابات من جديد، مع أنه قد صوت ضدها في انتخابات عام ١٩٧٧. فلما سألته أوما فاسوديف عن السبب أجابها بأن إنديرا «تهتم بنا»، أي بالفقراء، فيما أن حزب جاناتا لا يفعل ذلك.31

وأبدى العاملون أمام مرءوسيهم ثقتهم بإنديرا في جميع أنحاء البلاد. وأفصح سائقو عربات الريكاشة والكناسون والتجار على الأرصفة بدورهم عن ذلك. واتضح في نهاية المطاف للنخبة المثقفة أن موجة تأييد حقيقية لإنديرا قادمة.

سهل عدم كفاءة حزب جاناتا قدوم تلك الموجة. ففي الواقع شعر الكثيرون آنذاك بالحنين إلى أيام حالة الطوارئ «الخوالي الطيبة» والنظام الذي ساد إبانها. فقد فتح حزب جاناتا السجون وأطلق سراح المهربين والغوغاء ومبتزي الأموال الذين سُجنوا إبان حالة الطوارئ. وارتفعت الأسعار، وتزايد العنف الطائفي خاصةً تجاه الهاريجانيين. وفي غمرة كل ذلك، أوشكت حكومة حزب جاناتا الائتلافية على الانهيار. فعلى رأسها تنازع ديساي وتشاران سينج وزير الداخلية الذي أراد أن يحل محل الأول رئيسًا للوزراء. ولم يعد جي بي نارايان الذي أنهكه المرض وأشرف على الموت في باتنا حيث تقاعد قادرًا على حفظ تماسك الحزب.

بلغت الأمور ذروتها في يونيو عام ١٩٧٨ عندما اتهم تشاران سينج — أعنف خصوم إنديرا — ديساي والوزراء الآخرين بالمجلس الوزاري بأنهم «مجموعة من العجزة» لفشلهم في تقديم إنديرا غاندي إلى العدالة.32 فطرده ديساي من مجلس الوزراء ومعه وزير الصحة راج ناراين الذي رفع ضد إنديرا قضية الإقدام على ممارسات محظورة في انتخابات عام ١٩٧١ وهزمها بعد ذلك في انتخابات عام ١٩٧٧. فمع أن ديساي في آخر الأمر أعاد — مضطرًّا — تشاران سينج وزيرًا للدفاع ونائبًا لرئيس الوزراء (وهو منصب تشاركه مع جاجيفان رام)، بات الانقسام المدمر الذي يعاني منه حزب جاناتا واضحًا للجميع.

في الوقت الذي أخذ فيه حزب جاناتا يدمر نفسه بنفسه، شرعت إنديرا في تعزيز موقفها. ففي يوليو عام ١٩٧٨، أجرت مقابلة صحفية طويلة مع باحثة أمريكية تدعى ماري كاراس كانت تكتب سيرتها، وقد تمرست بحلول ذلك الوقت على الرد على الأسئلة فيما يتعلق بحالة الطوارئ وهزيمتها في انتخابات عام ١٩٧٧، وأدركت أن ماري كاراس ستخدم كأداة مناسبة للتعبير عن آرائها.

استعرضت المقابلة الصحفية في أغلبها نقاطًا لم تستغربها إنديرا. فأوضحت فيها أنها فرضت حالة الطوارئ لإنقاذ البلاد من الوقوع في «الفوضى»، وأنها لم تستشر مجلس الوزراء قبل إعلان حالة الطوارئ خشية تسرب خبره، وأنه لا مجال لإنكار أن بعض الأشياء قد «خرجت بالفعل عن السيطرة بعض الشيء» إبان حالة الطوارئ، إلا أنها أضافت أن ما نقل عن الاعتداءات التي وقعت — وبصفة خاصة فيما يتعلق ببرنامج التعقيم — مبالغ فيه تمامًا. كما بينت أنها خسرت انتخابات عام ١٩٧٧ لأنها «تسببت في الضيق» لبعض القطاعات في المجتمع، ولأن حزب جاناتا «حظي بالكثير من المساعدة الخارجية … فالحركة المناوئة لنا نظمتها قوى خارجية».

