الفصل العشرون

مذبحة أمريتسار من جديد

في دلهي، في ديسمبر عام ١٩٨٢، افتتح فيلم «غاندي» للمخرج ريتشارد أتينبورو مصحوبًا — على حد وصف إنديرا لدوروثي نورمان في رسالتها — «بضجة كبيرة». لم تكن إنديرا متأكدة من أن الفيلم أعجبها، فقد ذكرت لدوروثي نورمان أنه «مؤثر» إلا أنها أسفت … على أنه لم يلهم … أي مخرج أفلام هندي. رأت إنديرا أن فيلم أتينبورو قدم «عرضًا مؤثرًا» صُور فيه غاندي على أنه «نجم … ومُخلص، لا يسمو في عظمته عما كان غاندي، بل يقل حقيقةً». في الواقع، «أبخس» الفيلم غاندي قدره.1

في الوقت الذي عكف فيه مخرجو الأفلام على التغيير من شكل ماضي الهند لترفيه العامة، بدا أن حاضر الهند بدوره يتحول شيئًا فشيئًا إلى شريط سينمائي؛ ففي المقابلات الصحفية على شاشات التليفزيون. على مرأى من العالم، ألقى بندرنواله المتطرف الكاريزماتي الخطابات الدينية داعيًا إلى انفصال السيخ ملوحًا بمدفع الستين. وفي فبراير عام ١٩٨٣، أمام الآلاف في بلدة مليئة بالتراب تدعى بهيند في مادهيا براديش استسلمت أكبر مجرمة مطلوبة للعدالة؛ فولان ديفي التي عُرفت باسم بانديت كوين (ملكة اللصوص). فتحولت قصتها في غضون أعوام قليلة إلى فيلم شهير عالميًّا، انتخبت بعده فولان ديفي رغم سجلها الإجرامي وأميتها عضوًا في البرلمان.

عكس تحول فولان ديفي من مجرمة إلى رمز من رموز السينما والسياسة السهولة التي يمكن أن يصل بها شخص سيئ السمعة إلى النفوذ. رواد الأفلام الذين يمثلون نسبة كبيرة من الشعب الهندي يعشقون نجوم التليفزيون والسينما. فالأفلام الهندية الشهيرة على حد قول المؤرخ طارق علي بمنزلة: «أفيون سينمائي … يقدسه العامة».2 ونجم الأفلام الهندي الذي يقرر دخول عالم السياسة، يجد له فورًا جمهورًا من الناخبين. فمثلًا في عام ١٩٧٧، قبل ثلاثة أعوام من صعود رونالد ريجان إلى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، انتُخب نجم أفلام هندي من جنوب الهند يدعى إم جي راماشاندران رئيسًا لحكومة ولاية تاميل نادو. ذلك الأخير الذي عُرف بإم جي آر تخصص في لعب دور الأبطال الشهيرين الأسطوريين الخارقين. فافترض الناخبون أنه سيقوم بنفس الدور البطولي كسياسي. غير أن بطولات إم جي آر في أفلامه لم تتكرر في منصبه، وأحوال الطبقات والطوائف الدنيا التي منحته أصواتها ساءت بصورة ملموسة إبان ولايته التي دامت عشرة أعوام. لكنه مع فشله ظل معشوقًا حتى إن جنازته عام ١٩٨٧ كانت «مشهدًا مأساويًّا»؛ حضرها الآلاف من بينهم واحد وثلاثون تابعًا مخلصًا له قتلوا أنفسهم بأنفسهم على مرأى من الناس.3
في يناير عام ١٩٨٣، في انتخابات المجالس التشريعية بولاية أندرا براديش هَزم نجم سينمائي آخر يدعى إن تي راماريو — عُرف باسم إن تي آر — مع حزبه الجديد؛ حزب تيلوجو ديسام حزب المؤتمر. لم يملك إن تي آر خبرات أو صلات سياسية، إلا أنه تمتع بشهرة واسعة، بل بمنزلة تشبه منزلة الآلهة، لقد اشتهر بلعب أدوار الآلهة الهندوسية على شاشات السينما. فلما لم يكن منصب رئيس حكومة أندرا براديش كافيًا له، لم يلبث أن أوضح أن لديه طموحات أكبر في أن يقوم «بمقام الإله» في دلهي بعد الانتخابات العامة القادمة.4

لم يخسر حزب المؤتمر في انتخابات المجالس التشريعية لعام ١٩٨٣ بولاية أندرا براديش فقط، بل خسر كذلك في انتخابات ولاية كارناتاكا المجاورة. وقد أحبطت هاتان الهزيمتان إنديرا. وأفقدها تفوق حزب درافيدا مونترا كاجاغام المستمر في ولاية تاميل نايدو ثقتها. حتى تلك اللحظة صوت جنوب الهند دائمًا لإنديرا، حتى في انتخابات عام ١٩٧٧ عندما انقلب الشمال عليها بشراسة. لكن الآن، ولاية كارناتاكا (نفس الولاية التي أعادتها إلى البرلمان في عام ١٩٧٨) عارضت حزبها وصوتت لحزب جاناتا.

في أعقاب الهزائم المنكرة التي مني بها حزب المؤتمر في الجنوب، عُقدت في ولاية آسام انتخابات «وحشية، ومميتة، ومدمرة».5 تلك الولاية وقعت في براثن الفوضى وظلت تحت الحكم المباشر قرابة ثلاثة أعوام. نتيجة لذلك، الشروط الأساسية لعقد الانتخابات — ببساطة — لم تتوفر هناك. مع هذا، وفقًا للدستور الهندي، كان لا بد من إلغاء الحكم المباشر على الولاية وعقد الانتخابات في منتصف فبراير عام ١٩٨٣. إلا أن عقد الانتخابات سيؤدي إلى تفاقم النزاع القائم بالولاية؛ إذ إن من أهم ما شكا منه الآساميون هو أن المهاجرين البنغاليين — الذين اعتبرهم الآساميون دخلاء — يُعتبَرون بنك أصوات لحزب المؤتمر.

كما هو متوقع، أعلنت الحركة الآسامية بتأييد من حزب جاناتا وحزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي مقاطعتها الانتخابات. فكان رد الحكومة المركزية هو أن مضت في إجراء الاقتراعات في ١٣ و١٧ من فبراير، الأمر الذي أدى كما هو محتم إلى اندلاع المزيد من العنف. فواصل الآساميون ذبح البنغاليين من المسلمين والهندوس، وفي الوقت نفسه هاجمت وقتلت قبائل البودو كل من يضل ويدخل أرضها. قُتل الآلاف، وشرد الملايين من بيوتهم في جميع أنحاء الولاية.

أسوأ الفظائع ارتكبت في بلدة للاجئين البنغاليين تدعى نيلي، قُتل فيها ٥٠٠٠ شخص من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء، أغلبهم حُصدت روحه بالمناجل أو أُحرق في بيته. وقد وصف المؤرخ طارق علي تلك الحادثة بأنها تشبه «مذبحة ماي لاي (للفلاحين الفيتناميين) مضاعفة عشر مرات».6 في ٢١ من فبراير، عقب وصول أنباء مذبحة نيلي إلى دلهي، سافرت إنديرا جوًّا إلى ولاية آسام. صُدمت إنديرا من هول ما وجدته. حتى إنه في مؤتمر صحفي جاهدت فيه لتحفظ تماسكها، خرج صوتها مختنقًا وهي تقول للصحفيين: «لا أجد كلمات تصف هول ما رأيت.»7
مقاطعة الانتخابات أثمرت نجاحًا كبيرًا حتى إن نسبة التصويت الشاملة في جميع أنحاء الولاية لم تبلغ إلا ٢٪. لقد أُحرِقت أعدادٌ لا حصر لها من مكاتب التصويت، وأبلغت مكاتب أخرى عن «عدم وجود أي تصويت». ومع أن إنديرا كانت تعلم أن تلك الانتخابات تعد مهزلة بشعة، فقد زعمت في البرلمان بعدها بأربعة أيام أن الحكومة الجديدة المنتخبة في آسام ستكون «أقدر على التعامل مع الوضع … وإعادة سير العملية السياسية» في الولاية.8

في الأسبوع التالي عندما رأست إنديرا القمة السابعة لحركة عدم الانحياز في دلهي، بدت مقنعة أكثر في سيطرتها على الأمور مما بدت في دفاعها عن انتخابات آسام في المجلس الأدنى من البرلمان. غير أن مذبحة نيلي ظلت قائمة. وقد كان من أول ما وقعت عليه أنظار رؤساء دول حركة عدم الانحياز لدى وصولهم إلى الهند صور ملونة لأطفال قتلى ومشوهين على غلاف جريدة «إنديا توداي» الأسبوعية. إلا أن تلك الصور البشعة سريعًا ما أبدلت بصور إنديرا في الصحف والمجلات وفيديل كاسترو — الذي تنازل عن رئاسة مجلس القمة «لأخته» كما أسمى إنديرا — يطوقها بذراعيه. أدارت إنديرا القمة إدارة محكمة تستحق الإعجاب. وتمكنت من توجيه النواب المجتمعين فيها إلى التناقش حول كمبوتشيا وأفغانستان وأمريكا اللاتينية. إلا أن تلك الحنكة السياسية كما سيتضح لن تظهر ثانية أو تدوم لوقت طويل، ولكنها ستحسن صورة إنديرا في الصحافة في الوقت الذي شعرت فيه باشتداد وطأة النقد الموجه لها.

