الفصل الحادي والعشرون

٣١ أكتوبر عام ١٩٨٤

فيما بعد وصفت سونيا غاندي كيف أن الخوف اقتحم حياتهم.1 بعد عملية النجمة الزرقاء. ناقشت إنديرا احتمالية وقوع محاولة اغتيال لها مع راجيف وسونيا، وكتبت بعض الوصايا من أجل جنازتها. كما حدثت حفيدها راهول ذا الأربعة عشر عامًا عن الخطر الذي يهدد حياتها. في عام ١٩٨٢، أرسل راهول وبريانكا إلى إحدى المدارس الداخلية، لكنهما لما تفجرت الأوضاع في البنجاب، عادا إلى بيتهما والتحقا بإحدى المدارس الخارجية في دلهي. فبعد عملية النجمة الزرقاء، ظل القلق يساور إنديرا طوال الوقت حيال أمنهما. حتى إنها طلبت منهما عدم اللعب خارج بوابة الحديقة المؤدية إلى الطريق الذي يصل بين بيتها ومكتبها المجاور في شارع أكبر رود. وقتها صار البيت سجنًا لجميع قاطنيه.
كل من أحاط بإنديرا كان يعلم أن حياتها مهددة. فوفقًا لإندر مالهوترا، الترقب والحزن كانا ملموسين في دلهي، مع ذلك لم يبدُ على إنديرا القلق على الإطلاق. بل بدت هادئة ورابطة الجأش كعهدها دومًا. فلم تنخفض مستويات طاقتها، أو تضعف شهيتها، وكانت تنام بعمق. زارها بي كيه نهرو وزوجته فوري وأخو تلك الأخيرة جوزيف فرايدمان على العشاء ذات مساء. كان الطعام شهيًّا وبدت حالتها المعنوية مرتفعة، وظهر عليها الارتياح. حينذاك لم يأتِ أحد على ذكر عملية النجمة الزرقاء أو المشاكل القائمة في كشمير. غير أن جوزيف فرايدمان سأل إنديرا عن الكيفية التي استطاعت بها الحفاظ على هدوئها في تلك الأوقات الصعبة. فأجابته إنديرا: القلق يسكن باطن المرء. لا يبدو على ظاهره.2
غير أن القلق بدا على آخرين، والإجراءات الأمنية المنوطة بحراسة إنديرا شُددت. لقد حاول وزير الدفاع إقناع إنديرا بنقل تدابير حمايتها من الشرطة إلى الجيش. لكنها قالت له لا تسمح حتى لتلك الخاطرة بأن تجول في رأسك. ذلك لأنها ترأس دولة ديمقراطية، لا حكومة عسكرية.3 غير أنها وافقت على إضافة بعض من فدائيي شرطة الحدود الهندية التبتية إلى فريق حمايتها. أمر رئيس مكتب الاستخبارات بإعفاء جميع رجال الأمن السيخ في منزل إنديرا من واجباتهم، لكنها عارضت ذلك الأمر فورًا. فمع أنها استخدمت الطائفية في البنجاب وكشمير، إلا أنها رفضت السماح بها في بيتها الخاص. أصرت على أن الهند دولة علمانية. وعليه، بقي السيخ.4
مع أن فريق حماية إنديرا حظي بتعزيزات وصار أكبر حجمًا، إلا أنها ظلت إلى حد بعيد عرضة للهجوم. فالخطط التي وضعتها الاستخبارات لحمايتها صُممت بحيث تؤمن لها الحماية من الخارج فقط. وحتى بعدما ألغت إنديرا الأوامر بحظر انضمام السيخ إلى حرسها الخاص، لم يشك أحد في أن الأعداء موجودون في الداخل. على حد تعبير ضابط أدلى بشهادته فيما بعد، ما لم ننتبه إليه هو أنه قد تقع محاولة اغتيال من داخل بيت رئيسة الوزراء.5

•••

كان على إنديرا أن تباشر العمل بحرص في كشمير، بعدما أخفقت في المعبد الذهبي إخفاقًا تامًّا. إلا أنها بعد شهر فقط من عملية النجمة الزرقاء، واصلت العمل على الإطاحة برئيس حكومة كشمير فاروق عبد الله. فزعمت أنه يتواطأ مع المنشقين الكشميريين، وأنه معادٍ للهند، وأنه سمح لباكستان بدعم الحركات الانفصالية. ذلك لأنها كانت على اقتناع بأن باكستان تمد الانفصاليين الكشميريين والبنجابيين بالأسلحة والتدريب.

