٣١ أكتوبر عام ١٩٨٤
•••
كان على إنديرا أن تباشر العمل بحرص في كشمير، بعدما أخفقت في المعبد الذهبي إخفاقًا تامًّا. إلا أنها بعد شهر فقط من عملية النجمة الزرقاء، واصلت العمل على الإطاحة برئيس حكومة كشمير فاروق عبد الله. فزعمت أنه يتواطأ مع المنشقين الكشميريين، وأنه معادٍ للهند، وأنه سمح لباكستان بدعم الحركات الانفصالية. ذلك لأنها كانت على اقتناع بأن باكستان تمد الانفصاليين الكشميريين والبنجابيين بالأسلحة والتدريب.
في وقت مبكر من صباح ٢ يوليو وصل جي إم شاه مع ثلاثة عشر منشقًا عن حزب المؤتمر الوطني الذي ينتمي له فاروق إلى مكتب جاجموهان حاكم كشمير. وقدم مؤيديه المنشقين عن الحزب السالف الذكر، وأدلى بخطاب تأييد من حزب المؤتمر الكشميري. ثم طالب بأن يؤدي حلف اليمين كرئيس لحكومة ائتلافية جديدة على ولاية كشمير. اتصل جاجموهان بفاروق وطلب منه القدوم إلى مكتبه فورًا. فوصل الأخير ثائرًا بعدها بخمس وأربعين دقيقة. وطلب منه جاجموهان الاستقالة من منصبه. فرفض وأصر على عقد اجتماع للمجلس التشريعي لكشمير حتى يواجه تصويتًا بطرح الثقة.
•••
مع مشاعر الاستياء والصراعات التي ظهرت في البنجاب، وكشمير، وأندرا براديش، وغيرها من الأماكن، انحدرت شعبية إنديرا إلى أدنى المستويات. واتهمتها الجرائد بأنها هادمة الديمقراطية. وتوقع لها الكثيرون الهزيمة والطرد من عالم السياسة إن عقدت الانتخابات العامة في موعدها. حيال ذلك لزمت إنديرا الصمت، غير أن المقربين لها شعروا أنها نفسيًّا كانت تحتمي وتنأى بنفسها عن عاصفة من الاضطرابات آخذة في التكون. في نوفمبر، كانت إنديرا ستتم السابعة والستين من العمر. إلا أنها لم تشعر بالكبر، وظلت بصحة مثالية، نشيطة كدأبها دومًا، غير أنها كانت في قلب عاصفة، ومع ذلك صامتة وساكنة.
لم تكن تلك وصية بقدر ما كانت إقرارًا بالإيمان، بل بالحب، لقد شعرت إنديرا باقتراب نهايتها، وتوقعت أنها ستكون على الأرجح عنيفة. إن حياتها لم تكن الحياة التي أرادت في شبابها، أو الحياة التي اختارت. مع ذلك يبدو في تلك الرسالة المخطوطة على عجل أنها شعرت بأن الخيار الذي فُرض عليها كان الخيار الصحيح، برغم كل شيء، كان الأفضل لها الاضطلاع بمسئولية خدمة الهند التي توارثتها عائلتها، لا السعي إلى تحقيق رغباتها الشخصية. غير أن المؤلم في رسالة إنديرا ليس هواجس الاغتيال التي انتابتها، وإنما فشلها في تحقيق هدفها ومسعاها … لدفع تلك الأمة إلى الأمام. لقد أغرمت إنديرا كوالدها بالهند، لكنها كانت تعلم جيدًا أن البلاد قد ابتلعتها الفوضى.
بعكس مارجريت ثاتشر، شهدت إنديرا الكثير من حوادث الاغتيال والموت العنيف. فمن قبل هلك الكثير من المقربين لها بسبب تلك الحوادث، منهم على سبيل المثال غاندي، والشيخ مجيب الرحمن، وسانجاي. مع ذلك، هاتفت إنديرا ثاتشر وواستها، بل لعلها تفهمت شعورها الشديد بالخطر أكثر من أي شخص آخر واساها، الفارق بين رئيستي الوزراء هاتين — اللتين ظلتا صديقتين ثمانية أعوام — هو أنه بالنسبة للسيدة ثاتشر محاولة الجيش الجمهوري الأيرلندي اغتيالها كانت مفاجأة. لا شك أن اغتيالها من الناحية النظرية كان دائمًا واردًا خاصة بعد عملية الاغتيال الإرهابية التي قتلت ديكي ماونتباتن قبل خمسة أعوام. لكنه حينذاك تمثل في الواقع بصورته المخيفة. أما بالنسبة لإنديرا فالاغتيال كان منذ زمن طويل من الأخطار الملازمة للمهنة. أما الآن فقد بدا وكأنه نهاية حتمية.