الأخطاء التي اعترفت بها إنديرا من حين لآخر — مثل قولها «إن بعض الأشياء خرجت عن السيطرة بعض الشيء»، وأنها «تسببت في الضيق لبعض قطاعات المجتمع» — أقرت بها بناءً على دراسة، بكل ما في الكلمة من معنًى. فقد فطنت إلى أنها ستسترد اعتبارها في وقت أقرب لو تحملت جزءًا من الذنب. لذا اعتذرت قبل الآن عن بعض «الجوانب السيئة في حالة الطوارئ». والآن اعترفت بأنه من المحتمل أن إسكات الصحافة كان «إجراءً مبالغًا فيه»، وبأن «بعض رؤساء حكوماتنا اعتقلوا الناس بلا سبب على الإطلاق، أعني ليس لسبب إلا العداوة الشخصية». لكنها زعمت أنه «باستثناء اعتقال الشخصيات السياسية وفرض الرقابة على الصحافة، لم يكن هناك خروج عن الطبيعي في الكثير من الأمور … في حادثة بوابة تركمان قُتل ستة أشخاص، جميعهم من خارج المنطقة». فما كان من كاراس إلا أن قالت بسخرية مريرة: «إذن، ببساطة كان ذلك ضربًا من ضروب العنف العادية.» فأجابت إنديرا تدافع عن موقفها بكذبة صارخة: «لم يكن هناك عنف، فقط حالة أو حالتان استثنائيتان.»

في تلك المقابلة الصحفية، أجابت إنديرا على أغلب الأسئلة التي تتعلق بحالة الطوارئ بسهولة. لكن عندما حادت كاراس عن ذلك الموضوع، وسألتها عن سبب انخفاض نسبة المتعلمين في الهند، أجابت إنديرا إجابة تفتقر إلى الدراسة فقالت: «لا أرى أهمية كبيرة للتعليم. ماذا صنع للغرب؟ هل الناس هناك أسعد أو أكثر وعيًا بالمشاكل المحيطة بهم؟ على العكس من ذلك، أعتقد أنهم صاروا أكثر سطحية.»33
أوضحت المقابلة التي أجرتها إنديرا مع كاراس تحليلها لفترة حالة الطوارئ بعد انتهائها على صعيد المجتمع. وقد سنح لكاراس بعدها بوقت قصير أن تشهد إنديرا وهي تطرح ذلك التحليل على العامة عندما سافرت معها إلى مدراس ومادوراي. كانت كاراس، وهي امرأة صغيرة الحجم، سمراء، ترتدي وقتئذٍ ساريًا بدلًا من ثيابها الأمريكية العادية. كانت كاراس تتقدم إنديرا في المشي، وجدت نفسها فجأة محاطة بحشد دلف إلى أحد المعابد القريبة من مادوراي وباعد بينها وبين إنديرا. وأخذ رجاله ونساؤه يضعون عليها أكاليل الزهور، ويسجدون عند قدميها، ويجذبون ذراعها بقوة حتى كادوا ينتزعونه. فحاول قادة المؤتمر المحلي بلا طائل أن يبينوا للحشد أن كاراس ليست «الأم» التي أتوا لإجلالها. لكن كانت تلك تجربة مخيفة وكاشفة لكاراس. فللمرة الأولى أدركت أن افتتان الشعب الهندي الأعمى بإنديرا لن يتزعزع مهما تكررت لجنة شاه، ومهما نصب حزب جاناتا من محاكم خاصة للقضاء عليها.34

•••

في نوفمبر عام ١٩٧٨، عندما ترشحت إنديرا في إحدى الانتخابات الفرعية لتمثيل دائرة تشيكماجلور الريفية في جنوب ولاية كارناتاكا. عادت رسميًّا إلى عالم السياسة. تلك الدائرة كانت الأمثل لها، فقد مثلت النساء ٥٠٪ من الناخبين، في حين مثلت الأقليات والطوائف الصغيرة أو المنبوذة ٤٥٪ من مجموعهم، وعاش ما يقرب من نصف سكانها تحت خط الفقر. هذا فضلًا على أنها كانت قاعدة دعم لحزب المؤتمر؛ تنحى فيها ممثلها دي بي تشاندريجاودا — وهو أحد أعضاء حزب المؤتمر الذين شغلوا منصبًا قياديًّا فترة طويلة في ولاية كارناتاكا — لإنديرا عن منصبه. فأرسل حزب جاناتا وزير الصناعة جورج فيرنانديز ليقود زمام الحرب ضدها هناك. وذلك الأخير — وهو أحد قادة حزب جاناتا الذين يتمتعون بالشعبية، وأحد القلائل الذين يملكون أوراق قوة فيه كونه يساريًّا — أدار الحملات الانتخابية بنشاط لمصلحة خصم إنديرا فيريندرا باتيل رئيس الحكومة السابق لولاية كارناتاكا. فتوقع الكل أن يربح باتيل. غير أن الحشود التي أتت لسماع إنديرا أظهرت الكثير من الحماس والاحترام لها، وفاقت عددًا تلك التي قدمت لسماع باتيل وفيرنانديز بكثير. فتكرر سيناريو الأم إنديرا من جديد. ومع ما توقعته الصحف، فازت إنديرا بفارق كبير يبلغ ٧٠ ألف صوت.