لم يكن جاجموهان حاكم كشمير الجديد متحمسًا للتخلص من فاروق عبد الله ليحل محله رئيس الحكومة الذي اختارته إنديرا جي إم شاه، مع أنه أُرسل إلى تلك الولاية للامتثال لأوامرها. لقد اقترح جاجموهان فرض الحكم المباشر على الولاية، وهو ما كان الإجراء المناسب دستوريًّا، إلا أن ذلك الخيار المشروع — على حد تعبير جاجموهان — لم يتَح له. فقد أصرت إنديرا على التخلص من فاروق عبد الله فورًا وإبدال شاه به.6
لم يكن بالإمكان تحقيق ذلك إلا إذا نقل عدد كافٍ من الأعضاء في المجلس التشريعي للولاية ولاءهم من فاروق إلى شاه. لكن وفقًا لبي كيه نهرو، أعضاء المجلس التشريعي للولاية لم يكونوا حمقى؛ لقد علموا أنهم إن تحولوا إلى تأييد شاه فسيكون هناك دهماء غاضبون يقطعونهم إربًا. عليه تقرر اتخاذ إجراء يائس كحل للمشكلة. تقوم الحكومة الهندية بترغيب بعض الأعضاء بالتخلي عن فاروق، ويستخدم في ذلك المال أو الوعود بالمناصب في حكومة شاه الجديدة أو كلاهما. في الواقع كان شاه قد اتخذ خطوات للوصول إلى تلك الغاية، فقبل بضعة شهور أخذ في استمالة المنشقين. هذا الأمر استلزم أموالًا بلغت — وفقًا لبي كيه نهرو — عشرين مليون روبية في المتوسط لكل منشق، أمد بها حزب المؤتمر في دلهي نقدًا، ونقلت إلى سريناجار في حقائب البريد التابعة لمكتب المخابرات. فبحلول ذلك الوقت … صار استخدام الأجهزة الرسمية لخدمة أغراض الحزب أمرًا اعتياديًّا حتى إنه لم تثُر أية اعتراضات عليه.7

في وقت مبكر من صباح ٢ يوليو وصل جي إم شاه مع ثلاثة عشر منشقًا عن حزب المؤتمر الوطني الذي ينتمي له فاروق إلى مكتب جاجموهان حاكم كشمير. وقدم مؤيديه المنشقين عن الحزب السالف الذكر، وأدلى بخطاب تأييد من حزب المؤتمر الكشميري. ثم طالب بأن يؤدي حلف اليمين كرئيس لحكومة ائتلافية جديدة على ولاية كشمير. اتصل جاجموهان بفاروق وطلب منه القدوم إلى مكتبه فورًا. فوصل الأخير ثائرًا بعدها بخمس وأربعين دقيقة. وطلب منه جاجموهان الاستقالة من منصبه. فرفض وأصر على عقد اجتماع للمجلس التشريعي لكشمير حتى يواجه تصويتًا بطرح الثقة.

عندها حاول جاجموهان مجددًا — على حد قوله — إقناع الحكومة المركزية بالسماح له بفرض الحكم المباشر. ولم يبادر بعزل فاروق وتحليف جي إم شاه اليمين كرئيس لحكومة كشمير إلا عندما أوصد ذلك الباب في وجهه تمامًا. بعدئذٍ أقسم الثلاثة عشر منشقًا يمين عضوية مجلس وزراء حكومة كشمير. كانوا على حد تعبير جاجموهان متلهفين للوصول إلى السلطة فورًا.8 كل ذلك وقع في سريناجار، إلا أن جاجموهان حركه عن بعد راجيف غاندي وآرون نهرو اللذان أصدرت إنديرا إليهما التعليمات بالتخلص من فاروق بأي ثمن.9
بعد شهر في أغسطس حث آرون نهرو — على ما يبدو بناءً على أوامر إنديرا من جديد — حاكم ولاية أندرا براديش على عزل رئيس حكومة تلك الولاية، نجم الأفلام إن تي راماريو.10 هذه المرة تمخض ذلك عن معارضة قومية عنيفة. احتجت إنديرا في البرلمان بأنها لم تعلم شيئًا عن عزل راماريو، لكن لم يصدقها إلا القليلون.11 وبدلًا من ذلك ساد اعتقاد بأنها لم تعد تتورع عن شيء، وسرت شائعات بأنها تعتزم إدخال إصلاحات دستورية لتأجيل الانتخابات العامة لعام ١٩٨٤. فنما شعور بأن سيناريو حالة الطوارئ يتكرر من جديد.

