ضغط
كانت إنديرا في أمس الحاجة إلى بيت يئُويها هي وأسرتها. كانت قد عاشت في شارع سافدار جانج رود ثلاثة عشر عامًا منذ تنصيب شاستري لها وزيرة للإعلام والإذاعة عام ١٩٦٤. لكنها اضطرت لدى خروجها من السلطة إلى إخلاء مسكنها الحكومي. وترك نهرو لإنديرا منزل العائلة؛ منزل آناند بهافان الكائن في الله آباد. لكنها وهبت منزل آناند بهافان للأمة في عام ١٩٧٠، فصار شأنه شأن منزل تين مورتي متحفًا. لكن حتى لو ظل ذلك المنزل ملكًا لها، لم تكن لتستطيع تحمل تكاليف الإنفاق عليه وإدارة شئونه.
كانت لا تزال تملك الأرض التي اشتراها فيروز عام ١٩٥٩ في مهروال. بدأ راجيف بما ادخره من مال في بناء منزل للعائلة هناك، لكن أمواله نفدت في مسعاه إلى ذلك، وظل المنزل نصف مبنٍ. لكن إنديرا لم ترِد اعتزال الحياة بالذهاب إلى الريف. وقبل وفاة والدها بوقت قصير كانت تتمنى مغادرة الهند، واعتزال الحياة السياسية، وشراء شقة في لندن للإقامة خارج البلاد. وفي عام ١٩٧٧، بعد هزيمتها الانتخابية المخزية، لم تفكر في الانسحاب من الحياة العامة وإن فكرت في الذهاب في إجازة إلى كشمير. كانت لا تنتوي فحسب الإقامة في الهند، وإنما في نيودلهي، العاصمة التي تصنع فيها القرارات.
ولكن أين كانت ستسكن هي وعائلتها؟ أنقذها محمد يونس صديق عائلتها القديم؛ فأخلى لها منزله في العقار رقم ١٢ بشارع ويلينجدون كريسينت. تزوج سانجاي بمانيكا قبل ثلاثة أعوام. ولما كان ذلك المنزل أصغر من منزل شارع سافدار جانج رود (الذي جرى توسيعه ليسع راجيف وسانجاي وعائلتيهما). أجبرت ممتلكات ثلاثة عشر عامًا وأغراض خمسة أشخاص بالغين، وطفلين صغيرين وخمسة كلاب وصناديق وكتب وأوراق على التزاحم في مساحته الضيقة.
في ٢٣ مارس عام ١٩٧٧، أدى مورارجي ديساي قسم اليمين كرئيس الوزراء الرابع للهند، والأول لها من حزب غير المؤتمر. وكان مورارجي قد انتظر ثلاثة عشر عامًا لبلوغ السلطة بعدما اقترب منها عامي ١٩٦٤ و١٩٦٧. فلما أدركها أخيرًا في الواحدة والثمانين من العمر، عقد العزم على إذلال إنديرا واغتصاب عرشها. فأصر على الانتقال إلى منزلها، مع أنه لم يكن المقر الرسمي لرئيس الوزراء، بل منزل حكومي عادي من تلك التي تمنح لكبار المسئولين الحكوميين وأعضاء البرلمان. واحتله مع أسرته في عجلة لا تتناسب مع ما يقتضيه الذوق، ولم يغير فيه شيئًا سوى أن تخلص من حمامه الذي أقيم على النمط الغربي، وأبدله بحمام هندي، ومنطقة للاستحمام بالدلاء.
•••
وعد حزب جاناتا بإصلاح الفساد الذي أصاب الأمة إبان حالة الطوارئ. والحق أن حكومته ألغت بالفعل بعضًا من التعديلات الدستورية والقرارات التي أُقرت خلال العامين الماضيين. إلا أنها كانت حكومة تضم العديد من الشيع، والكثير من الطامحين في الوصول إلى منصب رئيس الوزراء، وقد عكف هؤلاء على التنافس على الوصول إلى السلطة، وهذا منع من تأديتها لوظائفها على الوجه المناسب. فقد أبقى صراع الأيديولوجيات والطموح على انقسام حزب جاناتا.
ذكر وزير الخارجية الهندي الجديد إيه بي فاجبايي أن حزب جاناتا «سيُودع إنديرا غاندي مزبلة التاريخ»، إلا أنه بدلًا من تناسيها بأي حال من الأحوال، جعلها القضية التي يجتمع عليها. فأعضاؤه على اختلافاتهم كديساي وجاجيفان رام وفاجبايي وتشاران سينج لم يتفقوا إلا على ضرورة الإيقاع بها، وتقديمها هي وابنها سانجاي إلى العدالة. وبدلًا من التباحث في أمر الهند، ركز الحزب على التباحث في أمر إنديرا.
انضمت الصحافة والإعلام إلى حزب جاناتا في الضغط على إنديرا. فبعد خسارتها في الانتخابات انتشرت صحافة شراء المعلومات. وصارت «فضائح إنديرا» موضوع الساعة حتى أضحت نيكسون الجديد، أو السياسي الذي يحب الجميع أن يكرهه. فحينئذٍ في مقابلات صحفية، عمدت الجرائد الوطنية إلى شراء الحقوق الحصرية لنشرها، المنشقون عن حزب المؤتمر «فضحوا كل شيء». وتنافست المجلات فيما بينها على نشر الفضائح الجديدة عن إنديرا وسانجاي. أما في الولايات المتحدة فقد عكف فيد ميهتا أشرس وأبرع نقاد إنديرا على نشر مقالات طويلة تشجبها في مجلة «نيو يوركر».