•••

في أبريل، في ولاية كشمير، فاروق عبد الله — الذي عُرف لدى الكثيرين ﺑ «رئيس حكومة الديسكو» بسبب حياته الصاخبة — أعلن أن انتخابات المجلس التشريعي للولاية ستعقد قبل موعدها في شهر يونيو. قبل عشرة شهور، ورث فاروق منصب رئيس حكومة كشمير عن أبيه الراحل الشيخ عبد الله. والآن أراد الفوز بالتفويض الشعبي للاستمرار في منصبه، فلما لم تشعر إنديرا بالارتياح له منذ اللحظة التي تسلم فيها رئاسة حكومة كشمير تقريبًا. وأحنقها بوجه خاص ذهابه إلى أمريتسار في نوفمبر عام ١٩٨٢، ولقاؤه بزعماء حزب أكالي، ومقابلته ببندرنواله نفسه (التي كانت أكثر إثارة للجدل). في أوائل عام ١٩٨٣ أخذت تشجبه علنًا وتدين حزبه حزب المؤتمر الوطني — الذي رفض الاتحاد مع حزب المؤتمر — على عدم وطنيته. بل ذهبت إلى أكثر من ذلك، واتهمت فاروق بأنه يسمح باستخدام كشمير قاعدة للمتطرفين السيخ والعملاء الباكستانيين الذين يدعمون الحركات الانفصالية في كشمير.

باختصار أرادت إنديرا إخراج فاروق من السلطة، إلا أنها آثرت أن يتحقق ذلك بأصوات الناخبين بدلًا من الطرد بالحكم المباشر. ومن ثَم قصدت بنفسها كشمير وأدارت حملة نشطة لمرشحي حزب المؤتمر في الولاية. هذا الأمر صار ضروريًّا مع تحالف فاروق مع رابطة عوامي الإسلامية التي قادها زعيم ديني ناصب الهند العداء يدعى مولوي فاروق. وبنفس اللهجة العصبية الطائفية التي استخدمتها في البنجاب، أخبرت إنديرا هندوسيي ولاية جامو وكشمير أنهم سيعانون من «كارثة» إن مثل حزب المؤتمر الوطني حكومة ولايتهم.9
لكن سياسة إنديرا تلك تغيرت تغيرًا جذريًّا فور وصولها إلى وادي سريناجار حيث يمثل المسلمون الأغلبية، وتألف جميع مرشحي حزب المؤتمر من المسلمين. ولم يكن اختيار رجال حزب المؤتمر المسلمين على سبيل المصادفة. فقد أراد حزب المؤتمر أن يقنع مسلمي كشمير بأنهم سيكونون بمأمن إذا مثَّل الحزب حكومة ولايتهم. وقد تصادف أن روميش وراج ثابار كانا في عطلة بسريناجار لدى «اجتياح إنديرا الوادي» (وادي كشمير). وعلى حد تعبير راج ثابار: «إنديرا ناصبت فاروق العداء … فقد قذفته بالسباب والاتهامات الطائفية.»10 أما الصحفي سينج الذي كان بدوره هناك فقد قال في ذلك: «المنحى الذي يسلكه حزب المؤتمر مشين وأناني نوعًا ما.»11
استغلت إنديرا أيضًا نسبها الكشميري إبان الحملة، فارتدت زي الشالوار والكاميز الكشميري، ووضعت غطاء رأس ينم عن احتشام، وأعلنت نفسها «ابنة كشمير». وفي سريناجار تحدثت الأردية، لكن صادفتها المشاكل في الأرياف؛ لأنها لم تكن تتحدث الكشميرية، وعليه الحشود التي أتت لسماعها تطلعت إليها بدون أن تفهم شيئًا من كلامها. أما فاروق فكان بالطبع يجيد الكشميرية، فكانت النتيجة أن بدا أنه يملك تأثير المغناطيس. كان الناس يخرجون لتحيته كأنما يخرجون لتحية بطل منتصر.12
اختتمت إنديرا حملتها الانتخابية في كشمير بالعودة إلى سريناجار التي تقرر أن تخطب فيها في حديقة إقبال الكبيرة. كان من المتوقع أن يحتشد هناك ما بين أربعة آلاف وخمسة آلاف شخص. لكن لدهشة الصحفيين وغيرهم من الحاضرين، لم يحضر لسماع إنديرا إلا مائة شخص بالكاد، أغلبهم عمال من حزب المؤتمر، وشرطيات في ملابس مدنية يتظاهرن بأنهن من الجمهور.13 على حد تعبير راج ثابار: «كان عدد المستمعين ضئيلًا جدًّا حتى لتشعر … بأنهم كانوا يتنزهون ثم توقفوا لسماع فرقة.»14
لما تأملت إنديرا جمهورها الضئيل، «استشاطت غضبًا»، وأخذت ملامح وجهها تتشنج من الغضب بوضوح. فحاولت أن تكتسي بمظهر واثق بالهجوم على حزب المؤتمر الوطني، الذي اتهمته بأنه «يمنع الناس من القدوم إلى اجتماعها». قالت إنديرا: «أينما كانت هناك مشاكل، أنتم تعلمون من أول من يأتي لحلها؛ إنه إنديرا غاندي.» ولما يزيد على الساعة حاضرت في سخط مستمعيها، تذكرهم بقرب أبيها من الشيخ عبد الله حينًا، ثم تباهي بنجاحها في قمة حركة عدم الانحياز التي عُقدت مؤخرًا في دلهي حينًا آخر. حتى أخذ أحد الحضور في إلقاء الحجارة على منصة الخطاب. فلم يخفها ذلك على الإطلاق، بل زادها غضبًا. من ثَم اندلعت مشاجرة بين أعضاء حزب المؤتمر، والمؤتمر الوطني، قام فيها بعض الرجال وفقًا للتقارير الصحفية بإظهار عوراتهم لإنديرا على نحو يخدش الحياء.15
بعد اجتماع حديقة إقبال الذي انتهى بكارثة، قصدت إنديرا مطار سريناجار مباشرة لتستقل طائرة عودة إلى دلهي. حضر حاكم كشمير بي كيه نهرو وزوجته فوري نهرو ومعهما آخران لوداعها، لكن لم تتبع أي من الرسميات المعتادة. هذا لأن إنديرا على حد وصف نهرو كانت «ثائرة. كان وجهها يحتقن غضبًا، ولم تتحدث إلى أحد»؛ فبعدما حملقت في بي كيه نهرو. وفوري نهرو والمسئولين الذين انتظروها أمام سلم الطائرة، صعدت على متن الطائرة بدون أن تنبس بكلمة شكر أو وداع.16

انتهت انتخابات ولاية جامو وكشمير في ٥ من يونيو. وكما هو متوقع فاز المؤتمر في منطقة جامو التي يسودها الهندوس، لكنه هزم هزيمة ساحقة من حزب المؤتمر الوطني في كشمير. فلما فشل في السيطرة على الانتخابات، حاول أن يشوه مصداقيتها. وفور ظهور نتائجها صرخ مع إنديرا يتهمها بأنها مزورة.