•••

مع مشاعر الاستياء والصراعات التي ظهرت في البنجاب، وكشمير، وأندرا براديش، وغيرها من الأماكن، انحدرت شعبية إنديرا إلى أدنى المستويات. واتهمتها الجرائد بأنها هادمة الديمقراطية. وتوقع لها الكثيرون الهزيمة والطرد من عالم السياسة إن عقدت الانتخابات العامة في موعدها. حيال ذلك لزمت إنديرا الصمت، غير أن المقربين لها شعروا أنها نفسيًّا كانت تحتمي وتنأى بنفسها عن عاصفة من الاضطرابات آخذة في التكون. في نوفمبر، كانت إنديرا ستتم السابعة والستين من العمر. إلا أنها لم تشعر بالكبر، وظلت بصحة مثالية، نشيطة كدأبها دومًا، غير أنها كانت في قلب عاصفة، ومع ذلك صامتة وساكنة.

في تلك الحال المعنوية، في خريف عام ١٩٨٤، كتبت إنديرا وثيقة لم تحدث أحدًا عنها. عُثر عليها فيما بعد بين أوراقها، قالت فيها:
لم أشعر بأنني أبعد عن الموت من تلك اللحظة … إن الهدوء والسلام النفسي هو ما دفعني إلى كتابة تلك الرسالة التي تقرب في طبيعتها من الوصية. إن مت ميتة عنيفة، كما يخشى البعض، وكما يدبر لي البعض، فأنا أعلم أن العنف سيكون في عنف تفكير القاتل وفعله، لا موتي، فإن حبي لشعبي وأمتي لن تحجبه الكراهية مهما بلغت، لن تقوى قوة مهما بلغت على تحويلي عن هدفي ومسعاي لدفع تلك الأمة إلى الأمام. لقد كتب شاعر حب: «كيف لي أن أشعر بأنني فقير ووجودك إلى جانبي يثريني. أستطيع أن أقول المثل عن الهند. لا أفهم كيف لأي شخص أن يكون هنديًّا ولا يشعر بالفخر؛ كيف لا يفخر بثراء تراثنا المجمع الذي لا تعرف تعدديته الحدود، كيف لا يزهو بعظمة نفس ذلك الشعب الذي يقف ندًّا للكوارث والمشاكل مهما كانت، إن إيمانه لا يتزعزع … حتى في غمرة الفقر والمصاعب.»12

لم تكن تلك وصية بقدر ما كانت إقرارًا بالإيمان، بل بالحب، لقد شعرت إنديرا باقتراب نهايتها، وتوقعت أنها ستكون على الأرجح عنيفة. إن حياتها لم تكن الحياة التي أرادت في شبابها، أو الحياة التي اختارت. مع ذلك يبدو في تلك الرسالة المخطوطة على عجل أنها شعرت بأن الخيار الذي فُرض عليها كان الخيار الصحيح، برغم كل شيء، كان الأفضل لها الاضطلاع بمسئولية خدمة الهند التي توارثتها عائلتها، لا السعي إلى تحقيق رغباتها الشخصية. غير أن المؤلم في رسالة إنديرا ليس هواجس الاغتيال التي انتابتها، وإنما فشلها في تحقيق هدفها ومسعاها … لدفع تلك الأمة إلى الأمام. لقد أغرمت إنديرا كوالدها بالهند، لكنها كانت تعلم جيدًا أن البلاد قد ابتلعتها الفوضى.

في ١١ أكتوبر، تزايد شعور إنديرا بالخطر عندما سمعت بأن مارجريت ثاتشر نجت بأعجوبة من هجوم تفجيري شنه الجيش الجمهوري الإيرلندي في أحد اجتماعات حزب المحافظين في برايتون. ومع أن الأخيرة نجت من الهجوم، إلا أن خمسة من أعضاء مجلسها الوزاري قُتلوا، وأصيب اثنان بإصابات خطيرة. على حد تعبير كاتب سيرة مارجريت ثاتشر، لم تشهد بريطانيا هجومًا مماثلًا لذلك من قبل. لقد احتفظت السيدة مارجريت ثاتشر برباطة جأشها علنًا، لكنها في قرارة نفسها كأي شخص عادي، شعرت بالخوف والصدمة.13