كما جرى على عجل طباعة سيل من الكتب المعادية لإنديرا. الكثير منها كتبه نفس من نشروا سابقًا أعمالًا تتناولها بالمديح. فالهجوم على إنديرا لم يعد حينئذٍ مأمونًا وحسب، وإنما صار كذلك الموضة الفكرية السائدة. وقد تراوحت تلك الكتب في أنواعها بين كتابات التعريض والنميمة التي تقرب في مستواها حد التفاهة والكتابات النقدية الفكرية الرفيعة. ومن أكثرها إثارة للجدل كتابا جاناردان ثاكور «أتباع رئيسة الوزراء»، و«إنديرا غاندي ولعبة السلطة»، وكتاب كولديب نايار «الحساب»، وكتاب «الوجهان المختلفان لإنديرا غاندي» لأوما فاسوديف، وأيضًا كتاب نايانترا ساهجال «إنديرا غاندي: طريق وصولها إلى السلطة». وظل الشاعر والكاتب دوم مورايس الذي عكف على كتابة سيرة إنديرا على ولائه لها، إلا أنه كان صوت الدفاع الوحيد عنها، فخوشوانت سينج على سبيل المثال انتظر آنذاك أن يصبح التيار السياسي حليفها من جديد قبل أن يصدر عام ١٩٧٩ كتابه في مديحها؛ كتاب «إنديرا غاندي تعود». من ناحية أخرى، آنذاك، في الثلاثة الأعوام التي أعقبت هزيمة إنديرا، في لندن، عكف روائي مغمور باسم سلمان رشدي على كتابة الأثر الوحيد الذي بقي في الأذهان من وحي حقبة حالة الطوارئ. إنها رواية «أطفال منتصف الليل»، تلك الرواية التي تفنن فيها سلمان رشدي في تصويره لإنديرا كشيطان، كأرملة متوحشة مفترسة. حتى إن الرواية فازت بجائزة بوكر عام ١٩٨٠.
•••
طوال صيف عام ١٩٧٧ تحاشت إنديرا جذب الانتباه في دلهي، فقد عكفت يوميًّا على الالتقاء بمحاميها استعدادًا للجنة شاه. لكن بعدئذٍ في يوليو، في قرية نائية ببيهار تدعى بيلتشي، ذبح الأرستقراطيون من ملاك الأراضي عددًا كبيرًا من الهاريجانيين. ولما لم يكن ببيلتشي وسائل اتصال، استغرقت أنباء ذلك العمل الوحشي عدة أيام في الوصول إلى دلهي. على أنها لما وصلت، فشلت حكومة حزب جاناتا في اتخاذ إجراء لمواجهتها، أما إنديرا فقد سافرت على الفور إلى بيلتشي مع مجموعة من أعضاء حزب المؤتمر المخلصين. وكانت تلك بمنزلة مغامرة نظرًا إلى أن ولاية بيهار تشتهر بطواف عصابات اللصوص المسلحة فيها، التي تسرق وفي بعض الأحيان تقتل المسافرين، وإنديرا لم يكن لديها حينذاك حرس شخصيون لحمايتها كما في السابق.
بدأت إنديرا رحلتها إلى بيلتشي في سيارة جيب، لكن عندما بدأ المطر يهطل، واستحال عبور الطريق، عمدت إلى استخدام جرار زراعي. ثم اضطرت في المرحلة الأخيرة من رحلتها إلى عبور منطقة غمرها الفيضان على ظهر فيل إلى أن بلغت آخر الأمر بيلتشي بعد حلول الظلام. دنا منها أهل القرية الذين ساورهم الخوف مذعورين حاملين مشاعل للرؤية. فلما تعرفوها رحبوا بها، وكأنها مخلصتهم وألقوا بأنفسهم عند قدميها. جاءت إنديرا إلى بيلتشي وهي على يقين تام بأنها ستكون فرصة لتحسين علاقاتها مع الشعب، والتحقق من احتمالات نجاحها إذا ما عادت إلى مسرح السياسة. غير أنها فور وصولها إلى هناك تأثرت بشدة بمشهد أهل القرية المعدمين الذين فُجعوا بفقد أحبائهم، والرماد الذي تجمع على المحرقة الجماعية حيث أحرقوا جثث قتلاهم من الأقارب والجيران.
صباح اليوم التالي، قصدت إنديرا باتنا عاصمة بيهار حيث لجأ عدوها القديم جي بي نارايان وأخذ الموت يزحف إليه ببطء. لما كانت إنديرا قد هُزمت وذلت سامحها الأخير. فبعد محادثة دارت بين الاثنين على انفراد لخمسين دقيقة وقفا معًا لالتقاط الصور. وقد كان التصالح مع نارايان خطوة سياسية بارعة، إلا أنه كان أيضًا لقاءً مفعمًا بالمشاعر لكليهما، أعاد أيام حياة نهرو والوقت الذي كانت فيه زوجة نارايان وكامالا نهرو صديقتين حميمتين.