•••

في ١٢ نوفمبر عام ١٩٧٨، بعد أربعة أيام فقط من فوزها في تشيكماجلور، سافرت إنديرا جوًّا إلى لندن. كانت جوازات سفر جميع أفراد عائلتها قد حُجز عليها بعد هزيمتها في انتخابات عام ١٩٧٧. لكن بفضل النقد الدولي الذي تعرض له حزب جاناتا لضغطه عليها، منحتها الحكومة حينذاك جواز سفر دبلوماسيًّا، إلا أنه كان صالحًا للسفر إلى بريطانيا فقط. لكن حزب جاناتا أخطأ في ذلك، فدافع إنديرا الأساسي من سفرها إلى خارج البلاد، كان إحياء مكانتها الدولية. وقد اتخذت خطوات جيدة لذلك في مطار هيثرو. فعندما سألها حشد الصحفيين الذي انتظرها هناك: «هل قدمت إلى بريطانيا لتحققي منها عودتك السياسية؟» أجابت بابتسامة عريضة: «ولكنني لم أغب من الأساس.»35
وفقًا لما أعلنته المصادر الرسمية، لم تتحمل الحكومة نفقات تلك الزيارة. لقد مكثت إنديرا في فندق كلاريدج، في نفس الجناح الذي نزلت فيه عندما كانت رئيسة الوزراء. إلا أنها حينذاك عام ١٩٧٨ كانت ضيفة رجل الصناعة الهندي الشهير ببريطانيا سوراج باول، الذي تحمل كل النفقات. لقد جلبت معها شيكات سياحية قيمتها ٢٥٠ دولارًا (وهو أقصى مبلغ سمحت الحكومة الهندية بمنحه لها). إلا أنها لما طلبت من سوراج — الذي لم يكن هذا المبلغ يغطي بالنسبة له سوى تكلفة عشاء مرة أو اثنتين في أحد المطاعم — أن يصرف تلك الشيكات لها. ضحك وأصر على أنها ضيفته، لكنها وقعت الشيكات وصممت على أن يأخذها فاضطر إلى قبولها.36

تعود صداقة إنديرا بسوراج إلى عام ١٩٦٦، وقتما كانت ابنته تعالج من مرض سرطان الدم في لندن. أراد سوراج أن يزور أبناؤه الآخرون أختهم لكن هؤلاء — مع المكانة التي كان سوراج قد صنعها لنفسه كرجل أعمال دولي آنذاك — لم يستطيعوا الحصول على إذن حكومي بالسفر خارج الهند، وظلوا بها. كان ضروريًّا في منتصف الستينيات الحصول على ذلك الإذن. كاتب بول إنديرا يطلب منها المساعدة مع أنه لم يكن قد التقى بها سوى مرة أو اثنتين. فحصل على الإذن الضروري لسفر أبنائه جوًّا في غضون يومين.