ولكنها لم تكن كذلك، على الأقل ليس جديًّا. وزعم المؤتمر بأن الانتخابات قد شهدت عنفًا كان باطلًا.17 ذهبت محاولات حزب المؤتمر لتشويه صورة فاروق عبد الله سدًى. إلا أنها لم تكن ضرورية؛ ففاروق عبد الله كان قادرًا تمامًا على تشويه صورته بنفسه. لقد كان رجلًا محبوبًا، قد يترك سيارته ويضطلع بتوجيه المرور إن رأى أن بإمكانه أن يحسن من عمل شرطي المرور، لكنه على حد تعبير تافلين سينج (الذي كان على معرفة جيدة به) «لم يستأهل الاعتبار مطلقًا، كان مثالًا للسياسي الذي لا وزن له، حتى إنه كان من المستحيل أن يحتفظ بشعبيته لوقت طويل».18 أمضى فاروق في دلهي وقتًا أكثر مما أمضى في سريناجار، وكان مولعًا بنجمات السينما، فضلًا على أنه لم ينفك عن التردد على صالات الديسكو. لو ترك وشأنه، كان فاروق ليصنع بنفسه معارضيه. لكن المؤتمر لم يتركه لذلك. فبحلول ذلك الوقت، كانت إنديرا قد تعودت التخلص من رؤساء الحكومات الذين لا يبدون تعاونًا معها. فصار فاروق مرشحًا للإزالة، مع أن تلك الخطة استغرقت وقتًا قبل أن تتحقق.

•••

إبان صيف عام ١٩٨٣، بعد انتخابات المجلس التشريعي لكشمير بشهر فقط اندلعت صراعات عرقية بين السنهاليين الذين يمثلون أغلب سكان جزيرة سريلانكا، والتاميليين الذين يمثلون الأقلية فيها. وتعود المشاكل في سريلانكا إلى عام ١٩٤٨، عندما حازت تلك الجزيرة (التي ظلت تدعى بسيلان حتى عام ١٩٧٢) استقلالها من الاستعمار البريطاني. التاميليون السريلانكيون الذين مثل الهندوس غالبيتهم عاشوا في شمال وشرق الجزيرة، ولم يمثلوا إلا ١٨٪ من تعداد سكانها، وعانوا طويلًا على يد حكومة الأغلبية السنهالية البوذية التي فرضت اللغة السنهالية لغة رسمية للجزيرة، وحرمت التاميليين من التعليم والحصول على الوظائف، وهمشتهم بكثير من الطرق الأخرى، واعتبرتهم مواطنين من الدرجة الثانية.

إزاء ذلك القمع، في منتصف السبعينيات، أنشأ التاميليون حركة انفصالية مسلحة تدعى نمور تحرير إيلام التاميل، أيدها — ولا يزال يؤيدها — بعض سكان الهند، خاصة الهنود التاميليون الذين يسكنون جنوب ولاية تاميل نادو.19

إزاء القلاقل التاميلية المتزايدة في أوائل الثمانينيات، أعلنت حكومة سريلانكا التي يسيطر عليها السنهاليون اعتزامها نقل السلطة إلى شعب التاميل. إلا أنها في الوقت نفسه اتخذت إجراءات صارمة تجاه نمور التاميل. ففي يوليو عام ١٩٨٣، ثأرًا لثلاثين جنديًّا سنهاليًّا قتلوا في كمين نصبه نمور تاميل، شنت حكومة سريلانكا مذبحة ضد التاميليين. قُتل في تلك المذبحة في غضون بضعة أيام ٣٠٠٠ شخص، وشُرد ١٥٠٠٠٠ شخص، ففر الآلاف من التاميليين إلى الهند، ولجئُوا إلى ولاية تاميل نادو، وقد كانت حركة النزوح تلك هائلة حتى إنها جعلت من الحرب الأهلية السريلانكية قضية دولية. من ثَم لم تجد الهند مشكلة التاميليين على حدودها وحسب، بل أيضًا داخل أرضها في ولاية تاميل نادو.

في يوليو عام ١٩٨٣، قبل أن تقع المذابح للتاميليين، أخذت الحكومة الهندية في توفير المال والأسلحة والتدريب لنمور التاميل، في الواقع كان بطل الأفلام الخارق السابق إم جي آر رئيس حكومة تاميل نادو هو أبرز المتبرعين للنمور. وقد تورط في تلك التبرعات أيضًا حزب المؤتمر في دلهي، فبتفويض إنديرا أرسل جناح البحث والتحليل الاستخباراتي — الذي اشتهر بسمعة سيئة إبان فترة حالة الطوارئ — بعضًا من أفراده لتدريب جنود نمور التاميل الذين لجئوا إلى معسكرات ولاية تاميل نادو.

بذلك في سريلانكا بدا أن حكومة إنديرا تتواطأ مع مثل الحركات الانفصالية نفسها التي تحاربها بعنف على أرضها في كل من البنجاب وكشمير. ويبدو أن رغبة إنديرا في امتصاص غضب مجتمع التاميليين الضخم في جنوب الهند السبب الواضح لدعم الهند لنمور التاميل. غير أنه كان هناك أيضًا دافع مختلف تمامًا. مع أن دعم الهند لنمور التاميل يسهم في زعزعة استقرار سريلانكا، فثمة احتمال لأن يكون ما سعت إليه إنديرا حقيقةً هو بقاء الأوضاع على حالها؛ وذلك بنفس الاستراتيجية الماكرة التي انتهجتها في البنجاب. بالضبط كما صنعت إنديرا مع بندرنواله وأتباعه المتطرفين السيخ سرًّا لتُوقع الفرقة بين سيخ البنجاب، هدفت مساعداتها السرية لنمور التاميل إلى إيقاع الفرقة بين التاميل في سريلانكا. وبتأييد المتطرفين في كل من سريلانكا والبنجاب، استطاعت أن تصنع في الجهة المقابلة لهؤلاء أصواتًا معتدلة، ومن ثَم قضت على احتمالات وقوع انفصال تاميلي أو بنجابي.20
تجنبت إنديرا الإشارة إلى النموذج البنجلاديشي في حديثها العلني عن مشكلة سريلانكا. فبدلًا من ذلك، نادت فقط بحصول شعب تاميل على الاستقلال الذاتي والمساواة في «سريلانكا تتمتع بالوحدة». وفي أغسطس عام ١٩٨٣ وقفت في البرلمان وأعلنت أن: «الهند تؤيد استقلال ووحدة وتكامل سريلانكا. وهي لا تتدخل في الشئون الداخلية لغيرها من الدول. لكن نظرًا للعلاقة التاريخية والثقافية، والروابط الوثيقة التي تجمع بين البلدين، خاصة بيننا وبين مجتمع التاميل، الهند لا تستطيع أن تتجنب تأثيرات الأحداث هناك.»21

في الوقت الذي ثار فيه النزاع في سريلانكا، تصاعدت أعمال العنف والشغب في البنجاب؛ فخارج المعبد الذهبي، امتلأت المجاري بجثث ضحايا عصابة بندرنواله التي اختبأت هناك. وقُتل في صباح ٢٣ أبريل مدير شرطة أمريتسار السيخي إيه إس أتوال أثناء مغادرته المعبد بعدما أنهى العبادة فيه. كان واحدًا من السيخ البارزين الذين يقتلون لرفضهم تأييد هدف الانفصاليين؛ ألا وهو بنجاب مستقل يدعى «خالستان».

بعد اغتيال أتوال، توسل رئيس حكومة البنجاب داربارا سينج إلى إنديرا أن تسمح له بإرسال الشرطة إلى المباني الخاصة بالمعبد لجمع بندرنواله وجيش العصابات التابع له والقبض عليهم. فرفضت إنديرا السماح بذلك الإجراء بناءً على نصيحة زايل سينج (الذي كانت له خلافات مع داربارا سينج). ومع أن الموقف في البنجاب بدأ يفلت من السيطرة، ظلت الحكومة المركزية في دلهي مصممة على الإبقاء على الانقسام القائم بين السيخ في الولاية، والتذرع بانتشار الهندوس في جميع أنحاء البلاد.