بعد زيارة إنديرا الناجحة إلى بيلتشي وراي باريلي، شعر حزب جاناتا بالخطر. فقد كان القصد من تأليف لجنة شاه التي أوشكت آنذاك على الخضوع لتحقيقاتها هو إدانة إنديرا، لكن الحشود حينئذٍ أخذت تمجد إنديرا من جديد. لذا كان لا بد من اتخاذ إجراء ما. وعليه في ١٥ أغسطس عام ١٩٧٧، في عيد الاستقلال الهندي اعتُقل آر كيه دهاوان مساعد إنديرا المخلص. كما اعتُقل أيضًا مدير حملتها الانتخابية السابق ياشبال كابور، وأمين صندوق حزب المؤتمر بي سي سيثي، ووزير الدفاع السابق؛ وبطانة السوء لسانجاي بانسي لال. واعتقل كذلك إتش آر جوكهالي وزير القانون السابق، ووزيران آخران من مجلس الوزراء السابق قبل نهاية الشهر، فضاق الخناق على إنديرا.
منذ البداية أدار القاضي شاه مسرح تحقيقاته الفردية وكأنه يدير محكمة من محاكم الشعب الصينية. ففي محكمة باتيالا حيث أقيمت جلسات التحقيق اتسم المناخ بالمعاداة الصارخة. وامتلأت المحكمة عن آخرها بحضور بلغ عددهم مائتي شخص، هتفوا عاليًا لتصريحات جانب الادعاء واتهاماته، وأطلقوا صيحات الاستهجان في كل محاولة لجانب الدفاع. وأذاعت مكبرات الصوت الشهادات والضجة التي جرت داخل قاعة المحكمة إلى خارجها. كما سُجلت وقائع التحقيقات على الشرائط.
مع أن إنديرا استُدعيت في آخر الأمر للمثول أمام القاضي شاه، إلا أنها تمكنت من تفادي حضور جلسات التحقيقات لعدة شهور. أما سانجاي فلم يستطع التهرب من الإدلاء بشهادته؛ وصار حضوره المتكرر لجلسات التحقيقات مشهدًا مسرحيًّا مثيرًا. فلدى دخوله محكمة باتيالا، قوبل بصيحات الاستهجان وغيرها من صور الإساءة اللفظية. وفي الكثير من الأحيان تبادل المعادون له من الحضور قذف المقاعد الحديدية عبر القاعة مع مؤيديه واشتبكوا في عراك جسدي بعضهم مع بعض.
استمرت جلسات التحقيقات طوال فصلي الربيع والخريف، وأدلى فيها المئات بشهاداتهم. وقدمت أطراف لعبت دورًا أساسيًّا إبان حالة الطوارئ كسيدهارثا شانكار راي شهادات مكتوبة. ومع أن الجلسات لم تبث تليفزيونيًّا كوقائع تحقيقات فضيحة ووترجيت التي وقعت قبل ثلاث سنوات، إلا أنها اتسمت بطابع مشوق جدًّا، وجذبت الانتباه العام.
أحد أول الشهود في جلسات التحقيقات كان جاجموهان المسئول عن أعمال الإزالة التي تمت عند بوابة تركمان وغيرها من مواقع عمليات الإزالة التي تمت إبان حالة الطوارئ. ولكون ذلك الأخير فطريًّا يميل إلى الاسترسال، قدَّم شهادة مملة ومزعجة للغاية عندما صعد إلى منصة الشهادة. فردًّا على استجواب القاضي شاه له عكف على الإدلاء ﺑ «آرائه المتواضعة» وتقديم الشروح الطويلة المملة في محاولة يائسة لنقل ما أسماه ﺑ «الصورة الصحيحة» لجميع الإنجازات التي تمت في دلهي إبان حالة الطوارئ. فاضطر القاضي شاه مرارًا إلى تحذيره من الإطالة.
أما نافين تشاولا فعلى العكس، كان أداؤه على منصة الشهادة يشبه أداء كبار نجوم المسرح، فقد تحدث بأسلوب لبق وفصيح ومؤثر، ولكن بمنطق لا يقبل التصديق على الإطلاق. فشأنه شأن الكثيرين ممن أدلوا بشهادتهم أمام القاضي شاه، تذرع بعدم علمه بأعمال الإزالة. وادعى أنه لم يكن شريكًا فيها، وزعم أن جاجموهان ومن تحته من العاملين لم يتصرفوا بناءً على أوامر رئيسه نائب حاكم دلهي كيشان تشاند. وأكد أيضًا أن علاقته الشخصية الطويلة بسانجاي لم تؤثر على عمله كسكرتير تشاند. فهنأه شاه بنبرة تملؤها السخرية على «قدرته على الفصل بين الأمور».
طوال جلسات تحقيقات لجنة شاه، حاول القاضي شاه جاهدًا أن يضع يده على الشخصية الأساسية التي تقف خلف تلك الوقائع الشديدة الدرامية، ألا وهي إنديرا غاندي. أراد أن يستجوبها في إحدى عشرة نقطة بالتحديد، من بينها تعيين بعض القضاة والمحافظين على البنك المركزي، والأحداث التي وقعت بين ١٢ و٢٢ من يونيو، والاعتقالات التي تمت في ليلة ٢٦ من يونيو عام ١٩٧٦.
بناءً على مشورة محاميها فرانك أنتوني أرجأت إنديرا في بادئ الأمر حضور تحقيقات لجنة شاه. وعللت لذلك بأن اللجنة لا تتبع الإجراءات الدستورية والقانونية، وأوضحت أنها تحرمها فرصة استجواب من شهدوا ضدها. وبعدئذٍ، أصدرت بيانًا علنيًّا تذكر فيه أنها لن تمثل أمام لجنة شاه إلا «بما يتفق مع القانون» وفقط في حال إعطائها حرية إبراز دلائل براءتها والاستعانة بمحاميها واستجواب من أطلقوا الادعاءات عليها. فاستطاعت أن تفلت من قبضة شاه لبعض الوقت.