ظل بول يذكر مساعدة إنديرا له رغم وفاة ابنته. لذا أسدى لها خدمات كبيرة في جمع التبرعات لحزب المؤتمر بإنجلترا في منتصف السبعينيات، وظل على وفائه لها عندما خسرت السلطة عام ١٩٧٧، ولم تنقطع مساعداته المادية لها. فما إن سمع بنتائج الانتخابات ذلك العام هاتفها من لندن، يقول لها: «سيدة إنديرا، ما دام لديَّ ما آكله، فستأكلين أنت أولًا.» ولم تتزعزع صداقته لها إبان فترة العامين ونصف العام التي ابتعدت فيها عن السلطة، الأمر الذي وضعه في موقف صعب مع حكومة حزب جاناتا. فذاق على حد قوله «المر» من أجلها بين عامي ١٩٧٧ و١٩٨٠.37
وكان هو من خطط لإحياء مكانتها في بريطانيا في نوفمبر عام ١٩٧٨. ففي تلك الزيارة التي «لم تضطلع الحكومة الهندية بتمويلها»، نظم عددًا من الحشود التأييدية لها حضرها عدد كبير من الهنود. ورتب للقائها برئيس الوزراء البريطاني جيمس كالاهان، ولإلقائها خطابًا على حشد كبير من أعضاء البرلمان من حزب العمال وحزب المحافظين. اعترفت إنديرا صراحة لكالاهان وأعضاء البرلمان الآخرين أنها خسرت مع حزبها الانتخابات لأنهما «تسببا في الضيق لجميع قطاعات الشعب في آن واحد». وبالطبع كانت صديقتها قائدة حزب المحافظين مارجريت ثاتشر هناك تبدي تأييدها التام لها.38
في زيارتها لإنجلترا، تناولت إنديرا العشاء مع صديقها القديم مايكل فوت وزوجته جيل كرايجي.39 وتناولت الغداء مع كاتبة الروايات الرومانسية باربرا كارتلاند، وظلت فترة في شوق للقاء تلك الأخيرة، لا لإعجابها برواياتها (كما زُعم في بعض الأحيان)، وإنما لأن كارتلاند اتبعت نظامًا غذائيًّا معقدًا من بدائل الفيتامينات والأغذية العضوية زعمت أنه يحقق فوائد صحية أرادت إنديرا التعرف عليها.40 أيضًا ذهبت إنديرا إلى بعض المسارح أثناء زيارتها للندن، وشاهدت العديد من الأفلام السينمائية، وتسوقت في متاجر مجموعة وولورثز ومكتبة فويلز. أما متجر هارودز، فلم تتسوق فيه بنفسها، لكن سوراج بول بعث لها يوميًّا باقة من الأزهار منه أثناء إقامتها في لندن.

لكن طوال زيارتها لإنجلترا لم تنفك المفوضية الهندية العليا عن الإعراب عن استيائها، خاصة عندما التقت بأعلام السياسيين هناك. أما موراجي ديساي وحكومة حزب جاناتا في نيودلهي فقد استشاطا غضبًا من الاستقبال الحافل الذي حظيت به.

وفي الوقت الذي عكفت فيه إنديرا على إحياء مكانتها الدولية في لندن، في الهند قام حزب جاناتا بمحاولة يائسة أخيرة للإيقاع بها. فبعد وقت قصير من عودتها إلى دلهي في ديسمبر عام ١٩٧٨، اتهمتها لجنة الحصانة البرلمانية بمنع أربعة من المسئولين من إجراء تحقيقات عن شركة ماروتي المحدودة المسئولية. وصدر في ١٩ ديسمبر قرار في البرلمان ﺑ «اعتقالها لحين انقطاع جلسات مجلس النواب، وطردها من المجلس لانتهاكها الحصانة البرلمانية انتهاكًا خطيرًا، وعصيانها أوامر المجلس.»

إزاء ذلك الحكم، في المجلس الأدنى من البرلمان، أعربت إنديرا عن سخطها. فقالت: «لست شخصًا قويًّا، إلا أنني سبق أن دافعت عن بعض المبادئ والأهداف. لذا أي إهانة موجهة لي سترتد على من وجهوها، وأي عقاب يقع عليَّ سأستمد منه القوة … لن يخمد صوتي لأنه ليس صوتًا وحيدًا. ليس صوتًا لنفسي، لامرأة ضعيفة لا تستأهل الاعتبار.» وتوقفت قليلًا ثم استطردت تقول بعد أن تحولت نبرتها من نبرة المظلوم إلى نبرة التحدي والسخرية. قالت: «إن المناخ في مجلس النواب … يشبه ذلك في قصة أليس في بلاد العجائب، عندما انتفضت جميع أوراق الكوتشينة في الهواء تصيح قائلة: «اقطعوا رأسها!» إليكم رأسي. اضطررت إلى الرحيل بضعة شهور، ولكنني لن أغيب أكثر من شتاء.»41
بعد ذلك الخطاب، نهضت إنديرا لتغادر المجلس الأدنى للبرلمان. فسارت ببطء في الممشى الذي يفصل بين صفوف مقاعد أعضاء البرلمان وهي توليهم ظهرها. لكنها عندما وصلت إلى باب القاعة، التفتت لهم تقول رافعة ذراعها وباسطةً راحتها: «سوف أعود.»42