وذلك المسار من الناحية العملية والنظرية كان من شأنه أن يؤدي إلى كارثة. في الماضي تراجعت إنديرا مرة بعد مرة عن التفاوض مع المنشقين، مع أن الصحفي إندر مالهوترا والمؤرخ بيتان تشاندر — وكلاهما تمتع بنظرة ثاقبة فيما يتعلق بالسياسة والتاريخ — وغيرهما الكثيرون حاولوا أن يقنعوها بذلك. لقد رأت أن الظروف السياسية غير مواتية للتوصل إلى تسوية. لكنها أخطأت في ذلك. غير أن إنديرا بحلول ذلك الوقت لم تفقد بصيرتها السياسية وحسب، بل أيضًا فقدت تمامًا قدرتها العجيبة على الحكم على الوقت والحسم في الأمور. لقد ترددت هنا. واستمعت إلى نصيحة زايل سينج. وأرادت أن ينسب لراجيف الفضل فيما يحدث في البنجاب. فأدارت ظهرها للنصائح العاقلة وأصغت للنصائح السيئة.

كما هو متوقع، صار الوقت متأخرًا جدًّا على حل مشكلة البنجاب، ليس لأن إنديرا أجلت التحرك لوقت طويل وحسب. بل أيضًا لأن البنجاب نفسه كان منقسمًا على نحو يبعث على اليأس؛ لقد كان على الحكومة المركزية التشاور مع الكثيرين جدًّا؛ منهم على سبيل المثال قائد حزب أكالي هارتشاند سيغ لونجوال، وجورتشاران سينج توهرا رئيس اللجنة التي تألفت للسيطرة على أماكن العبادة — وفيها المعبد الذهبي — وبندرنواله نفسه. وكان بندرنواله أكثر هؤلاء تصلبًا في الرأي. لقد وافقت إنديرا بعد تأخر على ضم تشانديجارف إلى البنجاب، لكن مع ذلك ظلت هناك نزاعات حول مناطق هندوسية تتبع ولاية البنجاب أرادت ولاية هاريانا أن تضمها.

في تلك الآونة نقل بندرنواله مركز قيادته من فناء المعبد الذهبي إلى مقام داخله يدعى عَكَال تخت. وعزز تحصيناته، وهُرب المزيد من الأسلحة إلى المعبد تحت أحمال من اللبن والحبوب. وصباح كل يوم، يلقي بندرنواله من سقف مقامه الآمن خطبًا نارية معادية للهند والهندوسية. ومن لم يسنح له الوصول إلى أمريتسار للاستماع إلى رسائل القديس بندرنواله كان يستمع إليها على أشرطة تسجيل تباع في جميع أنحاء الولاية. وقد حمل بندرنواله رسالة لرئيسة الوزراء، قال فيها: «السلم والعنف يأتيان من شجرة واحدة. مثلنا كمثل أعواد الثقاب الخشبية الباردة. إن احتك بنا شخص نشتعل.»22

من المعبد الذهبي واصل بندرنواله إرسال عصاباته المرعبة إلى القرى. وفي ٥ أكتوبر، في شارع جراند ترانك، اعترضت تلك العصابات طريق حافلة متجهة من أمريتسار إلى دلهي، وأجبرت ستة من الركاب الهندوس على الترجل منها، والاصطفاف في الشارع. ثم أطلقت النار عليهم، الأمر الذي أثار موجة عارمة من الغضب في جميع أنحاء الهند. في اليوم التالي أقالت إنديرا رئيس حكومة ولاية البنجاب داربارا سينج وأخضعت الولاية للحكم المباشر. وبذا تخلصت من السيخي الوحيد الذي كان على استعداد لاتخاذ إجراءات صارمة تجاه بندرنواله في سلطات الولاية.

غير أن الحكم المباشر عجز عن إخماد الفوضى والعنف المتزايدين في البنجاب. فبعد أسبوعين من فرضه، أُخرج قطار سريع متجه من كلكتا إلى كشمير عن مساره أثناء مروره بالولاية. وقُتل تسعة عشر شخصًا، وأصيب ١٢٩. وفي ١٨ نوفمبر، اختُطفت حافلة أخرى وقُتل أربعة هندوس رميًا بالرصاص.

في تلك الأثناء في ٢٣ نوفمبر في دلهي استضافت إنديرا افتتاحية مؤتمر رؤساء دول الكومنولث. وقد خدمتها تلك المناسبة شأنها شأن مؤتمر قمة رؤساء دول حركة عدم الانحياز كفرصة تظهر بها جدارتها على الصعيد الدولي، وأتاحت لها متنفسًا من الوضع المؤلم الذي تعيشه البلاد. لقد كان ذلك المؤتمر آخر المؤتمرات الدولية التي ترأسها إنديرا، وقد استمتعت فيه بوقتها، خاصة في المأدبة الختامية التي عنيت بإعداد قائمة الطعام لها بنفسها. حضرت ملكة بريطانيا مرتدية الزي الملكي الكامل؛ ارتدت مارجريت ثاتشر ثوب سهرة رسميًّا رائعًا. أما إنديرا التي كانت الأصغر حجمًا بين الثلاث النساء. فقد بدت أكثرهن هيبة وقوة في ثوب ساري من الحرير الخام. لكن بعكس المظاهر الخارجية، كانت إنديرا حقيقةً تفقد سيطرتها على الأمور.

•••

من الناحية العاطفية صارت إنديرا وحيدة، فبعد وفاة سانجاي ندر أن أفضت إلى أحد بمشاعرها أو أفكارها. راجيف لم يكن وثيق العلاقة بها، لقد اضطلع بدور سانجاي السياسي كما اقتضاه واجبه نحوها، لكنه لم يستطع أن يحتل مكانة أخيه في قلبها. أما السوامي براهماتشاري فقد تهمش تدريجيًّا.

السبب في ذلك هو راجيف. وبحلول أوائل عام ١٩٨٤ كان راجيف قد اكتسب مهارات منصبه السياسي الجديد. وأثبت كفاءته كسكرتير عام للجنة كونجرس كل الهند، لقد بدا مكتبه في موتيلال نهرو مارج مثالًا لبيئة العمل المنظم المتقن، وقد اكتمل مظهره ذلك «بمقتطفات من الجرائد، وقواعد للبيانات، ووثائق، وحاسب آلي، وآلة تصوير».23 فراجيف كان حقًّا مثالًا للكفاءة والنزاهة بالمقارنة بأعضاء حزب المؤتمر المداهنين غير الأكْفاء الذين أحاطوا بإنديرا. ومع أنه ورث بعضًا من بطانة السوء التي أحاطت بسانجاي — وأبرزهم نافين تاشولا — إلا أنه لم تجمعه أية علاقة بالأتباع الأكثر فسادًا من بطانة أخيه.

جذب راجيف حوله دائرة أتباع خاصة به تألفت من مديرين تنفيذيين وتكنوقراطيين امتلكوا مظهرًا جذابًا، وحملوا حقائب أوراق اليد. ومثلوا جيلًا جديدًا يؤمن بالتكنولوجيا والإحصائيات والحاسبات الآلية. (فيذكر أن راجيف كان أول من امتلك حاسوبًا محمولًا من طراز توشيبا في الهند.) وانتعلوا أحذية جوتشي الجلدية مع ارتداء الخادي. ودرس الكثير منهم في مدرسة دون الراقية وجامعة كامبريدج مع راجيف. لقد تحدثوا الإنجليزية أكثر مما تحدثوا الهندية في بيوتهم، ولم يكن المهاتما غاندي في أذهانهم سوى ذكرى واهية من الطفولة، أغلبهم كراجيف لم يقرأ كتب جواهر لال نهرو. وكانوا شبابًا يعيشون في الحاضر حياةً نشطة، ويتسمون بالعملية، ولا يميلون إلى التأمل، ولا يملكون الوقت أو الحاجة إلى الدين أو المذاهب الفكرية أو الخرافات.