بعكس مارجريت ثاتشر، شهدت إنديرا الكثير من حوادث الاغتيال والموت العنيف. فمن قبل هلك الكثير من المقربين لها بسبب تلك الحوادث، منهم على سبيل المثال غاندي، والشيخ مجيب الرحمن، وسانجاي. مع ذلك، هاتفت إنديرا ثاتشر وواستها، بل لعلها تفهمت شعورها الشديد بالخطر أكثر من أي شخص آخر واساها، الفارق بين رئيستي الوزراء هاتين — اللتين ظلتا صديقتين ثمانية أعوام — هو أنه بالنسبة للسيدة ثاتشر محاولة الجيش الجمهوري الأيرلندي اغتيالها كانت مفاجأة. لا شك أن اغتيالها من الناحية النظرية كان دائمًا واردًا خاصة بعد عملية الاغتيال الإرهابية التي قتلت ديكي ماونتباتن قبل خمسة أعوام. لكنه حينذاك تمثل في الواقع بصورته المخيفة. أما بالنسبة لإنديرا فالاغتيال كان منذ زمن طويل من الأخطار الملازمة للمهنة. أما الآن فقد بدا وكأنه نهاية حتمية.

•••

في أواخر أكتوبر، قررت إنديرا فجأة زيارة كشمير لمشاهدة أشجار الشينار في ثوبها الخريفي الزاهي. كانت الولاية لا تزال تعاني الاضطرابات السياسية؛ فبعد عزل فاروق، وتنصيب جول شاه رئيسًا لحكومتها، لم تستقر الأوضاع. وأخبر الحاكم جاجموهان إنديرا أن سريناجار تشهد قلاقل، ونصحها بعدم زيارتها. لكن الأخيرة صممت على قرارها. وفي ٢٧ أكتوبر، سافرت جوًّا إلى سريناجار مع حفيديها راهول وبريانكا. فاستقبلهم جاجموهان وجول شاه في المطار، ومضت بهم سيارة إلى دار ضيافة تشاسما شاهي في الجهة المقابلة لشارع بيت حاكم كشمير.

تلك كانت زيارة خاطفة، لم تستغرق إلا ستًّا وثلاثين ساعة، غادرت فيها إنديرا عصر اليوم التالي، إلا أنها كانت أيضًا وفقًا لجاجموهان زيارة حافلة بالأنشطة، يملؤها التفاؤل. أطلع جاجموهان وشاه إنديرا باختصار على الأوضاع في الولاية، لكنها صممت مع خطورة الوضع الأمني على أن تصحب حفيديها إلى سوق سريناجار. آنذاك وفقًا لجاجموهان تمتعت إنديرا بحالة معنوية ممتازة، فبدا عليها الحيوية والمرح، واشتهت الطعام، وفيه الشيكولاتة التي كانت عادة ما ترفض تناولها حفاظًا على وزنها. كما يذكر جاجموهان أنها تطلعت إلى القيام بعدد من الأنشطة مستقبلًا. فقد نبهته إلى ضرورة أن يأتي إلى دلهي في أوائل نوفمبر لحضور اجتماع معها ومع مجلس وزرائها، وذكرت رغبتها في اصطحاب حفيديها مجددًا إلى كشمير للذهاب إلى منطقة ليه في يوليو. لقد سارت بضع ساعات في الغابات، وزارت حسبما علم جاجموهان أحد رجال الدين، وتأملت أشجار الشنار التي صار لونها داكنًا في ذلك الوقت بظلال اللون القرمزي والكهرماني والصفرة الضاربة إلى اللون البني المحروق. لكن — على حد ما يذكر جاجموهان — زيارتها كانت سعيدة مفعمة بالآمال، بالنسبة لجاجموهان. بدت إنديرا آنذاك أكثر إقبالًا على الحياة من أي وقت مضى.14
أما بوبول جاياكار صديقة إنديرا التي قابلتها في دلهي مساء اليوم السابق على سفرها إلى سريناجار — لكن لم تصحبها إلى هناك في أواخر أكتوبر عام ١٩٨٤، وإنما اقتفت آثار رحلتها فيما بعد — فقد حكت قصة مختلفة. لقد تطلعت إنديرا إلى القيام بأنشطة مستقبلًا، منها مقابلة الدالاي لاما في نوفمبر، لكن الموت بدا وكأنه قد استحوذ على تفكيرها، حتى إنها أخبرت جاياكار بأنها طلبت من راجيف أن ينثر رمادها فوق جبال الهيمالايا. لم يستدعِ الموقف ذكر ذلك، لذا سألت جاياكار إنديرا عن سبب حديثها عن الموت. فأجابتها: أليس الموت محتومًا؟15