وبعدما سُنح للمصورين التقاط الصور، مضت سيارة مكتب الاستخبارات المركزية بإنديرا وفي إثرها موكب صغير من السيارات التي تحمل ابني الأخيرة، وزوجتيهما ومحامييها والعديد من المؤيدين والصحفيين. وواصلت السير في اتجاه ولاية هارايانا المجاورة لدلهي، إلا أنها عندما وصلت إلى إحدى نقاط عبور خطوط السكك الحديدية في ضواحي دلهي اعترض طريقها قطاران طويلان لنقل البريد، الأمر الذي اضطرها إلى التوقف ما لا يقل عن ثلاثين دقيقة. فسمح الضابطان لإنديرا بمغادرة السيارة والبقاء خارجها أثناء توقفها. فجلست على الأرض ينصحها محاموها بأن ترفض مغادرة حدود دلهي ومن حولها حشد من الناس. وبعدها اندلع شجار صاخب بين ضابطي مكتب الاستخبارات المركزية ومحامي إنديرا ومؤيديها جلست فيه الأخيرة أرضًا في صمت فيما أخذ مصورو الصحف يلتقطون المزيد من الصور لها. فلما انتهى قطارا البريد من العبور أخيرًا حُملت السيارة إنديرا إلى الحاجز الأمني لدلهي، حيث حياها رجال الشرطة بكياسة ثم أودعوها السجن. وهناك رفضت إنديرا تناول الطعام الذي قُدم لها، وعكفت على قراءة رواية جلبتها معها ساعة أو نحو ذلك ثم نامت طوال الليل نومًا عميقًا.
هؤلاء الذين لم يكونوا هناك ضموا نسبة كبيرة من قيادات حزب المؤتمر. فبعد هزيمة إنديرا تخلَّى عنها ممتدحها القديم، مبتكر شعار (إنديرا هي الهند والهند هي إنديرا) ديف كانتا بارواه. من ناحية أخرى تجنبها رئيس حزب المؤتمر الجديد براهماناندا ريدي. وبخلافه رأى آخرون أن العهد القادم لن يكون عهدها. وعليه في يوم رأس السنة عام ١٩٧٨ شهد حزب المؤتمر انقسامًا للمرة الثانية. وذلك الانقسام — شأنه شأن الذي شهده عام ١٩٦٩ — دفعت إليه إنديرا. فألفت مع أتباعها حزب مؤتمر (آي) (حرف الآي يرمز على إنديرا نفسها). وفتح هذا الباب لنبذ حزبها رسميًّا، فاختار سبعون عضوًا من حزب المؤتمر أن ينضموا إليها، مخلفين بذلك ستة وسبعين عضوًا برلمانيًّا فيما تبقى من حزب المؤتمر القديم الذي تولى زعامته سواران سينج، وصار يعرف بمؤتمر (إس). كان من بين من تخلوا عن إنديرا حينذاك وزير الصحة السابق في حكومتها كاران سينج، وسوبهادرا جوشي التي عملت إلى جانبها في مخيمات اللاجئين إبان تقسيم الهند. آنذاك تنازع حزب إنديرا وحزب مؤتمر (إس) أيهما يحتفظ برمز الحزب (وهو عبارة عن بقرة وصغيرها). فخسر حزب إنديرا النزاع، إلا أن تلك الخسارة — كما يتضح بالرجوع إلى الماضي، والنظر إلى تشبيه النقاد لها وابنها برمز الحزب — كانت من صروف الحظ السعيد. ففيما احتفظ مؤتمر (إس) برمز البقرة وصغيرها تبنت هي رمزًا أفضل عبارة عن كف مفتوح.
لم تُضطر إنديرا إلى حضور جلسات لجنة شاه في محكمة باتيالا بدلهي والالتقاء وجهًا لوجه بمحققها الصارم جي سي شاه إلا عندما صدرت مذكرة استدعاء لها في ٩ يناير عام ١٩٨٧؛ أي بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على بدء جلسات تحقيقات اللجنة. غير أنها وإن كانت قد مثلت أمام المحكمة، رفضت أن تنبس ببنت شفة فيها. فقد نهض محاميها فرانك أنتوني يحتج بأنها حضرت لتتعرض للهجوم لا لإلقاء شهادتها، وأنها ترفض استجوابها أو تقديم أي تصريح مكتوب. فأمر شاه إنديرا بالمثول أمام المحكمة اليوم التالي.
- (١)
إن لجنة شاه باطلة.
- (٢)
إن الصحف نشرت سردًا محرفًا لوقائع الجلسات.
- (٣)
إن صلاحيات واختصاصات اللجنة غير واضحة.
- (٤)
إن اللجنة عجزت عن التحري عن الظروف التي سبقت إعلان حالة الطوارئ والصورة التي نُصح بها الرئيس بإعلانها.
- (٥)
إن السيدة غاندي حُرمت من الاطلاع على سلوك الشهود ومدى شرعية الإجراءات التي تتَّبعها جلسات التحقيق.
- (٦)
إنه من المفترض أن يتواجد محققون لاستجواب الشهود.
فرفض شاه جميع هذه النقاط، وأمر فرانك أنتوني وموكلته بالمثول أمام المحكمة مجددًا اليوم التالي.
في ١١ يناير، تمسكت إنديرا برفض التعاون مع التحقيق، وأخذ فرانك أنتوني يكرر النقاط التي عرضها اليوم السابق. حتى ضاق شاه ذرعًا في آخر الأمر، وخاطب إنديرا مباشرةً:
شاه: «سيدة غاندي، هلا أتيت إلى هنا من فضلك؟»
فسارت إنديرا إلى مذياع يقف أمامه أنتوني. وقال شاه: «أريد أن أعرف هل تنوين الإدلاء بإفادة؟»
فأجابته إنديرا: «قلت لتوي إنني غير ملزمة قانونًا بذلك.»