من ثَم صارت أيام براهماتشاري معدودة. حاول سانجاي غاندي كسب صداقة ذلك الأخير، لا لأنه آمن بقواه الخارقة للطبيعة، بل لأنه وجده نافعًا في استجلاب الطائرات والمتاجرة في الأسلحة وتأجير القتلة وغسل الأموال. أما راجيف فقد شكا من الكثير من الممارسات التي ارتكبها سانجاي إبان حياته. وبعكس الأخير، كان صريحًا ومباشرًا، وبصفة عامة نزيهًا. فعلى سبيل المثال يذكر أن آرون سينج ذات مرة قال بحدة لصديق له أراده أن يستغل نفوذه لدى راجيف ليحصل له على منزل حكومي: «لقد أُجبرت — أي أجبرني راجيف — على أن أشتري منزلي الخاص. هل تتوقع أن يصغي حتى إلى ذلك الاقتراح؟»24

لذا كما هو متوقع، مع تنامي نفوذ راجيف، تضاءل نفوذ براهماتشاري. فالأخير اختلف عن راجيف في كل شيء، فقد استخدم أساليب المواربة، وكان مخادعًا ماكرًا يناقض تفكيره التفكير الغربي تمامًا. وقد أزعج وجوده في منزل إنديرا راجيف لسنوات. من ثَم صار الأخير في موقع يمكنه من التخلص من براهماتشاري. فعمل مع مستشاريه آرون نهرو وآرون سينج على إضعاف مكانته في منزل إنديرا تدريجيًّا بصورة غير ملحوظة. لقد صرفوا إنديرا شيئًا فشيئًا عن مذهب براهماتشاري التأملي، وجذبوها إلى الإيمان بخطط راجيف الاستراتيجية، والتكنولوجيا والإحصائيات. فتخلصوا أولًا من برنامج براهماتشاري التليفزيوني الأسبوعي، ثم خفضوا المنح الحكومية التي تقدمها الحكومة لأشرمه. فلم يعد حاضرًا على العشاء مع أسرة إنديرا. وقل اتصاله بها تدريجيًّا. حتى أبلغ في آخر الأمر بأن «السيدة» إنديرا لم تعد تملك الوقت لمقابلته. فقد حرص راجيف على أن يتم إبعاد براهماتشاري بدون طرده بأي حال من الأحوال.

•••

يعد شهر فبراير الذي تزهر فيه الحياة في الطبيعة من جديد أجمل الشهور في دلهي. ففيه ما بين برد الشتاء وحر الصيف الشديد الذي تتسم به الهند، لأربعة أو خمسة أسابيع تنعم الأيام بهواء طيب دافئ، وتتلون أوراق الأشجار بالأخضر شديد الخضرة، فيما تكتسي الحدائق بأبهى الثياب. في الماضي أيًّا ما كان الوضع الذي تعيشه البلاد، كانت إنديرا دائمًا تبتهج بقدوم الربيع. ولكن في عام ١٩٨٤ لم تكن تلك الحال، وجدتها بوبول جاياكار تعاني «اكتئابًا شديدًا»، «وحيدة … يملؤها الهم».25 في تلك الحال، رأت إنديرا أن عليها اتخاذ إجراء في كشمير والإطاحة بفاروق عبد الله. كان بإمكانها القيام بذلك بلا مواربة بما أن ابن عمها وصديقها بي كيه نهرو هو حاكم كشمير الذي يملك بحكم منصبه القدرة على فرض حكمه المباشر (المكافئ للحكم المركزي المباشر في ولاية كشمير). لكنها لم تطلب من الأخير أن يعزل فاروق، وإنما أبدت له بطريقة غير مباشرة أنها تريد عزله.26
إلا أن بي كيه نهرو لم يرَ أن هناك ضرورة أو مبررًا أو سببًا قانونيًّا لذلك. لقد بدا له أن إنديرا تسعى إلى تحقيق ثأر شخصي. عندما ألح عليها أن تعطيه سببًا لعزل فاروق، اتهمت إنديرا الأخير بأنه «غير مسئول … ولا يدير شئون الولاية بكفاءة». في ذلك قال بي كيه نهرو: «أقر بأن كلا الاتهامين صحيح من واقع خبرتي الشخصية.» إلا أنه أيضًا أوضح لإنديرا أن «الاستهتار لم يكن بالسمة النادرة بين الساسة الهنود — وهو لا يزال كذلك — إن كان فاروق غير جدير بالثقة … فهو لم يتفرد بذلك. وهو لم يكن رئيس الحكومة الوحيد الذي يسيء إدارة شئون ولايته، لقد أمكن العثور على من هو أسوأ منه في إدارة ولايته … بين رؤساء حكومات الولايات … من حزب المؤتمر.»27

ندر أمثال بي كيه نهرو في السياسة الهندية لأنه حقيقة لم يكن إمعة فيما يتعلق ببعض الأمور. كان بمنزلة عملة نادرة تبقت من فئة كادت تندثر بحلول ذلك الوقت؛ فئة المسئولين الحكوميين الذين لا يدينون بالموالاة. في الواقع بي كيه نهرو لم يكن عضوًا بحزب المؤتمر. ولسوء حظ إنديرا كان مستقل الرأي، يحترم قواعد الديمقراطية. كان نهرو مغرمًا بإنديرا وموقرًا لها؛ حتى عندما كان يظن أنها على خطأ؛ لكنه لم يكن يخشاها على الإطلاق.

هاتف بي سي أليكساندر سكرتير إنديرا — وهو رجل مهذب فطن، لكن ليس من طراز سابقيه بي إن هاكسار وبي إن دهار — بي كيه نهرو مرارًا عبر الخطوط الهاتفية التي لا يعول عليها بين دلهي وسريناجار، وألح عليه أن يعزل فاروق. وحاول أن يغذيه بآراء حزب المؤتمر القائلة بأن فاروق انفصالي خطير معاد للهند ومؤيد لباكستان. كما أبلغه بأن هناك بالفعل شخصًا جديرًا بالثقة على استعداد لأن يخلف فاروقًا كرئيس لحكومة كشمير. لن يعرض وحدة الهند للخطر، ذلك لم يكن إلا صهر فاروق جي إم شاه الذي كان آنذاك بصدد ترغيب ثلاثة عشر عضوًا من حزب المؤتمر الوطني التابع لفاروق — بمال أمده المؤتمر به، وبوعد بالانضمام إلى مجلس وزرائه — بالانشقاق عن الحزب. بانشقاق هؤلاء، كان حزب المؤتمر ليتفوق على حزب فاروق بفارق هائل يقضي عليه ويهزمه. وبعدها يمكن أن يعقد المنشقون الذين تبعوا شاه تحالفًا مؤقتًا ضعيفًا مع حزب المؤتمر في كشمير ويتولوا السلطة.

قضت الخطة أن يأتي شاه والثلاثة عشر منشقًّا الذين سيتبعونه بي كيه نهرو في قصره في منتصف الليل، وأن يأخذ الأخير عليهم العهود فورًا. وبعدها يُبلغ فاروق بما وقع، لكن بي كيه نهرو رفض أن ينفذ تلك «المؤامرة» كما أشار إليها فيما بعد. أصر على أنه «حاكم مستقل لكشمير، يستمد سلطته من الدستور. كان يسمو فوق الأحزاب السياسية، ولا يعنيه أمرها وأنه غير خاضع … لحكومة الهند.» ورأى نهرو أن الطريقة الشرعية الوحيدة للتعامل مع انشقاق شاه وأتباعه هي المناداة بإجراء تصويت بحجب الثقة في المجلس التشريعي.28
تواصل الصراع بشأن فاروق بين إنديرا وابن عمها شهورًا. في ذلك يقول بي كيه نهرو: «استعرضنا الموضوع نفسه مرة بعد مرة. حتى بدا حقًّا أنه لن يكون هناك آخر لذلك. وهي لم تملك ردًّا مقنعًا على اعتراضاتي، لقد أرادت عزل فاروق وحسب.»29 رأى نهرو أن شاه سيكون أسوأ من فاروق كرئيس حكومة لكشمير، وإنديرا كانت تعلم جيدًا أن شاه شخص غير جدير بالثقة، مع ذلك لما سألتها فوري نهرو عن سبب اختيار شاه، أجابتها باقتضاب: «نحن نعلم الطريقة التي نتعامل بها مع جول شاه.»30
في آخر الأمر، أرسل نهرو إلى إنديرا خطابًا يعدد فيه الأسباب السياسية والعملية — والأخلاقية أيضًا — لمعارضته خطتها. كتب نهرو لإنديرا: أن حكومة كشمير إن رأسها شاه فستكون غير مستقرة وستنهار. وفوق ذلك فاروق «لن يقف مكتوف الأيدي»، لذا سيعتقل على الأرجح، وعندها سيتحول إلى بطل نضالي. كما أنه بعد تعيين شاه، لا بد من عقد الانتخابات، وحينئذٍ ما لم يكن هناك تزوير على نطاق واسع، سيهزم المؤتمر هزيمة ساحقة. هذا فضلًا على أن الحركات الانفصالية ستنمو تحت رئاسة شاه. لقد كان فاروق — كما اعترف بي كيه نهرو — أبعد ما يكون عن رئيس الحكومة المناسب، لكن «التخلص منه سيستتبع في وقت قصير عواقب جسيمة ووخيمة تستمر لوقت طويل في جميع أنحاء البلاد، حتى إن الأسلم هو بقاؤه في منصبه للوقت الحالي».31
الحجج التي قدمها نهرو كانت مفحمة، لكن إنديرا تجاهلتها. وفوق ذلك مستشاروها الكشميريون — وفيهم آرون نهرو الذي أحاط بها دائمًا — حاولوا إضعاف ثقتها في ابن عمها. لقد اتهموا نهرو بأنه مدمن خمر، تجمعه صداقة قوية بفاروق أساسها حبهما المشترك للخمر. فلما بلغت تلك الاتهامات نهرو، نفى كونه «مدمن خمر»، إلا أنه أضاف أنه لم يخفِ قط شربه للخمر، وأنه «يستمتع بشرب كأس من الويسكي مساءً». (كانت إنديرا تعلم جيدًا أن أحد أسباب عدم انضمام نهرو إلى حزب المؤتمر أنه رفض أن يؤدي قسم الامتناع عن المسكرات الخاص بالحزب.)32 وقد أنكر نهرو كذلك أنه «يتساهل» مع فاروق.
لما تعذر حل المشكلة. وأدركت إنديرا أن ابن عمها لن يرضخ للضغط، لم تجد أمامها خيارًا سوى إعفائه من رئاسة حكومة كشمير واستبدال أحد الأتباع الذين لا يتزعزع ولاؤهم لها به. وعليه قدَّم نهرو استقالته معللًا لها بأسباب «شخصية فقط»، فاستدعاه بي سي أليكساندر إلى دلهي وبعدما فتح له زجاجة من ويسكي الشيفاز ريجال، اقترح عليه أن ينتقل إلى رئاسة حكومة ولاية أخرى بدلًا من حكم كشمير. فرد عليه نهرو بأن تلك مؤامرة لن يشارك فيها. من ثَم أوضح له أليكساندر أنه إن استقال فلن يصدق أحد أنه قام بذلك لأسباب شخصية، وإنما سيتوصل الناس إلى أنه رفض عزل فاروق، وهذا من شأنه أن يسبب حرجًا شخصيًّا لإنديرا غاندي. عندها توجه أليكساندر بالسؤال إلى نهرو قائلًا: «بالتأكيد لا تريد أن تسبب الأذى لإنديرا غاندي؛ بالتأكيد لم يكن … يود إحراجها، أليس كذلك؟»33