لم تسأل جاياكار جاجموهان عن زيارة إنديرا إلى كشمير في أكتوبر عام ١٩٨٤، لذا لم تذكر في قصتها لقاء إنديرا بحاكم كشمير ورئيس ولايتها، أو حالتها المعنوية المرتفعة أو اشتهاءها الطعام آنذاك. في الواقع لقد ذكرت جاياكار خطأً أن إنديرا لم تلقَ إلا القليل من الأشخاص، ولم تخُض في أي مسائل رسمية. غير أنها حقيقة تتبعت تفاصيل تحركات إنديرا في صباح ٢٨ أكتوبر. تسلقت إنديرا تل شانكاراتشاريا المقدس المجاور لتزور معبدًا يقع أعلاه، وبعدها زارت معلمًا روحيًّا يدعى لاكشمانجو امتلك أشرم في حدائق نيشات.

أخبر ذلك الناسك جاياكار أن إنديرا أتته في وقت مبكر من صباح ٢٨ أكتوبر وتحدثت عن الموت. قالت إنها تشعر بأن ساعتها قد حانت، بأن الموت قريب. وقد شعر الناسك بدوره بأن الموت قريب منها. غير أنه لم يكن بالشخص الذي يضيع فرصة ادعاء ذلك. لقد أشار لإنديرا إلى مبنى صغير داخل الأشرم وسألها إن كانت ستعود لتشرف على افتتاحه. فأجابته: سآتي إن ظللت على قيد الحياة. بعدها غادرت الأشرم قاصدة زيارة المعبد المجاور له؛ معبد الإلهة شاريكا حامية الهندوس البراهمانيين. وهناك أدت شعائر تقديم القرابين الهندوسية فيما أنشد الكهنة الترانيم. ووضعوا على جبينها قبل مغادرتها المعبد علامة التيلاكا الشمسية القرمزية دلالةً على أن الإلهة شاريكا قد لامستها.16

بعدما أتمت إنديرا حجتها، عادت إلى دار الضيافة، وجمعت حفيديها ثم قصدت المطار مباشرة وعادت إلى دلهي.

•••

في اليوم التالي، في ٢٩ أكتوبر، سافرت إنديرا جوًّا إلى بهوبانيشوار عاصمة ولاية أوريسا الشرقية لإدارة حملة انتخابية سريعة هناك. وتنقلت على مدى الست وثلاثين ساعة التالية على متن طائرة مروحية ذهابًا إلى الاحتشادات في جميع أنحاء الولاية. كان ذلك برنامجًا مرهقًا، بانتهاء آخر خطاب فيه في ٣٠ أكتوبر. كانت إنديرا منهكة القوى تمامًا، بهوبانيشوار كانت مكانًا مليئًا بالذكريات بالنسبة لإنديرا. ففيها في يناير عام ١٩٦٣. أصيب والدها بأول سكتة دماغية بدأ على إثرها الموت يزحف ببطء إليه، وفيها في إحدى حملات الانتخابات العامة لعام ١٩٦٧. أُلقيت الأحجار عليها وهشمت أنفها.

كأغلب خطابات إنديرا، أعد الخطاب الذي ألقته في بهوبانيشوار مساء ٣٠ أكتوبر عام ١٩٨٤ كاتب خطاباتها شارادا براساد. كان ذلك خطابًا مشحونًا بالعواطف، فصيحًا، ملهبًا للمشاعر، تدخلت فيه الإشارات التاريخية. لقد كان حقيقة نموذجًا للخطابات الانتخابية. أعاد إلى الأذهان لحظات مهمة من تاريخ الهند، من العصور القديمة إلى عصر الكفاح من أجل الحرية، واستخدم عبارات رنانة مثل: مقابل الحرية لا بد من الحذر الدائم، ووظف الأسئلة البلاغية مثل: ما معنى الحرية إن كان هناك جائع؟ وكما هي العادة في الانتخابات، زعم المزاعم الكبيرة، وقدم الوعود الضخمة.