فازدادت نبرة شاه حدة وهو يقول: «هل أنت راغبة في ذلك؟»
فقالت بهدوء: «أنا أرفض.»
وبعدما صمتت لبرهة، أضافت: «أنا ملزمة بقسم السرية ألا أدلي بأي معلومات.» ثم عادت إلى مقعدها، وقالت قبل أن تجلس: «كما أنني غير ملزمة دستوريًّا.»
فعلَت نبرة شاه. قال: «قولي هذا لقاضي محكمة الجنح.» وأخذ يملي أمرًا برفع شكوى رسمية لدى أحد قضاة محكمة الجنح تطالب بإقامة دعوى ضد إنديرا.
عند تلك المرحلة، أثارت إنديرا قضية بدت أنها ليست ذات صلة. فقالت لشاه إنها عندما أثارت قضية تأميم البنوك عام ١٩٦٩، وُسم ذلك الإجراء في بعض الأنحاء بأنه غير دستوري، وصدر طلب بدفع تعويضات سخية لأصحاب البنوك والمساهمين فيها. وهو ما ولد — كما قالت إنديرا تذكر شاه — غضبًا عارمًا، وأدى إلى صياغة عريضة تدعي أن بعض أعضاء النظام القضائي الذين سيعانون في حال تأميم البنوك كانوا وراء حملة مناوءة التأميم. وتلك العريضة طالبت بإجراء تحقيق رفضت إنديرا السماح به.
قالت إنديرا لشاه: «كرئيسة وزراء، منعتُها (العريضة) للدفاع عن كرامة النظام القضائي. لقد أرسل مائتا عضو برلماني من بينهم وزراء الآن من حزب جاناتا مذكرة تطالب بتوجيه اتهام للقضاة، من جديد أنا منعتها.»
كان القليل فقط من الحضور بداخل قاعة التحقيق المزدحمة سيصل إلى ما ترمي إليه إنديرا لولا أن شاه قاطعها قائلًا: «لم أكن قط صاحب أسهم في أي بنك … البعض ادعى ذلك. لكنه ادعاء كاذب.»
فردت إنديرا عليه بهدوء: «أنا لا أشير إليك على الإطلاق.»
بعد هذا النصر عندما مثلت إنديرا للمرة الأخيرة أمام القاضي شاه في ١٩ من يناير، فقد الأمر إثارته. فمن جديد رفضت إنديرا الذهاب إلى مقصورة الشهود، وأصرت على أنها غير ملزمة قانونيًّا أو دستوريًّا بذلك. وانتهت جلسات تحقيق لجنة شاه في آخر الأمر بعد شهر في ٢٠ فبراير عام ١٩٧٨.
•••
بعدما حضرت إنديرا جلسات لجنة شاه أخذت تسعى إلى الترويج لنفسها ولحزبها الجديد المؤتمر (آي). فقصدت الزاهد فينوبا بهافي — أحد آخر من تبقوا من تلاميذ غاندي — لزيارته في أشرمه في واردها بماهاراشترا. كان الأخير قد أيد جي بي نارايان وثورته الشاملة قبل حالة الطوارئ وأُغير على منزله إبانها. دل استقباله الحار لها بقوة على اتساع دائرة قبولها من جديد.
عندما وصل تشاتوين وآرنولد إلى كاليكوت، مر كلاهما «بمراحل تقلبا فيها» بين «محبة إنديرا وكراهيتها». لقد توقعا لدى مجيئهما إلى الهند ألا يجدا سوى ما يثير كراهيتهما لها، لكنها أذهلتهما. فعندما أصيب تشاتوين في أنفه جراء زجاجة ألقاها شخص عدائي على موكب إنديرا. سألته الأخيرة تطمئن عليه لما انتبهت إلى إصابته (التي لم تلحظْها إلا لدى وصولهم إلى احتشاد كان من المقرر أن تخطب فيه؛ لأنها ركبت في سيارة أخرى في الموكب). قالت: «سيد تشاتوين! ماذا أصابك بحق السماء؟» فلما شرح لها تشاتوين الأمر، أجابته: «هذا ما يحدث لمن يتبعني.»
كان تقرير لجنة شاه رغم الضجة التي صاحبت صدوره مخيبًا للآمال. فلم يتناول إلا جزءًا صغيرًا من مجموع الوقائع التي جرت في جلسات لجنة شاه، ولم يصل مجموع صفحات مجلداته الثلاث إلا إلى خمسمائة صفحة من عمودين. هذا فضلًا على أنه نتيجة لنظم تراكيبه اللغوية بعشوائية، وصياغته بلغة القانون الإنجليزية التي تتسم بالتطويل، حفل بالأخطاء النحوية والعبارات الاصطلاحية الغريبة. إلا أنه مع ذلك يظل السجل الرسمي الوحيد لحالة الطوارئ نظرًا لاختفاء الشرائط التي سجلت الوقائع الكاملة لجلسات لجنة شاه التحقيقية.