فوافق نهرو بدافع من الشهامة على سحب استقالته، لأن إنديرا — على حد تعبيره — تعد «أخته» رغم كل شيء. وعليه انتقل إلى رئاسة حكومة ولاية جوجارات وهي ولاية تعاني جفافًا تامًّا مكث فيها نهرو لسنين عدة تالية. لم يكن البديل الذي اختارته إنديرا ليخلف نهرو في ولاية كشمير سوى جاجموهان البيروقراطي الخنوع، الذي أدار سلطات دلهي إبان حالة الطوارئ، وسوَّى عشوائيات تلك المدينة العتيقة بالأرض باسم التجميل. تألف أغلب ضحاياه حينذاك من المسلمين الذين مثلوا أغلب سكان وادي كشمير، ومن هنا جاء تعيينه أوضح وضوح الشمس للكثيرين خطط دلهي لكشمير. لقد صارت الأجواء مهيأة للتخلص من فاروق.

في تلك الأثناء جرى وضع خطة طارئة لدفع بندرنواله وجيشه إلى التقهقر إلى خارج المعبد الذهبي عسكريًّا. تلك الخطة كانت من بنات أفكار راجيف غاندي، وآرون نهرو، وآرون سينج الذين بذلوا جهدًا مضنيًا في وضع مخطط اجتياح المعبد. لقد علمت إنديرا بتلك الخطة إلا أنها ظلت لوقت طويل تأمل ألا تكون هناك حاجة لتنفيذها أبدًا. فقد خشيت على حد قول آرون نهرو «من مهاجمة بيت عبادة»، لذا أرجأتها وقاومتها. كانت تلك خطة في منتهى السرية، قامت إنديرا سرًّا أثناء وضعها بطقوس تضحية هندوسية أملًا في وقوع معجزة ما تذهب الحاجة إلى اجتياح المعبد الذهبي وتحل أزمة البنجاب.34
لجوء إنديرا إلى طقوس التضحية يعكس شعورها بالعجز الشديد. لقد حدثت راجيف وآرون نهرو في قرابة تلك الفترة عن «المناطق الضبابية في التاريخ»، وهي عبارة استخدمتها للإشارة إلى المشكلات المتعذر حلها كمشكلة كشمير والبنجاب. قالت إنديرا إن كل ما يمكن فعله في «المناطق الضبابية» هو «محاولة كسب الوقت»، والانتظار والترقب والتمني، لكن راجيف وآرون نهرو كانا رجلي أفعال. لذا رفضا مذهبها السلبي القائم على الانتظار والترقب، وتمني المعجزات.35
في يناير عام ١٩٨٤، وقفت إنديرا في البرلمان، واتهمت باكستان بدعم إرهابيي السيخ في البنجاب. ثم نهض وزير داخليتها بي سي سيثي وأكد للبرلمان أنه لن تُستخدَم القوة في أمريتسار، وذلك وعد قدمه سيثي بنية صادقة؛ لأنه لم يملك أدنى فكرة عن الاجتياح الذي عكف راجيف وفريقه على التخطيط له. فمع أن سيثي كان من المفترض أن يضطلع بدور أساسي في أحداث البنجاب، إلا أن رأيه حقيقة لم يُطلَب في المسألة. والمثل مع زايل سينج، رئيس الهند السيخي الذي لعب حتى تلك اللحظة دورًا وثيقًا في وضع السياسات في البنجاب، زعم سينج فيما بعد أنه لم يبلغ بمخطط الاجتياح إلا في نهاية مايو عام ١٩٨٤.36

في فبراير، بدأت حكومة إنديرا إجراء جولة شاقة أخرى من المفاوضات مع قادة حزب أكالي في البنجاب. فقد ساور إنديرا القلق بشأن الانتخابات العامة القادمة المزمع انعقادها في أقل من عام. ذلك لأنها كانت تعلم أن عليها كي تحتفظ بأصوات الهندوس أن تضع حلًّا لمشكلة البنجاب. لكن المفاوضات مع الجهود الشاقة التي بُذلت فيها لم تصل إلى شيء. فوقعت إنديرا في مأزق. فهي من ناحية لم ترِد أن تبدو متساهلة مع المسلحين السيخ، ومن ناحية أخرى كانت تعلم أن الأوضاع في الولاية لا بد أن تتدهور أكثر قبل أن يصبح إرسالها للجيش مبررًا. من ثَم أمام تأزم الأوضاع في البنجاب، واقتراب الانتخابات، وقفت إنديرا بلا حيلة.

لم يعد لديها مستشارون بارعون لمساندتها كما كان لديها قبل عشرة أعوام، وقتما تجاوزت مع ذي الفقار علي بوتو العقبات في مباحثاتهما في مؤتمر قمة سيملا. لذا في لحظة من اللحظات، طلبت النصح من سوبهادرا جوشي التي عملت معها إبان أحداث الشغب التي وقعت في دلهي في فترة تقسيم الهند. ذلك لأن الأخيرة كانت حقيقةً بنجابية وسياسية ذات خبرة واسعة في الصراعات الطائفية. لقد حاولت جوشي إقناع إنديرا بأنه لا تزال هناك سبل للتوصل إلى تسوية سلمية. لكنها لم تنتبه إلى نصيحة جوشي.37 وبدلًا من ذلك تركت راجيف وآرون نهرو وآرون سينج — الذين يفتقرون إلى الخبرة، ولا يعرفون الدبلوماسية — يوجهون سياساتها.
بذا ظلت الأوضاع أمام طريق مسدود، غير أن العنف تزايد.38 ففي مارس وأبريل عام ١٩٨٤، قتلت عصابات بندرنواله ثمانين شخصًا، وأصابت ١٠٧ أشخاص. كان من بين هؤلاء هندوسيون بارزون وسيخ مؤيدون لحزب المؤتمر. ومن لم يغادر ولاية البنجاب إلى تلك اللحظة من الهندوس — من التجار، ومقرضي الأموال، وأصحاب المحال، ورجال الصناعة الأثرياء — بدأ يفر منها. وفوق ذلك وبحلول ذلك الوقت كان جيش بندرنواله قد اخترق المراكز الإدارية للولاية ومراكز الشرطة، وسيطر على المقسم الهاتفي الخاص بالولاية.