لكن بعدها، نبرته تغيرت فجأة. فطغت نبرة إنديرا على نبرة كاتبه وهي تقول:
أنا هنا اليوم، لكنني قد لا أكون هنا غدًا … لا يعلم أحد كم محاولة دُبرت لقتلي … غير أنني لا أعبأ بما إن كنت سأعيش أو أموت. لقد عشت حياة طويلة … أفخر بأنني عشتها بالكامل في خدمة شعبي. ذلك وحده هو منبع فخري، لا شيء سوى ذلك. ولأواصل خدمة شعبي، حتى الرمق الأخير، ولئن مت، كل قطرة من دمائي ستبعث الحياة في الهند وتقويها.17

اجتمع في خطبة الوداع تلك، كما هي الحال في الكثير من الأمور في حياة إنديرا، الإيمان الصادق مع الاعتقاد المغلوط.

بعد تلك الخطبة، عادت إنديرا إلى بيت حاكم ولاية بهوبانيشوار بي إن باندي الذي نزلت لديه. أخبر ذلك الأخير إنديرا أنه صدم من إيعازها إلى أنها ستموت ميتة عنيفة. فأوضحت إنديرا أنها كانت بكل بساطة تصدق القول وتشير إلى احتمال واقعي، لقد شاهدت جدها وأمها يموتان موتًا بطيئًا مؤلمًا، لذا لم تتوقع الموت المفاجئ وحسب، بل إنها تمنته.

قاطعت تلك المناقشة أنباء من دلهي تفيد بوقوع حادث سيارة لحفيدي إنديرا راهول وبريانكا أثناء عودتهما من المدرسة. منذ عملية النجمة الزرقاء ساورت إنديرا المخاوف من اختطاف الطفلين أو إيذائهما، من ثَم صممت على قطع زيارتها إلى ولاية أوريسا لتعود فورًا إلى دلهي. مع أن حادث السيارة كان بسيطًا، لم يصب فيه أحد بأذى.

وصلت إنديرا إلى مقر إقامتها في وقت متأخر من مساء نفس اليوم. فلما كان الطفلان نائمين، طمأنتها سونيا بأنهما بخير. وبعدئذٍ خاضت إنديرا قبل أن تخلد إلى النوم نقاشًا مع سكرتيرها بي سي أليكساندر الذي شعر أنها تبدو في غاية التعب والقلق. فحاول اختصار مقابلتهما، لكن إنديرا أبت إلا التباحث في أوضاع كشمير والبنجاب قبل تركه. إلا أنها بعدها أقرت بأنها منهكة القوى، فاستدعت آر كيه دهاوان وطلبت منه إلغاء أغلب مقابلات اليوم التالي عدا أهمها.18
في ساعة جاوزت منتصف الليل بوقت طويل، أخلدت إنديرا إلى النوم، إلا أنها لم تنَم إلا قليلًا تلك الليلة، في الرابعة صباحًا. في الغرفة المجاورة لها، استيقظت سونيا غاندي واتجهت إلى دورة المياه بحثًا عن دواء الربو الخاص بها. فقدمت إنديرا التي كان من الواضح أن النوم قد جافى عينيها … وساعدتها في العثور على الدواء، وأخبرتها بأن تطلب المساعدة إن شعرت مجددًا بأنها على غير ما يرام.19

بعد ساعتين في السادسة صباحًا، كانت إنديرا مستيقظة ومرتدية ملابسها كالعادة. وربما لأنها تذكرت ألوان الخريف القوية في كشمير، ارتدت ساريًا زعفرانيًّا فاقع اللون زُينت حوافه بزخارف يدوية سوداء. تصفحت الجرائد أثناء تناولها الإفطار على صينية في غرفة نومها. عرج دهاوان على غرفتها لوقت قصير راجعا فيه جدول مواعيدها المختصر ليوم الأربعاء ٣١ أكتوبر عام ١٩٨٤. جاء على رأس جدول المواعيد مقابلة صحفية مع الصحفي بيتر أوستينوف الذي عكف آنذاك على إعداد فيلم وثائقي عن إنديرا لإذاعة بي بي سي صاحب لتصويره الأخيرة في ولاية أوريسا. أما عصرًا فتقرر أن تلتقي إنديرا برئيس الوزراء البريطاني السابق جيمس كالاهان، ثم قائد ولاية ميزورام الصغيرة. ومساءً أزمع أن تستضيف عشاءً رسميًّا للأميرة آن.