•••
في أواخر أكتوبر، قررت إنديرا فجأة زيارة كشمير لمشاهدة أشجار الشينار في ثوبها الخريفي الزاهي. كانت الولاية لا تزال تعاني الاضطرابات السياسية؛ فبعد عزل فاروق، وتنصيب جول شاه رئيسًا لحكومتها، لم تستقر الأوضاع. وأخبر الحاكم جاجموهان إنديرا أن سريناجار تشهد قلاقل، ونصحها بعدم زيارتها. لكن الأخيرة صممت على قرارها. وفي ٢٧ أكتوبر، سافرت جوًّا إلى سريناجار مع حفيديها راهول وبريانكا. فاستقبلهم جاجموهان وجول شاه في المطار، ومضت بهم سيارة إلى دار ضيافة تشاسما شاهي في الجهة المقابلة لشارع بيت حاكم كشمير.
لم تسأل جاياكار جاجموهان عن زيارة إنديرا إلى كشمير في أكتوبر عام ١٩٨٤، لذا لم تذكر في قصتها لقاء إنديرا بحاكم كشمير ورئيس ولايتها، أو حالتها المعنوية المرتفعة أو اشتهاءها الطعام آنذاك. في الواقع لقد ذكرت جاياكار خطأً أن إنديرا لم تلقَ إلا القليل من الأشخاص، ولم تخُض في أي مسائل رسمية. غير أنها حقيقة تتبعت تفاصيل تحركات إنديرا في صباح ٢٨ أكتوبر. تسلقت إنديرا تل شانكاراتشاريا المقدس المجاور لتزور معبدًا يقع أعلاه، وبعدها زارت معلمًا روحيًّا يدعى لاكشمانجو امتلك أشرم في حدائق نيشات.
بعدما أتمت إنديرا حجتها، عادت إلى دار الضيافة، وجمعت حفيديها ثم قصدت المطار مباشرة وعادت إلى دلهي.
•••
في اليوم التالي، في ٢٩ أكتوبر، سافرت إنديرا جوًّا إلى بهوبانيشوار عاصمة ولاية أوريسا الشرقية لإدارة حملة انتخابية سريعة هناك. وتنقلت على مدى الست وثلاثين ساعة التالية على متن طائرة مروحية ذهابًا إلى الاحتشادات في جميع أنحاء الولاية. كان ذلك برنامجًا مرهقًا، بانتهاء آخر خطاب فيه في ٣٠ أكتوبر. كانت إنديرا منهكة القوى تمامًا، بهوبانيشوار كانت مكانًا مليئًا بالذكريات بالنسبة لإنديرا. ففيها في يناير عام ١٩٦٣. أصيب والدها بأول سكتة دماغية بدأ على إثرها الموت يزحف ببطء إليه، وفيها في إحدى حملات الانتخابات العامة لعام ١٩٦٧. أُلقيت الأحجار عليها وهشمت أنفها.
كأغلب خطابات إنديرا، أعد الخطاب الذي ألقته في بهوبانيشوار مساء ٣٠ أكتوبر عام ١٩٨٤ كاتب خطاباتها شارادا براساد. كان ذلك خطابًا مشحونًا بالعواطف، فصيحًا، ملهبًا للمشاعر، تدخلت فيه الإشارات التاريخية. لقد كان حقيقة نموذجًا للخطابات الانتخابية. أعاد إلى الأذهان لحظات مهمة من تاريخ الهند، من العصور القديمة إلى عصر الكفاح من أجل الحرية، واستخدم عبارات رنانة مثل: مقابل الحرية لا بد من الحذر الدائم، ووظف الأسئلة البلاغية مثل: ما معنى الحرية إن كان هناك جائع؟ وكما هي العادة في الانتخابات، زعم المزاعم الكبيرة، وقدم الوعود الضخمة.
اجتمع في خطبة الوداع تلك، كما هي الحال في الكثير من الأمور في حياة إنديرا، الإيمان الصادق مع الاعتقاد المغلوط.
بعد تلك الخطبة، عادت إنديرا إلى بيت حاكم ولاية بهوبانيشوار بي إن باندي الذي نزلت لديه. أخبر ذلك الأخير إنديرا أنه صدم من إيعازها إلى أنها ستموت ميتة عنيفة. فأوضحت إنديرا أنها كانت بكل بساطة تصدق القول وتشير إلى احتمال واقعي، لقد شاهدت جدها وأمها يموتان موتًا بطيئًا مؤلمًا، لذا لم تتوقع الموت المفاجئ وحسب، بل إنها تمنته.