في تلك الأثناء أخذت مشاكل من نوع آخر في التفاقم في ولاية أندرا براديش، عندما دعا نجم الأفلام السابق إن تي راماريو في مايو إلى عقد اجتماع لرؤساء حكومات الولايات المناوئين لحزب المؤتمر. قضت خطة إن تي آر بأن يؤلف المعارضون لإنديرا وحزب المؤتمر تحالفًا في الانتخابات العامة المزمع انعقادها في أوائل عام ١٩٨٥. وقد كان من بين من حضر ذلك الاجتماع رئيس حكومة ولاية كشمير المفعم بالحماسة الشديد الاعتداد بنفسه فاروق عبد الله، الذي يبدو أنه لم ينتبه إلى أن سيطرته على السلطة في كشمير ضعيفة جدًّا. فحسم بحضوره ذلك المؤتمر مصيره.

في الوقت الذي عكف فيه إن تي آر وفاروق وغيرهما من أعداء إنديرا على إعداد مؤامرتهم، بدأت جولة من المفاوضات حول البنجاب كمحاولة يائسة أخيرة. عهدت إنديرا إلى وزير خارجيتها ناراسيمها راو بمسئولية إجراء المفاوضات ولم توكلها إلى وزير داخليتها بي سي سيثي الذي كانت تعده رجلًا ضعيف الشخصية غير كفء، في حين لعب بي سي أليكساندر سكرتير إنديرا مع راو دورًا أساسيًّا في المفاوضات، وكلا الرجلين بالطبع لم يكن سيخيًّا أو بنجابيًّا، أما راجيف غاندي وفريقه، فقد عملوا سرًّا على التحكم في مسرح الأحداث.

أعلن لونجوال رئيس حزب أكالي دال — الذي تنازع قبل ذلك مع بندرنواله واحتل موقعًا مختلفًا من المعبد الذهبي — أنه على استعداد لتقديم تنازلات للحكومة الهندية. من ناحية أخرى رفض بندرنواله ذلك. فعرض ناراسيمها راو وفريقه عليه من جديد العاصمة تشانديجارف. فصمم بندرنواله على تلبية جميع مطالب قرار أناند بور صاحب — وفي ذلك المطالب المتعلقة بتوزيع الأراضي ومياه الأنهار — علمًا منه أنه لا سبيل إلى ذلك. فلما وجد لونجوال نفسه مزعزعًا بين الطرفين، أعلن أنه بداية من ٣ من يونيو — يوم استشهاد المعلم الروحي أرجون الذي بنى المعبد الذهبي — ستتوقف البنجاب عن إمداد القمح. وهذا الأمر كان من شأنه تجويع البلاد في آخر الأمر نظرًا إلى أن ولاية البنجاب تعد بمنزلة سلة القمح للهند.

عند تلك النقطة، لم يعد هناك مفر من تنفيذ الخطة الطارئة التي وضعت لاجتياح المعبد الذهبي وإخراج بندرنواله وأتباعه من مخبئهم. ونظرًا لضعف الروح المعنوية لقوات الشرطة البنجابية، تحتم أن تتم عملية الاجتياح عسكريًّا، بمشاركة الضباط والجنود السيخ. وعليه في ٣٠ مايو، بدأت القوات الهندية في محاصرة أمريتسار. وفرض عليها حظر تجوال من الغروب إلى الفجر، فتحولت المدينة الصاخبة بحلول الليل إلى مدينة مهجورة.

في صباح ٢ يونيو، أُعلن أن إنديرا ستذيع على الأمة خطابًا في الثامنة والنصف مساءً. لقد ظل القلق يساورها حيال الخطاب، لذا أجرت الكثير من التعديلات عليه في اللحظة الأخيرة، فكانت النتيجة أنها لم تذِعه لا في الراديو ولا في التلفاز إلا في التاسعة والربع مساءً. قالت إنديرا: «قضية البنجاب تحتل أهمية كبرى لنا جميعًا. وقد عم البلاد القلق الشديد إزاء تلك المسألة. لقد ناقشناها وتباحثنا فيها مرارًا وتكرارًا. لكن في كل مرة تولد لدينا انطباع بأننا لا نحل شيئًا.» من ثَم استطردت تقول: «إنه ستتأسس لجنة لوضع نهاية حاسمة وشاملة لنزاع الأراضي القائم حول تشانديجارف ومياه الأنهار ومناطق الهندوس في البنجاب.» لقد أكدت إنديرا أن تنازل حزب أكالي لبندرنواله عن السلطة هو ما يمثل المشكلة الأساسية، وليس عجز الحكومة الهندية عن عرض تسوية مرضية. وهي لم تكن لتسمح «للعنف والإرهاب بأن يكونا دخلًا في تسوية القضية. فليعلم العاكفون على معاداة المجتمع والأمة ذلك يقينًا.» إلا أنها لم تنهِ خطابها بهذا التهديد. بل ناشدت بحرارة جميع طوائف شعب البنجاب … بألا «تزهقوا الأرواح، أزهقوا الكراهية.»39
في اللحظة التي ألقت فيها إنديرا خطابها، أطبقت قوات الجيش الهندي على المعبد الذهبي. كان ذلك استعدادًا لبدء عملية «النجمة الزرقاء» التي أزمعت أن تنفذها الفرقة التاسعة من الجيش الهندي بقيادة اللواء السيخي كولديب سينج برار. في ٣ يونيو، طُرد جميع الصحفيين الأجانب من البنجاب، وتوقفت حركة خطوط السكك الحديدية والحافلات والمطارات في الولاية، وقُطعت خطوط التلكس والتليفون، وأُغلقت الحدود مع باكستان. وانقطعت البنجاب عن بقية العالم استعدادًا للهجوم الأخير.40
بحلول ذلك الوقت كان الكل يترقب وقوع غزو وتكرار لمذبحة «أمريتسار» بنفس دمويتها عام ١٩١٩، مع أن الرئيس الهندي زايل سينج زعم — زعمًا لا يصدق — أنه لم تكن لديه أدنى فكرة عما كان يحدث.41 إن كان قد ظل حقًّا بلا دراية بتلك المخططات، فلم يشترك معه في ذلك إلا قلة محدودة. لقد أخبر بندرنواله الصحفيين من ملاذه الآمن في عكال تخت في تحدٍّ: «إن دخلت السلطات المعبد، فسنلقنهم درسًا ينهار على أثره عرش إنديرا. سنقطعهم إربًا … سيعضون الأصابع ندمًا … فليأتوا.»42
بينما كانت المعلومات التي امتلكتها الحكومة المركزية عن خصومها في المعبد الذهبي بسيطة، تمتع جواسيس بندرنواله بالكفاءة وامتلكوا معلومات «دقيقة مواكبة لأحدث التطورات». لم تكن لدى الجيش الهندي معلومات عن عدد المتطرفين الموجودين في المباني التابعة للمعبد، أو طبيعة وحجم الأسلحة والدفاعات التي يملكونها. لذا في غرة يونيو، دخل اللواء برار المعبد الذهبي متنكرًا في أزياء مدنية متظاهرًا بأنه قدم للتعبد. فهاله ما وجده: خنادق مسقوفة حصينة، وغرف محصنة تحت الأرض للاستعمال مؤقتًا، ومخابئ أسلحة. وفوق ذلك، لاحظ برار أن حوائط المعبد وتعريشاته قد عُدِّل من بنائها لترتكز عليها الأسلحة الرشاشة. غير أن اللواء برار لم يملك إلا القليل من الوقت للقيام بالاستطلاعات الكافية. لقد أبلغته الحكومة المركزية من قبل أن المهمة ستبدأ في ٦ يونيو.43
في الرابعة مساءً، في ٥ يونيو، دعا ضباط الجيش الهندي المدنيين الموجودين داخل المعبد الذهبي إلى الخروج، وطالبوا المتطرفين المسلحين هناك بالاستسلام. فلم يخرج أي من أتباع بندرنواله، وإنما خرج ١٢٦ شخصًا من السيخ المعتدلين وممن قدم للتعبد أو الحج. وعليه مساء ذلك اليوم اقتحم فدائيو الجيش الهندي عنوة المنطقة التي اتخذها قادة حزب أكالي — لا بندرنواله — مخبأً في المعبد. وأثناء هجوم هؤلاء، البالغ عددهم تسعون فدائيًّا، أمطرتهم مدافع بندرنواله بالرصاص، فقُتل أكثر من نصفهم، وأصيب إصابات بالغة قبل أن يبلغ هدفه. ومن نجحوا في الوصول إلى الهدف، وجدوا لونجوال وعددًا من قادة حزب أكالي بلا سلاح فساقوهم إلى خارج المعبد. قال لونجوال بمرارة أثناء المغادرة مع معتقليه: «قولوا (لبندرنواله) … إن ضيوفه قد وصلوا.»44
زارت بوبول جاياكار إنديرا مساء ٥ يونيو التي كانت تعاني آنذاك التهابًا في الحلق. لذا كانت تحتسي اللبن الساخن، وتجد صعوبة في الكلام. لكن حتى لو سهل على إنديرا الكلام، لم تكن لتخبر جاياكار عما أوشكت أن تفجره في أمريتسار. مع أنه من المستبعد أنها نامت طويلًا تلك الليلة، إلا أنها لما أجرت مقابلة صحفية طويلة مع أندرو نايل رئيس تحرير جريدة «صانداي تايمز» في لندن، لم يبدُ عليها الإجهاد أو القلق. كما لم تشِر مطلقًا إلى ما يجري في البنجاب أثناء حديثها معه. لقد أجرى نايل تلك المقابلة الصحفية مع إنديرا لأنه كان من الواضح أن الوضع في البنجاب موشك على الانفجار، لكن إنديرا قالت له: «لقد عاشت الهند زمنًا طويلًا جدًّا، آلاف السنين، إن الستة وستين عامًا التي عشت لا تمثل شيئًا على الإطلاق من عمر الهند … الهند ستجتاز تلك الأزمة، فقد سبق أن مرت بالكثير من المحن على مر تاريخها الطويل واجتازتها.»45