بعد الإفطار، تركت إنديرا اختصاصيي تجميل يعنيان بوضع زينة الوجه لها وتهيئتها لمقابلتها التليفزيونية مع أوستينوف التي تقرر تصويرها في مكتبها بشارع أكبر رود. أزمع بدايةً إجراء المقابلة في الثامنة والنصف، لكن بعدئذٍ قدم دهاوان ليبلغ عن وجود مشكلة في معدات التصوير، وعن إرجاء المقابلة إلى التاسعة وعشرين دقيقة. فيما عكف اختصاصيا التجميل على وضع مساحيق التجميل وأحمر الخدود لإنديرا ثرثرت مع طبيبها الخاص كيه بي ماثور الذي كان يعرج عليها كل صباح. وأطلقت الدعابات عن الكثير من الأمور، منها وجه رونالد ريجان الذي يبدو مثقلًا بمساحيق التجميل عندما يظهر على التلفاز، كما تباحثت مع ماثور حول سبب عدم وجود الكثير من الشعر الأشيب في رأس ريجان.

في التاسعة وعشر دقائق، لما خرجت إنديرا من مقر إقامتها وجدت الجو منعشًا، وباردًا، وجميلًا. غسلت أمطار الصيف الغزيرة الأشجار والأزهار وأوراق النباتات في حديقتها، فبدا الجو نقيًّا، ودافئًا، ولطيفًا. في ممشى الحديقة الذي يصل بين بيت إنديرا ومكتبها في شارع أكبر رود، سارت الأخيرة. وكان إلى جانبها الضابط ناراين سينج يحمل شمسية ليقيها من أشعة الشمس، وفي إثرهما دهاوان على بُعد بضع خطوات، من خلفه خادم إنديرا الشخصي ناثو رام. وفي مؤخرة تلك المجموعة الصغيرة المفتش المساعد راميشوار دايال.

في آخر الممشى الذي يحده نبات الجهنمية، رأت إنديرا حارسها الشخصي بينت سينج يقف عند البوابة الصغرى للحديقة. كان سينج رجلًا هائل الجسم من سيخ البنجاب وحراس إنديرا الشخصيين منذ عودتها إلى السلطة عام ١٩٨٠. وعلى مسافة لا تبعد كثيرًا عن سينج وقف حارس أمني جديد شاب يدعى ساتوانت سينج، إلى تلك اللحظة لم تسنح له رؤية إنديرا من مدى قريب. كانت الأخيرة تتحدث إلى دهاوان وهي تنظر خلفها، فلما بلغت البوابة الصغرى قطعت حديثها لتحيي حارسيها الشخصيين بتحية الناماستي؛ ضامة راحتيها معًا ورافعة إياهما عاليًا وكأنها تصلي.

إزاء ذلك أشهر بينت سينج مسدسه، وصوبه مباشرة نحوها. فمرت ثانية أو ثانيتين هبط فيهما الصمت على الجميع، ما عدا الطير المغرد على الأشجار.

بعدها قالت إنديرا: ماذا تفعل؟

في اللحظة نفسها، أطلق بينت سينج نيران مسدسه، فأصابت رصاصة إنديرا في بطنها. فرفعت ذراعها ويدها اليمنى لتحمي وجهها. لكن سينج أطلق أربع رصاصات أخرى من مرمى مباشر. أصابتها تلك الرصاصات في إبطها وصدرها وخصرها.

على مبعدة خمس أقدام وقف ساتوانت سينج حاملًا مدفعًا آليًّا من طراز ستين. وقد جمده الخوف إلى أن صاح فيه بينت سينج بأن يطلق النيران. فاستجاب فورًا وأطلق خمسًا وعشرين رصاصة اخترقت جسد إنديرا. إثر الطلقات، دار جسد إنديرا حول نفسه سريعًا، وهوى على أرض الممشى جثة هامدة محطمة.

بعد خمس وعشرين ثانية على إطلاق سينج رصاصته الأولى. لم يسارع بالتحرك إلا راميشوار دايال الذي سار في مؤخرة المجموعة الصغيرة التي تبعت إنديرا. وفيما أخذ ساتوانت سينج في إفراغ رصاصات مدفعه الستين، اندفع إلى الأمام، إلا أنه قبل أن يبلغ إنديرا أصيب بالرصاص في فخذه وساقه وأُردي هو الآخر قتيلًا.