إن نشر تقرير شاه على ثلاثة أجزاء كان من شأنه حتمًا أن يولد آمالًا كاذبة. فعندما فشل المجلد الأول من التقرير في إحداث ضجة، انتظر الكل أن يفجر المجلد الثاني «قنبلة». لكن لما فشل ذلك بدوره في ذلك، تعلقت الآمال بالمجلد الثالث الذي كان الأطول بين ثلاثة المجلدات، ولكنه ممل كسابقيه بالضبط، فلما كانت الشائعات و«الفضائح» أكثر إثارة بكثير من واقع حالة الطوارئ الذي يبدو في كثير من الأحيان موضوعًا غير مشوق. ضاعفت وسائل الإعلام ومجالس النميمة السياسية في دلهي الأرقام التي توصلت إليها التحقيقات لكل جريمة، أو انتهاك أو اعتقال أو فرض رقابي أو عنف أو قتل أبلغ عنه ثلاث مرات أو أكثر.
لم يكن تقرير لجنة شاه في واقعه أكثر من ملخص مقبض للصدر، خالٍ من المفاجآت، يوجز أحكامًا سبق إليها جي سي شاه دون تفكير ركونًا إلى الأدلة التي قُدمت له أثناء جلسات التحقيقات، ثم حشاها بمقتطفات مختارة من أقوال الشهود، ليجعل التقرير يبدو طويلًا. لقد بدا واضحًا أنه عبارة عن شرح غير موضوعي إلى حد كبير للأدلة التي قدمت. وتحامل كاتبه وغرضه بيِّنان. فهو يصرح حقيقة أن جلسات التحقيقات لم يكن القصد منها قط أن تكون تحقيقات حقيقية أو موضوعية يُتحرى فيها عن المساوئ والأعمال المحظورة والجرائم التي ارتكبت إبان حالة الطوارئ. لقد كان شاه تابعًا لحزب جاناتا، ولجنته وتقريره كانا بالدرجة الأولى للدعاية لذلك الحزب. فالأبطال الوحيدون في تقرير لجنة شاه هم جيش من الأشرار والحمقى. كان الشرير الرئيسي فيهم — وهو إنديرا غاندي — يراوغ بعناد بين صفحات التقرير فيما يطارده شاه.
•••
أُحبط ديساي عندما ارتد عليه اعتقال إنديرا. ولما لم يكن برغم النتائج التي أعلنتها لجنة شاه على استعداد للمخاطرة بسجنها من جديد. عنى هذا أنها لبعض الوقت — إلى أن يتخذ حزب جاناتا التدابير القانونية لإدانتها — في مأمن من الناحية القانونية. غير أنها مع تجوالها في أنحاء البلاد ومرور الوقت ازدادت شعبية بين العامة، فتجاهلت الصحافة والشعب جهود حزب جاناتا للضغط.
مع إطلاق سراح سانجاي من السجن في أواخر يونيو حسمت إنديرا أمرها بالترشح لعضوية البرلمان من جديد. وقد كانت قبل ذلك سافرت إلى الكثير من أنحاء الهند ولاقت في زياراتها — باستثناء بعض الحالات — استقبالًا حارًّا، خاصة بين فقراء أهل القرى (الذين يمثلون الغالبية العظمى من ناخبي الهند). وقطعت شوطًا كبيرًا في مسعاها إلى العودة سياسيًّا إلى قلوب عامة الناس، مع أن الصحفيين والمثقفين وحزب جاناتا ظلوا عازمين على تدميرها. هذا لأن الذكريات الطويلة التي يختزنها العامة عنها وعن أبيها كانت حية في النفوس تذكر فضلهما، فيما أن الأحداث الأخيرة التي وقعت إبان الواحد والعشرين شهرًا التي امتدت فيها حالة الطوارئ بدت آنذاك وكأنها زلات.
وأبدى العاملون أمام مرءوسيهم ثقتهم بإنديرا في جميع أنحاء البلاد. وأفصح سائقو عربات الريكاشة والكناسون والتجار على الأرصفة بدورهم عن ذلك. واتضح في نهاية المطاف للنخبة المثقفة أن موجة تأييد حقيقية لإنديرا قادمة.
سهل عدم كفاءة حزب جاناتا قدوم تلك الموجة. ففي الواقع شعر الكثيرون آنذاك بالحنين إلى أيام حالة الطوارئ «الخوالي الطيبة» والنظام الذي ساد إبانها. فقد فتح حزب جاناتا السجون وأطلق سراح المهربين والغوغاء ومبتزي الأموال الذين سُجنوا إبان حالة الطوارئ. وارتفعت الأسعار، وتزايد العنف الطائفي خاصةً تجاه الهاريجانيين. وفي غمرة كل ذلك، أوشكت حكومة حزب جاناتا الائتلافية على الانهيار. فعلى رأسها تنازع ديساي وتشاران سينج وزير الداخلية الذي أراد أن يحل محل الأول رئيسًا للوزراء. ولم يعد جي بي نارايان الذي أنهكه المرض وأشرف على الموت في باتنا حيث تقاعد قادرًا على حفظ تماسك الحزب.
في الوقت الذي أخذ فيه حزب جاناتا يدمر نفسه بنفسه، شرعت إنديرا في تعزيز موقفها. ففي يوليو عام ١٩٧٨، أجرت مقابلة صحفية طويلة مع باحثة أمريكية تدعى ماري كاراس كانت تكتب سيرتها، وقد تمرست بحلول ذلك الوقت على الرد على الأسئلة فيما يتعلق بحالة الطوارئ وهزيمتها في انتخابات عام ١٩٧٧، وأدركت أن ماري كاراس ستخدم كأداة مناسبة للتعبير عن آرائها.