بحلول الوقت الذي طُردت فيه إنديرا من البرلمان، كان ديساي قد نجح في استصدار قرار بتأسيس محكمة خاصة لمحاكمتها هي وسانجاي غاندي. وبعد وقت قصير من طردها من البرلمان وخروجها منه خروجًا دراميًّا، اعتُقلت وأُرسلت إلى سجن طهار حيث أودعت وحدها ثكنة في نفس مجمع السجون الذي احتجز فيه جورج فيرنانديز إبان حالة الطوارئ. واضطلعت سونيا غاندي بإحضار كل الوجبات لها من المنزل. لكن بعدئذٍ في ٢٦ ديسمبر، بعد أسبوع واحد من احتجازها، أُطلق سراحها.

من جديد أخطأ حزب جاناتا خطأً فادحًا. فاعتقال إنديرا نفض عنها «غبار حالة الطوارئ»، وجعلها أكثر شعبية من أي وقت مضى.43 وصارت مع إطلاق سراحها بطلة مظلومة. فعادت مزهوة بالنصر إلى كارناتاكا وأخبرت شعب تشيكماجلور أن اعتقالها واحتجازها أجريا بصورة غير قانونية. ثم قصدت بعد استقبالها الحار هناك مدراس لقضاء عطلة قصيرة مع بوبول جاياكار والزعيم الروحي كريشنامورتي الذي كانت جاياكار من أشد معجبيه. ووفقًا للأخيرة، التقى كريشنامورتي إنديرا وحدها ونصحها باعتزال السياسة تمامًا. فردت عليه بأن ذلك غير وارد، فإما أن تقاتل أعداءها أو تدعهم يدمروها.44

غير أن أعداءها في أوائل عام ١٩٧٩، عكفوا بأنفسهم على مقاتلة أنفسهم وتدميرها بصورة جنونية. فقد تنازع ديساي وتشاران من جديد. واتُّهم ابن الأول كانتيلال بعقد صفقات احتيال واقتراف غيرها من المفاسد. التُقطت صور — حصلت عليها مانيكا غاندي ونشرتها في مجلة «سوريا» التي أنشأتها وتولت رئاسة تحريرها بمساعدة الصحفي خوشوانوت سينج صديق عائلة غاندي — لابن جاجيفان رام وهو رجل متزوج في الأربعين من عمره وهو في وضع جنسي مع مراهقة جامعية شابة تشارك معها علاقة غرامية؛ فأضحت فكرة مقاضاة سانجاي غاندي بديهيًّا سخيفة.

لكن مع ما اقترفه ابنا ديساي ورام، ظل موقف سانجاي خطيرًا، وكانت إنديرا متخوفة بشدة مما قد يفعله حزب جاناتا به. في الواقع رفعت حكومة حزب جاناتا في فترة العامين ونصف العام التي شغلت فيها السلطة ما لا يقل عن خمس وثلاثين دعوى جنائية ضد سانجاي. وفي ٢٧ فبراير عام ١٩٧٩، حُكم بسجنه هو وفي سي شوكلا عامين ودفع غرامة باهظة لتدميرهما فيلمًا سياسيًّا ساخرًا بعنوان «كرسي العرش»، وهو فيلم ينقد فترة حالة الطوارئ نقدًا لاذعًا. لقد أُطلق سراح سانجاي وشوكلا بكفالة فيما بعد، وأتيح لهما بالطبع الطعن في الحكم الصادر ضدهما، إلا أن ذلك كان من المحتمل أن يستغرق وقتًا طويلًا في المحاكم الهندية.