في صباح ٦ يونيو بلغت درجة الحرارة في دلهي ١٠٠ فهرنهايت، ووصلت إلى أعلى من ذلك في أمريتسار، عندما شنت الفرقة التاسعة من الجيش الهندي أولى هجماتها على المعبد الذهبي. وقضت التعليمات الرسمية الحكومية للجنود باستخدام «الحد الأدنى من القوة»، و«إيقاع أقل الخسائر بقدر الإمكان»، وشددت على أن أقدس مقامات المعبد مقام هارماندير صاحب (قدس الأقداس وهو على شكل قبة، فيه قُرئ الكتاب المقدس للسيخ على مدى المائتي عام الماضية) يجب ألا تنتهك حرمته أو يتعدى عليه. لقد اتخذ بندرنواله وأتباعه مقام عكال تخت ثكنة لهم، وذلك المقام كان بدوره مقدسًا، إلا أنه على ما يبدو لم يكن من بين المناطق التي تحدد أن يستخدم فيها «الحد الأدنى من القوة».

جنود الجيش الهندي كانوا هدفًا سهلًا لأتباع بندرنواله الذين اختبئوا في مواقع قوية التحصين، محاطة بالأكياس الرملية. فقد قُتل ما يزيد عن مائة جندي في أول محاولة لدخول المعبد. وبعد فشلهم اخترقت قذائف الدبابات والمدفعيات المباني التابعة للمعبد عصرًا محدثة دويًّا. فقد اضطر الجيش إلى إطلاق النيران مباشرة على مقام عكال تخت للوصول إلى بندرنواله وأتباعه بالداخل، الأمر الذي تسبب في إلحاق ضرر بالغ بالمقام. بالنسبة للسيخ كان ذلك بمنزلة اقتحام دبابة لكنيسة القديس بطرس في روما أو للكعبة في مكة. وعلى حد تعبير زايل سينج رئيس الهند السيخي: «كان ذلك مكانًا بناه المعلم الروحي الخامس، أحد رسل السلام، رمزًا للمحبة والوحدة بين البشر. كان معبدًا للرب … وكان مقامًا بُني على أرض منخفضة عما حولها تواضعًا. في نواحيه الأربعة أبواب تدل على أنه مفتوح لجميع الناس من كل العقائد والأديان.»46 لكن القضاء على بندرنواله استلزم انتهاك المقدسات.
غير أن مصير القديس بندرنواله، ظل مجهولًا بضع ساعات. لم يعد بمقام عكال تخت أي أعمدة قائمة تقريبًا، وغرفه المصنوعة من الرخام سودتها النيران، ومع ذلك ظلت «شكوك قاتلة» تدور في الرءوس بأن بندرنواله قد هرب.47 لما اقتحم الجيش الهندي أخيرًا المقام، في وقت متأخر من مساء ٦ يونيو، عُثر على جثة بندرنواله وجثث واحد وثلاثين رجلًا من أتباعه. لكن لم يشهد استشهاد بندرنواله أحد من الناجين من الهجوم. في الغرفة التي تناثرت فيها جثث بندرنواله وأتباعه، وجد الجنود أيضًا مذكرة يومية تعدد الأشخاص الذين «جرى التخلص منهم» على يد عصابة بندرنواله، كذلك عُثر على حقيبة تحوى كمًّا هائلًا من رسائل الإعجاب الموجهة إلى بندرنواله، لم يكتبها هنديون وحسب، بل أيضًا أناس من جميع أنحاء العالم.
مع موت بندرنواله، توقف القتال. غير أن الثمن الذي دُفِع للتخلص منه كان غاليًا. لقد تجاوز التقديرات التي قدمت لإنديرا من أجهزتها الاستخباراتية والجيش ومستشاريها، وفاق بدرجة هائلة تصوراتها. عملية النجمة الزرقاء فشلت فشلًا رهيبًا. فمن بين ١٠٠٠ جندي اقتحم المعبد الذهبي، قُتل ما بين ٣٠٠ إلى ٧٠٠ جندي، وأردي ما يزيد عن نصف الفدائيين في القوات الخاصة. من ناحية أخرى لم يعرف بالضبط عدد القتلى المدنيين — الذين كان أغلبهم من الحجاج الأبرياء — ولكنه يقدر بما يزيد عن ألف قتيل. هذا مع أن تقريرًا رسميًّا للحكومة الهندية زعم فيما بعد أن عدد القتلى بلغ ٤٩٣ قتيلًا. ولم يحتسب ١٦٠٠ قتيل. وبالإضافة إلى الخسائر البشرية، التهمت النيران مكتبة المعبد الذهبي التي حوت جميع المخطوطات التي كتبها معلمو السيخ الروحيون، واخترقت ٣٠٠ رصاصة مقام هاماندير صاحب، ولحقت بمقام عكال تخت أضرار بالغة.48
في ٩ يونيو، بناءً على طلب إنديرا، زار الرئيس الهندي زايل سينج المعبد الذهبي. وصحبه آر كيه دهاوان وآرون سينج. كان ذلك يومًا حارًّا وشديد الرطوبة على أمريتسار. لما دخل زايل سينج، ودهاوان وآرون سينج المباني التابعة للمعبد، تناهى إلى سمعهم الترانيم الدينية. ثم تنامت إلى أنوفهم رائحة كريهة أزكمتها. على حد تعبير سينج، مع أنه «بذلت جهود … لتطهير المنطقة إلا أن الهواء ظل مثقلًا برائحة الجثث البشرية المتعفنة. لم يكن أي قدر من التنظيف ليفلح في إزالتها في حر الصيف اللافح ذلك».49
عندما دخل الرجال الثلاثة المنتزه الفسيح المحيط بالبركة المقدسة والمعبد، دوى فجأة صوت رصاصة. أصابت الرصاصة رجل الأمن الذي كان يقف إلى جانب زايل سينج في كتفه، وأخطأت بالكاد هدفها؛ مبعوث إنديرا الرئيس الهندي. في أحد أبراج المعبد كان لا يزال هناك عدد قليل من المتطرفين الناشطين يحاربون باستماتة، لم يتمكن الجيش الهندي من إخراجهم من معقلهم.50

كانت تلك طلقة تحذيرية. فعندما ذاعت أنباء الحجم الذي وصلت إليه المذبحة، والانتهاكات التي ارتُكبت في حق كرامة المعبد الذهبي، صار من الواضح أنها ستقابل بأشر الانتقام، وعلى من سيقع الانتقام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