قاطعت تلك المناقشة أنباء من دلهي تفيد بوقوع حادث سيارة لحفيدي إنديرا راهول وبريانكا أثناء عودتهما من المدرسة. منذ عملية النجمة الزرقاء ساورت إنديرا المخاوف من اختطاف الطفلين أو إيذائهما، من ثَم صممت على قطع زيارتها إلى ولاية أوريسا لتعود فورًا إلى دلهي. مع أن حادث السيارة كان بسيطًا، لم يصب فيه أحد بأذى.
بعد ساعتين في السادسة صباحًا، كانت إنديرا مستيقظة ومرتدية ملابسها كالعادة. وربما لأنها تذكرت ألوان الخريف القوية في كشمير، ارتدت ساريًا زعفرانيًّا فاقع اللون زُينت حوافه بزخارف يدوية سوداء. تصفحت الجرائد أثناء تناولها الإفطار على صينية في غرفة نومها. عرج دهاوان على غرفتها لوقت قصير راجعا فيه جدول مواعيدها المختصر ليوم الأربعاء ٣١ أكتوبر عام ١٩٨٤. جاء على رأس جدول المواعيد مقابلة صحفية مع الصحفي بيتر أوستينوف الذي عكف آنذاك على إعداد فيلم وثائقي عن إنديرا لإذاعة بي بي سي صاحب لتصويره الأخيرة في ولاية أوريسا. أما عصرًا فتقرر أن تلتقي إنديرا برئيس الوزراء البريطاني السابق جيمس كالاهان، ثم قائد ولاية ميزورام الصغيرة. ومساءً أزمع أن تستضيف عشاءً رسميًّا للأميرة آن.
بعد الإفطار، تركت إنديرا اختصاصيي تجميل يعنيان بوضع زينة الوجه لها وتهيئتها لمقابلتها التليفزيونية مع أوستينوف التي تقرر تصويرها في مكتبها بشارع أكبر رود. أزمع بدايةً إجراء المقابلة في الثامنة والنصف، لكن بعدئذٍ قدم دهاوان ليبلغ عن وجود مشكلة في معدات التصوير، وعن إرجاء المقابلة إلى التاسعة وعشرين دقيقة. فيما عكف اختصاصيا التجميل على وضع مساحيق التجميل وأحمر الخدود لإنديرا ثرثرت مع طبيبها الخاص كيه بي ماثور الذي كان يعرج عليها كل صباح. وأطلقت الدعابات عن الكثير من الأمور، منها وجه رونالد ريجان الذي يبدو مثقلًا بمساحيق التجميل عندما يظهر على التلفاز، كما تباحثت مع ماثور حول سبب عدم وجود الكثير من الشعر الأشيب في رأس ريجان.
في التاسعة وعشر دقائق، لما خرجت إنديرا من مقر إقامتها وجدت الجو منعشًا، وباردًا، وجميلًا. غسلت أمطار الصيف الغزيرة الأشجار والأزهار وأوراق النباتات في حديقتها، فبدا الجو نقيًّا، ودافئًا، ولطيفًا. في ممشى الحديقة الذي يصل بين بيت إنديرا ومكتبها في شارع أكبر رود، سارت الأخيرة. وكان إلى جانبها الضابط ناراين سينج يحمل شمسية ليقيها من أشعة الشمس، وفي إثرهما دهاوان على بُعد بضع خطوات، من خلفه خادم إنديرا الشخصي ناثو رام. وفي مؤخرة تلك المجموعة الصغيرة المفتش المساعد راميشوار دايال.
في آخر الممشى الذي يحده نبات الجهنمية، رأت إنديرا حارسها الشخصي بينت سينج يقف عند البوابة الصغرى للحديقة. كان سينج رجلًا هائل الجسم من سيخ البنجاب وحراس إنديرا الشخصيين منذ عودتها إلى السلطة عام ١٩٨٠. وعلى مسافة لا تبعد كثيرًا عن سينج وقف حارس أمني جديد شاب يدعى ساتوانت سينج، إلى تلك اللحظة لم تسنح له رؤية إنديرا من مدى قريب. كانت الأخيرة تتحدث إلى دهاوان وهي تنظر خلفها، فلما بلغت البوابة الصغرى قطعت حديثها لتحيي حارسيها الشخصيين بتحية الناماستي؛ ضامة راحتيها معًا ورافعة إياهما عاليًا وكأنها تصلي.