•••

في منزل إنديرا، كانت الخلافات بين أفراد عائلتها قد أخذت في التطور حتى قاربت مع دخول سانجاي في المزيد من المعارك القضائية حدًّا يفوق الاحتمال. ودارت الشائعات بأن راجيف وسونيا أوشكا على مغادرة البيت والسفر إلى إيطاليا. إلا أن ذلك غير صحيح؛ فما كانا ليتخليا عن إنديرا، غير أن العلاقة بين راجيف وسانجاي سادتها جفوة. في حين تحولت العلاقة بين سونيا ومانيكا إلى علاقة جافة من المشاعر، امتنعتا فيها عن تبادل الحديث، وتجنبتا التواجد معًا في نفس الغرفة إلا للضرورة القصوى. فيذكر أنه في صباح يوم كان بي كيه نهرو وفوري نهرو يتناولان الإفطار مع عائلة إنديرا، وثار سانجاي غضبًا عندما عجزت سونيا عن طهي البيض له بنفس الطريقة التي طلبها، فرمى بطبقه إلى آخر الغرفة. حينئذٍ لم تتفوه إنديرا بكلمةٍ انتقادًا له، لكن كان من الواضح أنها تشعر بالحرج.45
علاوة على أن الأوضاع في منزل إنديرا ازدادت سوءًا بتصرفات مانيكا الهوجاء الجنونية. فإزاء مناخ القلق والتوتر اللذين أحاطا بها من كل ناحية، انتابتها الثورات العاطفية القوية ونوبات الغضب وصبتها على الجميع تقريبًا وفيهم سانجاي، فصار وضع زواجهما المضطرب أكثر خطورة. وقد اعترفت إنديرا لبوبول جاياكار أن عائلتها تعيش حالة من الاضطراب، غير أنها لم ترَ أن تصرفات مانيكا هي الملومة على ذلك، فقد قالت: «مانيكا في الواحدة والعشرين من العمر ليس إلا … وسانجاي مهدد بأن يصدر حكم بحبسه لمدة طويلة … إنها تعاني ضغطًا هائلًا. لذا على الناس أن يتفهموا هستيريتها ويسامحوها عليها.»46

•••

في الساعات الأولى من ٤ أبريل عام ١٩٧٩، في سجن روالبيندي بباكستان، أُعدم ذو الفقار علي بوتو شنقًا. في وقت سابق على ذلك، في ديسمبر عام ١٩٧١، عقب هزيمة الهند لباكستان، اختار الجيش الباكستاني ووزارة الخارجية الأمريكية الأخير — قائد حزب الشعب الباكستاني — ليكون قائدًا مدنيًّا لباكستان. لكن ظل الجيش الباكستاني لوقت طويل المحرك لسياسات النظام الحاكم لباكستان، وإبان فترة حكم بوتو المدنية عزم على الاحتفاظ بسيطرته. لذا على مدى ستة أعوام، صبر على لجوء الأخير بصورة متزايدة إلى الديماجوجية وتأييد العامة لما لم يغير من سلطات الجيش تغييرًا جوهريًّا، أو يجري تعديلات على وظائف الحكومة الإدارية أو نظام تملك الأراضي. لكن لما رفض بوتو تمامًا أن يكون أداة للجيش، ثم زور انتخابات عام ١٩٧٧، أطاح قادة الجيش به.47
بعدئذٍ في يوليو عام ١٩٧٧، تولى الجنرال ضياء الحق — الذي لم يرَ بوتو أنه يمثل خطرًا عليه — السلطة، وأعلن الحكم العسكري في باكستان. وبعدها في ٣ سبتمبر، اعتقل بوتو واتهم «بالتآمر لقتل» أحمد رضا قصوري أحد خصومه السياسيين. وجرت عقب ذلك محاكمة — أو بعبارة أخرى «مهزلة قضائية» — دامت تسعة عشر شهرًا، وصدر في نهايتها حكم بإعدام بوتو، وجرى شنقه، الأمر الذي لم يكن لتآمره لقتل قصوري بقدر ما كان بناءً على أن بقاءه «حيًّا يطرح دائمًا بديلًا ممكنًا للحكم العسكري». وقد خشي الجيش من أن يخطط للعودة سياسيًّا كإنديرا غاندي.48
مع أن بوتو لم يرُق لإنديرا قط (والعكس صحيح)، عندما صدر حكم إعدامه، أدانت الحكم علنًا، وبعثت برقية إلى ضياء الحق تطالب فيها بمنح بوتو عفوًا. وكاتبت عددًا من رؤساء الدول الآخرين تناشدهم الضغط على ضياء الحق لمنع إعدام بوتو. ولم يبذل حزب جاناتا — حمقًا منه — أدنى محاولة لإنقاذه.49