استعرضت المقابلة الصحفية في أغلبها نقاطًا لم تستغربها إنديرا. فأوضحت فيها أنها فرضت حالة الطوارئ لإنقاذ البلاد من الوقوع في «الفوضى»، وأنها لم تستشر مجلس الوزراء قبل إعلان حالة الطوارئ خشية تسرب خبره، وأنه لا مجال لإنكار أن بعض الأشياء قد «خرجت بالفعل عن السيطرة بعض الشيء» إبان حالة الطوارئ، إلا أنها أضافت أن ما نقل عن الاعتداءات التي وقعت — وبصفة خاصة فيما يتعلق ببرنامج التعقيم — مبالغ فيه تمامًا. كما بينت أنها خسرت انتخابات عام ١٩٧٧ لأنها «تسببت في الضيق» لبعض القطاعات في المجتمع، ولأن حزب جاناتا «حظي بالكثير من المساعدة الخارجية … فالحركة المناوئة لنا نظمتها قوى خارجية».
الأخطاء التي اعترفت بها إنديرا من حين لآخر — مثل قولها «إن بعض الأشياء خرجت عن السيطرة بعض الشيء»، وأنها «تسببت في الضيق لبعض قطاعات المجتمع» — أقرت بها بناءً على دراسة، بكل ما في الكلمة من معنًى. فقد فطنت إلى أنها ستسترد اعتبارها في وقت أقرب لو تحملت جزءًا من الذنب. لذا اعتذرت قبل الآن عن بعض «الجوانب السيئة في حالة الطوارئ». والآن اعترفت بأنه من المحتمل أن إسكات الصحافة كان «إجراءً مبالغًا فيه»، وبأن «بعض رؤساء حكوماتنا اعتقلوا الناس بلا سبب على الإطلاق، أعني ليس لسبب إلا العداوة الشخصية». لكنها زعمت أنه «باستثناء اعتقال الشخصيات السياسية وفرض الرقابة على الصحافة، لم يكن هناك خروج عن الطبيعي في الكثير من الأمور … في حادثة بوابة تركمان قُتل ستة أشخاص، جميعهم من خارج المنطقة». فما كان من كاراس إلا أن قالت بسخرية مريرة: «إذن، ببساطة كان ذلك ضربًا من ضروب العنف العادية.» فأجابت إنديرا تدافع عن موقفها بكذبة صارخة: «لم يكن هناك عنف، فقط حالة أو حالتان استثنائيتان.»
•••
في نوفمبر عام ١٩٧٨، عندما ترشحت إنديرا في إحدى الانتخابات الفرعية لتمثيل دائرة تشيكماجلور الريفية في جنوب ولاية كارناتاكا. عادت رسميًّا إلى عالم السياسة. تلك الدائرة كانت الأمثل لها، فقد مثلت النساء ٥٠٪ من الناخبين، في حين مثلت الأقليات والطوائف الصغيرة أو المنبوذة ٤٥٪ من مجموعهم، وعاش ما يقرب من نصف سكانها تحت خط الفقر. هذا فضلًا على أنها كانت قاعدة دعم لحزب المؤتمر؛ تنحى فيها ممثلها دي بي تشاندريجاودا — وهو أحد أعضاء حزب المؤتمر الذين شغلوا منصبًا قياديًّا فترة طويلة في ولاية كارناتاكا — لإنديرا عن منصبه. فأرسل حزب جاناتا وزير الصناعة جورج فيرنانديز ليقود زمام الحرب ضدها هناك. وذلك الأخير — وهو أحد قادة حزب جاناتا الذين يتمتعون بالشعبية، وأحد القلائل الذين يملكون أوراق قوة فيه كونه يساريًّا — أدار الحملات الانتخابية بنشاط لمصلحة خصم إنديرا فيريندرا باتيل رئيس الحكومة السابق لولاية كارناتاكا. فتوقع الكل أن يربح باتيل. غير أن الحشود التي أتت لسماع إنديرا أظهرت الكثير من الحماس والاحترام لها، وفاقت عددًا تلك التي قدمت لسماع باتيل وفيرنانديز بكثير. فتكرر سيناريو الأم إنديرا من جديد. ومع ما توقعته الصحف، فازت إنديرا بفارق كبير يبلغ ٧٠ ألف صوت.
•••
تعود صداقة إنديرا بسوراج إلى عام ١٩٦٦، وقتما كانت ابنته تعالج من مرض سرطان الدم في لندن. أراد سوراج أن يزور أبناؤه الآخرون أختهم لكن هؤلاء — مع المكانة التي كان سوراج قد صنعها لنفسه كرجل أعمال دولي آنذاك — لم يستطيعوا الحصول على إذن حكومي بالسفر خارج الهند، وظلوا بها. كان ضروريًّا في منتصف الستينيات الحصول على ذلك الإذن. كاتب بول إنديرا يطلب منها المساعدة مع أنه لم يكن قد التقى بها سوى مرة أو اثنتين. فحصل على الإذن الضروري لسفر أبنائه جوًّا في غضون يومين.
لكن طوال زيارتها لإنجلترا لم تنفك المفوضية الهندية العليا عن الإعراب عن استيائها، خاصة عندما التقت بأعلام السياسيين هناك. أما موراجي ديساي وحكومة حزب جاناتا في نيودلهي فقد استشاطا غضبًا من الاستقبال الحافل الذي حظيت به.