إزاء ذلك أشهر بينت سينج مسدسه، وصوبه مباشرة نحوها. فمرت ثانية أو ثانيتين هبط فيهما الصمت على الجميع، ما عدا الطير المغرد على الأشجار.
بعدها قالت إنديرا: ماذا تفعل؟
في اللحظة نفسها، أطلق بينت سينج نيران مسدسه، فأصابت رصاصة إنديرا في بطنها. فرفعت ذراعها ويدها اليمنى لتحمي وجهها. لكن سينج أطلق أربع رصاصات أخرى من مرمى مباشر. أصابتها تلك الرصاصات في إبطها وصدرها وخصرها.
على مبعدة خمس أقدام وقف ساتوانت سينج حاملًا مدفعًا آليًّا من طراز ستين. وقد جمده الخوف إلى أن صاح فيه بينت سينج بأن يطلق النيران. فاستجاب فورًا وأطلق خمسًا وعشرين رصاصة اخترقت جسد إنديرا. إثر الطلقات، دار جسد إنديرا حول نفسه سريعًا، وهوى على أرض الممشى جثة هامدة محطمة.
بعد خمس وعشرين ثانية على إطلاق سينج رصاصته الأولى. لم يسارع بالتحرك إلا راميشوار دايال الذي سار في مؤخرة المجموعة الصغيرة التي تبعت إنديرا. وفيما أخذ ساتوانت سينج في إفراغ رصاصات مدفعه الستين، اندفع إلى الأمام، إلا أنه قبل أن يبلغ إنديرا أصيب بالرصاص في فخذه وساقه وأُردي هو الآخر قتيلًا.
أما الآخرون الذين صحبوا إنديرا، فقد تجمدوا في أماكنهم خلفها. تسمر دهاوان — الذي نجا بالكاد من وابل الرصاص التالي — في مكانه، في حين حدق ناثو رام في ارتياع في إنديرا، لكن بعدئذٍ أفاق دهاوان ببطء من ذهوله، وزحف أمامًا، وانحنى على جسد إنديرا. فيما هرع رجل أمن آخر يدعى دينيش كومار بهات من مكتبها المجاور. وعاد ناثو رام بسرعة إلى منزلها ليستدعي الطبيب الموجود في الخدمة آنذاك الطبيب آر أوبيه.
ألقى بينت سينج وساتوانت سينج سلاحيهما أرضًا.
فاندفع ناراين سينج أمامًا وانقض عليه طارحًا إياه أرضًا. تدفق فدائيو شرطة الحدود الهندية التبتية من غرفة الحرس المجاورة وأخضعوا ساتوانت سينج.
•••
•••
في التاسعة واثنين وثلاثين دقيقة بلغت السيارة مستشفى معهد الهند للعلوم الطبية. كان المعهد بحوزته سجلات إنديرا الطبية واحتياطي فصيلة دمها (فصيلة أو سالب). لكن لما لم يتبادر إلى ذهن أي ممن في مقر إقامة الأخيرة الاتصال بالمستشفى للإبلاغ بأنها تنقل إليه مصابة بإصابات خطيرة. تملك الأطباء الشباب المناوبين فيه الخوف عندما تعرفوا هويتها. إلا أن أحدهم مكنته سرعة بديهته من التصرف، فاستدعي طبيب القلب الأكبر في المعهد، وفي غضون خمس دقائق، عكف اثنا عشر طبيبًا من أفضل أطباء المستشفى على معالجة إنديرا. أدخل فريق الأطباء أنبوب تنفس إلى أسفل فمها وإلى قصبتها الهوائية لضخ الأكسجين إلى رئتيها، وفتح مجريان وريديان لنقل الدم إليها. وحاول إنعاش قلبها لما أظهر رسم القلب موجة ضعيفة. إلا أنه في آخر الأمر لم يشعر بنبض واتسعت حدقتا عينا إنديرا دلالة على إصابة مخها بالتلف.
نقلت إنديرا إلى غرفة العمليات في الطابق الثامن من المستشفى مع أنه كان من الواضح أنها فارقت الحياة. وعكف فريق من الجراحين لأربع ساعات على إجراء عملية لها محاولين تحقيق معجزة. لكن اتضح لهم أن الرصاصات مزقت كبد إنديرا، واخترقت أمعاءها الدقيقة والغليظة، وإحدى رئتيها، وهشمت عظامها وفقراتها ومزقت حبلها الشوكي. ولم يسلم إلا قلبها.