أما الآخرون الذين صحبوا إنديرا، فقد تجمدوا في أماكنهم خلفها. تسمر دهاوان — الذي نجا بالكاد من وابل الرصاص التالي — في مكانه، في حين حدق ناثو رام في ارتياع في إنديرا، لكن بعدئذٍ أفاق دهاوان ببطء من ذهوله، وزحف أمامًا، وانحنى على جسد إنديرا. فيما هرع رجل أمن آخر يدعى دينيش كومار بهات من مكتبها المجاور. وعاد ناثو رام بسرعة إلى منزلها ليستدعي الطبيب الموجود في الخدمة آنذاك الطبيب آر أوبيه.

ألقى بينت سينج وساتوانت سينج سلاحيهما أرضًا.

وقال الأول: لقد قمت بما كان عليَّ فعله. الآن قوموا بما عليكم فعله.20

فاندفع ناراين سينج أمامًا وانقض عليه طارحًا إياه أرضًا. تدفق فدائيو شرطة الحدود الهندية التبتية من غرفة الحرس المجاورة وأخضعوا ساتوانت سينج.

في تلك الأثناء، وصل الطبيب أوبيه إلى مسرح الأحداث، وحاول إنعاش إنديرا بالفم. وقدم المزيد من رجال الأمن، ومستشار إنديرا السياسي إم إل فوتيدار الذي خرج من المنزل يصرخ طلبًا لسيارة تنقل إنديرا إلى المستشفى. فوصلت سيارة دبلوماسية بيضاء حمل دهاوان وبات جسد إنديرا الواهن إليها ومدداه على المقعد الخلفي لها ثم جلسا في مقدمتها بجوار السائق. قبل أن تغادر السيارة جاءت سونيا غاندي تركض في الممشى وهي ترتدي مبذلًا صارخة: «أماه! رباه، أماه!» ثم جذبت باب المقعد الخلفي للسيارة وقفزت إليها لتكون مع حماتها. فأسرعت السيارة بالاتجاه إلى معهد الهند للعلوم الطبية.21

•••

اقتضت تلك الرحلة السير لمسافة ثلاثة أميال في زحام مواصلات دلهي، وبدت أشبه بالكابوس. لم ينبس أحد ببنت شفة. وجلست سونيا غاندي في المقعد الخلفي للسيارة تحتضن رأس إنديرا على حجرها. غرق المبذل الذي ترتديه بالدماء في وقت قصير.22

•••

في التاسعة واثنين وثلاثين دقيقة بلغت السيارة مستشفى معهد الهند للعلوم الطبية. كان المعهد بحوزته سجلات إنديرا الطبية واحتياطي فصيلة دمها (فصيلة أو سالب). لكن لما لم يتبادر إلى ذهن أي ممن في مقر إقامة الأخيرة الاتصال بالمستشفى للإبلاغ بأنها تنقل إليه مصابة بإصابات خطيرة. تملك الأطباء الشباب المناوبين فيه الخوف عندما تعرفوا هويتها. إلا أن أحدهم مكنته سرعة بديهته من التصرف، فاستدعي طبيب القلب الأكبر في المعهد، وفي غضون خمس دقائق، عكف اثنا عشر طبيبًا من أفضل أطباء المستشفى على معالجة إنديرا. أدخل فريق الأطباء أنبوب تنفس إلى أسفل فمها وإلى قصبتها الهوائية لضخ الأكسجين إلى رئتيها، وفتح مجريان وريديان لنقل الدم إليها. وحاول إنعاش قلبها لما أظهر رسم القلب موجة ضعيفة. إلا أنه في آخر الأمر لم يشعر بنبض واتسعت حدقتا عينا إنديرا دلالة على إصابة مخها بالتلف.

نقلت إنديرا إلى غرفة العمليات في الطابق الثامن من المستشفى مع أنه كان من الواضح أنها فارقت الحياة. وعكف فريق من الجراحين لأربع ساعات على إجراء عملية لها محاولين تحقيق معجزة. لكن اتضح لهم أن الرصاصات مزقت كبد إنديرا، واخترقت أمعاءها الدقيقة والغليظة، وإحدى رئتيها، وهشمت عظامها وفقراتها ومزقت حبلها الشوكي. ولم يسلم إلا قلبها.

في الساعة الثانية وثلاث وعشرين دقيقة، بعد خمس ساعات من اللحظة التي سقطت فيها إنديرا غاندي برصاص شخصين ائتُمنا على حياتها، أُعلنت وفاتها.23

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