وفي الوقت الذي عكفت فيه إنديرا على إحياء مكانتها الدولية في لندن، في الهند قام حزب جاناتا بمحاولة يائسة أخيرة للإيقاع بها. فبعد وقت قصير من عودتها إلى دلهي في ديسمبر عام ١٩٧٨، اتهمتها لجنة الحصانة البرلمانية بمنع أربعة من المسئولين من إجراء تحقيقات عن شركة ماروتي المحدودة المسئولية. وصدر في ١٩ ديسمبر قرار في البرلمان ﺑ «اعتقالها لحين انقطاع جلسات مجلس النواب، وطردها من المجلس لانتهاكها الحصانة البرلمانية انتهاكًا خطيرًا، وعصيانها أوامر المجلس.»
بحلول الوقت الذي طُردت فيه إنديرا من البرلمان، كان ديساي قد نجح في استصدار قرار بتأسيس محكمة خاصة لمحاكمتها هي وسانجاي غاندي. وبعد وقت قصير من طردها من البرلمان وخروجها منه خروجًا دراميًّا، اعتُقلت وأُرسلت إلى سجن طهار حيث أودعت وحدها ثكنة في نفس مجمع السجون الذي احتجز فيه جورج فيرنانديز إبان حالة الطوارئ. واضطلعت سونيا غاندي بإحضار كل الوجبات لها من المنزل. لكن بعدئذٍ في ٢٦ ديسمبر، بعد أسبوع واحد من احتجازها، أُطلق سراحها.
غير أن أعداءها في أوائل عام ١٩٧٩، عكفوا بأنفسهم على مقاتلة أنفسهم وتدميرها بصورة جنونية. فقد تنازع ديساي وتشاران من جديد. واتُّهم ابن الأول كانتيلال بعقد صفقات احتيال واقتراف غيرها من المفاسد. التُقطت صور — حصلت عليها مانيكا غاندي ونشرتها في مجلة «سوريا» التي أنشأتها وتولت رئاسة تحريرها بمساعدة الصحفي خوشوانوت سينج صديق عائلة غاندي — لابن جاجيفان رام وهو رجل متزوج في الأربعين من عمره وهو في وضع جنسي مع مراهقة جامعية شابة تشارك معها علاقة غرامية؛ فأضحت فكرة مقاضاة سانجاي غاندي بديهيًّا سخيفة.
لكن مع ما اقترفه ابنا ديساي ورام، ظل موقف سانجاي خطيرًا، وكانت إنديرا متخوفة بشدة مما قد يفعله حزب جاناتا به. في الواقع رفعت حكومة حزب جاناتا في فترة العامين ونصف العام التي شغلت فيها السلطة ما لا يقل عن خمس وثلاثين دعوى جنائية ضد سانجاي. وفي ٢٧ فبراير عام ١٩٧٩، حُكم بسجنه هو وفي سي شوكلا عامين ودفع غرامة باهظة لتدميرهما فيلمًا سياسيًّا ساخرًا بعنوان «كرسي العرش»، وهو فيلم ينقد فترة حالة الطوارئ نقدًا لاذعًا. لقد أُطلق سراح سانجاي وشوكلا بكفالة فيما بعد، وأتيح لهما بالطبع الطعن في الحكم الصادر ضدهما، إلا أن ذلك كان من المحتمل أن يستغرق وقتًا طويلًا في المحاكم الهندية.
•••
•••
•••
في ٣١ مايو عام ١٩٧٩، أدين سانجاي وبعض من شركائه في شركة ماروتي المحدودة المسئولية بعقد صفقات تجارية غير قانونية. لكن في ١١ يوليو، قبل اتخاذ المزيد من الإجراءات القانونية تجاهه أو تجاه إنديرا، توقفت فصائل حزب جاناتا المتنازعة تمامًا عن تصنع التعاون. وقدم واي بي تشافان اقتراحًا بحجب الثقة عن موراجي ديساي. وهو الأمر الذي أدى إلى إسقاط الحكومة. وعليه في ١٥ يوليو قدم موراجي ديساي استقالته، وألف تشاران سينج حكومة جديدة. المثير للعجب هو أن ذلك الأخير وصل إلى السلطة بمساعدة مؤتمر (آي)، مع أنه لم ينفك عن محاولة الثأر من إنديرا؛ لقد عكف سينج على استرضاء مؤتمر (آي) منذ نزاعه مع ديساي. وتأييد إنديرا له تفاوض على شروطه سانجاي الذي حث إنديرا على التحالف مع عدوها والعفو عما سلف من أجل العودة سياسيًّا.
غير أن تشاران سينج اضطر قبل أن يصبح رئيس الوزراء إلى الخضوع لتصويت طرح ثقة في المجلس الأدنى من البرلمان. وعندئذٍ في اللحظة الحاسمة، اشترطت إنديرا إلغاء قرار تأسيس المحكمة الخاصة — الذي أصدره ديساي لمحاكمتها على «الجرائم التي ارتكبت إبان حالة الطوارئ» — لتستمر في مساعدة سينج. رفض ذلك الأخير تناسي القرار، وعليه سحبت إنديرا تأييد مؤتمر (آي) لحكومته الوليدة غير المستقرة.
وبدون تأييد مؤتمر (آي)، لم يكن تشاران سينج لينجح قط في تصويت طرح الثقة، فانتهت اللعبة بالنسبة لحزب جاناتا. وعليه في ٢٢ أغسطس عام ١٩٧٩، حل الرئيس البرلمان وأمر بعقد انتخابات جديدة في الأسبوع الأول من يناير عام ١٩٨٠. ظل تشاران سينج مؤقتًا القائم بمنصب رئيس الوزراء ولكن دون الحق في «اتخاذ أي قرار سياسي مهم».
ومن ثَم استعدت إنديرا للعودة.