•••

في ٣١ مايو عام ١٩٧٩، أدين سانجاي وبعض من شركائه في شركة ماروتي المحدودة المسئولية بعقد صفقات تجارية غير قانونية. لكن في ١١ يوليو، قبل اتخاذ المزيد من الإجراءات القانونية تجاهه أو تجاه إنديرا، توقفت فصائل حزب جاناتا المتنازعة تمامًا عن تصنع التعاون. وقدم واي بي تشافان اقتراحًا بحجب الثقة عن موراجي ديساي. وهو الأمر الذي أدى إلى إسقاط الحكومة. وعليه في ١٥ يوليو قدم موراجي ديساي استقالته، وألف تشاران سينج حكومة جديدة. المثير للعجب هو أن ذلك الأخير وصل إلى السلطة بمساعدة مؤتمر (آي)، مع أنه لم ينفك عن محاولة الثأر من إنديرا؛ لقد عكف سينج على استرضاء مؤتمر (آي) منذ نزاعه مع ديساي. وتأييد إنديرا له تفاوض على شروطه سانجاي الذي حث إنديرا على التحالف مع عدوها والعفو عما سلف من أجل العودة سياسيًّا.

غير أن تشاران سينج اضطر قبل أن يصبح رئيس الوزراء إلى الخضوع لتصويت طرح ثقة في المجلس الأدنى من البرلمان. وعندئذٍ في اللحظة الحاسمة، اشترطت إنديرا إلغاء قرار تأسيس المحكمة الخاصة — الذي أصدره ديساي لمحاكمتها على «الجرائم التي ارتكبت إبان حالة الطوارئ» — لتستمر في مساعدة سينج. رفض ذلك الأخير تناسي القرار، وعليه سحبت إنديرا تأييد مؤتمر (آي) لحكومته الوليدة غير المستقرة.

وبدون تأييد مؤتمر (آي)، لم يكن تشاران سينج لينجح قط في تصويت طرح الثقة، فانتهت اللعبة بالنسبة لحزب جاناتا. وعليه في ٢٢ أغسطس عام ١٩٧٩، حل الرئيس البرلمان وأمر بعقد انتخابات جديدة في الأسبوع الأول من يناير عام ١٩٨٠. ظل تشاران سينج مؤقتًا القائم بمنصب رئيس الوزراء ولكن دون الحق في «اتخاذ أي قرار سياسي مهم».

ومن ثَم استعدت إنديرا للعودة.

fig29
إنديرا في محادثات مع رئيس الوزراء الروسي كوسيجين وليونيد بريجينيف في موسكو، حيث حصلت على تعهد من جانب روسيا بتوفير المساعدة الحربية في حالة دخول الهند في حرب مع باكستان بسبب بنجلاديش في سبتمبر عام ١٩٧١.
fig30
إنديرا مع سيد هارثا شانكار راي والشيخ مجيب الرحمن في مطار دلهي. حيث كان الشيخ متجهًا إلى دكا إثر إطلاق سراحه في باكستان لينصب أول رئيس وزراء لدولة بنجلاديش الناشئة.
fig31
بي إن هاكسار سكرتير إنديرا الأول وأهم مستشاريها.
fig32
إنديرا والقائد الباكستاني ذو الفقار علي بوتو يبدوان أكثر ودًّا مما كانا حقيقة في مؤتمر سيملا، في أعقاب الحرب الهندية الباكستانية في ديسمبر عام ١٩٧١.
fig33
إنديرا وسانجاي غاندي الذي انتخب عضوًا في البرلمان ممثلًا لدائرة راي باريلي بعد عودة إنديرا إلى السلطة رئيسة لوزراء الهند عام ١٩٨٠.
fig34
صورة رسمية لإنديرا وعائلتها التقطت عام ١٩٧٤. راجيف وسانجاي غاندي يقفان في الخلف، وفي الأمام سونيا وراهول وإنديرا وبريانكا ومانيكا.
fig35
إنديرا مع حفيدها فارون ومانيكا غاندي في الذكرى السنوية الأولى لوفاة سانجاي غاندي، التقطت عام ١٩٨١.
fig36
مارجريت ثاتشر وإنديرا أمام مقر رئيسة الوزراء البريطانية في ٢٢ مارس عام ١٩٨٢.
fig37
صورة لإنديرا مع حارسها الشخصي السيخي بينت سينج في لندن عام ١٩٨٠. بعد أربعة أعوام سيكون سينج أحد مغتاليها.
fig38
إنديرا محاطة بمجموعة من السيخ في جولة انتخابية قامت بها في ثمانينيات القرن العشرين.
fig39
إنديرا في كشمير قبل وفاتها بوقت قصير.
fig40
صورة لأفراد عائلة إنديرا راجيف وبريانكا وسونيا وراهول غاندي وهم يشهدون محرقة إنديرا الجنائزية في ٣ نوفمبر ١٩٨٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